الثلاثاء، 25 يوليو 2017

( النضال الفلسطيني وتعاطف الغرباء )

الشابة الامريكية راشيل كوري تضحي بنفسها في سبيل نصرة الفلسطينيين
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
على نسق الحديث القدسي فإن الناظر إلى أهل السياسة من الغربيين سوف يمقتهم رجالهم ونسائهم إلا بقايا من أهل القلوب الرقيقة المتعاطفة مع مأسي ومصائب الشعوب. الحضارة الغربية تشمل في طياتها أكثر صور التناقض والتضاد وخير من يمثلها في هذا الجانب المفكر والاقتصادي البريطاني البارز أدم سمث فهو من جانب منظر الرأسمالية المقيتة في كتابه الذائع الصيت (ثروة الأمم) بينما هو في المقابل يؤلف كتاب غاية في الانسانية سماه (نظرية العواطف الأخلاقية theory of moral sentiments) الذي ذكر فيه أن من أهم قواعد السلوك الانساني (التعاطف مع الآخرين). ومنذ أكثر من قرنين من الزمان وتأثير أدم سمث الاخلاقي المتسامح والمتفهم لمشاعر الاخرين متزايد في عالم السياسة والادب الغربي لدرجة انه ظهر تيار أدبي ُسمي الاسلوب العاطفي sentimental mode يحرص على التركيز على إظهار المشاعر الاخلاقية المتعاطفة مع الأفراد وقضايا الآخرين. 
ولعل الكاتب والروائي الامريكي المشهور إرنست همنغواي الحائز على جائزة نوبل في الادب عام 1954 (صاحب رواية الشيخ والبحر الذائعة الصيت) هو خير مثال لهذا الاتجاه الادبي ذو المشاعر الانسانية المرهفة. ما يهمنا من الاعمال الروائية لهمنغواي في سياق التعاطف مع القضية الفلسطينية هو روايته الخالدة (لمن تقرع الأجراس) والتي تدور عن شاب أمريكي مغامر (يتعاطف) مع الثوار الاسبان الجمهوريين الذين يقاومون الحكم الاستبدادي للطاغية الاسباني فرانسيسكو فرانكو اثناء الحرب الاهلية الاسبانية. تعاطف الشاب روبرت وتبنيه للقضية العادلة للثوار الاسبان دفعه للتطوع في محاولة تفجير أحد الجسور وهي مهمة شبة انتحارية ومن المحتمل أنه لن ينجو بحياته عند تنفيذها.
وبحكم أن القضية الفلسطينية هي (عنوان القضية العادلة) لذا نجد على أرض الواقع وليس في عالم الخيال العديد من شرفاء العالم من جميع الجنسيات والاديان يتقاطرون زرافاتٍ ووحدانا إلى أرض المحشر ارض فلسطين لنصرة القضية الفلسطينية وكفاح شعبها المناضل. للأسف الشديد وفي العديد من الاقطار العربية نشهد خلال السنوات الماضية تراجع مريع ومتزايد في حماسة الاهتمام و (التعاطف) مع القضية الفلسطينية على المستوى الرسمي وحتى الشعبي والأيام القادمة حبالى يلدن كل عجيبة ويجملن كل خطيئة. ولهذا لعله من الملائم التذكير بأخبار ومواقف العديد من شرفاء العالم من غير المسلمين والعرب الذين ناصروا القضية الفلسطينية وضحوا في سبيل نصرة أهلها بالنفس والنفيس. في الثقافة الغربية (تقرع الاجراس) لأسباب متنوعة من ضمنها أنها أسلوب للتكريم والتقدير للشخص المتوفى ولهذا وبالأذن من همنغواي فإن الجواب على تساؤل: لمن تقرع الاجراس وترفع القبعات وتدوي طلقات المدافع ؟؟ نقول أن هذه الأمور تتم لتكريم (الغرباء) الذين وفدوا على أرض فلسطين للدفاع عن قضيتها العادلة بعد ان تخلى بعض أهل القربى والجيرة من العرب والمسلمين عن قضية الاسلام الاولى.
وكما تطوع الشاب الامريكي روبرت جوردون في رواية لمن تقرع الاجراس في دعم قضية الثوار الاسبان وعرض حياته للخطر وكذلك شارك الشاب الامريكي فردريك هنري في رواية إرنست همنغواي الأكثر شهرة (وداعاً للسلاح)  في الدفاع عن المدن الايطالية ضد الغزو النمساوي لدرجة اصابته بجروح خطيرة نتيجة قذيفة هاون نجد على أرض الواقع شباب من شعوب غير عربية ولا إسلامية يضحون بأنفسهم لنصرة أهل الحق والنضال في فلسطين. وهذا حال ومئال الشابة الامريكية الفاتنة راشيل كوري عضو حركة التضامن العالمية من أجل الشعوب التي ضحت بنفسها على تراب فلسطين عام 2003م عند وقوفها أمام جرافة عسكرية اسرائيلية كمحاوله منها لمنع تخريب مزارع وهدم منازل الاسر الفلسطينية في مدينة رفح بقطاع غزة. وبعد تلك الحادثة المفجعة لقي المراسل الصحفي والناشط السياسي الايطالي فيتوريو أوريغوني مصرعه هو الاخر في سبيل القضية الفلسطينية التي تبناها وناضل عنها لدرجة أنه انتقل للعيش لمدينة غزة منذ عام 2008م تاركا عائلته ووالده المصاب بالسرطان. ونتيجة لعمله مع حركة التضامن العالمية الداعمة للفلسطينيين لذا شاركهم معاناتهم أثناء الحرب الغاشمة على قطاع غزة عام 2009م وقام بنشر كتاب عن تجربته أثناء حرب غزة ثم قُتل بعد ذلك في ظروف غامضة وبهذا يكون هو ثالث متضامن أجنبي يقتل في سبيل دعم القضية الفلسطينية في قطاع غزة.
