الاثنين، 24 ديسمبر 2018

(باريس .. مدينة النور والنيران !!)

ثورة الطلاب في باريس عام 1968م لماذا أرتبطت بثورة (اصحاب السترات الزرقاء)

د. أحمد بن حامد الغامدي

صحيح أن باريس توصف بن أنها مدينة الرومانسية والاناقة والثقافة ولكنها في ذات الوقت مدينة الثورات والعصيان والظلام ولهذا لم تعاني عاصمة دولية كبرى من النكبات مثل ما عانت مدينة الأنوار والعشاق. منذ القرن السادس عشر تنبأ الطبيب والمنجم الفرنسي المشهور نوسترداموس بأن هذه المدينة سوف تمر في مراحل متعددة من الصراع والتخريب ولهذا ذكرت مدينة باريس في أحد عشر موضعا من كتاب (نبوءات نوسترداموس). لا يعلم مدينة كبرى في التاريخ تعرضت للاحتلال والنهب والتخريب مثل ما حصل مع مدينة باريس التي تعرضت لاحتلال الرومان وتخريب الفايكنج وسيطرة الانجليز وحصار الامبراطورية الالمانية وقمع الحكم النازي.
ومع ذلك أكثر قلاقل باريس ونكباتها عبر التاريخ الممتد تمت من تحت يد الشعب الفرنسي نفسه ففي نهاية القرن السادس عشر وكنتيجة  للتعصب الديني المقيت تم الفتك بعدة الاف من البروتستانت الفرنسيين في شوارع باريس على يد الكاثوليك وهي مجزرة مصغرة مما سوف تشهدها القارة الاوروبية بعد ذلك بعقود فيما عرف باسم حرب الثلاثين عام. وفي منتصف القرن السابع عشر وبمجرد انتهاء حرب الثلاثين عام كان انعكاساتها هشاشة الاوضاع السياسية في فرنسا مما أفرز أول حرب أهلية داخلية بين طبقة النبلاء وبين الامبراطور الفرنسي الشهير لويس الرابع عشر وكانت أشرس معاركها تلك التي تمت تحت أسوار حصن الباستيل. ونتج من هذا الصراع أن خسرت باريس موقعها كعاصمة لفرنسا عندما أضطر لويس الرابع عشر بأن ينقل بلاط حكمه إلى قصر فيرساي جنوب باريس.
كما هو معلوم من اصعب الاوقات التي عاشها سكان العاصمة باريس هي تلك التي تلت اندلاع الثورة الفرنسية لدرجة انه تم تسمية تلك الفترة (بعهد الارهاب Reign of Terror) وبعد أن كان يتم استخدام المقصلة في الساحات العامة لمدينة باريس لإعدام أعداء الثورة أصبحت الثورة نفسها (تأكل أولادها) وتم اعدام الاف من رموز الثورة الفرنسية وجنودها. وبحكم أن أغلب الثورات يعقبها ثورة مضادة ولهذا بعد عقود من الثورة الفرنسية جاء عصر الثورة على الثورة وإعادة إحياء وتنصيب restoration النظام الملكي الفرنسي القديم. في تلك الاجواء السياسية المضطربة لم تكن شوارع باريس تشهد الاستقرار وكثيرا ما يعيد التاريخ نفسه ومن هنا نشهد في عام 1830م ثورة شعبية جديدة سميت : الثورة الفرنسية الثانية نتج عنها إقامة نظام ملكي دستوري استمر حتى عام 1848م بعدها اندلعت الثورة الفرنسية الثالثة لتعيد مره أخرى تنصيب النظام الجمهوري (الجمهورية الثانية). وكما يحصل أن يتكرر في تاريخ الثورات أن يتم سرقتها في غفلة من الزمن ومن الثوار فكما سرق نابليون بونبارت الثورة الفرنسية الأولى سرق نابليون الثالث الثورة الفرنسية الثانية وبعد أن تمكن من مفاصل الحكم أعلن نفسه إمبراطور فرنسا كما فعل عمه من قبل حذو القذة بالقذة وأنطبق حافر السياسية على الحافر.
وبعد تلك السلسة من الثورات والثورات المضادة والتناوب السياسي بين الملكية والجمهورية وصلت الحياة السياسية الفرنسية لنوع من الثابتية في أعقاب الهزيمة الساحقة التي مني بها الامبراطور نابليون الثالث على يد الجيش الالماني الذي حاصر مدينة باريس ثم اقتحمها مما شجع حصول الثورة الفرنسية الثالثة والتي تلاها تنصيب الجمهورية الثالثة والتي استمرت حتى هزيمة فرنسا في الحرب العلمية الثانية واقتحام الجيش النازي الألماني للمرة الثانية لعاصمة الانوار. لقد سبق التحذير أن التاريخ السياسي لمدينة باريس مربك ومحير بسبب كثرة الثورات وتعدد الحروب والغزو الخارجي. ألم يفسر الكاتب الفرنسي جان كوكتو طريقة تفكير أهل باريس عندما قال: في باريس الجميع يرغب في أن يكون هو الممثل و لا أحد يقبل بأن يكون الجمهور، وبهذا نعلم كثرة أهل العصيان وأهل الثورة وأهل السياسة في المجتمع الفرنسي !!. 

باريس من الثورة إلى الانتفاضة .. المسيرة مستمرة
من الناحية التاريخية نجد أن زخم ما يسمى عصر الانوار في القرن الثامن عشر كان يشع بكثافة من مدينة باريس بالذات وبحكم أن عصر التنوير هو (حركة احتجاجية) ضد الدين والمنظومة السياسية لهذا نجد أن أرث هذه الحركة الاحتجاجية متأصل وموروث في جينات ابناء باريس عبر العقود. فإذا كانت بعض الشعوب شهدت ثورة واحدة نجد سكان باريس يكررون الثورات الكبرى بشكل متتابع لدرجة أننا الان نعاصر ما يسمى (الجمهورية الفرنسية الخامسة). ما يميز التاريخ الفرنسي الحديث أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتحرير فرنسا من الاحتلال النازي تحول المزاج الشعبي لأهل باريس من الثورةrevolution  إلى الشغب والعصيان riot وإن كان ذلك لا يعني جمود الحياة السياسية الفرنسية فالبعض ما زال يستشرف فجر الجمهورية الفرنسية السادسة. على كل حال كما كانت مدينة باريس هي صاحبة الرقم القياسي في عدد الثورات فهي المدينة العالمية الكبرى التي ما زالت تشهد بين الحين والاخرى انتفاضة شعبية أو شغب جماهيري عنيف ومدمر.
أثناء حرب استقلال الجزائر عن الاحتلال الفرنسي تعاطفت شرائح واسعة من الشعب الفرنسي لمنح حق تقرير المصير للشعب الجزائري لدرجة أنه حصلت مظاهرات ضخمة في شوارع باريس خلال شهر أكتوبر من عام 1961م صاحبها حالة شغب وعنف نتج عنها مقتل العشرات من المتظاهرين ورجال الشرطة. وتبع ذلك قيام الحركة والتيار المناهض للسماح باستقلال الجزائر بمظاهرات مضادة وشغب وعمليات تفجير وقتل.
أما أهم حركة عصيان مدني في تاريخ باريس الحديث فقد كانت بلا شك أحداث الاضراب العام الذي حصل خلال شهر مايو من عام 1968م وهذه الاحداث تعرف أحيانا باسم انتفاضة الطلاب لأنها بدأت مع طلاب جامعة السربون العريقة (الذين تأثروا بحركة طلاب الجامعات الامريكية المناهضة لحرب فيتنام ولهذا يعرف عام 1968م بعام ثورات الشباب). الجدير بالذكر أنه أثناء عصيان شباب الباريسي واحتلالهم لجامعة السربون لعدة اسابيع انضم إليهم عمال المناجم الذين كانوا يرتدون السترات الزرقاء blue-collar workers ومن هنا ربما نجد التقارب والالهام من حركة السترات الزرقاء قديما لحركة السترات الصفراء حاليا في إشعال نار الاحتجاج بوقد الفحم بالأمس والبنزين ذو الضريبة المرتفعة اليوم.
مع مرور الزمن خفت (وهج) مدينة النور باريس واصبحت أكثر وأكثر مدينة النيران ومدينة ظلام والدخان وكلنا ما زال يتذكر حادثة الاضطرابات الخطيرة التي حصلت في مدينة باريس وضواحيها في شهر أكتوبر من عام 2005م. لهيب الشغب والعنف في تلك الانتفاضة تميز بمشاهد حرق السيارات حيث تشير التقارير الحكومية الفرنسية أنه تم حرق ما يقارب تسعة الاف سيارة في شوارع باريس والمدن الفرنسية الاخرى. من هذا وذاك نعلم أن المظاهرات والشغب والتخريب المشاهد هذه الايام في شوارع باريس أمر شبه اعتيادي وكأنه ديجا فو (deja vu) وهي كلمة فرنسية تعني بكل بساطه: شوهد من قبل. بسبب شذوذ الذاكرة قد يشعر الانسان أنه رأى أو عايش الموقف الحاضر من قبل ولكنه لا يدري متى أو أين وهذا ما يسمى الديجا فو أما بالنسبة لسكان مدينة باريس فهم دوما موعودون بأن مستقبلهم معروف المعالم لأن واقعهم بكل بساطة يحقق قاعدة (التاريخ يعيد نفسه).

