الجمعة، 30 سبتمبر 2016

( العلماء والاجازات .. بين الاسترخاء والهوس العلمي )

بعض العلماء حتى وهو في إجازته منشغل بالتفكير العلمي
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
مع بداية الاجازة الصيفية هي الاطول (وربما تكون الأكثر مللا) في تاريخنا المعاصر وغير المعاصر رغبت أن أكتب مقال خاص (وإن كان من زاوية فريدة) عن أهمية الاستفادة ولو بالحد الأدنى من وقت الفراغ الهائل الذي ينتظرنا وأنه لا ينبغي أن تضيع جميع أوقتنا سدى خلال العطلة الصيفية. ومن واقع التجربة لا ألطف ولا أروح على النفس من ذكر القصص وطرائف الاخبار ولهذا وبالإذن من الدكتور غازي القصيبي سوف استعير عنوان كتابة المعروف (عن قبيلتي أحدثكم) فسوف أحدثكم عن بعض (شيوخ قبيلتي) وماذا يعملون في الاجازات واغرب وأخبارهم اللطيفة في هذا الشأن. قبيلة الدكتور غازي القصيبي التي عنها هي قبيلة الشعر والشعراء أما قبيلتي التي انتسب إليها فهي قبيلة (العلم والعلماء) وإن كنت حقا وصدقا أنا لست إلا صعلوك من صعاليك تلك القبيلة الذهبية.
بالرغم من أن العلماء والمخترعين هم مثل بقية البشر إلا أن الصورة النمطية (غير المنطقية عنهم) تضعهم في إطار أنهم مجانين ومدمني عمل workaholic ونتيجة لاستغراقهم التام وهوسهم العلمي فأنهم لا يرفهون عن أنفسهم بأخذ إجازة أو عطلة عن العمل. وطبعا واقع الحال للغالبية العظمى من العلماء والمخترعين انه بالفعل يتمتعون بالإجازات والبعض يحرص على أخذ عطلة من العمل لكن ما يفرق العلماء أنهم حتى وأن أخذوا إجازة وتوقفوا عن الذهاب للمختبر البحثي إلا أن (عقولهم) تستمر في التفكير والتحليل وهو ما قد يسبب عند البعض منهم أعراض الشرود الذهني المشهورة. وسوف نقوم بذكر بعض أخبار بعض العلماء الذين ربما توصلوا لبعض أشهر اكتشافاتهم العلمية وهم فعليا خارج المختبر واثناء قضائهم (لفترة صفاء ذهني) وقت الاجازات.
العالم والمخترع في عطلته .. يقظان نائم
بيت شعر جميل  في الادب العربي صيغ لتوصيف يقظة الذئب هو:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي       بأخرى المنايا فهو يقظان نائمُ
هذا التوصيف البديع يصلح أحيانا في حال بعض العلماء (الذيبان) الذين تستمر عقولهم بالتفكير  خارج مختبراتهم  وقد توافق معهم لحظة الالهام العلمي وهم في أحضان الطبيعة يستمتعون بإجازاتهم الرسمية. لحظة إضاءة البصيرة العلمية (Eureka moment) قد تطرأ فجأة وكأنها انقداح أو إنارة مفاجئة للذهن والخيال وهي تحدث غالبا في حالة الركود والخمول (واحيانا حال النوم والنعاس) وليس اثناء زخم العمل والبحث في المختبر. ومن أفضل الامثلة التي يمكن ذكرها في هذا السياق أن الفيزيائي الأمريكي تشارلز تاونز الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1964 ألهم الأفكار الأولية حول اختراع جهاز الليزر أثناء جلوسه على مقعد حديقة عامة في مدينة واشنطن وهو في حالة صفاء قبل طلوع الفجر. ومن جهاز الليزر إلى جهاز الراديو نجد أن الافكار العلمية الابداعية تأتي أحيانا حال الانسجام مع الطبيعية فالمخترع الايطالي الشهير ماركوني مخترع الراديو نجده يبدأ التفكير في اختراعه التاريخي عندما كان يقضي اجازته الصيفية في المنتجعات الايطالية من جبال الالب وذلك بعد أن قرأ مقاله عن تجارب العالم الالماني هيرتز حول انتقال الموجات الكهرومغناطيسية ومن هنا ألهم الشاب الصغير فكرة تحويل التجربة العلمية إلى منتج تكنولوجي. ومن المناظر الجبلية الخلابة في جبال الالب إلى السفوح الجبلية الفائقة الجمال في مرتفعات اسكتلندا حيث نلتقي بعالم الفيزياء البريطاني الشهير بيتر هيغز الحاصل علي جائزة نوبل في الفيزياء عام 2013 وذلك عن نظريته المتعلقة بتخمين وجود الجسيم الأولي المسمى جسيم (بوزون هيغز والذي يشتهر إعلاميا كذلك باسم (جسيم الاله  God particle) حيث أن بدايات هذه الفكرة العلمية لاحت له أثناء انشغال ذهنه بهذا الموضوع عندما كان هيغز يستمتع بجمال الطبيعة بالمشي في إحدى المناطق الجبلية الخلابة في اسكتلندا.
