الجمعة، 30 سبتمبر 2016

( الرواد من اطباء وعلماء الاسلام .. كم من ذكي ليس بزكي )

هل مثل هده القوائم المزعومة للعلماء المتهمين بالإلحاد صحيحة
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في نهاية القرن التاسع عشر نشر مدير جامعة كورنيل الاميركية أندرو وايت كتاب بالغ التأثير سماه بكل تهور (تاريخ الحرب بين العلم والدين في العالم المسيحي) ومن ذلك الوقت وغالبية الشعوب الغربية تقبلت الفكرة المتحيزة وغير الدقيقة بأن الدين والعلم متعارضان وأنهما في حالة نزاع وتناقض وانهما لا  يلتقيان. الجدير بالذكر أنه في العقود القليلة الماضية نشرت العديد من البحوث والكتب الغربية (مثل ومؤلفات العالم الامريكي المشهور ستيفن جولد والمفكر السويسري هانس كونج) التي تثبت أن الحالة المتوهمة للصراع بين العلم والدين مبالغ فيها كثيرا بل أن قصة اضطهاد الكنيسة لجاليليو مثلا لم تكن بتلك الدرجة من السوء التي صورت لنا كما أن الفيلسوف والعالم الايطالي جوردانو برونو أول شهيد للعلم في أوروبا قتل في واقع الأمر لأسباب سياسية.
 المقصود من هذا المدخل بيان انه بالرغم من أن الدول الغربية الملحدة بدأت تحاول (فك الاشتباك) بين قطبي المجتمع الفكري وتهدف إلى اقامة جسور التواصل بين علماء الدين المسيحي وبين علماء الطبيعة ومخترعي التقنية، وإذا بنا في المقابل وفي المجتمع الاسلامي والعربي بدأنا نسمع اصوات متهورة تزعم أن علماء الدين الاسلامي في القديم من الاطباء والرياضيين والفلكيين والكيميائيين وغيرهم كانوا (يضطهدون ويكفرون ويزندقون ...الخ). لدرجة انه تم الاسبوع الماضي تداول كثيف لتغريده تويتر تحمل صور عدد  كبير من (ابرز مشاهير) علماء الاسلام الذين زُعم ظلما وبهتانا أنهم كفّروا وفسقوا وتم تعذيبهم وقتلهم ولهذا طلب مني زميل دراسة قديم له فضل ومحبة أن أوضح حقيقة هذا الزعم  وأفند هذا الافتراء.
 
لا شك أنه من (لغو الكلام) أن نبين أن الحضارة الاسلامية بيئة حاضنة للعلم والعلماء فهذا أمر (معلوم من الثقافة العامة بالضرورة) ومن هنا تظهر المفارقة أنه إذا كان المجتمع المسلم يهتم ويحتفي برجال العلم الطبيعي ويتيح لهم الظروف الملائمة لنشوء ما يسمى (بالعصر الذهبي للعلوم الاسلامية) ومع ذلك نقول أن هذه الفترة التاريخية بالذات كان مشاهير علماء الطبيعة والاطباء بها مضطهدين ومحاربين. ينبغي التنبيه لأمر هام في الحضارة الاسلامية بأن السلطة السياسية كثيرا ما قامت (برعاية وحضانة العلماء وأهل الصنعه التجريبية) كما هو معلوم من حال الخليفة هارون الرشيد وأبنه المأمون والخليفة العباسي المعتضد والسلطان محمود الغزنوي والوزير السلجوقي نظام الملك والحاكم الاندلسي المستنصر وغيرهم كثير  ومن المتوقع أن من صور الرعاية للعلماء حمايتهم والذب عنهم من تغول السلطة الدينية عليهم أو استنقاص المخالفين لهم وهذا ما يضعف مقولة أن العلماء كانوا مضطهدين فكيف يتم اضطهادهم وقتلهم وشرائح واسعه منهم كانت تحت رعاية مباشرة من الخلفاء والملوك والسلاطين.
 
الملامح العربية لتمازج الدين بالعلم
للتدليل على أنه لا يوجد (فصام نكد) في الحضارة الاسلامية والعربية بين العلم والدين وأنهما كانا على درجة عالية من التجانس (وبالتالي يمكن رد تهمة اضطهاد العلماء لأسباب دينية) لعل من الملائم الاشارة لظاهرة ترسخ البعد الديني في حياة العديد من مشاهير العلماء المسلمين. ألا يجدر بنا أن نعلم بأن الطبيب العربي الشهير أبن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى كان في نفس الوقت من علماء الفقه والشريعة الإسلامية كما أنه قام بتدريس علوم الحديث والسيرة النبوية بل يقال أنه كان من أعيان فقهاء الشافعية في عصره.