باريس في أدب الثورات
كل من له اطلاع عام على الأعمال الأدبية القديمة والحديثة يسهل عليه ملاحظة الحضور الطاغي للثورات السياسية والانتفاضات الشعبية في عدد كبير من الروايات الادبية والقصائد الشعرية لمشاهير الادباء ومن جميع الجنسيات والعصور التاريخية. مسرحية كريولانس لشكسبير تفتتح بتوصيف ثورة شعبية وإحدى أبرز قصائد الشاعر الاسكتلندي المشهور والتر سكوت هي عن انتفاضة سكان مدينة أدنبرة بينما نجيب محفوظ في رواية بين القصرين جعلنا نعيش أحداث ثورة 1919م ضد الاستعمار الانجليزي لمصر في حين خلد أحمد شوقي ثورات دمشق وليبيا. التعمق في (أدب الثورات) قد يأخذنا بعيدا وهو موضوع متشعب يستحق مقال مستقل لكن ما يهمنا هنا هو فقط الإشارة إلى الانعكاسات الأدبية للثورات والانتفاضات الباريسية. بعد ما سبق التنويه عنه عن كثرة وتعدد الثورات ومسيرات الاحتجاجات في التاريخ الفرنسي لهذا لا غرابة أن نجد أن عدد كبير من مشاهير الأدب الفرنسي ساهموا في توثيق هذه الثورات في رواياتهم الأدبية.
من ذلك مثلا  أن رواية (سقوط الباستيل) لأديب الفرنسي اسكندر دوماس الأب هي رواية عن توثيق تاريخ اندلاع الثورة الفرنسية الأولى من لحظة سقوط سجن الباستيل الشهير في قلب باريس. أما إرهاصات وبعض مشاهد أحداث الثورة الفرنسية الثانية فقد تم حولها بناء الحبكة الدرامية لأشهر رواية أدبية في تاريخ اللغة الفرنسية وهي رواية (البؤساء) لروائي الفرنسي الأشهر فيكتور هوجو. وبالمناسبة آخر رواية أدبية كتبها فيكتور هوجو قبل وفاته هي رواية (عام 93) والتي تدور أحداثها في عام 1793م وهي السنة التي انحرفت وبشكل شنيع الثورة الفرنسية عن أهدافها الإصلاحية وبدأ بعدها عهد الإرهاب والرعب المقيت والذي يعتبر لطخة سوداء في تاريخ فرنسا.
الغريب في الأمر أن أفضل رواية أدبية أبرزت مصائب وأهوال عهد الإرهاب reign of terror المرتبط بالثورة الفرنسية لم تكن لكتاب فرنسي وإنما لأديب بريطانيا البارز تشارلز ديكنز. في رواية (قصة مدينتين) التي تدور أحداثها بين لندن وباريس نجد في السطور الأولى من افتتاحية الرواية، تشارلز ديكنز يلخص وجهة نظرة حيال سنوات الثورة الفرنسية: (كانت أفضل الأزمان وكانت أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وكان عصر الحماقة، كان زمن النور وكان زمن الظلمة، كان ربيع الأمل وكان شتاء القنوط). الأديب الفرنسي جوستاف فولبير قد تكون له شهرة طاغية بحكم كونه أحد أبرز رموز ما يسمى بالأدب المكشوف حيث انه مؤلف الرواية المثيرة للجدل (مدام بوفاري) لكن ما يهمنا هنا أن من أهم أعماله الادبية رواية تحمل أسم (التربية العاطفية) والتي تدور أحداثها زمن اندلاع الثورة الفرنسية الثالثة عام 1948م. يعتبر الروائي الفرنسي بلزاك من رواد الأدب الفرنسي البارزين في منتصف القرن التاسع عشر وقد ولد في بدايات الثورة الفرنسية الأولى وتوفي في بدايات الثورة الفرنسية الثالثة ولهذا لا غرابة أن أهم عمل أدبي له (الكوميديا الإنسانية) هي سلسلة من القصص القصيرة تدور عن التغيرات الاجتماعية والسياسية لسكان مدينة باريس أثناء تلك الثورات الفرنسية الثلاثة. بعد انتهاء الثورات الفرنسية الثلاث الكبرى أستمر المجتمع الباريسي يمور وينتج انتفاضات uprising  سياسية مزلزلة اشهرها تلك التي انتجت الجمهورية الفرنسية الثالثة وهنا يأتي دور الأديب الفرنسي البارز إميل زولا الذي خصص روايته المسماة (الكارثة) لمناقشة هزيمة الجيش الفرنسي أمام الامبراطورية الالمانية والانعكاسات السياسية لذلك بعزل الامبراطور نابليون الثالث ومن ثم ظهور نظام جديد للحكم سمي حكومة مجلس مدينة باريس (Paris Commune).
وفي الختام سوف تبقى أسئلة عالقة بدون اجابة واضحة عن علاقة أدباء باريس بالثورات والانتفاضات فمثلا الأديب الفرنسي ألبير كامو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1956م والمولود في الجزائر (ولهذا تدور أحداث اشهر أعماله الادبية كرواية الغريب ورواية الطاعون في المدن الجزائرية)  فهل كان سوف يستمر في تأييد الثورة الجزائرية حتى بعد دخولها مرحلة العنف ليس في الجزائر لكن على جادات شوارع باريس. لقد توفي البير كامو عام 1960م ولهذا لن نعلم هل كان سوف يشارك في مظاهرات شوارع باريس في شهر أكتوبر من عام 1961م بالرغم من ما صاحبها من تخريب ودمار. سؤال صعب التخمين به فألبير كامو رجل فرنسي متعصب لوطنه لدرجة أن شارك في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الالماني النازي فهل كان سوف يقبل في المشاركة في مظاهرات تخريبية ضد وطنه. لكن ما نعلمه بيقين أن زميل ألبير كامو في النضال ضد النازية الفيلسوف والأديب الفرنسي المثير للجدل جون بول سارتر (الذي رفض أن يقبل جائزة نوبل في الأدب عام 1964م !!) استمر حتى النهاية وهو يؤيد حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره ونيله للاستقلال. (أعدموا سارتر) تلك كانت صرخات المتظاهرين خلال المسيرات الصاخبة في شوارع باريس خلال تلك الاعوام العصيبة حيث كانت شرائح من المجتمع الفرنسي تعارض استقلال الجزائر ولهذا توجهت جموع من هذه الحشود الغاضبة إلى منزل جون بول سارتر وقامت بتحطيم واجهته.
الحق أقول لكم: إن قصة باريس مع الثورة والأدب لم تكتمل فصولا بعد ولم يسدل الستار بعد على خاتمة تلك الدراما السياسية والثقافية.


الأحد، 9 ديسمبر 2018

( فن الحرب )

دور الاعمال الفنية في توثيق الحروب والقتال

د/ أحمد بن حامد الغامدي

بالإذن من الفيلسوف الصيني القديم سون تزو سوف استعير عنوان كتابه الجذاب (فن الحرب The art of war) ليس للحديث عن الاستراتيجيات العسكرية وفنون القتال ولكن لتسليط الضوء على (رسالة الفن) ودور الاعمال التشكيلية المتنوعة في خدمة (المجهود الحربي) في تعبئة المشاعر الداعمة للحرب والقتال أو في المقابل التنفير من النزاع المسلح والحث على نشر السلام. منذ فجر التاريخ استخدم الحكام والملوك والقادة الرسم والنحت واللوحات الفنية لتمجيد وتخليد انتصاراتهم العسكرية فهذه جدران معبد أبو سنبل الفرعوني في أسوان تؤرخ المنحوتات المنقوشة عليه الانتصارات العسكرية للفرعون رمسيس الثاني وهو يطارد بعربته الحربية الجنود الفارين من أعدائه الحيثيون بعد انتصاره (المزعوم) عليهم في معركة قادش. وحتى اليوم يعتبر أكبر وأهم وربما أغلى (عمل فني) يتعلق بالحرب والقتال هو اللوحة الفسيفسائية للإسكندر المقدوني Alexander Mosaic  التي تصور انتصاره الحربي الهام على الامبراطور الفارسي داريوس الثالث. وقد تم اكتشاف هذه التحفة الفنية العجيبة في مكان عجيب حيث وجدت تحت انقاض مدينة بومبي الرومانية المنكوبة وقد كانت اللوحة عبارة عن ارضية من الموزاييك وجدت في بيت أحد الاثرياء من سكان بومبي الايطالية في القرن الثالث قبل الميلاد.
ليست الانتصارات الحربية هي فقط من تخلد ذكر القادة والحكام بل وحتى اللوحات الفنية المحكمة الابداع فشهرة نابليون بونابرت الطاغية جزء منها ولا شك صورته الساحرة وهو يمتطي حصانه العربي الرمادي الشهير عندما كان يعبر جبال الالب مع فرقة سلاح المدفعية في جيشه وهو في طريقة لخوض معركة مارنجو ضد مملكة النمسا. من الجدير الاشارة إلى أن عنوان لوحة نابليون السابقة الذكي هو (نابليون يعبر جبال الألب) Napoleon Crossing the Alps ونتيجة لدور هذه اللوحة الفنية في بيان عبقرية نابليون في تخطي (الصعاب) في سبيل تحقيق النصر العسكري لهذا لا غرابة أن أهم لوحة فنية تبين عبقرية التكتيك الحربي للجنرال الامريكي جورج واشنطن (أول رئيس للولايات المتحدة) أثناء حرب الاستقلال عن الامبراطورية البريطانية حملت عنوان (واشنطون يعبر نهر ديلاوير).
من الواضح أنه هذه الاعمال الفنية واللوحات التشكيلية لم يتم انتاجها بمحض الوطنية الخالصة ولكن لتوظيفها في الابعاد السياسية كوسيلة (لتزيين وتزييت) الحاكم والقائد العسكري بدليل أن كتب ومراجع تاريخ الفنون والرسم التشكيلي احتفظت بأسماء العديد ممن يمكن وصفهم (برسامي البلاط) وهم أشخاص من محترفي مهنة الرسم يتم توظيفهم في القصور الملكية و المؤسسات الحكومية مثل الجيش لرسم وتوثيق الاحداث السياسية والمناسبات الكبرى. الغريب في الأمر أن هذه الظاهرة سوف تخفت كثيرا في العصور الحديثة لدرجة أن أشهر وأهم الاعمال الفنية الحديثة المتعلقة بالحروب اصبحت تلك التي (تنتقد وتعارض) الحرب وليس تلك التي تمجد الانتصارات العسكرية. لم تصدم الحضارة البشرية بحادثة أبشع من الحرب العالمي الأولى ولهذا ومنذ بداية القرن العشرين اصبحت الحرب والمعارك العسكرية تعتبر بؤرة مركزة للقبح والشقاء والجنون. من الالقاب المشهورة للحرب العالمية الاولى أنها (حرب الخنادق) أو (حرب الغازات) ولهذا في الوقت الحالي أشهر لوحتين فنيتين عن تلك الحرب الكبرى هي الرسمة الصادمة للسير الانجليزي وليم أوربن والمتعلقة بتصوير المنظر الفظيع لقتلى الجنود الألمان المجمدين في الثلوج داخل خنادقهم الموحشة. بينما كارثة خسائر دول الحلفاء مثلتها بجدارة مستحقة اللوحة التشكيلية الشهيرة للرسام الانجليزي المبدع جون سارغنت والتي تصدم كل من يشاهدها حتى الآن وذلك لأنها تمثل صف طويل من الجنود الانجليزي مصابين بالعمى نتيجة تعرضهم للغازات السامة (لهذا اسم هذه اللوحة Gassed) وهي لوحة تلخص حالة الضعف البشرية حتى لمن لم يقتل في معمعة الحروب.
نقطة جديرة بالتنويه وهي أنه كان للحرب العالمية الاولى تأثير هائل وحاد على الفن التشكيلي والادب بشكل عام ففي مدينة زيورخ السويسرية وفي عز سنوات الحرب أي في عام 1916م ظهرت الحركة الدادائية وهي حركة ثورية مناهضة بل ومعادية للفن والادب الكلاسيكي وقد نتجت كردة فعل حادة معادية للحرب وأثرت على مجمل الحراك الثقافي الاوروبي. ومن رحم حركة دادا Dada ولدت حركة الفن السريالية ولهذا لا غرابة أن نجد كبار مشاهير رسامي الفن السريالي لديهم العديد من اللوحات التشكيلية الفائقة الشهرة موضوعها الاساسي مناهضة الحرب وأهوالها.  في مقال سابق تم نشره تحت عنوان (في زمن الحرب .. اللوحة الفنية اقوى من ألف خطبة) قمت باستعراض اشهر اللوحات الفنية العالمية التي ناقشت ويلات وأهوال الحروب الاهلية وتم تشبيه كارثة ومأساة مدينة حلب السورية بكارثة مدينة جورينكا الاسبانية التي خلدها الرسام البارز بابلو بيكاسو في لوحته السريالية الفظيعة التي حملت أسم تلك المدينة المنكوبة.  وكذلك نجد أن اشهر رموز الفن التشكيلي السريالي المعاصر وهو الاسباني سلفادور دالي أشهر لوحاته على الاطلاق تلك المتعلقة بالحروب والقتال مثل لوحة (وجه الحرب) ولوحة (هاجس الحرب الاهلية). وعلى نفس النسق يمكن أن نستشف أن أهوال ومآسي الحرب العالمي الأولى كان عامل التحفيز لظهور وانتشار موجات جديدة في دنيا الفن التشكيلي من الحركة التكعيبية والانطباعية وغيرها ومن هذا كانت الاعمال الفنية لبعض رموز الفن الحديث متأثره بتجربتهم الشخصية المباشرة في ساحات القتال كما حصل مع  الرسام الانجليزي ويندهام لويس والرسام الألماني أوتو ديكس والرسام البولندي ديفيد بومبيرج والرسام الانجليزي بول ناش وغيرهم كثير.
على كل حال في السابق كان للأعمال الفنية واللوحات التشكيلية دور في نقل المعلومة (بل وتخليدها كما في نقوش رمسيس والإسكندر) وتوصيف الحدث ولكن فيما يخص الحروب المعاصرة أنتشر في القرن العشرين استخدام التقارير الصحفية المصحوبة بالصور الفوتوغرافية أو التغطية التلفزيونية وهذا ربما يفسر عدم وجود أي لوحات تشكيلية ذائعة الصيت عن الحرب العالمية الثانية فضلا عن الحروب الأكثر حداثة مثل حرب فيتنام وحرب العراق بل وحتى مأساة البوسنة وغيرها.