رحلة جبلية أخرى وإلهام علمي مميز حقق جائزة نوبل أخرى ذلك ما حصل مع  عالم الكيمياء الأمريكي كاري موليس الحاصل علي جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1993 لاكتشافه تفاعل البلمرة المتسلسل (التقنية العلمية بالغة الأهمية في أبحاث الجينوم والبصمة الوراثية) حيث أنه انقدحت في ذهنية بدايات اكتشافه العلمي بينما كان يقود سيارته في رحلة ليلية عبر سلسلة جبال شمال كاليفورنيا فخطرت له الفكرة أثناء قيادته المتهورة علي هذا الطريق الجبلي لدرجة أنه من شدة انغماسه الذهني في الفكرة الجديدة كاد أن يهوي من إحدى المنعطفات إلي أسفل الجبل. وإن كان العالم الكيميائي كاري موليس نجى من كارثية الهامه العلمي ولم ينحدر لأسفل الوادي إلا أن البشرية بأجمعها انحدرت لهاوية سحيقة وكارثة محققة كان بدايتها إلهام علمي آخر أثناء إجازة أعياد رأس السنة الميلادية وبين أحضان الطبيعية. رحلة مشي صباحية في عز شتاء شهر ديسمبر لعام 1938 ألهمت العالمة الفيزيائية النمساوية الشهيرة ليز مانتير التوصل لبدايات تفسير ظاهرة الانشطار النووي وذلك عندما كانت تتناقش مع ابن أختها الفيزيائي أوتو فريش حول نتائج عالم الكيمياء الألماني أوتو هان المتعلقة بالنشاط الاشعاعي لبعض العناصر الكيميائية .
الاكتشافات العلمية في أوقات الاعياد
ما سبق ذكره كان سرد (لبعض) ابرز الاكتشافات والاختراعات العلمية التي لم تحدث في المختبر وإنما حال تمتع العالم بإجازته بعيدا عن أجواء العمل ولكن في المقابل نعلم بلا شك أن (الغالبية العظمى) من الاكتشافات والاختراعات العلمية تمت فعلا داخل المختبر ومع ذلك الجديد الذي يمكن ان نسلط عليه الضوء هنا أن نذكر أخبار البعض منها التي تمت في المختبر (أثناء فترة الاجازات). بمعنى أن بعض العلماء والمخترعين تصل بهم حالة الهوس العلمي المفرطة أنهم يستمرون في إجراء الابحاث والاكتشافات (في المختبرات العلمية) في فترة الاجازات الرسمية والعطل الدينية. من ذلك مثلا أن العالم الالماني غرهارد دوماك الحاصل علي جائز نوبل للطب في عام 1939 نظير اكتشافه التاريخي لدواء السلفوناميد sulfa drugs (أول دواء مضاد للبكتيريا في التاريخ) كانت التجربة الحاسمة في حياته هي تلك التي اجراها في ليلة عيد الميلاد  لعام 1932 وهي التجربة التي أكتشف فيها أن الصبغة العضوية Prontosil لها القدرة علي معالجة فئران التجارب من جرعة البكتيريا القاتلة التي حقنت بها.