مناضل سياسي إيطالي آخر عاش بين الفلسطينيين ودفن بعد مماته بينهم هو فرانكو فونتانا الذي عرف باسم الرفيق جوزيف إبراهيم والذي شارك منذ عام 1969م في العمليات الفدائية الفلسطينية من  خلال مشاركته في الجناح العسكري للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وذلك بعد أن باع كل أملاك والده وتبرع بها للمخيمات الفلسطينية. يقال أنه أعتنق الاسلام خلال قتاله مع حركة فتح وعندما توفي عام 2015م أوصى أن يدفن في فلسطين أو في إحدى المخيمات الفلسطينية ونُفذت وصيته عندما تم تأمين دفنه في مقبرة الشهداء بمخيم عين الحلوة الفلسطيني في لبنان.
وفي هذا المقام لا يصح لنا ان نغفل ذكر المحامية (الاسرائيلية) فيليتسيا لانغر اليهودية والألمانية الأصل التي دافعت لعقود طويلة من الزمن عن الاف الاسرى الفلسطينيين حيث كانت تجوب مختلف أنحاء الكيان الصهيوني لزيارة المعتقلين الفلسطينيين والدفاع عن حقوقهم الانسانية. وبسبب نضالها (الغريب) مع القضايا العربية بالرغم من جنسيتها الاسرائيلية اتهمت بالخيانة من قبل اليهود وتعرضت للمضايقة والاعتداء خصوصا بعد إصدارها لكتابها الذي بعنوان (بأم عيني) والذي فضحت فيه معاناة الاسرى الفلسطينيين كما انها نشرت تقارير صحفية في كبرى الصحف الدولية ضد التعسف الصهيوني. ولا زالت ذاكرة الطفولة تحمل بقايا الالم والمعاناة عن المسلسل العربي الذي حمل عنوان (بأم عيني) وقامت فيه الممثلة السورية منى واصف بتمثيل دور هذه المحامية اليهودية حيث عرض المسلسل بالصوت والصورة القصص الواقعية لتعذيب الفلسطينيين المنكوبين في ظلام السجن المخيم كما تقول شارة بداية المسلسل الكئيب. 
والقائمة سوف تطول بنا وتتشعب لو سردنا تفاصيل العشرات والعشرات من المناضلين الغربيين الذين اعتنقوا القضية الفلسطينية وارتبط تاريخهم ومستقبل حياتهم بها من مثل السيدة الدنماركية آني هوفر التي زارت في شبابها المخيمات الفلسطينية ومن ثم تزوجت الأديب والمناضل الفلسطيني المعروف غسان كنفاني وكذلك الشاعر الاسكتلندي هنري بيل الذي اشترك مع مجموعة من الشعراء الاسكتلنديين في الذهاب إلى بيت الشعر في فلسطين والتعاون مع عدد من الشعراء الفلسطينيين في انتاج أعمال شعرية. تجدر الاشارة إلى أن كثير من الكتاب الغربين اشتهروا بسبب مؤلفاتهم الداعمة للقضايا الفلسطينية مثل الاكاديمية وعالمة الاثار البريطانية سارة إيرفين صاحبة كتاب (ليلى خالد .. أيقونة التحرير الفلسطيني) ومن كثرة ترددها على فلسطين ألفت كتاب دليل فلسطين وأيضا المناضلة شارين لووك صاحبة كتاب (غزة تحت القصف) والتي كسرت الحصار البحري حول قطاع غزة ووصلت مع أول سفينة مساعدات لها عام 2008م ثم عاشت تجربة القصف العنيف والغاشم لقطاع غزة عام 2009 ميلادي.
 
العنف الثوري والقضية الفلسطينية
منذ منتصف الثمانينات وحتى الان اتسم النضال الفلسطيني بروح المرجعية الجهادية الاسلامية الواضحة أما قبل ذلك فكان الغالب على الحركات والمنظمات النضالية الفلسطينية صبغتها القومية والاشتراكية الطاغية. منذ مطلع السبعينيات الميلادية كان للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بصمتها وأثرها الواضح في طبيعة النضال الفلسطيني من خلال ما سمي بالتنظيم أو العمل الخارجي والذي كان يحمل شعار (وراء العدو في كل مكان). وكان من أبرز الانشطة في هذا المجال قيام المناضلين الفلسطينيين وديع حداد وغسان كنفاني بفتح قنوات اتصال مع الجماعات والمنظمات الثورية الشيوعية الدولية من مثل الجيش الاحمر الياباني حيث دعي بعض أفراده للتدريب في معسكرات الجبهة الشعبية في لبنان. وهنا نصل في سردنا التاريخي للحظات العجيبة في نصرة القضية الفلسطينية بواسطة الشيوعيين الحمر من ملاحدة اليابان والالمان. من الغرباء الذين تعاطفوا مع حركة النضال الفلسطيني الشاب كوزو أوكاموتو الملقب بأحمد الياباني عضو الجيش الأحمر الياباني الذي قام في 30 مايو من عام 1972م مع اثنين آخرين من أبناء بلده باقتحام مطار اللد الاسرائيلي (مطار بن غوريون حاليا وأكبر مطار دولي في الكيان الصهيون) في عملية انتحارية قاموا خلالها بإطلاق النار على المتواجدين في صالات المطار. مما تسبب في مقتل 26 شخص وإصابة حوالي 80 آخرين وكذلك مقتل اثنين من المهاجمين اليابانيين فيما تم اعتقال كوزو أوكاموتو الذي حكم عليه بالسجن المؤبد وإن كان أطلق سراحه لاحقا في صفقة تبادل أسرى. الجدير بالذكر أن أعضاء الجيش الاحمر الياباني الناشطين في النضال الفلسطيني قد يصل عددهم إلى حوالي أربعين عنصر من أشهرهم بالإضافة لأحمد الياباني السيدة فوساكو شيغونوبو الملقبه (مي اليابانية) التي أقامت لفترة طويلة (27 سنة) في لبنان بعد وصولها عام 1971م لكي تنظم كمتطوعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
بلا شك النضال الفلسطيني الاصلي والمستجلب مشروع على جميع ثرى ارض فلسطين ومع ذلك كانت فترة السبعينات فترة زمنية عصيبة ومثيرة للجدل في مسيرة النضال الفلسطيني حيث وصمت دوليا بالإرهاب والعنف والتطرف. السبب في ذلك الصبغة اليسارية والشيوعية في طبيعة النضال الفلسطيني في تلك الفترة حيث نشأت فكرة مشتركة بين الحركات الثورية الشيوعية في مختلف البلدان فحواها أنها لو اشتركت جميعا في مسعى التضامن الثوري اليساري الدولي فهذا من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى اندلاع ثورة اشتراكية عالمية. ومن هنا نفهم لماذا انخرطت حركة الجيش الحمر الياباني في مسيرة النضال الفلسطيني وبنفس الدافع قامت منظمة (بادر ماينهوف) اليسارية التابعة لحركة الجيش الاحمر الألماني بدعم القضية الفلسطينية واعتبارها قضية تحرير عالمية. وكثمرة للتعاون والتدريب المشترك بين منظمة بادر ماينهوف والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قام عناصر من أفراد بادر ماينهوف عام 1977م باختطاف طائرة ألمانية تابعة لشركة لوفتهانزا وطالبوا بتحرير اسرى فلسطينيين من السجون الاسرائيلية. وعلى نفس النسق نفهم سر التعاطف الكبير للقضية الفلسطينية في العديد من الدول اليسارية في أمريكا اللاتينية ومن اشهر من يمثل ارتباط شعوب أمريكا الجنوبية بقضية النضال الفلسطيني شخصية المواطن الفنزويلي (كارلوس الثعلب) الذي اشتهر عالميا عندما قام في عام 1975م بعملية احتجاز أحد عشر وزير نفط لبلدان منظمة أوبك اثناء اجتماعهم في مدينة فيينا وقد كان من ضمنهم وزير النفط السعودي احمد زكي يماني. يقال أن بداية ارتباط كارلوس بالقضية الفلسطينية عندما تعرف على شاب ثوري جزائري كان يتواجد في موسكو ومن ثم انظم كارلوس إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قسم العمليات الخارجية حيث تدرب على يد جورج حبش ووديع حداد في ضواحي مدينة عمان الاردنية وفي معسكرات لبنان. وخلال سنوات طويلة قام كارلوس بتنفيذ عمليات اغتيال لشخصيات صهيونية أو عمليات تفجير سيارات مفخخة امام صحف فرنسية موالية لإسرائيل وكذلك نفذ محاولة تفجير طائرة تابعة للخطوط الجوية الاسرائيلية كانت تربض في إحدى المطارات الفرنسية.
 
 
 وختاما وبالرغم من كل الملابسات السياسية والفكرية والحركية التي طالت النضال الفلسطيني اثناء سنوات الجهاد والكفاح الطويلة إلا أن عدالة القضية الفلسطينية فوق كل شبه وهي جديرة بكل تعاطف من كل شرفاء العالم. وفي مثل هذه الاوقات العصيبة لا عذر مقبول من الناحية الشرعية أو من ناحية النخوة والشرف العربي لفض اليد عن أخوتنا في الدين والعقيدة والنضال في أرض فلسطين السليبة وكم هو معيب في حقنا أن نخذلهم في حين أن (الغريب) يقتل ويعاني في سبيل نصرتهم ونجدتهم.