وليس أدل من تمازج العلم بالدين أن عدد كبير من مشاهير العلماء كان لهم ارتباط وثيق بالمساجد والجوامع فمثلا العالم العربي البارز الحسن ابن الهيثم ظل لسنوات طويلة يسكن في قبة صغيرة تقع عند بوابة الجامع الأزهر الشهير بالقاهرة ويقال انه ألف عدد كبير من كتبه العلمية المهمة من داخل تلك القبة. وإذا كان ابن الهيثم أقام عند بوابة الأزهر فإن عالم علم الحيوان العربي الكبير كمال الدين الدميري صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى كان قد تصدى للجلوس على كرسي التدريس في الجامع الأزهر. وبالانتقال من الجامع الأزهر بالقاهرة إلى الجامع الأموي بدمشق نجد أن الفلكي العربي الشهير ابن الشاطر ونتيجة لخبرته الفلكية الكبيرة وبسبب اختراعاته المتعددة لضبط الوقت والاتجاهات قد عين مؤذنا بالجامع الأموي في دمشق بل أنه أصبح لاحقا رئيس المؤذنين في الجامع الأموي. وعلى ذكر مآذن المساجد الكبرى في المدن العربية الاساسية لا يفوتنا أن نذكر أن محاولة المخترع العربي الشهير عباس بن فرناس في الطيران تمت في الواقع عندما قفز من فوق مئذنة جامع قرطبة الكبير بالأندلس.
ولتعزيز فكرة الارتباط بين الشريعة والعلم يكفى أن نشير إلى أن عالم النبات والجغرافي المسلم  القزويني تولى منصب القضاء في مدينتي واسط والحلة بالعراق وذلك بسبب تمكنه وإجادته للعلوم الشرعية فهو في الأصل  كان من أحفاد الإمام مالك الفقيه المشهور. وكذلك نجد أن العالم المسلم ابو حنيفة الدينوري بالرغم من شهرته المدوية في علم النبات والأعشاب الطبية إلا أنه كان كذلك عالم شريعة متبحر وله تميز خاص في مجال تفسير القران الكريم لدرجة أنه ألف كتاب في تفسير القران مكون من ثلاثة عشر مجلدا. ومن الامثلة الاضافية التي يمكن سردها في هذا السياق أن العالم والفقيه الأندلسي الكبير أبن رشد تولي منصب القضاء في مدينتي قرطبة واشبيلية ومع ذلك نجده في نفس الوقت يشتهر بكونه أحد أبرز الاطباء في تاريخ الاندلس.
زنديق أم صديق .. ذلك هو السؤال
المتتبع لأخبار وسير حياة المئات من مشاهير العلماء والاطباء العرب والمسلمين يجد أن القلة القليلة منهم من يمكن أن يوصف بأنه كان ذكيا ولم يكن زكيا (كما هو توصيف الامام أبن كثير للشاعر أبي العلاء المعري). وللتأكيد على هذا الأمر قمت علي سبيل الاستقراء بمراجعة المجلد الخامس من كتاب (تاريخ التراث العربي) للدكتور فؤاد سزكين وهو المجلد الخاص بذكر اسماء علماء الرياضيات في الاسلام وقد تم سرد ما يزيد عن 130 اسم عالم رياضيات ليس منهم عالم متخصص في الرياضيات متهم أو مقدوح في دينة (إلا ثابت بن قرة وهو غير مسلم أصلا لأنه على دين الصابئة). وبإجراء مبدأ الاستقراء السابق لبقية العلوم الطبية والفلكية والكيميائية والصيدلانية وغيرها يمكن أن نؤكد أن الغالبية الكاسحة من العلماء المسلمين لم يحصل الطعن في دينهم وعقيدتهم فضلا أن يتم اضطهادهم أو اقصائهم.
وفيما تبقى من المقال سوف نلج لعش الزنابير ونناقش بشيء من الاختصار حقيقة اتهام بعض مشاهير علماء الاسلام بالزندقة والالحاد والضلال وهؤلاء على درجات ومراتب فمنهم من اشتهر اصلا بالفلسفة وعلم المنطق أكثر من اشتهارهم بالعلم والطب مثل الفارابي والكندي ومن الناحية المبدئية هم علماء ومفكرون يجوز عليهم الانتقاد والرد كما رد تيار فلاسفة الاسلام على التيار السلفي وانتقدوهم وساهموا مع غيرهم في اقصائهم  كما حصل مع الامام احمد بن حنبل وابن تيمية. وفي الجانب المقابل نجد علماء آخرين أشتهر عنهم الارتباط اكثر بالعلم الطبيعي أو بالطب مثل الرازي وابن سينا وجابر بن حيان و (بعض هؤلاء) نالتهم سهام الاتهام بفساد العقيدة بل وحتى وصفهم بالإلحاد والزندقة فهل فعلا كانوا كذلك.