وفي الختام بقي علي أن أشير للدافع الذي حثني على التفكير بطرح هذا الموضوع الفني في هذا التوقيت بالذات ومرجع ذلك إلى أنه مر علي خلال الاسبوع الماضي موقفين جددا لي الاهتمام بموضوع توظيف الأعمال الفنية في توثيق المعارك الحربية. شهد بداية الاسبوع الثاني من شهر نوفمبر لعام 2018م مرور ذكرى مائة سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية وحيث أنها تسمى في كتب التاريخ (بحرب الكيميائيين) لهذا قمت بإعادة نشر مقالي الذي كتبته في بداية الاحتفالات المئوية بإندلاع تلك الحرب الكبرى ولم أجد أي صورة تربط بين الحرب العالمية الكبرى والكيمياء أفضل ولا أشهر من لوحة الغازات السابقة الذكر للرسام الانجليزي جون سارغنت والتي ساهمت بالفعل في ترسيخ ربط الكيمياء بتلك الحرب الشنيعة.
الموقف الثاني حصل عندما كنت أقرأ قبل أيام في كتاب (السلطان والملكة) للمؤرخ والباحث البريطاني جيري بروتون وهو كتاب يناقش بالتفصيل العلاقة غير المعروفة بين الملكة الانجليزية الشهير إليزابيث الأولى والسلطان التركي البارز سليماني القانوني ومن بعد حفيده مراد الثالث وقد وصفت جريدة وول ستريت الامريكية هذا الكتاب بأنه يبين كيف شكل المسلمون الثقافة والتجارة والآداب الانجليزية.  ما يهمنا هنا أنه في عام 1554م حصل ما يمكن توصيف (بزواج القرن) بين الملكة البريطانية ماري (الأخت الكبرى للملكة إليزابيث وابنه الملك هنري الثامن أهم ملك إنجليزي في التاريخ على الاطلاق) وبين الامير فيليب الثاني الذي سوف يصبح ملك إسبانيا والبرتغال والذي هو وبدون منازع أهم واقوى ملك مسيحي في عصره. وفي حفل الزفاف حصل العروسان على هدايا ثمينة لكن أكثرها أهمية وأغلاها كما يصف الكتاب هي الهدية المقدمة من الملك تشارلز الخامس والد الامير فيليب وكانت عبارة عن أثنى عشرة قطعة قماشية ضخمة جدا مطرزة  بخيوط الذهب والفضة والحرير مرسوم عليها كلها مشاهدة من المعركة الحربية (احتلال تونس) التي خاضها الملك الإسباني تشارلز الخامس ضد الاتراك واستطاع أن يحتل إقليم تونس في عام 1535م ويهزم اسطول القائد المسلم خيرالدين بربروسا الذي أقض مضاجع المسيحيين في ذلك الزمن. حقاً يا لها من هدية غريبة التذكير بالقتل والحرب في أجواء الفرح والاعراس الملكية.
بقي أن أقول أنه قد يعتبر البعض منا الحديث عن الصور والاعمال الفنية نوع من الترف وحتى لو نحينا جانبا المقولة الحكيمة التي تنص على أن (الصورة اقوى من ألف كلمة) فربما لا مهرب لنا من أن نتفق واقع مقولة أحدهم عندما صرح (أنا لا أثق في الكلمات أنا اثق فقط بالصور).



الخميس، 15 نوفمبر 2018

( نون النسوة يزاحم واو الجماعة على جوائز نوبل )

نساء العلم أصبحن بالفعل يحققن فكرة النقش على ميدالية جائزة نوبل العلمية

د/ أحمد بن حامد الغامدي

كَمُلَ من الرجال كثير في السياسة والأدب والعلم لكن حتى مطلع القرن العشرين لم يسجل التاريخ البشري من الأسماء النسائية في هذه المجالات إلا أقل القليل. فمثلا لقد فاز بجائزة نوبل من الرجال 875 شخص عبر السنوات بينما لم يتجاوز عدد النساء الفائزات بهذه الجائزة المرموقة (أم الجوائز) إلا 48 سيدة فقط. الإشكال الصارخ أنه إذا كانت نسبة النساء الفائزات بجائزة نوبل هن في حدود 5% من الفائزين نجد أن أغلبهن حققن هذا الانجاز بالفوز بالجائزة في مجال السلام أو الأدب والقلة النادرة منهن كسبن المجد بتحقيق هذه الجائزة في مجال الفيزياء أو الكيمياء أو الطب. يكفي أن نقول إنه حتى قبل عدة أيام مضت استمر انقطاع النساء عن عدم الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء لفترة زادت عن نصف قرن وبالجملة إن كان عدد النساء اللاتي حزن جائزة نوبل في الفيزياء ثلاث سيدات فقط فهذا الرقم المتواضع لا يقارن مع العدد المذهل للرجال الفائزين بها والبالغ عددهم 210 عبقري.
(النساء قادمات ولو بعد حين) هذا ما يشعر به المجتمع العلمي الدولي فبصورة متزايدة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين تنامى حضور الجنس اللطيف للمشاركة في حفل جوائز نوبل في عاصمة السويد. ولغة الأرقام تعزيز هذه النبوءة فخلال القرن العشرين بأكمله لم يفز بجائزة نوبل في المجالات العلمية والطبية إلا 12 سيدة ولكن خلال السنوات العشر الماضية فقط نالت تسع نساء من سيدات العلم والطب جائزة نوبل وهذه قفزة كبيرة بكل المقاييس. وقبل ايام حدث لأول مرة في تاريخ العلم أن فازت سيدة بجائزة نوبل في الفيزياء في نفس توقيت فوز امرأة أخرى بجائزة نوبل في الكيمياء بينما ما زالت سنة 2009م هي السنة الذهبية لأكبر عدد من النساء الفائزات بجائزة نوبل (فائزة واحدة في مجال الكيمياء وسيدتين في مجال الطب).

قبل قرنين من الزمان وبالضبط في عام 1818م كتبت الاديبة الانجليزية المشهورة جين أوستن (لقد كان للرجال الأفضلية الكاملة علينا في أن يرووا قصتهم من دوننا، لقد كان التعليم ملكا لهم وكانت الأقلام في أيديهم) ولعقود طويلة كانت ايضا الاجهزة المختبرية والتجارب العلمية محتكره من قبلهم ولهذا كانت النساء في الظل دائما. ومع ذلك فمن الواضح أن وضع النساء يتحسن مع الزمن وأن كان ببطء شديد ففي القرن الثامن عشر لم يكن يسمح للمرأة حضور المحاضرات العلمية وفي القرن التاسع عشر تحسن الوضع فأصبح فقط لا يسمح لهن بالعمل في المختبرات العلمية أما في القرن العشرين فأصبحت المرأة شقيقة الرجل على مقاعد الدراسة. في وقتنا الحالي قد لا نصدق أنه حتى الثمانينات من القرن العشرين 1980s نادر جدا ما كان يسمح للفتيات بالدراسة في جامعتي اكسفورد وكامبريدج العريقتين. ذلك تاريخ قد تلاشى الأن تماما فقد كسبت النساء معركة المساواة في دخول الجامعات بل وصل الأمر لدرجة أنه بعد أن كان عدد الطالبات الأمريكيات اللاتي يدرسن في التخصصات العلمية في المرحلة الجامعية في منتصف الستينات من القرن الماضي كن حوالي 20% نجد أنه قد تضاعف عددهن حاليا ليصل رقم يتخطى 50% وفق إحصاءات المركز الوطني الأمريكي للإحصاءات التعليمية. وبالرغم من تأخر دخول المرأة العربية لمجال الدراسات العلمية إلا أن دورها وإسهامها في هذا المجال شهد خلال العقود الأخيرة تطورا كبيرا. حيث نجد وبصورة عامة أن الفتاة العربية أصبحت تقبل وبشكل متزايد على دراسة التخصصات العلمية والتكنولوجية في الجامعات. فوفقا لدراسة عن واقع المرأة المسلمة والعلم نشرت قبل سنوات في مجلة الطبيعة Nature البريطانية الشهيرة نجد أن متوسط نسبة الفتيات العربيات اللاتي يدرسن في التخصصات العلمية في الجامعة في مطلع التسعينات كانت تبلغ 35% على مستوى الدول العربية بينما تصل الأن هذه النسبة إلى 70% في بعض دول الخليج كالبحرين وقطر والكويت.

وبالعودة لمزاحمة النساء للرجال على الحصول على الجوائز العلمية المرموقة فالوضع متغير بلا شك وزخم المنافسة والمزاحمة من قبل الجنس اللطيف تزداد خشونة وعزيمة مع مرور الزمن. ولكن مع ذلك الهيمنة الحقيقة ما زالت بيد الرجال لسبب بسيط ومباشر وهو أن النهضة العلمية للحركة النسوية تفتقر لوجود العدد الكافي من النساء في قمة الهرم العلمي والبحثي. ففي دراسة إحصائية تجريها الجمعية الكيميائية الأمريكية بشكل دوري كل سنة عن عدد النساء في أقسام الكيمياء في أفضل 50 جامعة أمريكية تبين أنه في عام 2006 كانت نسبة النساء الأكاديميات في أقسام الكيمياء تبلغ 14% فقط ونسبة الحاصلات على درجة الأستاذية 10% فقط بينما كان الوضع في الجامعات البريطانية أكثر مأساوية حيث كانت نسبة الكيميائيات الحاصلات على درجة الأستاذية تبلغ حوالي 1% فقط. المشكلة العويصة حاليا ليست في عدم رغبة الفتيات في دراسة التخصصات العلمية والطبية وإنما في كيفية إقناعهن بإكمال دراستهن العليا في هذه المجالات المتقدمة والمعقدة. ولذلك تقام حاليا في الدول الغربية العديد من المؤتمرات وحلقات النقاش واللجان والدراسات لمعرفة سبب ظاهرة ما تسمى (أنبوبة المياه المكسورة pipeline leakage) حيث توجد وفرة من الفتيات في بداية شبكة التعليم الجامعي لكنهن يتسربن ويهدرن لاحقا في شبكة الحياة والعمل.
تجدر الاشارة إلى أنه حتى في المجتمعات الغربية المنفلتة أخلاقيا والمنفتحة فكريا تشير الاحصائيات إلى انه عدد قليل جدا من الفتيات من الجنس اللطيف يرغبن في خسارة طبائعهن الانثوية والتسجيل في تخصصات علمية تمتاز بالعبقرية والريادة مثل علم الفيزياء والرياضيات والتخصصات الهندسية على العكس من تقبلهن لفكرة الدراسة في التخصصات الطبية وعلوم الاحياء. وهذا ربما يفسر عدم وجود أي امرأة بارزه في علم الرياضيات أو أن عدد السيدات الفائزات بجائزة نوبل في مجال الفيزياء ثلاث فقط مقارنه مع العدد الكبير نسبيا (12) للفائزات بجائزة نوبل في الطب وعلم وظائف الأعضاء.

بقي أن نقول إن (الحكمة والمعرفة) في بعض الحضارات القديمة مرتبطة بالمرأة أكثر من الرجل ففي الاساطير اليونانية نجد أن أثينا هي ربة الحكمة وهي نفسها مينيرفا عند الرومان أو إيزيس عند الفراعنة. ومن هنا نفهم لماذا الميدالية الذهبية التي يحصل عليها الفائزون بجائزة نوبل في الكيمياء أو الفيزياء نقش عليها رسم يمثل امرأة محجبة (تمثل الطبيعة الأم) بينما تقوم امرأة أخرى (الحكمة) بإزاله الغطاء والحجاب عن الطبيعة الأم وكأن العلم والعلماء يزيلون الغموض ويكشفون الحقيقة. طوال القرن العشرين كان هذا النقش على ميدالية نوبل محل تندر من العلماء لأن الرجال وليس النساء هم من كان يكشف الحقيقة ويزيل الغطاء عن وجه الطبيعة الأم ولكن في السنوات الأخيرة أصبح نقش ميدالية نوبل يعبر عن الواقع فسنه بعد أخرى يزداد عدد النساء الذين ينطبق عليهم واقع ذلك النقش الذهبي.


الأحد، 28 أكتوبر 2018

( ثقب الأوزون في خطبة الجمعة !!)