وعلى ذكر الصبغات الكيميائية تجدر الاشارة إلى أن فجر الصناعات البتروكيميائية  أشرق في تاريخ مميز عام 1856 عندما قام الشاب البريطاني هنري بيركن بمحاولة تصنيع دواء الكينين لعلاج مرض الملاريا من مواد كيميائية أولية مستخلصة من القطران. في إجازة عيد الفصح (عيد القيامة أحد اهم الاعياد المسيحية) من تلك السنة كان الشاب بيركن ما زال يحاول وبطرق مختلفة اكتشاف الطريقة الكيميائية لتصنيع ذلك الدواء وفي إحدى التجارب أنتج مادة سوداء بشعة وعندما أراد ان يزيلها من الدورق الذي كانت فيه أضاف لها حمض كيميائي مركز ولدهشته البالغة انتج ذلك التفاعل غير المقصود صبغة ذات لون أرجواني جميل كانت صبغة الموف mauve.
تجارب علمية .. حتى في إجازة شهر العسل
حالة الهوس المفرط بالعلم والاستغراق في البحث العلمي قد تلازم بعض العلماء حتى أثناء قضاء إجازة شهر العسل. ومما يذكر في هذا الشأن أن عالم الفيزياء الانجليزي جيمس جول Joule  ا(الذي اطلق اسمه من باب التكريم على وحدة قياس الطاقة) نجد أن هوسه بالعلم يدفعه لاصطحاب زوجته وهما بعد في شهر العسل و يتجه بها إلى إحدى شلالات جبال الألب السويسرية حاملا معه ثرموميتر طويل ( كما وصفه العالم كالفن الذي شاهد الحادثة) لقياس كمية الطاقة (الحرارة) التي تكتسبها المياه نتيجة لسقوطها من اعلى الشلال إلى اسفله. وأما العالم الدنماركي نيلز بوهر صاحب نموذج تركيب الذرة والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1922 فبالرغم من أنه سبق وأن قام بتأجيل شهر عسل زواجه حتى يكتب ورقة علمية عن تركيب الذرة ومع ذلك عندما سافرا اخيرا لقضاء إجازة شهر العسل قام بكل صفاقة بتكليف عروسه الجديدة بمساعدته في كتابة بحثه العلمي الجديد حيث كان يملي وزوجته تكتب له.
ومن أغرب الترتيبات والتجهيزات لقضاء إجازة شهر عسل ما حصل في منتصف القرن التاسع عشر مع مؤسس علم الجيولوجيا العالم البريطاني الشهير تشارلز ليلي الذي تزوج من فتاة كانت ايضا من هواة علم الجيولوجيا ولهذا نجد أن هذين العروسين اثناء تجهيزهما لرحلة شهر العسل يرتبانها ويتعمدان اختيار اماكن الزيارة وكأنها رحلة علمية إلى حقل جيولوجي بدلا من ان يسفران لمكان اكثر رومانسية.
وفي الختام  وعلى ذكر التخطيط لقضاء الاجازات من خلال الرحلات العلمية كان أحد أكثر الكتب العلمية تميزا الذي قرأته قبل عدة سنوات هو كتاب أشبه بدليل سياحي علمي عنوانه (أطلس المهووس العلمي Geek Atlas ). والكتاب أشبه بمرشد سياحي يعطيك معلومات إرشادية عن الموقع الجغرافي والخدمات السياحية عن أبرز المناطق ذات العلاقة بالعلم والتكنلوجيا مثل المختبرات التي حصلت فيها اكتشافات علمية مميزة أو عن المتاحف العلمية أو حتى منازل وقبور مشاهير العلماء والمخترعين. ولا أكشف سرا عندما اقوم أنني أحيانا (أستعين بصديق) هو هذا الكتاب عندما أسافر لدولة ما للتأكد هل بها (معلم سياحي علمي) جدير بالزيارة والمشاهدة. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق