الجمعة، 30 سبتمبر 2016

( السر الكيميائي للنهضة )

كتاب فكري عميق له أبعاد كيميائية مميزة
د/ أحمد بن حامد الغامدي
قبل عدة أيام انتهيت من قراءة كتاب فكري كلاسيكي هو كتاب (شروط النهضة) للمفكر الجزائري البارز مالك بن نبي رحمة الله وفي هذا الكتاب طرح مالك بن نبي معادلته المشهورة لتحقيق إنجاز ناتج حضاري لأي مجتمع:
الحضارة = إنسان + تراب + وقت
وبحكم أنني كيميائي من حيث المهنة فإن ما ابهجني حقا أنني كنت أتوقع أن تلك (المعادلة الحضارية) هي معادلة رياضية وإذا بها معادلة كيميائية بامتياز لدرجة أن مالك بن نبي يذكر بشكل صريح أنه إذا كان (العالم الاسلامي يريد إنجاز مهمة  - تركيب –  الحضارة في زمن معين، لذا يجب عليه أن يقتبس من الكيمياوي طريقته، فهو يحلل أولا المنتجات التي يريد أن يجري عليها بعد ذلك عملية التركيب).
من هذا نستشف إن (معادلة الحضارة) هي معادلة كيميائية وليست معادلة رياضية لأن هذه المعادلة تنتج (مركب جديد) هو أكثر تعقيدا من مجرد (الجمع الرياضي) المباشر (لمتغيرات) الحد الايسر من معادلة الحضارة. ومن جوانب الاقتباس و(التوظيف) الكيميائي التي استخدمها مالك بن نبي في معادلته أنه اشار بأن عملية الجمع الرياضية للعناصر الثلاثة السابقة (الانسان والتراب والوقت) لا تنتج بحد ذاتها الحضارة ما لم يضاف لها عنصر جديد هو ما سماه (مركب الحضارة) والذي وصفه في موقع آخر بأنه شبيه لمفهوم (الحفاز الكيميائي catalyst) إي وفق عبارات مالك بن نبي (العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض) وحسب نظرية مالك بن نبي أن هذا (المركب أو الحفاز) الذي أنشأ جميع الحضارات الكبرى في تاريخ البشرية هو (الفكرة الدينية) التي (وبلغة أهل الكيمياء) تنشط التفاعل الكيميائي الحيوي مما ينتج في النهاية مركب (الحضارة).
وبالانتقال من النهضة إلى (الثورة) فنجد إن للكيمياء نوع ارتباط بهذا الموضوع الشائك والملتهب وكما كان مالك بن نبي من أهم وأشهر المفكرين العرب بعد الحرب العالمية الثانية (نشر كتابه شروط النهضة عام 1948) فإن الفيلسوف والمفكر الانجليزي بيرتراند رسل كان أهم رجالات الفكر والثقافة الغربيين على الاطلاق بعد الحرب العالمية الاولى (والتي بالمناسبة تسمى حرب الكيميائيين) ويبدو أن لسمعة الكيميائيين (السلبية والايجابية على حدا سواء) في تلك الفترة الزمنية دورها في لفت نظر بيرتراند رسل لها لدرجة أننا نجده في كتابه الهام (النظرة العلمية)عندما كان يتحدث عن دور العلم في تغيير النظم السياسة والاجتماعية ودوره في خلق وانشاء مجتمعات صناعية وبعد أن ذكر بيرتراند رسل ان اقامة ثورة سياسية ضد مركز الدولة الحديثة امر صعب وإن إقامة الثورة أمر عسير:( ما لم يؤيدها رجال الطيران والكيمياء وأن أي حكومة أريبة لتعمل على إرضاء هاتين الطائفتين ولا تألوا جهدا في كفالة ولائهما لها). وكأنه بهذا كما كانت الكيمياء مصدر إلهام لتحقيق شروط النهضة إذا بها هنا (عنصر) اساسي في تركيب معادلة الثورة السياسية الناجحة.
ربما بعد هذا التطواف في أثر الكيمياء في (النهضة) و (الثورة) يداخلنا نحن أهل صنعة الكيمياء شيء من الغرور لكن الاصطدام بجدار الواقع المرير جاء اسرع مما كنت أتوقع ففي بداية الاسبوع الماضي عندما شرعت في قراءة كتاب (شروط النهضة) بدأت ايضا في قراءة رواية (سمرقند) للكاتب اللبناني المعروف أمين معلوف وسبب اختيار لهذه الرواية بالذات ربما لأنني أرتب لزيارة سياحية لمدينة سمرقند الاسطورية مع بعض الاحباب بعد اجازة العيد بمشيئة الله. في الواقع هذه الرواية تدور بشكل محوري عن العالم والشاعر المسلم الشهير عمر الخيام والذي في بداية الرواية يزور مدينة سمرقند وهنا تحصل رابطة شنيعة بين عمر الخيام والكيمياء.
 ما حصل أنه عند دخول الشاب عمر الخيام لمدينة سمرقند تعرض لهجوم مجوعة من اللصوص والاشرار لكن تم انقاذه بواسطة دورية من العسكر المسلحين ولهذا كانت ردة الفعل المباشرة من هؤلاء الاشرار أن أرادوا أن يبينوا أنهم كانوا في الواقع يريدون أن يحموا مدينتهم من (شر) عمر الخيام الذي أتهموه بأنه كيميائي حيث أنهم كما ورد في الرواية:
 (أخذوا يصيحون مستشهدين بالجمهور تبريرا لمسلكهم:
كيميائي كيميائي
ولأن يكون المرء فيلسوفا فليس جريمة في نظر السلطات وأما تعاطي الكيمياء فجزاؤه الموت
كيميائي هذا الغريب كيميائي
ولكن لم يكن في نية رئيس الدورية أن يجادل وعلية فقد قرر قائلا:
إذا كان هذا الرجل كيميائيا حقا فإنه يجدر بنا أن نقوده إلى قاضي القضاة أبي طاهر).
أنه لمحزن حقا أن نعلم أن (السمعة والصورة النمطية) للكيميائيين (أو الخيميائيين بمعنى أصح) كانت بالغة السوء في فترة التي عاش فيها عمر الخيام قبل حوالي ألف سنة من الآن وذلك لأن (صنعة الكيمياء) شابها الكثير من الغش والاحتيال ومن هذا نعلم لماذا أصدر بعض علماء السلف مثل شيخ الاسلام ابن تيمية فتاوى مشهورة في تحريم صنعة الكيمياء ولم يقف الأمر عند الفقهاء بل تعداه حتى للمفكرين والفلاسفة فهذا الفيلسوف العربي المعروف الكندي يؤلف (كتاب التنبيه على خدع الكيميائيين) بينما اشتهر عن ابن سينا أنه ناقش هذه الموضع في كتابه (إبطال الكيمياء).أما أسوء من شنع على الكيميائيين فهو بلا منازع شاعر وأديب مدينة فلورنسا البارز دانتي حيث أنه في كتابه المشهور الكوميديا الالهية الذي يدور موضوعه الاساسي عن الجحيم نجده يصنف الكيميائيين (مع المزورين والأنذال والأوغاد في الخليج العاشر من جهنم).
وختاما إذا قيل أن الرجل العظيم هو من تجد من يغالي في مدحة كما تجد من يغالي في ذمة فعلى نفس النسق فإن علم الكيمياء علم عظيم ولا شك لأنه (يتأرجح) بين أن يضمن لك نجاح نهضتك وثورتك السياسية أو أن يدخلك الجحيم.

 
 
 
 

( العنف عند المراهقين .. وإقصاء ابن تيمية )

العديد من الشعوب استغلت الأطفال والمراهقين وجندتهم باسم الدين
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
كم نحب الاطفال بسبب براءتهم وكم نتعلق ونهتم باليافعين والمراهقين لأنهم أمل المستقبل ولكن حذاري فإن ( عالم المراهقة )  عالم يمور بالتقلبات والضبابية وعدم المنطقية. ولهذا لا غرابة أن بعض ابرز الروايات الادبية في العصر الحديث بالذات بنيت حبكتها الدرامية على العالم المتقلب والعنيف وحالات الاحباط والضياع للمراهقين كرواية العصيان للكاتب الايطالي المعروف البيرتو مورافيا ورواية المراهق لعملاق الادب الروسي دوستويفسكي  أو رواية آلام الشاب فرتر لأسطورة الادب الالماني  يوهان جوته. لكن أبرز تلك الاعمال الادبية الرواية الفنية الصادمة كانت رواية (سيد الذباب Lord of flies) للكاتب الانجليزي وليام غولدنغ والذي حصل على جائزة نوبل في الادب عندما جسد في روايته هذه حالة الصراع والعنف والاقتتال لمجموعة من المراهقين الذين علقوا في جزيرة مهجورة وحاولوا أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وهنا حصلت قمة الكارثة والمأساة.
الحالة النفسية الهيستيرية العنيفة للمراهقين في رواية سيد الذباب (أو أمير الذباب وهو الشيطان) قد تكون من نسيج الخيال ولكن حصل في التاريخ حالة هستيرية للمراهقين مشهورة جدا خلدها الروائي الامريكي العالمي أرثر ميلر في رواية (ساحرات سالم) وهي مبنية على قصة حقيقية حصلت في المجتمع الامريكي في القرن السابع عشر حيث انتشرت حالة من الهستيرية الغريبة بين عدد كبير من الفتيات المراهقات في مدينة سالم الصغيرة كلهن يتعرضن لحالة اشبه بالمس من الجنون والمرض الشديد والسبب في هذه الحالة غير الطبيعية في السلوك ناتج من (الايحاء الكاذب) بأنهن قد تعرضن للسحر الاسود مما دفع بعضهن لارتكاب القتل والتعذيب.
والكل منا يعلم أن شخصية المراهق هشة وسهلة التشكيل وأحيانا يكون مفتاح تغيير حياة الشاب في المستقبل (التلاعب) بأفكاره ومشاعره أثناء مرحلة المراهقة. المجتمع الصيني قائم على التعاليم الكونفشيوسية والتي تتمحور حول الاخلاق والعلاقات الاجتماعية وفي القلب منها احترام الوالدين والكبار في السن ولهذا عندما أرادت القيادات الشيوعية تغيير أفكار المجتمع دشن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ما سمي بالثورة الثقافية الكبرى والتي كانت أبعد ما تكون على الثقافة حيث تم فيها (غسل أدمغة) الشباب والمراهقين بأن يقوموا بالاستهزاء والسخرية والاحتقار لمن هم أكبر منهم من الاباء والمعلمين والجيران ولهذا شهدت الصين قيام الالاف من الشباب (الحرس الاحمر) بأعمال عنيفة وإجرامية نتج عنها قيام الالاف منهم بطرد وبتعذيب بل وقتل آبائهم ومعلميهم.
وإذا كان (الحرس الاحمر) الصيني تلاعب بعقول المراهقين لينتج عنف ايدلوجي شنيع يعتبر وصمة عار في تاريخ الصين الحديث فنجد أمثلة أخرى للعنف ذو الطابع الديني والعقائدي عند المراهقين المسيحيين كما هو الحال مع جنود (جيش الرب المسيحي) المنتشر في أوغندا وأفريقيا الوسطى وحسب تقديرات منظمة اليونسيف الدولية يعتقد بأن أربعين ألف طفل مجند في صفوف هذا الجيش ويقال أن الاطفال ما بين سن 11 و 15 يمثلون نسبة ثمانين بالمائة من أعضاء جيش الربي الذي يقوده قس مسيحي أصولي متطرف جدا يهدف لإنشاء دولة مسيحية دينية في قلب افريقيا.
وعلى ذكر (جيش الاطفال المسيحي) اغلبنا يعرف أن عدد الحملات الصليبية كان تسع حملات ولكن في الواقع تهمل كتب التاريخ ذكر حملة صليبية مميزة انطلقت في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي مكونة من جيش من الاطفال. قصة حملة الأطفال الصليبية the children`s crusade حصلت في ألمانيا عندما زعم طفل يرعى الغنم بأنه شاهد في المنام السيد المسيح يأمره أن يذهب للقدس وهنا استطاع هذا الغلام أن يجمع جيش من الاطفال بلغ تعداده عشرات الالاف من الاطفال المغرر بهم والذين تم التلاعب بعقولهم وافساد براءتهم الفطرية ومع ذلك لم نجد من النصارى من يتهم تعاليم المسيحية بالتعصب والارهاب.
وكما كان اشنع الجرائم الانسانية تمت في زمن الحكم النازي فكذلك كان أحد اشنع برامج وانشطة التأثير على تنشئة الاطفال وتربيتهم تجري فصوله الشريرة في ألمانيا النازية فيما كان يعرف (بمصنع الطفل النازي) حيث كان يفصل الاطفال عن ذويهم واسرهم ويقال أنه تم تنشئة حوالي ربع مليون طفل في هذه الاماكن والذين تم جلبهم من أمكان مختلفة من دول اوروبا وتم الاعتناء الصحي والغذائي بهم وكذلك بث الافكار النازية فيهم منذ الصغر والتي تغرس فيهم حب هتلر وتفوق العرق الاري وكراهية اليهود.
اتق شر (الغلام) إذا غضب !!!
من هذا وذاك نعرف أن التاريخ البشري في القديم والحديث سجل مئات الاحداث المأساوية والمحزنة التي كان مدار أحداثها حول الشباب اليافع المراهق الذي يقوم بأعمال غاية في الشناعة والاجرام. من ذلك مثلا أنه قبل حوالي عشر سنوات قام مراهق امريكي بقتل كل من جده وجدته وبعض زملائه ثم أقدم على الانتحار. وفي الوقت الحالي من أكثر الجرائم الصادمة للمجتمع الامريكي قيام بعض المراهقين واحيانا الاطفال الصغار بقتل زملائهم ومعلميهم في سلسلة اطلاق النار في المدارس الامريكية والتي تقع كل سنة تقريبا. ففي عام 1998 قام طفلين أعمارهما 11 و13 سنة بقتل أربعة طلاب من زملائهم ومعلمهم وجرح عشرة من الطلاب الاخرين. وبعد هذه المأساة بسنة واحدة فقط حصلت المذبحة الشهيرة في ثانوية كولومباين في ولاية كولورادو الامريكية حيث اقدم شابين مراهقين بقتل 12 تلميذا ومدرس واصابة حوالي 24 آخرين قبل أن ينهوا هذه المأساة الشنيعة بالانتحار وتجدر الاشارة إلى أن المخرج الامريكي المعروف مايكل مور حصل على جائزة الاوسكار لأفضل فلم وثائقي عندما ناقش هذه الكارثة المتعلقة بعنف المراهقين وظاهرة انتشار السلاح في المجتمع الامريكي.
وختاما لو أردنا أن نناقش ظاهرة (عصابات المراهقين) مثل تلك التي تعيث ارهابا في مدينة الجريمة شيكاغو أو نناقش جنون العربدة للمراهقين عن طريق حفلات الاغتصاب الجماعي كما يحصل في مدينة الجنون ريو دي جانيرو لطال بنا المقال  لكن ما أردنا أن نوصل الرسالة من هذا الاستعراض المختصر أن مشاكل عنف المراهقين متشعبة واسبابها متنوعة ومختلفة ولم يسلم منها أي مجتمع أو ثقافة أو دين. ولهذا نعجب كل العجب من بعض من يريد تبسيط وتسطيح ظاهرة العنف في المجتمع (كم حصل قريبا من قتل شنيع لتوأمين لوالدتهما وجرح والدهم وأخيهم) ورفع راية التهم الجاهزة والمعلبة بأن السبب يكمن في مناهجنا الدراسية وفي تراثنا الفقهي والديني لدرجة أنه نسب قبل ايام فقط لأحد أبرز (المفكرين) السعوديين الليبراليين ربطه بين فكر الدواعش العنيف في قتل الاقارب وفكر ابن تيمية ولهذا كان الحل بكل بساطة دعوة المجتمع السعودي للعيش بدون فكر ابن تيمية وإعلان القطيعة التامة مع ابن تيمية ومدرسته الفكرية. فكر إقصائي غريب من رمز ليبرالي المفروض أنه يؤسس لمنهج مقارعة الحجة بالحجة وتثبيت أسس ومبادئ منهج الحرية في طرح الافكار وعرض والتصورات بدون وصاية على المجتمع والتعامل معه وكأنه قاصر يتم تحذيره من رفقة الاشرار كابن تيمية ومن لف لفه.


( العلماء والاجازات .. بين الاسترخاء والهوس العلمي )

بعض العلماء حتى وهو في إجازته منشغل بالتفكير العلمي
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
مع بداية الاجازة الصيفية هي الاطول (وربما تكون الأكثر مللا) في تاريخنا المعاصر وغير المعاصر رغبت أن أكتب مقال خاص (وإن كان من زاوية فريدة) عن أهمية الاستفادة ولو بالحد الأدنى من وقت الفراغ الهائل الذي ينتظرنا وأنه لا ينبغي أن تضيع جميع أوقتنا سدى خلال العطلة الصيفية. ومن واقع التجربة لا ألطف ولا أروح على النفس من ذكر القصص وطرائف الاخبار ولهذا وبالإذن من الدكتور غازي القصيبي سوف استعير عنوان كتابة المعروف (عن قبيلتي أحدثكم) فسوف أحدثكم عن بعض (شيوخ قبيلتي) وماذا يعملون في الاجازات واغرب وأخبارهم اللطيفة في هذا الشأن. قبيلة الدكتور غازي القصيبي التي عنها هي قبيلة الشعر والشعراء أما قبيلتي التي انتسب إليها فهي قبيلة (العلم والعلماء) وإن كنت حقا وصدقا أنا لست إلا صعلوك من صعاليك تلك القبيلة الذهبية.
بالرغم من أن العلماء والمخترعين هم مثل بقية البشر إلا أن الصورة النمطية (غير المنطقية عنهم) تضعهم في إطار أنهم مجانين ومدمني عمل workaholic ونتيجة لاستغراقهم التام وهوسهم العلمي فأنهم لا يرفهون عن أنفسهم بأخذ إجازة أو عطلة عن العمل. وطبعا واقع الحال للغالبية العظمى من العلماء والمخترعين انه بالفعل يتمتعون بالإجازات والبعض يحرص على أخذ عطلة من العمل لكن ما يفرق العلماء أنهم حتى وأن أخذوا إجازة وتوقفوا عن الذهاب للمختبر البحثي إلا أن (عقولهم) تستمر في التفكير والتحليل وهو ما قد يسبب عند البعض منهم أعراض الشرود الذهني المشهورة. وسوف نقوم بذكر بعض أخبار بعض العلماء الذين ربما توصلوا لبعض أشهر اكتشافاتهم العلمية وهم فعليا خارج المختبر واثناء قضائهم (لفترة صفاء ذهني) وقت الاجازات.
العالم والمخترع في عطلته .. يقظان نائم
بيت شعر جميل  في الادب العربي صيغ لتوصيف يقظة الذئب هو:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي       بأخرى المنايا فهو يقظان نائمُ
هذا التوصيف البديع يصلح أحيانا في حال بعض العلماء (الذيبان) الذين تستمر عقولهم بالتفكير  خارج مختبراتهم  وقد توافق معهم لحظة الالهام العلمي وهم في أحضان الطبيعة يستمتعون بإجازاتهم الرسمية. لحظة إضاءة البصيرة العلمية (Eureka moment) قد تطرأ فجأة وكأنها انقداح أو إنارة مفاجئة للذهن والخيال وهي تحدث غالبا في حالة الركود والخمول (واحيانا حال النوم والنعاس) وليس اثناء زخم العمل والبحث في المختبر. ومن أفضل الامثلة التي يمكن ذكرها في هذا السياق أن الفيزيائي الأمريكي تشارلز تاونز الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1964 ألهم الأفكار الأولية حول اختراع جهاز الليزر أثناء جلوسه على مقعد حديقة عامة في مدينة واشنطن وهو في حالة صفاء قبل طلوع الفجر. ومن جهاز الليزر إلى جهاز الراديو نجد أن الافكار العلمية الابداعية تأتي أحيانا حال الانسجام مع الطبيعية فالمخترع الايطالي الشهير ماركوني مخترع الراديو نجده يبدأ التفكير في اختراعه التاريخي عندما كان يقضي اجازته الصيفية في المنتجعات الايطالية من جبال الالب وذلك بعد أن قرأ مقاله عن تجارب العالم الالماني هيرتز حول انتقال الموجات الكهرومغناطيسية ومن هنا ألهم الشاب الصغير فكرة تحويل التجربة العلمية إلى منتج تكنولوجي. ومن المناظر الجبلية الخلابة في جبال الالب إلى السفوح الجبلية الفائقة الجمال في مرتفعات اسكتلندا حيث نلتقي بعالم الفيزياء البريطاني الشهير بيتر هيغز الحاصل علي جائزة نوبل في الفيزياء عام 2013 وذلك عن نظريته المتعلقة بتخمين وجود الجسيم الأولي المسمى جسيم (بوزون هيغز والذي يشتهر إعلاميا كذلك باسم (جسيم الاله  God particle) حيث أن بدايات هذه الفكرة العلمية لاحت له أثناء انشغال ذهنه بهذا الموضوع عندما كان هيغز يستمتع بجمال الطبيعة بالمشي في إحدى المناطق الجبلية الخلابة في اسكتلندا.
رحلة جبلية أخرى وإلهام علمي مميز حقق جائزة نوبل أخرى ذلك ما حصل مع  عالم الكيمياء الأمريكي كاري موليس الحاصل علي جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1993 لاكتشافه تفاعل البلمرة المتسلسل (التقنية العلمية بالغة الأهمية في أبحاث الجينوم والبصمة الوراثية) حيث أنه انقدحت في ذهنية بدايات اكتشافه العلمي بينما كان يقود سيارته في رحلة ليلية عبر سلسلة جبال شمال كاليفورنيا فخطرت له الفكرة أثناء قيادته المتهورة علي هذا الطريق الجبلي لدرجة أنه من شدة انغماسه الذهني في الفكرة الجديدة كاد أن يهوي من إحدى المنعطفات إلي أسفل الجبل. وإن كان العالم الكيميائي كاري موليس نجى من كارثية الهامه العلمي ولم ينحدر لأسفل الوادي إلا أن البشرية بأجمعها انحدرت لهاوية سحيقة وكارثة محققة كان بدايتها إلهام علمي آخر أثناء إجازة أعياد رأس السنة الميلادية وبين أحضان الطبيعية. رحلة مشي صباحية في عز شتاء شهر ديسمبر لعام 1938 ألهمت العالمة الفيزيائية النمساوية الشهيرة ليز مانتير التوصل لبدايات تفسير ظاهرة الانشطار النووي وذلك عندما كانت تتناقش مع ابن أختها الفيزيائي أوتو فريش حول نتائج عالم الكيمياء الألماني أوتو هان المتعلقة بالنشاط الاشعاعي لبعض العناصر الكيميائية .
الاكتشافات العلمية في أوقات الاعياد
ما سبق ذكره كان سرد (لبعض) ابرز الاكتشافات والاختراعات العلمية التي لم تحدث في المختبر وإنما حال تمتع العالم بإجازته بعيدا عن أجواء العمل ولكن في المقابل نعلم بلا شك أن (الغالبية العظمى) من الاكتشافات والاختراعات العلمية تمت فعلا داخل المختبر ومع ذلك الجديد الذي يمكن ان نسلط عليه الضوء هنا أن نذكر أخبار البعض منها التي تمت في المختبر (أثناء فترة الاجازات). بمعنى أن بعض العلماء والمخترعين تصل بهم حالة الهوس العلمي المفرطة أنهم يستمرون في إجراء الابحاث والاكتشافات (في المختبرات العلمية) في فترة الاجازات الرسمية والعطل الدينية. من ذلك مثلا أن العالم الالماني غرهارد دوماك الحاصل علي جائز نوبل للطب في عام 1939 نظير اكتشافه التاريخي لدواء السلفوناميد sulfa drugs (أول دواء مضاد للبكتيريا في التاريخ) كانت التجربة الحاسمة في حياته هي تلك التي اجراها في ليلة عيد الميلاد  لعام 1932 وهي التجربة التي أكتشف فيها أن الصبغة العضوية Prontosil لها القدرة علي معالجة فئران التجارب من جرعة البكتيريا القاتلة التي حقنت بها.
وعلى ذكر الصبغات الكيميائية تجدر الاشارة إلى أن فجر الصناعات البتروكيميائية  أشرق في تاريخ مميز عام 1856 عندما قام الشاب البريطاني هنري بيركن بمحاولة تصنيع دواء الكينين لعلاج مرض الملاريا من مواد كيميائية أولية مستخلصة من القطران. في إجازة عيد الفصح (عيد القيامة أحد اهم الاعياد المسيحية) من تلك السنة كان الشاب بيركن ما زال يحاول وبطرق مختلفة اكتشاف الطريقة الكيميائية لتصنيع ذلك الدواء وفي إحدى التجارب أنتج مادة سوداء بشعة وعندما أراد ان يزيلها من الدورق الذي كانت فيه أضاف لها حمض كيميائي مركز ولدهشته البالغة انتج ذلك التفاعل غير المقصود صبغة ذات لون أرجواني جميل كانت صبغة الموف mauve.
تجارب علمية .. حتى في إجازة شهر العسل
حالة الهوس المفرط بالعلم والاستغراق في البحث العلمي قد تلازم بعض العلماء حتى أثناء قضاء إجازة شهر العسل. ومما يذكر في هذا الشأن أن عالم الفيزياء الانجليزي جيمس جول Joule  ا(الذي اطلق اسمه من باب التكريم على وحدة قياس الطاقة) نجد أن هوسه بالعلم يدفعه لاصطحاب زوجته وهما بعد في شهر العسل و يتجه بها إلى إحدى شلالات جبال الألب السويسرية حاملا معه ثرموميتر طويل ( كما وصفه العالم كالفن الذي شاهد الحادثة) لقياس كمية الطاقة (الحرارة) التي تكتسبها المياه نتيجة لسقوطها من اعلى الشلال إلى اسفله. وأما العالم الدنماركي نيلز بوهر صاحب نموذج تركيب الذرة والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1922 فبالرغم من أنه سبق وأن قام بتأجيل شهر عسل زواجه حتى يكتب ورقة علمية عن تركيب الذرة ومع ذلك عندما سافرا اخيرا لقضاء إجازة شهر العسل قام بكل صفاقة بتكليف عروسه الجديدة بمساعدته في كتابة بحثه العلمي الجديد حيث كان يملي وزوجته تكتب له.
ومن أغرب الترتيبات والتجهيزات لقضاء إجازة شهر عسل ما حصل في منتصف القرن التاسع عشر مع مؤسس علم الجيولوجيا العالم البريطاني الشهير تشارلز ليلي الذي تزوج من فتاة كانت ايضا من هواة علم الجيولوجيا ولهذا نجد أن هذين العروسين اثناء تجهيزهما لرحلة شهر العسل يرتبانها ويتعمدان اختيار اماكن الزيارة وكأنها رحلة علمية إلى حقل جيولوجي بدلا من ان يسفران لمكان اكثر رومانسية.
وفي الختام  وعلى ذكر التخطيط لقضاء الاجازات من خلال الرحلات العلمية كان أحد أكثر الكتب العلمية تميزا الذي قرأته قبل عدة سنوات هو كتاب أشبه بدليل سياحي علمي عنوانه (أطلس المهووس العلمي Geek Atlas ). والكتاب أشبه بمرشد سياحي يعطيك معلومات إرشادية عن الموقع الجغرافي والخدمات السياحية عن أبرز المناطق ذات العلاقة بالعلم والتكنلوجيا مثل المختبرات التي حصلت فيها اكتشافات علمية مميزة أو عن المتاحف العلمية أو حتى منازل وقبور مشاهير العلماء والمخترعين. ولا أكشف سرا عندما اقوم أنني أحيانا (أستعين بصديق) هو هذا الكتاب عندما أسافر لدولة ما للتأكد هل بها (معلم سياحي علمي) جدير بالزيارة والمشاهدة. 


( أمريكا .. أرض النفاق السياسي )

كيف استفادت أمريكا أرض النفاق من أعدائها
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اصدر الاديب المصري المعروف يوسف ادريس روايته الغرائبية (أرض النفاق) وهي رواية خيالية عن واقع وبلاد خيالية ولكن من غرائب (أو فانتازيا) الصدف أن الاحتكار الكامل للسياسة الدولية تحقق للولايات المتحدة ايضا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فهل كانت (ارض الاحلام) الامريكية هي عينها (أرض النفاق) والتي قد تؤول إن طال الزمن إلى (الارض اليباب) والتي هي بالمصادفة المحضة مرة ثانيه القصيدة الاشهر للشاعر الانجليزي تي إس إليوت التي كتبها بعد الحرب العالمية (الاولى) والتي عبر فيها عن خيبة الامل في الجنس البشر وفي القلب منه ولا شك أهل النفاق السياسي.
وصف المفكر والثائر السياسي الانجليزي توماس بين أحد السياسيين الامريكان بقولة (لقد كان للحياة المهنية السياسية لهذا الشخص أن تبدأ بالنفاق وتستمر بالغطرسة لكي تنتهي بالخزي والعار) هل كان هذا وصف لشخص أم تنبؤ من السيد توماس لمستقبل السياسية الخارجية لأمريكا هذا في علم الغيب أما ما نعلمه علم اليقين الآن أن سياسية الولايات المتحدة نشأت على النفاق وهي حاليا في قمة العنجهية والغطرسة ونحن بالانتظار لخاتمة المطاف لها بالخزي والعار.
 من الجميل في القوانين الغربية الديمقراطية قانون (حرية المعلومات) وهو قانون يلزم الجهات الحكومية الامريكية والبريطانية على سبيل المثال برفع السرية والحجب عن كم هائل من الوثائق السياسية السرية بعد مرور فترة زمنية تتراوح بين 25 و30 سنة في الغالب. وبهذه الظاهرة السياسية الفريدة يمكن كشف العديد من خبايا وخفايا السياسات الامريكية والبريطانية وهو ما قد يساعدنا هنا في كشف الوجهة الحقيقي للنفاق السياسي الامريكي في عدد من القضايا الحساسة مثل الحروب المزعومة التي سنتها أمريكا للقضاء على الارهاب أو المخدرات أو الشيوعية وما شابه ذلك من علاقة الامريكان بأعدائهم (المزعومين)  من النازيين أو الايرانيين .
جواسيس هتلر في خدمة البيت الأبيض !!
معروف الدور الحاسم للولايات المتحدة في تغيير مجريات الحرب العالمية الثانية ومساهمتهم في تحقيق الهزيمة الساحقة لألمانيا النازية. وبالرغم من أن الامريكان أعلنوا حتى قبل نهاية الحرب بمدة طويلة بأنهم سوف يلاحقون فلول النازية (إلى أقصى أقاصي الارض من أجل تحقيق العدالة فيهم) وبالرغم من أن الامريكان بعد نهاية الحرب مباشرة كانوا أكثر حماسة بكثير من البريطانيين في محاكمة القيادات النازية بتهم جرائم الحرب والابادة البشرية وهو ما نتج عنه (محاكمات نورمبيرغ ) الشهيرة. بالرغم من كل هذا الحماس المنقطع النظير حيال (محاكمة قادة النازية) هل فعلا تطابقت أفعال الامريكان مع اقولهم ام الامر لم يكن إلا نفاقا سياسيا رخيصا. ربما لا يعلم الجميع أن من احتل برلين عاصمة المانيا واسقط النازية (على أرض الواقع) هم جنود الجيش الروسي ولهذا شعر الامريكان عن حقا بأن أخطر قوة سياسية بعد الحرب العالمية ستهددهم هو الاتحاد السوفيتي. وفي الوقت الذي كان الرئيس الامريكي روزفلت يجتمع مع الرئيس الروسي ستالين في وجود تشرشل لتقسيم مناطق النفوذ اثناء مؤتمرات يالطا والدار البيضاء كان الامريكان قد شرعوا في اتصالاتهم مع بعض العملاء والجواسيس النازيين المتواجدين في الجبهة الشرقية والمتغلغلين في الاتحاد السوفيتي وذلك لكي يستفيدوا منهم في اجراء عمليات تجسسيه في روسيا لصالح الامريكان هذه المرة. والجدير بالذكر أن من كان يقوم بهذا الدور الجديد هو قائد الاستخبارات العسكرية النازية في الجبهة الشرقية المجرم رينهارد جلين والذي بالطبع لم يقدم لمسرحية محكمة نورمبيرغ لأن الامريكان أطلقوا سراحه مقابل وقاموا بتجنيده لصالحهم. لقد زعم الامريكان بكل فجور بأنهم سوف (يلاحقون النازيين في أقاصي الارض لجلبهم للعدالة) والواقع أن الامريكان قاموا وبشكل متعمد بتهريب بعض أعتى مجرمي القادة النازيين مثل ذلك الذي طور فكرة غرف الاعدام بالغازات والذي تم تهريبه بعلم الامريكان الي دولة تشيلي وكذلك تم انقاذ أحد ابرز القادة النازيين في فرنسا الملقب بجزار مدينة ليون الذي تم تهريبه إلى امريكا الجنوبية وغيرهم كثر والهدف من ذلك الاستفادة منهم في قمع التيارات والحركات الشيوعية والاشتراكية التي بدأت تغزو امريكا الجنوبية.
الحرب على المخدرات على الطريقة الامريكية
من صفات المنافق (السياسي) أن ظاهر أفعاله تخالف باطن (نيته ومقاصده) ومن امثلة ذلك في النفاق السياسي الامريكي أن الظاهر العلني (للحرب على المخدرات) التي شنتها الولايات الامريكية في الثمانينات من القرن العشرين، كان ظاهر هذه الحملة حماية الشعب الامريكي من شرور المخدرات التي يتم زراعتها وتهريبها من أمريكا الوسطى والجنوبية ولكن في واقع الأمر كان (الباطن والهدف الاساسي) لتلك الحرب المزعومة هي استخدامها كغطاء وذريعة للتدخل في الدول المستهدفة. الغريب في الامر أن الولايات المتحدة عندما كانت تتدخل في نيكاراغوا لدعم قوات الكونترا (المناوئة للنظام اليساري الحاكم) وفي عز الحرب المزعومة على المخدرات كانت الاستخبارات الامريكية CIA تقوم بالسماح لقوات الكونترا بحماية تجارة المخدرات في نيكارغوا في المناطق التي تحت سيطرتهم وذلك بهدف تحصيل بعض المبالغ المالية لدعم شراء الاسلحة لثوار الكونترا. الغريب في الامر أن تجارة المخدرات هذه لم تكن محصورة في دول امريكا الوسطى بل سمح لها ان تصل إلى الولايات المتحدة والامر الصاعق أنه تم استخدام طائرات الشحن التابعة لسلاح الجو الامريكي لنقل المخدرات من نيكارغوا إلى الولايات المتحدة بل وحتى عبر استخدام القواعد الجوية العسكرية الامريكية. هذه القصة الاغرب من الخيال تم إثبات بعض محاورها من خلال تحقيقات اللجنة الخاصة للكونجرس الامريكي (المسماة لجنة كيري وزير الخارجية الحالي) والتي تأكدت من أنه ليس فقط الاستخبارات والجيش الامريكي متورط في هذه الفضيحة بل أن حتى وزارة الخارجية في بداية الثمانينات وافقت على ارسال مبالغ مالية لتجار المخدرات لتوصيلها إلى ثوار الكونترا. الجدير بالذكر أنه تم في السنوات الماضية نشر عدة كتب (تفضح) دور المخابرات الامريكية CIA في تنشيط تجارة المخدرات واستخدام الاموال المتحصل منها في دعم جماعات وافراد متعاونين مع الامريكان وهذا حصل في دول عدة فبالإضافة لنيكارغوا حصل ذلك في المكسيك وبنما وفنزويلا وافغانستان ومنطقة المثلث الذهبي للمخدرات (بين تايلند ولاوس ومينامار).
التواصل الامريكي الايراني .. سجل من الفضائح
وبما أن مساق الحديث أنفتح على فضائح (نفاق السياسة) الامريكية في (مكافحة) المخدرات في نيكارغوا فهذا حتما ولابد يقودنا لاستدعاء ( إيران – كونترا غيت) وهي فضيحة سياسية من العيار الثقيل تؤكد (ظاهرة النفاق السياسي) الامريكي المتأصل. بعد اندلاع الثورة الايرانية واحتلال السفارة الامريكية في طهران لمدة 444 يوما اندلعت حرب دبلوماسية واعلامية حادة بين ايران والولايات المتحدة فإحداهما تعتبر الاخرى الشيطان الاكبر والاخرى تردح بأن عدوتها هي محور الشر. ولكن في الخفاء وافق الرئيس الامريكي ريغان عام 1985 على بيع أسلحة متقدمة جدا إلى ايران عن طريق اسرائيل وبثمن هذه الصفقة تم تمويل مقاتلي الكونترا الذي أصدر الكونغرس الامريكي قبلها قانون يمنع تقديم أي مساعدات مالية مباشرة لهم. كل ذلك تم على يد روبرت ماكفارلين مستشار الامن القومي الامريكي الذي ذهب بنفسه بشكل سري إلى طهران حيث ألتقى خلالها رئيس البرلمان الايراني هاشمي رفسنجاني  وكبار المسؤولين الايرانيين.  ونفاق السياسة الامريكية على الاراضي الايرانية اقدم من ذلك بكثير والمجال لا يسمح بذكر تفاصيل خداع الامريكان للشاه الايراني محمد رضا بهلوي قبل الثورة بأنهم (يدعمونه) بينما في الواقع سمح الرئيس الامريكي كارتر للجنرال هويزر (رئيس أركان القيادة الامريكية في أوروبا) بالذهاب سرا إلى أيران وعقد اجتماعات مع بعض قيادات الجيش الايراني لضمان (حيادية) الجيش إذا اندلعت الثورة الاسلامية الخومينية وبهذا ساهمت أمريكا في نجاح ثورة الخوميني (الاسلامية) وهو ما ذكره بشيء من الحرقة والغضب شاه إيران المخلوع في مذكراته . 
يحدث في امريكا .. عدو تحت الطلب
بعد هذا التجوال التاريخي لبعض الاحداث والمواقف للحروب الرمزية التي شنتها امريكا على النازية والمخدرات والثورات الشيعية إلا يحق لنا أن نتوقف حتى نتأكد من حقيقية الحرب الصليبية الجديدة التي تشنها أمريكا والتي عنوانها (الحرب على الارهاب) فمن كان يكذب وينافق قديما يمكن ان يكرر ذلك حاليا وحتما وقطعا ستكشف الخبايا والرزايا قريبا بمشيئة الله. وقد كان أحد الدوافع التي حفزتني لكتابة هذا المقال هو ذلك لبوستر الذي تم تداوله عبر شبكات التواصل الاجتماعي والذي يتسأل عن (العدو الجديد) لأمريكا بعد طالبان والقاعدة وداعش ولكن ثق تماما قارئ العزيز بأن العدو الذي (سوف تلعنه أمريكا بكل لسان) هو في الغالب عدو وهمي ومصطنع . لا يوجد عاقل يقول أن أمريكا هي من (صنعت بشكل كامل) الجواسيس الالمان أو هي العراب الأوحد لمافيا المخدرات لكنها بالقطع استفادت من هؤلاء وجيرتهم لمصالحها كما أشارنا لطرف مختصر منه فيما سبق. ولعل الامر كذلك فقد لا تكون حركة طالبان أو تنظيم القاعدة أو دويلة داعش هي من صنع المخابرات الامريكية لكن قد يحصل في لحظة ما أو موقف ما أو معركة أو عملية ما أن تكون الولايات المتحدة تستفيد بشكل أو آخر من اعدائها هؤلاء. وكأن أعداء أمريكا هؤلاء هم عين من قصدهم المتنبي بقوله (ومن العداوة ما  ينالك نفعه) أو قول الآخر:
عِداتي لهم فضلٌ علي ومنةٌ     فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
ولهذا نعلم لماذا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وأمريكا هي (دولة تبحث عن عدو) وما ذلك إلا لكي تبرر حالة التدخل السافرة في مصير الامم والشعوب ولكي تستمر وزارة الدفاع الامريكية البنتاغون في ضمان تدفق ميزانيات مالية مهولة  لها بالإضافة لاستخدام هذا (الارهاب المحتمل) كقنابل دخان تغطي مشاكل وخفاقات الحكومات عن شعوبها. من هذا وذاك نعلم انه بعد انتهاء الحرب الباردة انتهت صلاحية (الحرب علي الشيوعية) بعد تلاشي الخطر الاحمر ولذا سارعت أمريكا بتخويف شعبها من الخطر الأخضر أو من الشر القادم من الشرق الاسلامي ممثلا في القذافي (ريجان) وصدام (بوش الأب) والملا عمر (كلينتون) وبن لادن (بوش الابن) وأبو بكر البغدادي (أوباما) وفلان وفلان وفلان ممن سوف تخيف بهم أمريكا شعبها قبل النوم.

 

( الرواد من اطباء وعلماء الاسلام .. كم من ذكي ليس بزكي )

هل مثل هده القوائم المزعومة للعلماء المتهمين بالإلحاد صحيحة
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في نهاية القرن التاسع عشر نشر مدير جامعة كورنيل الاميركية أندرو وايت كتاب بالغ التأثير سماه بكل تهور (تاريخ الحرب بين العلم والدين في العالم المسيحي) ومن ذلك الوقت وغالبية الشعوب الغربية تقبلت الفكرة المتحيزة وغير الدقيقة بأن الدين والعلم متعارضان وأنهما في حالة نزاع وتناقض وانهما لا  يلتقيان. الجدير بالذكر أنه في العقود القليلة الماضية نشرت العديد من البحوث والكتب الغربية (مثل ومؤلفات العالم الامريكي المشهور ستيفن جولد والمفكر السويسري هانس كونج) التي تثبت أن الحالة المتوهمة للصراع بين العلم والدين مبالغ فيها كثيرا بل أن قصة اضطهاد الكنيسة لجاليليو مثلا لم تكن بتلك الدرجة من السوء التي صورت لنا كما أن الفيلسوف والعالم الايطالي جوردانو برونو أول شهيد للعلم في أوروبا قتل في واقع الأمر لأسباب سياسية.
 المقصود من هذا المدخل بيان انه بالرغم من أن الدول الغربية الملحدة بدأت تحاول (فك الاشتباك) بين قطبي المجتمع الفكري وتهدف إلى اقامة جسور التواصل بين علماء الدين المسيحي وبين علماء الطبيعة ومخترعي التقنية، وإذا بنا في المقابل وفي المجتمع الاسلامي والعربي بدأنا نسمع اصوات متهورة تزعم أن علماء الدين الاسلامي في القديم من الاطباء والرياضيين والفلكيين والكيميائيين وغيرهم كانوا (يضطهدون ويكفرون ويزندقون ...الخ). لدرجة انه تم الاسبوع الماضي تداول كثيف لتغريده تويتر تحمل صور عدد  كبير من (ابرز مشاهير) علماء الاسلام الذين زُعم ظلما وبهتانا أنهم كفّروا وفسقوا وتم تعذيبهم وقتلهم ولهذا طلب مني زميل دراسة قديم له فضل ومحبة أن أوضح حقيقة هذا الزعم  وأفند هذا الافتراء.
 
لا شك أنه من (لغو الكلام) أن نبين أن الحضارة الاسلامية بيئة حاضنة للعلم والعلماء فهذا أمر (معلوم من الثقافة العامة بالضرورة) ومن هنا تظهر المفارقة أنه إذا كان المجتمع المسلم يهتم ويحتفي برجال العلم الطبيعي ويتيح لهم الظروف الملائمة لنشوء ما يسمى (بالعصر الذهبي للعلوم الاسلامية) ومع ذلك نقول أن هذه الفترة التاريخية بالذات كان مشاهير علماء الطبيعة والاطباء بها مضطهدين ومحاربين. ينبغي التنبيه لأمر هام في الحضارة الاسلامية بأن السلطة السياسية كثيرا ما قامت (برعاية وحضانة العلماء وأهل الصنعه التجريبية) كما هو معلوم من حال الخليفة هارون الرشيد وأبنه المأمون والخليفة العباسي المعتضد والسلطان محمود الغزنوي والوزير السلجوقي نظام الملك والحاكم الاندلسي المستنصر وغيرهم كثير  ومن المتوقع أن من صور الرعاية للعلماء حمايتهم والذب عنهم من تغول السلطة الدينية عليهم أو استنقاص المخالفين لهم وهذا ما يضعف مقولة أن العلماء كانوا مضطهدين فكيف يتم اضطهادهم وقتلهم وشرائح واسعه منهم كانت تحت رعاية مباشرة من الخلفاء والملوك والسلاطين.
 
الملامح العربية لتمازج الدين بالعلم
للتدليل على أنه لا يوجد (فصام نكد) في الحضارة الاسلامية والعربية بين العلم والدين وأنهما كانا على درجة عالية من التجانس (وبالتالي يمكن رد تهمة اضطهاد العلماء لأسباب دينية) لعل من الملائم الاشارة لظاهرة ترسخ البعد الديني في حياة العديد من مشاهير العلماء المسلمين. ألا يجدر بنا أن نعلم بأن الطبيب العربي الشهير أبن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى كان في نفس الوقت من علماء الفقه والشريعة الإسلامية كما أنه قام بتدريس علوم الحديث والسيرة النبوية بل يقال أنه كان من أعيان فقهاء الشافعية في عصره.
وليس أدل من تمازج العلم بالدين أن عدد كبير من مشاهير العلماء كان لهم ارتباط وثيق بالمساجد والجوامع فمثلا العالم العربي البارز الحسن ابن الهيثم ظل لسنوات طويلة يسكن في قبة صغيرة تقع عند بوابة الجامع الأزهر الشهير بالقاهرة ويقال انه ألف عدد كبير من كتبه العلمية المهمة من داخل تلك القبة. وإذا كان ابن الهيثم أقام عند بوابة الأزهر فإن عالم علم الحيوان العربي الكبير كمال الدين الدميري صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى كان قد تصدى للجلوس على كرسي التدريس في الجامع الأزهر. وبالانتقال من الجامع الأزهر بالقاهرة إلى الجامع الأموي بدمشق نجد أن الفلكي العربي الشهير ابن الشاطر ونتيجة لخبرته الفلكية الكبيرة وبسبب اختراعاته المتعددة لضبط الوقت والاتجاهات قد عين مؤذنا بالجامع الأموي في دمشق بل أنه أصبح لاحقا رئيس المؤذنين في الجامع الأموي. وعلى ذكر مآذن المساجد الكبرى في المدن العربية الاساسية لا يفوتنا أن نذكر أن محاولة المخترع العربي الشهير عباس بن فرناس في الطيران تمت في الواقع عندما قفز من فوق مئذنة جامع قرطبة الكبير بالأندلس.
ولتعزيز فكرة الارتباط بين الشريعة والعلم يكفى أن نشير إلى أن عالم النبات والجغرافي المسلم  القزويني تولى منصب القضاء في مدينتي واسط والحلة بالعراق وذلك بسبب تمكنه وإجادته للعلوم الشرعية فهو في الأصل  كان من أحفاد الإمام مالك الفقيه المشهور. وكذلك نجد أن العالم المسلم ابو حنيفة الدينوري بالرغم من شهرته المدوية في علم النبات والأعشاب الطبية إلا أنه كان كذلك عالم شريعة متبحر وله تميز خاص في مجال تفسير القران الكريم لدرجة أنه ألف كتاب في تفسير القران مكون من ثلاثة عشر مجلدا. ومن الامثلة الاضافية التي يمكن سردها في هذا السياق أن العالم والفقيه الأندلسي الكبير أبن رشد تولي منصب القضاء في مدينتي قرطبة واشبيلية ومع ذلك نجده في نفس الوقت يشتهر بكونه أحد أبرز الاطباء في تاريخ الاندلس.
زنديق أم صديق .. ذلك هو السؤال
المتتبع لأخبار وسير حياة المئات من مشاهير العلماء والاطباء العرب والمسلمين يجد أن القلة القليلة منهم من يمكن أن يوصف بأنه كان ذكيا ولم يكن زكيا (كما هو توصيف الامام أبن كثير للشاعر أبي العلاء المعري). وللتأكيد على هذا الأمر قمت علي سبيل الاستقراء بمراجعة المجلد الخامس من كتاب (تاريخ التراث العربي) للدكتور فؤاد سزكين وهو المجلد الخاص بذكر اسماء علماء الرياضيات في الاسلام وقد تم سرد ما يزيد عن 130 اسم عالم رياضيات ليس منهم عالم متخصص في الرياضيات متهم أو مقدوح في دينة (إلا ثابت بن قرة وهو غير مسلم أصلا لأنه على دين الصابئة). وبإجراء مبدأ الاستقراء السابق لبقية العلوم الطبية والفلكية والكيميائية والصيدلانية وغيرها يمكن أن نؤكد أن الغالبية الكاسحة من العلماء المسلمين لم يحصل الطعن في دينهم وعقيدتهم فضلا أن يتم اضطهادهم أو اقصائهم.
وفيما تبقى من المقال سوف نلج لعش الزنابير ونناقش بشيء من الاختصار حقيقة اتهام بعض مشاهير علماء الاسلام بالزندقة والالحاد والضلال وهؤلاء على درجات ومراتب فمنهم من اشتهر اصلا بالفلسفة وعلم المنطق أكثر من اشتهارهم بالعلم والطب مثل الفارابي والكندي ومن الناحية المبدئية هم علماء ومفكرون يجوز عليهم الانتقاد والرد كما رد تيار فلاسفة الاسلام على التيار السلفي وانتقدوهم وساهموا مع غيرهم في اقصائهم  كما حصل مع الامام احمد بن حنبل وابن تيمية. وفي الجانب المقابل نجد علماء آخرين أشتهر عنهم الارتباط اكثر بالعلم الطبيعي أو بالطب مثل الرازي وابن سينا وجابر بن حيان و (بعض هؤلاء) نالتهم سهام الاتهام بفساد العقيدة بل وحتى وصفهم بالإلحاد والزندقة فهل فعلا كانوا كذلك.
 ولا بد من الاعتراف بدايةً  بأن الاقوال والشواهد في حال هؤلاء العلماء واشباههم متعارضه ومتناقضة فلو بدأنا (بالشيخ) الرئيس ابن سينا كما يلقب لوجدنا من يتهمه بالزندقة وبعضهم كفره بسبب اقواله التي ترى أن النبوة يمكن أن تكون مكتسبة وليس باصطفاء إلاهي محض ومع ذلك ففي المقابل نجد من سيرة حياته أنه حفظ القران الكريم في الصغر وانه في أواخر حياته تفرغ للعبادة واتجه الى قراءة القران الكريم حيث كان يختمه كل ثلاثة أيام وكان قبل ذلك بسنوات قد ألف كتاب خاص في  تفسير بعض سور القران ويقال أن له تبحر جيد في المسائل الفقيه لدرجة أنه كان يفتي على مذهب الامام أبو حنيفة.
وإذا انتقلنا للحديث عن الطبيب أبو بكر الرازي والكيميائي جابر بن حيان نجد أن الامور أكثر تعقيدا بسبب أن كلا منهما نسب إلية كتب كثيرة قد تكون منحوله عليه وبهذا قد لا نستطيع التأكد من حقيقة عقيدته الاصلية. وكما هو معلوم فإن أشهر سبب لاتهام الرازي بالزندقة هو (نسبة) كتاب له يحمل عنوان (مخاريق الانبياء) يذكر فيه أنه لا وجود للمعجزات وأن جميع الانبياء دجالون وقد كان يرى أن رعاية الفلسفة أهم من الدين وأن الفلسفة مثل ابقراط واقليدس لديهم ما يستحق الاستماع له أكثر من الاستماع للرسول محمد أو المسيح ولا شك أن هذا تجذيف وإلحاد صريح. لكن سؤال المليون كما يقال هل فعلا هذا الكتاب المشبوه من تأليف الرازي أو أنه منحول ودخيل عليه و لعل ما يثبت ضعف احتمال ان يكون الرازي قد ألف مثل هذه الكتب الالحادية الصارخة في بيئة اسلامية شديدة المحافظة والاعتزاز بدينها وانبيائها أننا في المقابل نجد أنه ينسب إلي الرازي كتب أخرى مخالفة تماما لما سبق مثل كتاب (وجوب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على من نقر بالنبوات) وعنوان الكتاب يدل على أنه رد على (من نقر) أي استنقص من مقام النبوة كما للرازي كتاب أخر حمل عنوان (أن للعالم خالقا حكيما) وكتاب في (إثبات المعاد) وقصيدة خاصة في الالهيات مما يشكك في نسبته للإلحاد والزندقة.
وبالانتقال الان للحديث عن (شيخ) الكيميائيين جابر بن حيان نجد أن ظاهرة نسبة الكتب (المنحولة أو المزيفة) له أكثر شناعة فمن المعروف أن جابر بن حيان ألف وكتب مئات الرسائل العلمية عدها بعضهم بخمسمائة رسالة و لكثرتها و تنوعها نجد أن بعض المستشرقين يشكك في نسبتها كلها لجابر بل أن بعض مؤرخي العلوم الغربيين (وقد سبقهم لذلك شيخ الاسلام ابن تيمية) يشككون أصلا في وجود شخصية حقيقية لجابر بن حيان. من هذا وذاك لا نقر الكاتب والفيلسوف المصري المعاصر عبدالرحمن بدوي عندما خصص فصل كامل لجابر بن حيان في كتابه (تاريخ الالحاد في الاسلام) فنحن نحتاج أولا لإثبات نسبة الكتب والافكار الالحادية لجابر بن حيان. ومما يساعد في الذب عن عرض جابر بن حيان في مسألة الالحاد أن أغلب كتب التاريخ تشير إلى أنه كان أحد تلاميذ الامام جعفر الصادق ولهذا نسب جابر بنحيان (بركة ومصدر خبرته العلمية) لشيخه وأمامه وفي حين نجد كذلك بأن مراجع تاريخية أخرى تصفه بأنه (أبو موسى جابر بن حيان الصوفي) حيث أن العديد من كتب ابن حيان لها صبغة صوفية صارخة فهل يجتمع التشيع والتصوف والالحاد في شخص واحد .. أترك الحكم لكم.
وطبعا من المحال أن نستطيع في مقال واحد أن نصحح الرؤيا عن عدم دقة اتهام كل واحد من مشاهير علماء الاسلام بالزندقة وضلال العقيدة ولكن خلاصة الكلام أنه لا توجد شخصية علمية في التاريخ الاسلامي تم اضطهادها أو اقصائها أو تفسيقها وتبديعها بسبب أفكارها (العلمية البحتة) وإنما لو حصل ذلك فقد كون بسبب أفكارها الفلسفية أو توجهاتها الفكرية الأخرى خارج نطاق العلم والطب.

 

( الشعر يعيد نفسه .. رثاء سوريا نموذجا )

الشاعر الحزين أحمد شوقي كم رثى مدينة دمشق في قصائده


د. أحمد بن حامد الغامدي

(التاريخ يعيد نفسه) عبارة كثيرة التردد من مستلات قاموسنا اللغوي عند الحديث عن أحوالنا الكئيبة والمتكررة في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبحكم أن (العرب ظاهرة صوتية) كما قال بعضهم وكذلك منذ أن قال البعض الآخر من رواد السلبية عندما سرقت أبله (أوسعتهم شتماً .. وساروا بالأبل) لهذا كثيرا ما تجد ردود أفعالنا (الشجب والاستنكار) وأيضا (وهنا الشاهد) تدبيج القصائد. جال هذا الفكر ببالي خلال الفترة الماضية عندما تم نشر عدد كبير من القصائد (المشكورة والمأجورة أن شاء الله) المعبرة لحالة التماهي والمؤازرة لإخوتنا المنكوبين في مأساة مدينة حلب الاخيرة ولكن كما سوف نعرف بعد قليل أن (شر سلاح المرء دمع يريقه) لذلك لماذا نكتفي من النصرة لهم بالتوجع والتفجع. الغريب في الأمر أن أرض الشام منذ الازل كتب الله سبحانه وتعالي ببالغ حكمته أن تكون (أرض الرباط وأرض الملاحم والفتن) ولهذا عبر التاريخ الاسلامي على الاقل تعرضت أرض الشام لويلات حروب الصليبيين وهمجية غزو التتار وقمع جحافل جيش الاستعباد (وليس الاستعمار) الاوروبي. ونتج من هذه الحروب المتوالية كوارث ومجازر رهيبة ألهمت المئات من الشعراء (لتدبيج القصائد) في تصوير نكبة الاسلام والمسلمين ومن يراجع دواوين الشعر العربي قديما وحديثا سوف يقع على العشرات القصائد (من عيون الشعر العربي الباكية) التي تشكل ما يمكن تسميته (شعر رثاء البلدان والمدن).

كثيرٌ ما كان (التاريخ يعيد نفسه) على أرض الشام نتيجة الموجات المتتالية من الغزاة والمعتدين ولهذا لا عجب أن نجد أن (الشعر يعيد نفسه) ايضا من قبل الشعراء الذين كانوا ينوحون على مصائب الامة الكبرى. الغريب أنه عندما غزا الصليبيين بلاد الشام وسقطت القدس بأيديهم لم تحفظ دواوين الشعر قصائد الشعراء العرب الاقحاح في رثاء أرض الشام والقدس وإنما خُلدت قصيدة الشاعر المسلم الخرساني ابو المظفر الابيوردي الذي ناح على مصيبة أهل الشام في نهاية القرن الخامس الهجري بشعره الصادق والذي كأنه ينطبق على حال أهل الشام الآن:

وَشَرُّ سِلاحِ المَرْءِ دَمْعٌ يُفيِضُهُ
إذَا الحَرْبُ شُبَّت نارُها بِالصَّوارِمِ
وكيفَ تنامُ العينُ ملءَ جفونها
على هَفَواتٍ أَيْقَظَتْ كُلَّ نائِمِ
وإخوانكمْ بالشَّامِ يُضحي مقيلهمْ
ظهورَ المذاكي أوْ بطونَ القشاعمِ
تَسُومُهُمُ الرُّومُ الهَوانَ وَأَنْتُمُ
تجرُّونَ ذيلَ الخفضِ فعلَ المسالمِ
أرى أمَّتي لا يُشرعونَ إلى العدا
رِماحَهُمُ، وَالدِّينَ واهِي الدَّعائِمِ
أترضى صناديدُ الأعاريبِ بالأذى
ويُغضي على ذلٍّ كماة ُ الأعاجمِ
فليتهمُ إذْ لمْ يذودوا حميَّة ً
عنِ الدِّينِ ضنُّوا غيرة ً بالمحارمِ

 

وبعد منتصف القرن السابع الهجري غزت جحافل المغول مدن الشام التي تساقطت الواحدة بعد الاخرى في قبضة الهلاك والدمار وهنا أنبرى عدد من الشعراء لرثاء مدينة حلب مثل كمال الدين بن العديم ورثاء مدينة دمشق مثل علاء الدين الأوتاري الذي قال:

أحسن الله يا دمشق عزاك            في مغانيك يا عماد البلاد
طرقتهم حوادث الدهر بالقتل         ونهب الأموال والأولاد
وبناتٍ محجباتٍ عن الشمس          تناءت بهن أيدي الأعادي
وقصورٌ مشيداتٌ تقضت              في ذراها الأيام كالأعياد
حرقوها وخربوها وبادت             بقضاء الإله رب العباد
أصبحوا اليوم مثل أمس تقضى      وبكتهم سماؤهم والغوادي
يا ترى هل لكربنا من مجيرٍ         أم لتشديد أسرنا من مفادي

ثالثة الاثافي في نكبات القطر السوري عبر التاريخ (بعد غزو الصليبيين والتتار) كانت وقوع الاراضي السورية تحت نير الاحتلال الفرنسي والذي تعزز بعد هزيمة جيش الثورة العربية بقيادة يوسف العظمة عام 1920 أمام الجيش الفرنسي في معركة ميسلون. وهنا أنبرى الاديب والمؤرخ السوري الكبير خير الدين  الزركلي لتخليد هذه الفاجعة التي جف لها نهر بردى واهتز جرائها جبل قاسيون في دمشق:

الله للحِدثاْنِ كيفَ تكيــدُ                         بردى يغيضُ وقاسيونُ يميدُ

هل في الشام وأهلهِ من نابِسٍ                  والنائباتُ لها عليهِ وُفودُ

ما في دمشقَ لناهِضٍ من عِزةٍ                 وبها سُرادقُ غاصبٍ ممدودُ
بلدٌ تبوَّأه الشّقاء فكلــَّما                          قدُمَ استقامَ له به تجديدُ
لانت عريكةُ قاطنيه وما درَوْا                أنّ الضَّعيفَ معذّبٌ منكودُ
لمسوا حِبال حقوقهم وتعلقوا                   والحقُ يُعوزُهُ قَناً وبُنودُ

 

شكلت هزيمة معركة ميسلون دخول الجيش الفرنسي للقطر السوري أما احتلالهم الفعلي لمدينة دمشق فتم بهجوم همجي وقصف شنيع واحراق للمدينة التي سقطت عام 1925 وهنا نجد أمير الشعراء أحمد شوقي يسطر واحدة من أجمل قصائد (رثاء المدن) على الاطلاق وهي قصيدة (نكبة دمشق) وهي التي ما زالت سارية المفعول في توصيف كارثة دمشق والشام اليوم:

 

سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ
وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
سَلي مَن راعَ غيدَكِ بَعدَ وَهنٍ
أَبَينَ فُؤادِهِ وَالصَخرِ فَرقُ
رَماكِ بِطَيشِهِ وَرَمى فَرَنسا
أَخو حَربٍ بِهِ صَلَفٌ وَحُمقُ
إِذا ما جاءَهُ طُلّابُ حَقٍّ
يَقولُ عِصابَةٌ خَرَجوا وَشَقّوا
دَمُ الثُوّارِ تَعرِفُهُ فَرَنسا
وَتَعلَمُ أَنَّهُ نورٌ وَحَقُّ
نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارًا
وَلَكِن كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ
يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ

 

  والجدير بالذكر ان أحمد شوقي (ُشغل) بمدينة دمشق كما لم يشغل بمدينة أخرى فكم من قصيدة قالها في مدينة دمشق ونكباتها وناداها بأكثر من اسم مثل جلق والفيحاء والشماء:

قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا           مشت على الرسم أحداث وأزمان
بالأمس قمت على الزهراء أندبها          واليوم دمعي على الفيحاء هتان
مررت بالمسجد المحزون أسأله           هل في المصلى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت           على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته                  إذا تعالى ولا الآذان آذان


ومن سخرية القدر أنه بعد سنوات ليس بالطويلة من تدمير الجيش الفرنسي لعاصمة سوريا وقعت الأمة الفرنسية في بداية الحرب العالمية الثانية في هزيمة منكرة أمام جحافل الجيش النازي الالماني الذي أحتل باريس وهنا نجد أن الشاعر السوري الكبير بدوي الجبل يتشفى ويسخر من الفرنسيين والرئيس الفرنسي الهارب ديغول ويكتب قصيدة معبرة حملت عنوان (إني لأشمت بالجبار):

يا سامر الحيّ هل تعنيك شكوانا
رقّ الحديد و ما رقّوا لبلوانا
خلّ العتاب دموعا لا غناء بها
و عاتب القوم أشلاء و نيرانا
آمنت بالحقد يذكي من عزائمنا
و أبعد الله إشفاقا و تحنانا
ثارات يعرب ظمأى في مراقدها
تجاوزتها سقاة الحيّ نسيانا
سمعت باريس تشكو زهو فاتحها
هلاّ تذكّرت يا باريس شكوانا
عشرين عاما شربنا الكأس مترعة
من الأذى فتملّي صرفها الآنا
ما للطواغيت في باريس قد مسخوا
على الأرائك خدّاما و أعوانا

 

وبعد أن تحطمت العنجهية الفرنسية نتيجة مهانتها المريرة  أثناء الحرب العالمية الثانية لذا لا عجب أن سرعان ما نالت أرض الشام المباركة استقلالها من كابوس الاحتلال  الاستعماري فيما عرف بالجلاء الفرنسي من سوريا عام 1946 وهنا قام الشاعر السوري الفحل عمر ابو ريشة بسبك قصيدته التاريخية (عروس المجد):

يا عروس المجد تيهي واسحبي
فـي مـغانينا ذيـول الـشهب
لا يـموت الـحق مهما لطمت
عـارضيه قـبضة المغتصب
سـكرت أجـيالنا فـي زهوها
وغـفت عـن كـيد دهر قلّب
وصـحـونا فــإذا أعـناقنا
مـثـقلات بـقيود الأجـنبي
قـد عـرفنا مـهرك الغالي فلم
نـرخص الـمهر ولم نحتسب
وأرقـنـاها دمــاء حــرة
 فاغرفي ما شئت منها واشربي
شرف الوثبة أن ترضي العلى
غـلب الـواثبُ أم لـم يغلب

 

وللأسف فإن أفراح واعراس السوريين بعيد الجلاء لم تستمر لفترة طويلة حتى صدم الشعب السوري والعربي بأكمله بنكسة هزيمة 67 أمام جيش الاحتلال الصهيوني الذي أحتل القنيطرة والجولان وغيرها من الاراضي العربية وهنا لعلنا نذكر اشهر قصيدة على  الاطلاق للشاعر اليمني الفريد عبدالله البردوني الذي كشف خواء الجيوش العربية عندما أعلنها صريحة:

مـا أصدق السيف إن لم ينضه الكذب
وأكـذب السيف إن لم يصدق الغضب
وأقـبح الـنصر نصر الأقوياء بلا
فهم.. سوى فهم كم باعوا... وكم كسبوا
الـيوم عـادت عـلوج الروم فاتحة
ومـوطنُ الـعَرَبِ الـمسلوب والسلب
فـأطفأت شـهب الـميراج أنـجمنا
وشـمسنا... وتـحدى نـارها الحطب
وقـاتـلت دونـنا الأبـواق صـامدة
أمـا الـرجال فـماتوا... ثَمّ أو هربوا
حـكامنا إن تـصدوا لـلحمى اقتحموا
وإن تـصدى لـه الـمستعمر انسحبوا
الـحاكمون وواشـنطن حـكومتهم
والـلامعون.. ومـا شـعّوا ولا غربوا

 

وختاما كان من المفترض أن نذكر بعض الابيات والقصائد المشهورة عن دمشق لكبار الشعراء المعاصرين مثل نزار قباني ومحمد مهدي الجواهري ولكنني تعمدت أن اهمل ذكرهما لأن كلا منهما قد تورط في مدح سفاح سوريا الاكبر حافظ الاسد ولهذا لا يسعني إلا أن أعجب لماذا (يتذاكى) نزار قباني ويستغرب من عتب دمشق عليه في قصيدته (من مفكرة عاشق دمشقي) التي أولها:

فرشتُ فوقَ ثراكِ الطاهـرِ الهدبـا
فيا دمشـقُ... لماذا نبـدأ العتبـا؟