البعد الديني لقضايا البيئة

د/ أحمد بن حامد الغامدي

مشاكل وقضايا البيئة يصح عليها توصيف الأديب أبن العميد في المتنبي بأنه (مالئ الدنيا وشاغل الناس) فالكل يتحدث عن مشكلة التغير المناخي أو أضرار تلوث الهواء أو أبعاد ظاهرة ثقب الأوزون أو حقيقة الأمطار الحمضية. حديث الناس عن الطقس والاجواء عادة مترسخة في حياة الشعوب وبحكم أن صيفنا الحالي شهد تسجيل أرقام درجة حرارة قياسية في العديد من مناطق العالم وبهذا قد يكون لهيب هذه السنة هو أسخن تسجيل لعلماء الارصاد لدرجات الحرارة منذ بدأوا ذلك عام 1880م، فلهذا لا عجب أن قضايا التغير المناخي كانت بامتياز حديث الساعة وبكل اللغات.
صحيح أن ظاهرة الاحتباس الحراري تختلف مسبباتها عن الظاهرة البيئية سيئة السمعة (ثقب طبقة الأوزون) إلا أن الدروس البيئية التي يمكن أن استنباطها من النجاح النسبي لشعوب ودول العالم في التخفيف من مشكلة ظاهرة ثقب الأوزن  ربما تحفّز حكومات العالم أنها على نفس النسق يمكنها أن تساهم في تقليل مشكلة التغير المناخي الأكثر صعوبة. في الواقع هذه بالضبط فحوى رسالة الامين العالم للأمم المتحدة الحالي أنطونيو غوتيريس الذي صرح قبل عدة أيام وفي مناسبة (اليوم العالمي لحماية طبقة الأوزون) بأنه يجب نأخذ ( الالهام ) من النجاح النسبي في تقليل مشكلة ثقب الاوزون لتحفيزنا لبذل المزيد في التصدي لمشكلة الاحتباس الحراري والتغير المناخي.
منذ عام 1994م وأغلب دول العالم المتقدمة تحتفل بيوم الاوزون Ozone Day في 16 من سبتمبر وهو اليوم الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة للتأكيد على أهمية اتفاقية مونتريال Montreal Protocol وهي المعاهدة دولية التي تهدف لحماية طبقة الاوزون وتم توقيعها في 16 من سبتمبر لعام 1987م. ولكن ما يميز الاحتفالات والفعاليات الدولية ليوم الاوزون لهذه السنة أنه تم قبل فترة قصيرة وفي مطلع شهر يونيو الماضي أن أعلن علماء وكالة الفضاء الامريكية ناسا تأكدهم من الناحية العلمية ان طبقة الاوزن بالفعل قد بدأت في التعافي وأن ثقب الاوزن نقص بمقدار 20% عن اقصى اتساع مرصود له.  وهذا هو الدرس البيئي المهم وهو أن الحضارة البشرية كما قد تسببت في تلوث البيئة والاضرار بها فإن (الاعتراف بالذنب) وبذل الجهد الصادق في تصحيح الخطأ يمكن أن يساهم في تقليل تدهور الطبيعة. ولهذا بعد سنوات من منع وحظر تصنيع واستخدام الغازات الكيميائية المضرة بطبقة الاوزن (مركبات الكلوروفلوكربون CFCs) أنعكس ذلك في تخفيف كارثة ثقب الاوزن الحامي للكائنات الحية.
يقال أن كوكب الارض بدون طبقة الاوزن كالبيت بدون سقف وعلى هذا النسق فهل الحلم بالأرض اللطيفة والباردة Cool Earth بعد تفاقم مشكلة الاحتباس الحراري يمكن تحقيقه إذا تضافرت جهود دول العالم لتفعيل اتفاقية كيوتو Kyoto Protocol الموقعة منذ عام 1992م والهادفة للحد من ارتفاع زيادة تركيز الغازات الكيميائية المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري.

وبالعودة للتاريخ القريب يعجب المرء كم تنامت ثقافة الشعوب البشرية ووعي الحكومات الدولية لضرورة الاهتمام بالبيئة والمحافظة عليها. حتى عقود ليست بالبعيدة لم تتجذر بعد الظاهرة الحضارية الراقية المتعلقة بحماية البيئة Environmentalism بل تعرض بعض الرواد من حماة البيئة وحراس الطبيعة للتقريع والتشنيع لأن أغلب الناس في تلك الازمان لم يسبق لهم أن يسمعوا أي شيء على الاطلاق يتعلق بحدوث كارثة تلوث البيئة.
حتى منتصف الستينات من القرن العشرين أي قبل حوالي خمسين سنة كان من يحذر من خطورة التلوث الكيميائي للبيئة يعتبر كم يصرخ في البرية ولا يسمعه أحد. أحد أهم الكتب التي أثرت في مسار البشرية في النصف قرن الاخير هو (الربيع الصامت) للكاتبة والعالمة الامريكية راشيل كارسون وهو الكتاب الذي اعتبرته مجلة ديسكفري في المرتبة 25 من بين أهم الكتب في جميع العصور. والسبب في أهمية هذا الكتاب أنه أول من دق ناقوس الخطر ولفت الأنظار لكارثة تلوث البيئية بالمبيدات الحشرية التي تسبب تناقص اعداد الطيور البرية ومن هنا المصير المفجع للطبيعة الصامتة. في الوقت الحالي تعتبر راشيل كارسون من المشاهير ولو طائل بها الزمن لتم تكريمها بدون شك بمنحها جائزة نوبل للسلام كما حصل مع شخصيات اقل منها بكثير في جهود حماية البيئة (منهم نائب الرئيس الأمريكي آل غور وعدد من النساء النشاطات في مجال البيئي).
ولكن نظرا لأن مفهوم (حماية البيئة) هي فلسفة ايدلوجية وحركة اجتماعية متصادمة مع بعض القطاعات الحكومية والصناعية ولهذا تم شن حرب شعواء لا تزال مندلعة حتى الان علي الناشطين Environmentalist في مجال حماية البيئة. عندما أطلقت السيدة راشيل كارسون صرخة التحذير الاولى صرخ العديد في وجهها لإسكاتها بل واجهت تشنيع مخزي من بعض العلماء الذين كتب أحدهم مقالة قاسية جداً في مجلة الجمعية الكيميائية الأمريكية بعنوان: أخرسي آنسة كارسون (Silence, Miss Carson) و لهذا ليس عجباً أن تتوفى هذه العالمة بعد سنتين فقط من هذه الأحداث الساخنة وهي بعد في الـ 57 من عمرها.
  الغريب في الأمر أنه في وقت كانت الحرب الشعواء تشن ضد الآنسة كارسون لأنها حذرت من خطورة تلوث البيئة بمبيد DDT الذي تسبب في نفوق وقتل فراخ الطيور نجد أنه قبل ذلك بسنوات تم تكريم عالم الكيمياء السويسري بول مولر بمنحه جائزة نوبل في الطب لأنه أخترع هذا المبيد السيء السمعة الان.
 وعلى نفس نسق اضطهاد الرواد من حماة البيئة نجد أن نفس المأساة تكررت مع عالم الكيمياء الامريكي كلير باترسون والذي ناضل في فترة الستينات ضد اضافة مركبات الرصاص لوقود البنزين وما يسببه ذلك من العديد من الامراض الصحية والمشاكل البيئية.
وبالرغم من شهرته العلمية إلا أن الشركات الصناعية الكبرى نجحت في ايقاف جميع الدعم المادي لأبحاثه كما شوهت سمعته بأنه مجرد (فني مختبر technician) بدون أي موثوقية علمية لأبحاثه بالرغم من شهرته العالمية الطاغية التي اكتسبها بعد نجاحه في استخدام نظائر عنصر الرصاص للتحديد الدقيق لعمر كوكب الارض. وبمناسبة ذكر مركبات عنصر الرصاص وتسببها الشنيع في تلوث البيئة لعلنا بعد ذكر رواد حماية البيئة وحراسة الطبيعة أن نشير إلى أكثر عالم تسبب في تلوث البيئة والذي تم تصنيفه كصاحب أسوء الاختراعات في التاريخ ألا وهو الكيميائي الامريكي توماس ميدجلي الذي ارتبط اسمه بالملوثات البيئة سيئة الذكر unspeakable والتي مع ذلك له معها قصص طريفة ربما مما يستملح أن يتم ذكرها.
على العكس من رواد حماة البيئة الذي ناضلوا لمنع استخدام المواد الملوثة كما هو حال راشيل كارسون و كلير باترسون وأليس هاميلتون نجد أن توماس ميدجلي كافح بكل وسيلة يملكها لضمان عدم منع مركباته الكيميائية التي أخترعها. عندما أخترع ميدجلي غاز الفريون في عام 1928م واقترح استخدامه في تبريد الثلاجات وجدت بعض الشكوك في أنه قد يكون ضار بالصحة (قبل أن يثبت لاحقا أنه سبب ثقب الاوزن). ولكي يثبت ميدجلي سلامة اختراعه الغازي قام أمام جمع من الناس والمراسلين الصحفيين باستنشاق غاز الفريون لفترة من الزمن. وتكرر هذا الأمر معه مرة أخرى عندما أخترع مركب رابع إيثيل الرصاص (المضاف لوقود البنزين لمنع حدوث الفرقعة في المحرك) وبسبب الشكوك المتزايدة في سمية هذا المركب قام ميدجلي بحركته الاستعراضية نفسها حيث قام أمام الصحفيين بسكب سائل رابع إيثيل الرصاص على يديه ثم أخذ يستنشق ابخرته لمدة دقيقة. وفي واقع الأمر أن ميدجلي كان يعرف أنه رجل كاذب ومخادع حيث أنه شخصيا قد أصيب قبل ذلك بعدة أشهر بمرض خطير من جراء أصابته بالتسمم بعنصر الرصاص ولم يقترب أبداء من مخترعه الكيميائي إلا في ذلك اليوم الذي قابل فيه الصحافة !!!.

البعد الديني للقضايا البيئية
بالرغم من كل المرارة التي نالت الرواد من حماة البيئة وحراس الطبيعة إلا أنه عبر العقود تنامت الموجة البيئية لدرجة أنها اكتسحت معارضة الشركات الصناعية الكبرى واجبرت الدول والحكومات على التضحية بمليارات الدولارات الناتجة من حضر المواد الملوثة للبيئة وإنتاج بدائل (خضراء) لها. الدراسات والقياسات العلمية الحالية تشير لتلاشي أي بقايا مضرة للمبيدات الحشرية الخطرة مثل DDT والملاثيون وانخفض مستوى التلوث بعنصر الرصاص في دم البشر بنسبة قد تزيد عن 90% بعد حضر اضافة الرصاص للوقود كما تقلص حجم ثقب الاوزن حوالي 20% كما سبق وأن ذكرنا. كل هذا حصل بسبب زيادة وعي عامة الناس بأضرار تلوث البيئة ومن ثم أصبحوا ورقة ضغط على المرشحين السياسيين بعدم التصويت لهم إذا لم تكن القضايا البيئية في قائمة برنامجهم الانتخابي. ونستطيع أن نلمح زيادة (الثقافة البيئية) من حرص الشركات الصناعية للتوضيح في اعلاناتها التجارية أن منتجاتها: صديقة للبيئة أو أنها منتجات خضراء غير ضاره بالطبيعة.
 لقد كان من الاساليب المتبعة في زيادة الوعي البيئي هو الاستفادة من حقيقة أن كل الاديان السماوية وأغلب الاديان البشرية تحث على المحافظة على البيئة وحماية الطبيعة الأم.
لقد شعر العديد من العلماء بالأثر الكبير للدين على تغيير سلوك البشر ولهذا لم يتردد بعض مشاهير العلماء (الملحدين) مثل عالم الفلك كارل ساغان وعالم الاحياء ستيفن جي جولد وعالم الفيزياء هانز بيته الحاصل على جائزة نوبل  على المشاركة الفاعلة فيما يسمى (المنتدى الدولي للقادة الروحيين والبرلمانيين). هدف هذا المنتدى إلى حشد عدد كبير من الشخصيات المؤثرة في المجال الديني والعلمي والسياسي لمناقشة قضايا البيئة وخلال هذا الصيف واثناء قراءتي لآخر كتاب ألفه العالم المشهور كارل ساغان قبل وفاته (Billions and Billions) والذي خصص للقضايا البيئة عدة فصول من هذا الكتاب، لفت نظري تعبير هذا العالم الملحد عن سعادته في المشاركة في مؤتمر يناقش القضايا البيئة في وجود عدد كبير من رجال الدين.
في الاجتماع الاول لهذا المنتدى الذي تم في مدينة اكسفورد البريطانية عام 1988م ذكر كارل ساغان أنه شارك فيه المفتي السابق للجمهورية السورية الشيخ أحمد كفتارو بالإضافة لكبار رجال الدين المسيحي واليهودي بالإضافة للشخصيات الدينية الهندوسية والبوذية. وبعد عدة اجتماعات لهذا المنتدى اهمها كان في موسكو ومدينة كيوتو اليابانية تم انشاء تجمع خاص يحمل اسم: المناشدة المشتركة بين العلم والدين لأجل البيئة (Joint Appeal of Science and Religion for the Environment) والذي اقترح أو توضع خطة عمل للتعريف بالقضايا البيئة لجميع رعايا الاديان من خلال الخطب أو تقديم الصلوات أو التعليم أو حتى اثناء الاستشارات الدينية. وقد تم الحث على مناقشة المشاكل البيئة مع جموع المشاركين في الاجتماعات الدينية بل وحتى التشاور معهم حيال أفضل الطرق للتغلب على مشكلة ثقب الاوزون بالامتناع على سبيل المثال.

كما هو معلوم فإن دين الاسلام من الاكثر الاديان (الصديقة للبيئة) إذا صح التعبير وإذا أقيم في الغرب منذ حوالي خمس وعشرين سنة منظمة الصليب الاخضر الدولية Green Cross الهادفة لحماية البيئة فأمة الاسلام أحق بالبيئة من غيرها وإن لم يتم أنشاء (منظمة الهلال الأخضر الدولية) Green Crescent فلا أقل من تفعيل تعالم الاسلام في هذا المجال.
إن الدين الخالد قد سن لاتباعه شرائع تصب بشكل أو بأخر في مصلحة البيئة وهي شرائع متعددة ومتنوعة تبدأ من إماطة الأذى عن الطريق والرفق بالحيوان وتنتهي بإقامة المناطق المحمية (الحرم في العرف الشرعي). لقد علّم الإسلام أتباعه أنه إذا قامت القيامة و في يد أحدنا فسيلة نخل فليغرسها و هي التي لن تثمر إلا بعد سنوات طوال وهذا الدين هو الوحيد الذي قد يكافئ معتنقيه بالجنة إذا رفع أحدهم الشوك عن طريق البشر فما بالك بمن يزيل أذى ملوثات العصر الحاضر الأكثر ضراراً وفتكاً.
 منذ سنوات طوال وبعض الاصوات ترتفع بالمطالبة (بتجديد خطبة الجمعة) وهذا ما تم أنجازه بالفعل في مجال محتوى خطبة الجمعة التي يطرح فيها بعض الخطباء مواضيع تناقش القضايا الاجتماعية والاسرية والمشاكل النفسية وكذلك الصعوبات التربوية وإن كانت بعض القضايا المتعمقة في البيئة والاقتصاد والفكر لم تشهد طريقها إلى اسماع المصلين. قبل عدة سنوات حصل نقاش حاد حول استعمال وسائل التقنية الحديثة (مثل الشاشات والبروجكتور) في تحديث اسلوب تقديم خطبة الجمعة وهو ما ووجه بممانعة حاسمة فهل هذا هو مصير طرح القضايا البيئة المتعمقة من خلال خطبة الجمعة. بكل الصدق لا أعلم هل سوف أكون مؤيد أم لا أن أستمع لخطيب يتحدث عن مركبات الكلوروفلوروكربون CFCs ودورها في ظاهرة ثقب الاوزن أو خطيب يناقش ضرورة تمكن العلماء من تطوير مواد تساعد في تخزين الكميات الزائدة من غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2 capture) المسبب لمشكلة الاحتباس الحراري والامطار الحمضية. وبلا شك سوف تكون تجربة فريدة أن أرصد تأثر المصلين في صلاة الجمعة لوصف الخطيب لمأساة تعرض دب الباندا للانقراض أو تدهور حالة الشعب المرجانية في الحيد المرجاني العظيم شمال استراليا !!!.


الجمعة، 5 أكتوبر 2018

( في هجاء الشركات )

الوحدة أفضل من الرفقة (والشركة) السيئة
د/ أحمد بن حامد الغامدي

أحد أشهر الكتب الطريفة وبليغة التأثير في نفس الوقت التي ظهرت في بدايات عصر النهضة الاوروبية كان كتاب الفيلسوف الهولندي إراسموس الذي حمل عنوان (في مديح الحماقة) in praise of folly القائم على نقد منهجية تفكير أهل ذلك الزمن. عنوان وأسلوب الكتاب كانت صادمة وناجحة في فتح مجالات النقاش للقضايا الشائكة والخلافية ولهذا تم عبر القرون استخدام نفس العنوان (في مديح ....) لمناقشة أمور متعددة مثل: إضاعة الوقت، البرابرة، الهراء، البيروقراطية، الظلام، الصراع، الالم ...والقائمة تطول. مثل هذا الاسلوب الطريف نجد له أصول وشواهد في تاريخنا العربي القديم كما في كتاب (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) أو كتاب الجاحظ المشهور لرد الاعتبار (البرصان والعرجان والعميان والحولان) أو كتاب فضل السودان على البيضان.
مثل هذه الكتب القائمة على اسلوب صدمة القارئ هي (تمرين عقلي) وتدريب معرفي لفن الجدال والنقاش والاقناع وفتح باب الحوار حول قضايا متعددة الابعاد ووجهات النظر ولهذا في المقابل قد نجد كتب أو مقالات وأطروحات تدور حول (هجاء أو ذم واستنقاص) أمور وقضايا ومواقف يعتقد العديد من الناس أنها فوق مستوى النقد. وعليه قد تجد من يؤلف كتاب في (نقد النقد) أو في ذم النعيم والفردوس أو هجاء التلفزيون فضلا عن كتب نقد التحديث والحضارة المدينة واللغة و ... الخ.

وعلى هذا النسق سوف نفكر بمنطق (خارج الصندوق) عندما نناقش موضوع الشركات والهيئات التجارية التي هي عصب الاقتصاد ومحور نهضة الامم ومع ذلك لها جانبها المظلم والقبيح. يوجد كتاب فكري ذائع للأديب والروائي الياباني تانيزاكي سماه (في مديح الظلال) أظهر فيه احتفاء الثقافة والحضارة اليابانية القديمة بالظلام والظلال أكثر من النور الباهر ولهذا عبر الصحفي المصري علاء الديب المختص بالتعريف بالكتب بأن ذلك الكتاب ربما يصح إعادة تسميته ليكون (في هجاء الكهرباء).
قد يكون المفكر الياباني تانيزاكي متمحك ومبالغ حتى يظهر لنا معائب ومصائب النور الباهر والكهرباء ولكن في المقابل هل يبالغ أحدنا عندما يقول أن ( منظومة الشركة التجارية ) بها خلل.
حتى لو لم تصل الشركات والمؤسسات التجارية لحالة ( التوحش الرأسمالي ) السافر فهي مع ذلك لا تخلو من ضحايا كثر:
من بعض عمال الشركة المطحونين
او من الاستغلال للمستهلك 
او تقصد الاضرار بالمنافسين من الشركات الصغرى
ولا أقل بالطبع من التسبب بتلوث البيئة

بلا شك الفكر الشيوعي والماركسي حارب بشراسة الرأسمالية وشركاتها ومع ذلك أنتج ما هو اسوأ منها وخنق انسانية البشر بالإلحاد والاستبداد المطلق. ومع ذلك نجد كبار الفلاسفة والمفكرين المعاصرين مقل البريطاني بيرتراند راسل والامريكي نعوم تشوميسكي يحذرون من وجود خلل ما في النظام الاقتصادي للأسواق الحرة ولهذا مالوا أكثر للأفكار الاشتراكية المخففة. بل أن الاغرب من ذلك أن عالم الاقتصاد الامريكي جوزيف ستيجلز الذي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001م وأحد اهم موظفي البنك الدولي أنقلب على (العولمة الاقتصادية) واصبح من أشد المحذرين من كوارث السياسات المالية الاقتصادية. وفي واقع الأمر التوجس من خطورة الانفلات الرأسمالي وضرورة تحجيمه بالمفاهيم الاشتراكية أمر قديم في قلب العالم الغربي بل نتج عن ذلك تيار سياسي مؤثر ومسيطر على المناخ الانتخابي في بعض الدول الهامة مثل فرنسا وايطاليا واسبانيا.

وبالانتقال من دهاليز السياسة إلى أروقة الأدب لن نستغرب كثيرا تغلغل الظلال الاشتراكية إلى دنيا الادب والفن في صور شتى من التشنيع بالبرجوازية إلى نضال العمال واتحاداتهم وبؤس البروليتاري وازمة الانتاج وتوزيع الثروات والصراع الطبقي. الاعمال الروائية للأديب الروسي مكسيم غوركي أو الرمز الفرنسي البارز جان بول سارتر والانجليزي المشاغب جورج أورويل أمثلة بارزة في الأدب الاشتراكي بصورة. عامة لكن فيما يتعلق بالروايات الادبية الناقدة (لبيئة الشركات وظلم العمال) ربما نحتاج للتفتيش في أعمال أدبية أقل شهرة وإن كانت لمؤلفين ذوي شهرة عالمية وبعضهم حصل على جائزة نوبل في الادب.
الرواية الابداعية الشهيرة (عالم جديد شجاع) للكاتب البريطاني ألدوس هكسلي أو رواية (عناقيد الغضب) للأديب الامريكي البارز جون ستاينبيك (الحاصل على جائزة نوبل في الادب لعام 1962م) وكذلك رواية (الكعب الحديدي) للأمريكي جاك لندن فيها إيحاءات بينه لخطورة أن يضل مدراء الشركات الطريق ويتسببوا في شقاء البشرية إما باختراعاتهم الخطيرة أو قهر وظلم العمال.
قد تكون رواية (الشركة) Company للمؤلف الاسترالي ماكس باري رواية ادبية غير مشهورة لكن محور هذه الرواية ربما تردد شيء من صداه في مجتمعنا الاسبوع الماضي. تدور الرواية عن شاب موهوب وطموح يدعى ستيفن جونز يعمل في شركة في مدينة سياتل ومنذ البداية لمع نجمه ولفت الانظار إليه ثم بدأ في صعود سلم النجاح المهني ليدخل في أدغال الصرعات والاسرار والبيئة المشبوهة داخل تلك الشركة الخيالية. في دنيا الاعمال والاقتصاد تتردد مقولة (الشركات الكبرى لا تهتم كثيرا بموظفيها) على العكس من الشركات الصغرى التي تكون بيئتها الادارية أكثر (حميمية واسرية). ولهذا تكثر المشاكل والصرعات في بيئة الشركات التي لا يكتمل نجاح قادتها ورؤسائها إلا بالوقف على أكتاف من تحتهم من صغار الموظفين.

في اللغة الانجليزية كلمة company تعني شركة كما تستخدم كذلك بمعنى (الرفيق و الزميل) ولذا لا أعلم هل (الشاب عمر) الذي أثار استغراب مجتمعنا المحلى باستقالته من تلك الشركة الكبرى، كان يقتدي بالحكمة التي قالها الرئيس الامريكي جورج واشنطن : من الأفضل أن تكون وحيدا بدلا من أن تكون في شركة/رفقة company سيئة. وهذا ما قام به الشاب عمر حيث بعد استقالته أصبح وحيدا في شركته الصغيرة الخاصة. المشكلة في دنيا الشركات أن بعض الموظفين ينطبق عليهم توصيف أنهم أسرى (عبودية الراتب) wage slavery ولأنه ليس له مصدر دخل آخر غير أجره من عمله أو بسبب أن راتبه الذي يتقاضاه عالي جدا لذا نجد أن الغالبية من الموظفين يفضل الاستمرار في بيئة عمل الشركات الطاحنة. نخبة ضئيلة جدا من الموظفين تحرص على الاستقلالية وتحقيق الذات وبالتالي ترفض الاجحاف الذي قد يقع عليها. وهذا يفسر لماذا سارع الشاب عمر بالاستقالة الغريبة من تلك الشركة الكبرى بالرغم من ضخامة الراتب الذي كان يناله.

قديما قرر المتنبي الحقيقة الصادمة (ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ) فبعض البشر لا يرضى بما يرضى به عامة الناس ويسعى للحرية والانطلاق من القيود فالعقل والفهم يمكن أن يتسبب في الشعور بالمأساة والاحباط (intelligence brings tragedy) ولهذا نجد بعضهم أقرب للممانعة وعدم قبول بالمألوف والاستسلام له وأبعد عن القابلية للاستغلال والاستغفال.




السبت، 22 سبتمبر 2018

( حرب الاستنزاف بين فخامة الرئيس وصاحبة الجلالة )

خط الجبهه بين سلاح المدفعية الرئاسية وسلاح المدفعية الإعلامية

د/ أحمد بن حامد الغامدي

طوال التاريخ الأمريكي عانى العديد من رؤساء الولايات المتحدة من مزاحمة ومشاكسة (السلطة الرابعة) وهي وسائل الإعلام وبالذات الصحافة التي تلقب بالحق أو بالباطل (بصاحبة الجلالة). وبحكم الدور الرقابي الجماهيري لوسائل الإعلام والصحافة على السلطة التنفيذية وعلى قمتها رئيس الدولة أو رئيس الوزراء يمكن أن نفهم أن اللقب الثالث للصحافة والإعلام (مهنة المتاعب) أنه يعني فيما يعني إثارة المتاعب والقلاقل والصداع لصاحب السلطة. من هذا وذاك ربما نستوعب ألان لماذا أعلن الرئيس الأمريكي ترامب الأسبوع الماضي شن (الحرب على الإعلام) War on the Media وكذلك وصف ترامب لرجال الصحافة ومراسلي وسائل الإعلام بأنهم (أعداء الشعب الأمريكي).
 الاتهامات والخصام المتبادل بين رجال السلطة وبين وسائل الإعلام القديمة (الصحافة) أمر معلوم منذ عقود طويلة خصوصا مع صحف الإثارة الشعبية (صحف التابلويد في بريطانيا أو الصحف الصفراء في أمريكا). لكن ما استجد في الفترة الأخيرة هو حرب الاستنزاف وكسر العظم بين رجال السياسة وبين وسائل الإعلام الحديثة لدرجة المهاترات بين الرئيس الأمريكي وبين الشبكة الفضائية CNN التي وصفها بأنها قناة كاذبة أو تهجمه على الموقع الالكتروني العملاق موقع محرك البحث جوجل واتهامه بأنه مزور. الاجواء المحتقنة بين تلك الخصوم ينتج عنها تصرفات غريبة في خطة الجبهة الفاصل بينهما: ففي المؤتمرات الصحفية للحكومة الامريكية يتم التجاهل المهين لمراسلي وسائل الإعلام المشاكسة ولا يسمح لهم بطرح الاسئلة بل وصل الأمر حتى إلى سحب تراخيص الدخول لبعضهم ومنعهم من حضور اللقاءات الصحفية اليومية في البيت الأبيض.
وكما هو متوقع كان رد وسائل الإعلام سريع وفي العمق لدرجة أنه لأول مره في تاريخ الصحافة الأمريكية يسند كتابة (المقال الافتتاحي) في جريدة النيويورك تايمز (أهم جريدة في العالم على الإطلاق هي والواشطن بوست) لتسريب خطير من شخص متعاون مع الصحافة من داخل الطاقم الإداري في البيت الأبيض يصف نفسه بأنه: عضو في المقاومة ضد الرئيس. كما تم تنظيم حملة ضخمة اشتركت فيها حوالي 300 وسيلة إعلامية تهدف إلى إدانة واسعة لما أسمته بالحرب القذرة من الرئيس على وسائل الإعلام.

شواهد التاريخ المتكررة تثبت أن مهنة البحث عن المتعاب (الصحافة) بالفعل قد تسببت في العنت والعيش الضنك لبعض أباطرة وكبار رجالات السياسة. فضيحة ووترغيت التي تسببت في إجبار الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون على الاستقالة ما كان لها أن تأخذ هذا الزخم لولا ملاحقة المحقق الصحفي المشهور بوب وودورد ونشره المتتابع عن  خبايا وتسريبات القضية في صحيفة الواشنطن بوست ذات التأثير الطاغي. وقد كان للكتاب الذي قام بتأليفه روبرت (بوب) وودورد عن فضيحة ووترغيت والذي حمل عنوان (كل رجال الرئيس) دور مؤثر في تحديد أطر النهاية السياسية المذلة للرئيس نيكسون. وجدير بالذكر أن وودورد قد قام هذا الاسبوع بنشر مقتطفات عن كتاب صاعق جديد يتعلق بالرئيس الامريكي الحالي أطلق عليه اسم (الخوف Fear) يدور عن الفوضى والتخبط داخل أورقة البيت الابيض خصوصا في القضية الاخيرة المتعلقة بتحقيقات المفتش مولر ضد الرئيس. وتجدر الاشارة بهذه المناسبة إلى أن البعض يلقب الصحفي بوب وودورد بكاشف أسرار البيت الابيض فهو صحفي مشاكس تسبب في الكثير من الحرج للرئيس الامريكي جورج بوش الابن عندما نشر كتاب (خطة الهجوم) وهو عن كوارث الحرب الامريكية في العراق كما له كتاب آخر حمل عنوان (حروب أوباما). أما بخصوص ردة فعل الرئيس نيكسون حيال وسائل الاعلام المناهضة له فإنه حاول أن يلغي ترخيص إحدى القنوات التلفزيونية التابعة لجريدة الواشنطن بوست كما أنه كان يحذر طاقمه الاداري من خطورة الاعلام ويقول لهم (الصحافة هي عدوتكم).  كما أشتهر عن نيكسون أنه أعدّ ما سماه (قائمة الأعداء) والتي اشتملت على حوالي خمسين شخصية من رجال الصحافة وبعضهم صدر ضدهم حظر ومنع من دخول البيت الابيض أو السماح لهم بحضور المؤتمرات الصحفية للرئيس الامريكي. 
الرئيس الامريكي الثاني الذي تضرر كثيرا من الاعلام وخسر منصبه القيادي هو الرئيس ليندون جونسون الذي كان الرئيس الامريكي الوحيد الذي لم يستطع توظيف عدم رغبة الشعب الامريكي في تغيير الرؤساء وقت الحروب كما حصل مع الرئيس ويلسون أثناء الحرب العالمية الأولى والرئيس روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية والرئيس جورج بوش الابن بعد حرب العراق الثالثة. في الواقع توافقت الانتخابات الامريكية الرئاسية عام 1968م مع قمة زخم حرب فيتنام الكارثية وبالرغم من وجود أكثر من نصف مليون جندي في ساحات القتال تلك إلا أن الشعب الامريكي فضل اسقاط الرئيس جونسون بالرغم من اصلاحاته الداخلية الملموسة فيما يتعلق بالحركة المدينة أو حقوق السود. مشكلة الرئيس جونسون كانت مع الصحافة ووسائل الاعلام التلفزيونية التي نقلت للشعب الامريكي وبشكل صاعق فضائع الحرب الطاحنة في فتنام والخسائر الهائلة للجنود الامريكان وحرق قرى الشعب الفيتنامي المقهور. ولهذا كان اداء الرئيس جونسون في الانتخابات الامريكية ضعيفا جدا ومخزيا لدرجة أنه خرج من الادوار التمهيدية الاولى ولم ينجح حتى بضمان ترشيح الحزب الديمقراطي له. وبهذا نعلم سبب المرارة التي شعر بها الرئيس جونسون حيال الصحفيين وخصوصا المشرفين على جريدة النيويورك تايمز حيث وصفهم في محادثة خاصة  بأنهم (شلة من الشيوعيين
a bunch of commies).

السردية التاريخية للصراع بين الرئاسة والإعلام
ساحات القتال والتراشق بين فخامة رؤساء أمريكا وبين سفراء صاحبة الجلالة (الصحافة) أمر متجذر في تاريخ الولايات المتحدة الامريكية ويعود إلى حقبة الاباء المؤسسين للأمة الامريكية. وإذا كان رجال الصحافة يتسلحون بالتعديل الأول First Amendment للدستور الامريكي الذي تم اعتماده عام 1791م والذي يكفل في جزء منه حرية التعبير عن الرأي ويمنع التعدي على حرية الصحافة إلا أن الرد الرئاسي كان حاسما وإن تأخر بعض الشيء. فالرئيس الامريكي جون آدمز (ثاني رئيس للولايات المتحدة) اصدر بعد ذلك بسبع سنوات أي عام 1798م القانون الصاعق المسمى (قانون منع التحريض على الفتنة  Sedition Act) والذي جعل من نشر أي نقد للحكومة جريمة يعاقب عليها القانون !!. هذه المهزلة القانونية لم تستمر طويلا في التاريخ الامريكي فبعد وصول الرئيس الامريكي الثالث توماس جيفرسون للسلطة ألغى هذا القانون المثير للجدل وقال عبارته المشهورة (أنا أفضل صحافة بدون حكومة على حكومة بدون صحافة) ومع ذلك لاحقا عبر جيفرسون نفسه عن امتعاضه من الصحافة عندما قال (الرجل الذي لا يقرأ شيءً على الإطلاق أفضل تعليما من الرجل الذي لا يقرأ إلا الجرائد).

بلا شك إن أكثر فترة يتعرض فيها الرؤساء لحرب الاستنزاف مع الصحافة غالبا ما تحصل وقت الحروب وانشغال الحكومة بمشاكل الصراع الحربي مع الدول الأخرى. ولهذا نجد أن الرئيس الامريكي وودرو ويلسون أثناء سنوات الحرب العالمية الاولى يفرض الرقابة على التقارير الصحفية التي كان يخشى أن تؤثر على الجهود الحربية لحكومته كما أنه أنشأ ما سُمي (لجنة الاعلام الأمني) لمحاولة توجيه الرأي العام لدعم موقف الحكومة من الحرب. وعلى نفس النسق تقريبا نجد أن الرئيس الامريكي فرانكلين روزفلت كان شديد الصرامة ضد تأثير الصحافة أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية وكما فعل سلفه السابق انشأ روزفلت (لجنة الاتصالات الفيدرالية) التي تهدف لخمد أي أخبار صحفية مضره للحكومة كما أنه حاول اصدار قانون من الكونجرس سمي مشروع قانون التشهير Libel Bill يهدف لتجريم نشر أي تقارير صحفية حساسة تضر بالحكومة أثناء الحرب.

وفي الختام يمكن استعراض أمثلة متكررة طوال التاريخ الامريكي لحالة الشحناء والتنافر بين الصحافة والاعلام وبين أبرز وأشهر رؤساء الولايات المتحدة مثل لينكون وثيودور روفلت وايزنهاور وكيندي وكارتر وريجان وكلينتون ومع ذلك تبقى (القوة الناعمة) في المجتمع الامريكي مثل حرية التعبير عن الرأي هي من أهم الضمانات لسلامة الامة الامريكية ومقدرتها على التصحيح الذاتي وتخطي الازمات والاخطاء المقترفة في دهاليز السياسة.

الاثنين، 17 سبتمبر 2018

( اينشتاين .. تاريخ حافل بالفشل !! )

التلميذ أينشتاين .. أشهر تلميذ متعثر في التاريخ

د/ أحمد بن حامد الغامدي

بلا جدال يعتبر عالم الفيزياء الالماني الأصل ألبرت أينشتاين اسطورة العلم الحديث وأحد أشهر الشخصيات المعروفة على مستوى العالم وهو بهذا رمز للنجاح والتوفيق وحسن الطالع. في تصور البعض قد يكون اينشتاين رمز وتجسيد ملموس لما يمكن وصفه (بأيقونة النجاح) ومن كان بعبقرية وتفوق اينشتاين يصعب أحيانا تخيل أنه قد ذاق مرارة الفشل. ومع ذلك فإن أحد أسرار نجاح اينشتاين أنه مثال واقعي للمقولة الحكيم للداهية السياسي البريطاني وينستون تشرشل (النجاح هو القدرة على الانتقال من فشل إلى فشل آخر من دون فقدان الحماسة).
النجاح رحلة مستمرة تمر على عدد كبير من محطات الاخفاق ولهذا مع استعدادنا جميعا يوم غد الأحد (للعودة للمدارس) يجب أن لا نقسوا كثيرا على أبنائنا الطلاب إذا واجهتهم بعض الكبوات أثناء صعودهم لسلم النجاح. قبل حوالي سنتين وفي مثل هذه الاجواء لاستقبال العام الدراسي الجديد كتبت مقال حمل عنوان (العودة للمدارس ..  لحظة كئيبة في طفولة عباقرة العلماء) تم الاشارة هنالك للبيئة المدرسية الكئيبة التي سببت الفشل المؤقت لكبار ومشاهير العلماء والمخترعين مثل نيوتن واينشتاين واديسون ودارون وثمانية علماء آخرين ممن حصلوا على جائزة نوبل.
 وهنا سوف نكمل فقط مسيرة حياة شيخ مشايخ قبيلة العلم اينشتاين والاخفاقات والفشل المتكرر في تاريخه وفي جميع مناحي حياته التعليمية والمهنية والبحثية لنعطي لمحة سريعة عن the Other Einstein الوجهة الاخر لأينشتاين. ومن صفحات كتاب حياة هذا (العالم) نثبت خطأ مقولة الاديب الانجليزي أوسكار وايد الذي قال: النجاح هو (علم) .. إذا حققت الظروف تنال النتيجة.

السجل الأكاديمي لأينشتاين .. إخفاق متواصل
مشكلة (صعوبات التعلم) أبعد ما تكون مرتبطة في ادراكنا بشخصية علمية في قمة العبقرية مثل اينشتاين لكن هذا هو الواقع بكل ما فيه من غرابة ودورس في طبيعة واقع الحياة. توجد اشارات تاريخية موثقة للحياة المبكرة لأينشتاين أنه تأخر في النطق والكلام إلى حوالي السن الثالثة من عمره كما يشاع أنه كان يعاني من مشكلة عسر القراءة Dyslexia وإن كان خبر تأخر قدرته على القراءة لسن متقدمة أقرب للخرافة من الحقيقة التاريخية الثابتة. ومع ذلك وباعتراف اينشتاين نفسه فقد ذكر انه في طفولته كان يعاني من ضعف ملكة الحفظ لديه  ومن هنا حصلت الحادثة الشهيرة من أن معلم اينشتاين للغة الاغريقية كتب في سجله الدراسي (بأنه لا ينفع لشي) كما قال له أنه لن ينجح في حياته. وبالجملة كانت قدرات اينشتاين التعليمية في المدرسة تتسم بالبطيء وشورد الذهن والانعزال والمشاكسة وعدم قبول النظام وتكرار الغياب.
في سن الرابعة عشرة انتقلت اسرة اينشتاين للعيش في جنوب ايطاليا في حين ظل الفتى المراهق اينشتاين يقيم في مدرسة داخلية في مدينة ميونخ الالمانية وبعد ستة اشهر من مغادرة اسرته ترك اينشتاين المدرسة وغادر البلد. وبالرغم من الاخفاق المبكر في حياته إلا أن الخطوة الغريبة للشاب أينشتاين أنه في سن السادسة عشرة تقدم للتسجيل في المعهد التقني العريق بمدينة زيورخ السويسرية وهنا حصل أول أخفاق حقيقي في حياة اينشتاين حيث رسب في اجتياز اختبارات القبول لهذا المعهد العلمي ولهذا اضطر أن يتعلم لمدة سنة في المدرسة الثانوية السويسرية لكي يستعد لاجتياز اختبارات القبول التي فشل فيها سابقا.
أما عن الاداء الاكاديمي لأينشتاين في دراسته الجامعية فيبدو من كتاباته الخاصة أنه واجهته بعض الصعوبات الاكاديمية اثناء تلك الدراسة، فمثلا يقول أنه في وقت الامتحانات كان يشعر وكأنه ذاهب للإعدام بالمقصلة وليس ذاهب لأداء الاختبار كما أنه يعترف بأن التعليم كان صعبا عليه وانه كان يحتاج أن يسأل معلميه العديد من الاسئلة. كما أن سجله الجامعي يوثق لغيابه المتكرر عن المحاضرات الاكاديمية لدرجة أنه في أحد المقررات الجامعية لم يحضر إلا لمدة اسبوعين فقط وتغيب عن بقية المحاضرات.
كما سوف نناقش بعد قليل كانت المسيرة المهنية لاينشتاين في بداية حياته الوظيفية متواضعة ولهذا حرص منذ البداية أن يحسن فرصته بالعمل بالجامعة من خلال الحصول على درجة الدكتوراه وهي المهمة بالغة الصعوبة والالم في حياته. قصة تعثر أينشتاين (المتكرر) في الحصول على الدكتوراه معقدة ومحزنة وغريبة ونتيجة للمصاعب الحقيقية التي واجهها اينشتاين في نيل درجة الدكتوراه كتب رسالة إلى صديق مقرب يذكر فيها أنه قد تخلى عن الفكرة برمتها لأنها لن تقدم له الكثير كما أنه بدأ يشعر بالضجر من هذه (المسرحية الهزلية). على كل حال يمكن تلخيص معاناة أينشتاين في فشله في الدكتوراه كالتالي: خلال خمس سنوات من عام 1901م وحتى عام 1905م حاول اينشتاين في (ستة محاولات منفصلة) للتقدم لنيل درجة الدكتوراه من جامعة زيورخ السويسرية. في بداية الأمر كان المشرف على بحثه في الدكتوراه عالم الفيزياء الألماني هاينريش فيبر Weber وقد قام اينشتاين بتقديم ثلاثة مقترحات بحثية لهذا المشرف بل أن المقترح الثالث منها قدم علي شكل رسالة دكتوراه dissertation  مكتوبة . لكن هذا المشرف العنيد رفضها جميعا إما بحجة عدم كفاية التجارب العلمية أو رفض المحكمين لها أو عدم كتابتها بالطريقة السليمة (بل حتى كان يحتج على نوع الورق المستخدم). بعد كل هذه المعاناة قام اينشتاين بطلب تغيير مشرف رسالة الدكتوراه إلى عالم الفيزياء السويسري ألفرد كلاينر Kleiner والذي بدوره هو الاخر كرر في البداية نفس  المأساة برفض رسالة دكتوراه كتبها اينشتاين لأن فيها انتقادات علمية حادة لأحد أعمدة علم الفيزياء في ذلك الوقت الفيزيائي النمساوي الشهير بولتزمان. وفي بداية عام 1905 قدم اينشتاين الفكرة الخامسة لأطروحة الدكتوراه عن موضوع الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة وقد تم رفضها لأن استاذة الجامعة الذين قاموا بمراجعتها وتحكيمها  لم يفهموها. ومن حادثة قصة رفض استاذة الجامعة للأطروحة العلمية لأينشتاين لأنهم لم يفهموها نعرف مصدر القصة المشهورة عن أخت اينشتاين مايا التي ذكرت أن اينشتاين تقدم ببحثة حول النظرية النسبية إلى جامعة زيورخ لنيل درجة الدكتوراه لكن الجامعة رفضت طلبه لأن استاذة الجامعة بدت لهم النظرية غريبة وغير مفهومة. بقي أن نقول أن العنوان العلمي الرصين (الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة) هو نفسه ما اشتره لاحقا بلاسم الاكثر (شعبية) ألا وهو النظرية النسبية الخاصة. ثم في منتصف عام 1905م قدم اينشتاين الفكرة السادسة لمشروع بحث الدكتوراه ممثلة في أطروحة علمية مكتوبة تتعلق بتحديد حجم الجزيئات الكيميائية في السوائل وبحسب ما رواه اينشتاين فقد أبلغه أساتذة جامعة زيورخ أن الاطروحة الجديدة غير مقبولة تماما لأنها قصيرة جدا ويجب عليه تعديلها وهنا كان موقف اينشتاين (وربما بشيء من الدعابة) أنه أضاف جملة واحدة فقط لرسالة الدكتوراه وأعاد تقديمها للجنة المناقشة التي اضطرت لقبولها. لاحقا سوف يندم اينشتاين  على عدم قيامه بتعديل رسالة الدكتوراه لأنه لو فعل لكان جنب نفسه مهانة رفض طلبه للعمل كأستاذ جامعي !!.

المسار المهني لأينشتاين .. بداية متعثرة
كما قلنا سابقا يعتبر اينشتاين (رمز وأيقونة النجاح) ومع ذلك تبين لنا أن مسار النجاح طريق مفروش بالفعل بالأشواك وكما تعثر اينشتاين مرارا حتى حصل على درجة الدكتوراه ففي نفس تلك الفترة الكئيبة من حياته كان يجاهد للحصول على وظيفة ملائمة تعيله واسرته. في عام 1900م عندما تخرج اينشتاين من المعهد التقني السويسري كاد ان يحصل على وظيفة معيد لولا اعتراض أحد اساتذة الكلية بسبب السلوك غير الاكاديمي المشاغب لأينشتاين. بعد ذلك حاول اينشتاين أن يبحث له عن وظيفة معلم للرياضيات والفيزياء وبالفعل تمكن من التدريس بشكل مؤقت لمدة ستة أشهر في المدرسة الثانوية بمدينة فينترتور الصغيرة شمال زيورخ. وبعد التنقل في بعض المهن الصغيرة واضطراره للعمل كمدرس خصوصي وصل اينشتاين لحالة من الاحباط وهنا كتب الرسالة التي سبق ذكر أنه أرسلها لأحد أصدقائه المقربين ويذكر فيها فقدانه الأمل للحصول على الدكتوراه والعمل بالجامعة. وهنا قام هذا الصديق وبمساعدة والده في التوسط لحصول اينشتاين على وظيفته الشهيرة والمتواضعة من الدرجة الثالثة في مكتب تسجيل براءة الاختراعات بمدينة بيرن السويسرية.
وبعد أن حصل اينشتاين على شهادة الدكتوراه من جامعة زيورخ تقدم عام 1907م للحصول على وظيفة أستاذ جامعي بجامعة  مدينة بيرن Bern المغمورة ومع ذلك تم رفض طلبه تحت ذريعة أن أطروحة الدكتوراه ناقصة وغير كافية. ولهذا اضطر اينشتاين أن يتقدم بعد سنة لنفس  تلك الجامعة ولكن هذه المرة بعد تعديل وتطويل الاطروحة ومع ذلك كانت الوظيفة الجامعية التي حصل عليها اخيرا ليست وظيفة دائمة وإنما قبول (تحت التجريب) بل أن  لقبه العلمي في تلك الجامعة كان : محاضر شخصي (privatedozent). وبهذه المناسبة تجدر الاشارة إلى أن صورة خطاب رفض الجامعة لطلب اينشتاين المتداول بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي والانترنت هو خطاب مزيف . في ذلك الخطاب المفبرك يتم تعليل رفض طلب اينشتاين للوظيفة الجامعية إلى أن النظرية النسبية لأينشتاين خيالية وتم نقدها بأنها غير علمية وهذا التناقض (المزعوم) هو ما ساهم في شعبية انتشار ذلك الخطاب.
بعد هذه البداية المهنية المتعثرة كمدرس خصوصي أو كموظف مغمور من الدرجة الثالثة ثم كأستاذ جامعة مؤقت بدأت الشهرة العلمية والمكانة البحثية لآينشتاين تتزايد يوما بعد آخر فحصل على وظيفة جامعية في جامعة براغ بدرجة بروفيسور ثم انتقل منها إلى جامعة زيورخ واخيرا حصل على  منصب مدير المعهد الفيزيائي في جامعة برلين. وكما هو معلوم بعد وصول هتلر والحركة النازية للحكم في ألمانيا هاجر اينشتاين إلى الولايات المتحدة وعمل في معهد الدراسات المتقدمة بجامعة برينستون الأمريكية.
كلمة أخيرة فيما يخص (المسار المهني) لأينشتاين فهو إلى حدا ما ناقص فبحكم أن أينشتاين منذ بدايات القرن العشرين وحتى وفاته وهو يعتبر بدون منازع أعظم وأشهر شخصية علمية  وبهذا كان بإمكانية العمل في أفضل الجامعات أو المراكز البحثية العريقة والمشهورة. ولكن لأسباب غير مفهومة تماما فضل العمل في معهد الدراسات المتقدمة IAS حديث الأنشاء بالإضافة لكونه معهد علمي متخصص أكثر في علم الرياضيات. في نفس الفترة عرض علي اينشتاين العمل في جامعة أكسفورد لكنه رفض ذلك وفضل العمل في ذلك المعهد شبه المجهول (لاحقا بفضل شهرة اينشتاين تقاطر العشرات من أبرز العلماء على هذا المعهد) . لقد كان باستطاعته العمل في أهم مراكز أبحاث علم الفيزياء مثل جامعة كيمبردج أو جامعة مانشيستر التين لهما تاريخ عريق في أبرز الاكتشافات العلمية المتعلقة بالذرات وكذلك الجامعات الامريكية الشهيرة في مجال الفيزياء مثل جامعة بيركلي وهارفرد وكالتك بل وحتى جامعة برينستون نفسها ولكن في قسم علم الفيزياء وليس معهد الدراسات (الرياضية) المتقدمة. يبدو أن اينشتاين متواضع أو لا يعرف تماما ثقل قيمته العلمية بدليل أنه عندما تم التعاقد معه للعمل في جامعة برينستون طلب منه أن يحدد الراتب الذي يرغب فيه فطلب فقط ثلاثة الاف دولار في حين أن الجامعة عرفت (قيمته في سوق الاقتصادي المعرفي) ومنحته أكثر من خمسة أضعاف الراتب الذي طلبه.

أخطاء اينشتاين العلمية وهفواته
قديما قيل لكل جوادِ كبوه ولكل عالمِ هفوه وعباقرة العلم ليسوا بمعزل من هذا المصير فهم عرضه للأخطاء والهفوات لدرجة أن من الاقوال التي تنسب لأينشتاين نفسه (الشخص الذي لم يقع في أي خطأ هو الشخص الذي لم يجرب عمل أي شيء). ومع ذلك الاخطاء في بعض الأحيان ليست مجردة هفوات مقبولة ولكن قد تصل إلى حماقات علمية فاحشة يحتار الواحد منا في فهم كيف تقع من القامات العلمية الرصينة. دنيا العلم والعلماء بها العديد من التناقضات المضحكة والعجيبة من ذلك مثلا: عالم الفيزياء المجري فيليب لينارد الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1905م عن أبحاثه عن الاشعة المهبطية أقتنع المجتمع العلمي بتفسير اينشتاين لمصدر تلك الاشعة المهبطية وربطها بظاهرة التأثير الكهروضوئي photoelectric effect التي اقترحها اينشتاين وحصل من جرائها جائزة نوبل عام 1921م. لكن الفيزياء فليب لينارد رفض قبول تفسير اينشتاين كما رفض قبول النظرية النسبية وكان يصفها بالخدعة اليهودية. الاغرب من ذلك أن ظاهرة التأثير الكهروكيميائي التي ضمنت جائزة نوبل لأينشتاين لا يمكن تفسيرها علميا من غير القبول بنظرية ميكيانيكا الكم التي يرفضها أينشتاين !! ولك أن تعجب من علماء نوبل الذين يرفض بعضهم أبحاث بعض حتى وإن نالت جائزة نوبل !!.
بعد قرون من شبه الجمود في علم الفيزياء بدأ العلماء في مطلع القرن العشرين  يطرحون نظريات وافكار علمية غريبة ومحيرة وغير مألوفة مثل النظرية النسبية ونظرية الكم. ولهذا لم يكن مستغربا بطء تقبل المجتمع العلمي لهذه الافكار بل أن اينشتاين بعد أن طرح فكرة النظرية النسبية عام 1905م وكان يتم ترشيحه كل سنة لجائزة نوبل إلا أنه لم يحصل عليها إلا عام 1921م وفي موضوع غير النظرية النسبية. صحيح أن بعض العلماء في البداية لم يقتنعوا بصحة فركة عدم صرامة القوانين الفيزيائية في نظرية ميكانيكا الكم القائمة على الاحتمالات (مبدأ عدم اليقين) إلا أن الغالبية العظمى سرعان ما غيروا قناعاتهم وقبلوا تلك النظرية الهلامية. من طرائف ما يذكر هنا أن ثلاثة علماء ألمان في أوائل شبابهم (قبل أن يحصلوا على جوائز نوبل) اجتمعوا عام 1913م وهم اينشتاين وأتو شتيرن و ماكس لاوي وتناقشوا في صحة نظرية ميكانيكا الكم ثم اتفقوا جميعا بقيامهم بالحلف والتعهد أنه في حال تأكد الهراء والتخريف المتعلق بنظرية الكم فإنهم جميعا سوف يهجرون علم الفيزياء. طبعا لم يبقى على عناده من مشاهير العلماء في رفض نظرية الكم إلا اينشتاين واستمر على ذلك حتى وفاته بينما اصبحت نظرية الكم هي أكثر نظرية فيزيائية مرتبطة بالاكتشافات الفيزيائية الكبرى التي حصلت على عدد كبير من جوائز نوبل كما أنه بسببها أمكن انتاج المخترعات المذهلة مثل الكمبيوتر والليزر والاقمار الصناعية وغيرها كثير.
لمدة نصف قرن لم يقتنع اينشتاين بصحة ميكانيكا الكم كما أنه أضاع العقود الاخيرة  من حياة وهو يجهد ويكد عقلة العبقري في محاولة فاشلة ومتكررة لإنتاج ما أصبحت تعرف (بنظرية التوحيد الكبير)  Grand Unification Theory أو الاسم الشعبي لها: نظرية كل شيء !!. حتى الانفاس الاخيرة حاول اينشتاين أن يجمع في معادلة واحدة كل القوانين الاساسية في علم الفيزياء وخصوصا دمج الجاذبية مع الكهرومغناطيسية وقوى الذرات ولكن فشل في كل مساعيه المتواصلة تلك لدرجة أنه قبل ايام قليلة من وفاته في المستشفى عام 1955م كان يحاول ويحاول حل هذه المعضلة المعقدة.
ربما لم يعترف اينشتاين ابدا بخطأه حيال عدم القبول بنظرية ميكانيكا الكم لكنه في المقابل كان شجاعا  في الاعتراف بما سماه (أكبر خطأ ارتكبه في حياته) وهو عدم قبوله في البداية بمفهوم انكماش أو تمدد الكون. منذ زمن فلاسفة اليونان وحتى مطلع القرن العشرين كان أغلب العلماء يعتقدون أن الكون سرمدي وفي حالة مستقرة. ولهذا عندما تسببت معادلات اينشتاين المشتقة من النظرية النسبية العامة بإعطاء إيحاء بأن الجاذبية سوف تتسبب في انكماش الكون لذا قام  اينشتاين  وبشكل تعسفي بإضافة شيء جديد لمعادلاته سماه (الثابت الكوني) وذلك لكي يحافظ على حالة ثبات الكون. ولكن بعد ذلك بفترة من الزمن ظهرت النماذج الأولية من نظرية  الانفجار الكبير Big Bang لكي تبين أن الكون ليس ثابت كما تصور اينشتاين وغيره من العلماء. اللطيف في الامر أن اينشتاين لم يكن فقط مخطئا في عدم تقبل أن السماء (تتحرك) لكنه ايضا لم يقبل النظرية العلمية التي تقول أن الارض تتحرك. كما أن أهم نظرية في علم الفلك هي نظرية الانفجار الكبير التي رفضها اينشتاين في البداية فإن أهم نظرية في علم الجيولوجيا هي نظرية انزياح القارات continents drifting وهي الظاهرة الجيولوجية المتعلقة بالحركة المستمر وان كانت ضئيلة جدا للصفائح التكتونية الارضية وهذا ما يسبب حركة وانزياح القارات عن مواضعها وتكون الجبال. في نفس العام الذي توفي فيه اينشتاين أي عام 1955م قام بكتابة مقدمة لكتاب علمي في مجال علم الجيولوجيا عنوانه (قشرة الارض المنزاحة) وهو الكتاب الذي يعارض نظرية انزياح وتحرك القارات وكأن اينشتاين وحتى اللحظات الاخيرة من عمره لا يتوب من خطيئة (الجمود العلمي) وعدم قبول النظريات والافكار العلمية الجديدة علما بأنه كذلك في فترة ما كان يرفض الفكرة قبول صحة الفكرة العلمية المتعلقة بحقيقة وجود الثقوب السوداء.
وبعد سلسلة الاخطاء والهفوات هذه أعتقد أننا لن نستغرب أن نعلم قيام اينشتاين برفض ظاهرة فيزيائية معقدة جدا ويكتفي (من باب السخرية)  بتفسير حصولها بأنها ناتجه عن طريق الاشباح !!. حسب النظرية النسبية فلا شيء في الكون اسرع من الضوء ومع ذلك أكتشف العلماء ظاهرة محيرة تسمى التشابك الكمي quantum entanglement حيث قد توجد جسيميات تحت ذرية صغير يؤثر بعضها في بعض بشكل آني وفي التّو والحظة حتى ولو كانت المسافة بينهما كما بين الارض والمريخ. لم يقبل اينشتاين هذه الفكرة ولهذا سخر منها وقال أنها لو حصلت فالسبب في حصولها راجع للأشباح (spooky action at distance) علما بأن هذه النظرية الغريبة تم اثبات صحتها بعد وفاة أينشتاين بحوالي عشر سنوات.
لا شك أن اينشتاين بدأ شبابه بأمارات العبقرية الصارخة لكن للأسف أنهى شيخوخته بالجمود والعناد المذموم لدرجة أن عالم الفيزياء الامريكي المعروف روبرت أوبنهايمر (الملقب بأبو القنبلة الذرية) قال عنه: خلال السنوات الأخيرة من عمر اينشتاين لم يعمل شيء جيدا. ومع اكتشاف أن أينشتاين حتى في أوائل حياته العلمية وقع في أكثر من خطأ في المعادلات الرياضية لإثبات معادلته الشهيرة (E = mc2) بل أن جميع الحلول الرياضية  الاخرى التي اقترحها لاحقا كانت غير دقيقة تماما. بهذا يمكن أن نقول أن  حياة اينشتاين كلها كانت حافلة بالفشل والوقوع المتكرر في الاخطاء والهفوات . ومع ذلك ينبغي التنبيه أنه ليس مقصدنا من هذا السرد هو تشوية أو انتقاص صورة هذا العبقري الفريد ولكن للتنبيه لحقيقة (الطبيعة البشرية) للعلم والعلماء وأنهم قد يقعون في الخطأ والزلل. ومن جانب آخر مسيرة حياة أينشتاين والصعوبات التي اعترضت حياته في كل منعطف هي درس لنا جميعا أن النجاح في دروب الحياة لا يعنى بأي شكل أن تكون حياتنا خالية تماما من الاخطاء والهفوات أو أن نستسلم عند بوادر أي إخفاق أو ضعف أو انكسار.