 ولا بد من الاعتراف بدايةً  بأن الاقوال والشواهد في حال هؤلاء العلماء واشباههم متعارضه ومتناقضة فلو بدأنا (بالشيخ) الرئيس ابن سينا كما يلقب لوجدنا من يتهمه بالزندقة وبعضهم كفره بسبب اقواله التي ترى أن النبوة يمكن أن تكون مكتسبة وليس باصطفاء إلاهي محض ومع ذلك ففي المقابل نجد من سيرة حياته أنه حفظ القران الكريم في الصغر وانه في أواخر حياته تفرغ للعبادة واتجه الى قراءة القران الكريم حيث كان يختمه كل ثلاثة أيام وكان قبل ذلك بسنوات قد ألف كتاب خاص في  تفسير بعض سور القران ويقال أن له تبحر جيد في المسائل الفقيه لدرجة أنه كان يفتي على مذهب الامام أبو حنيفة.
وإذا انتقلنا للحديث عن الطبيب أبو بكر الرازي والكيميائي جابر بن حيان نجد أن الامور أكثر تعقيدا بسبب أن كلا منهما نسب إلية كتب كثيرة قد تكون منحوله عليه وبهذا قد لا نستطيع التأكد من حقيقة عقيدته الاصلية. وكما هو معلوم فإن أشهر سبب لاتهام الرازي بالزندقة هو (نسبة) كتاب له يحمل عنوان (مخاريق الانبياء) يذكر فيه أنه لا وجود للمعجزات وأن جميع الانبياء دجالون وقد كان يرى أن رعاية الفلسفة أهم من الدين وأن الفلسفة مثل ابقراط واقليدس لديهم ما يستحق الاستماع له أكثر من الاستماع للرسول محمد أو المسيح ولا شك أن هذا تجذيف وإلحاد صريح. لكن سؤال المليون كما يقال هل فعلا هذا الكتاب المشبوه من تأليف الرازي أو أنه منحول ودخيل عليه و لعل ما يثبت ضعف احتمال ان يكون الرازي قد ألف مثل هذه الكتب الالحادية الصارخة في بيئة اسلامية شديدة المحافظة والاعتزاز بدينها وانبيائها أننا في المقابل نجد أنه ينسب إلي الرازي كتب أخرى مخالفة تماما لما سبق مثل كتاب (وجوب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على من نقر بالنبوات) وعنوان الكتاب يدل على أنه رد على (من نقر) أي استنقص من مقام النبوة كما للرازي كتاب أخر حمل عنوان (أن للعالم خالقا حكيما) وكتاب في (إثبات المعاد) وقصيدة خاصة في الالهيات مما يشكك في نسبته للإلحاد والزندقة.
وبالانتقال الان للحديث عن (شيخ) الكيميائيين جابر بن حيان نجد أن ظاهرة نسبة الكتب (المنحولة أو المزيفة) له أكثر شناعة فمن المعروف أن جابر بن حيان ألف وكتب مئات الرسائل العلمية عدها بعضهم بخمسمائة رسالة و لكثرتها و تنوعها نجد أن بعض المستشرقين يشكك في نسبتها كلها لجابر بل أن بعض مؤرخي العلوم الغربيين (وقد سبقهم لذلك شيخ الاسلام ابن تيمية) يشككون أصلا في وجود شخصية حقيقية لجابر بن حيان. من هذا وذاك لا نقر الكاتب والفيلسوف المصري المعاصر عبدالرحمن بدوي عندما خصص فصل كامل لجابر بن حيان في كتابه (تاريخ الالحاد في الاسلام) فنحن نحتاج أولا لإثبات نسبة الكتب والافكار الالحادية لجابر بن حيان. ومما يساعد في الذب عن عرض جابر بن حيان في مسألة الالحاد أن أغلب كتب التاريخ تشير إلى أنه كان أحد تلاميذ الامام جعفر الصادق ولهذا نسب جابر بنحيان (بركة ومصدر خبرته العلمية) لشيخه وأمامه وفي حين نجد كذلك بأن مراجع تاريخية أخرى تصفه بأنه (أبو موسى جابر بن حيان الصوفي) حيث أن العديد من كتب ابن حيان لها صبغة صوفية صارخة فهل يجتمع التشيع والتصوف والالحاد في شخص واحد .. أترك الحكم لكم.
وطبعا من المحال أن نستطيع في مقال واحد أن نصحح الرؤيا عن عدم دقة اتهام كل واحد من مشاهير علماء الاسلام بالزندقة وضلال العقيدة ولكن خلاصة الكلام أنه لا توجد شخصية علمية في التاريخ الاسلامي تم اضطهادها أو اقصائها أو تفسيقها وتبديعها بسبب أفكارها (العلمية البحتة) وإنما لو حصل ذلك فقد كون بسبب أفكارها الفلسفية أو توجهاتها الفكرية الأخرى خارج نطاق العلم والطب.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق