السبت، 22 سبتمبر 2018

( حرب الاستنزاف بين فخامة الرئيس وصاحبة الجلالة )

خط الجبهه بين سلاح المدفعية الرئاسية وسلاح المدفعية الإعلامية

د/ أحمد بن حامد الغامدي

طوال التاريخ الأمريكي عانى العديد من رؤساء الولايات المتحدة من مزاحمة ومشاكسة (السلطة الرابعة) وهي وسائل الإعلام وبالذات الصحافة التي تلقب بالحق أو بالباطل (بصاحبة الجلالة). وبحكم الدور الرقابي الجماهيري لوسائل الإعلام والصحافة على السلطة التنفيذية وعلى قمتها رئيس الدولة أو رئيس الوزراء يمكن أن نفهم أن اللقب الثالث للصحافة والإعلام (مهنة المتاعب) أنه يعني فيما يعني إثارة المتاعب والقلاقل والصداع لصاحب السلطة. من هذا وذاك ربما نستوعب ألان لماذا أعلن الرئيس الأمريكي ترامب الأسبوع الماضي شن (الحرب على الإعلام) War on the Media وكذلك وصف ترامب لرجال الصحافة ومراسلي وسائل الإعلام بأنهم (أعداء الشعب الأمريكي).
 الاتهامات والخصام المتبادل بين رجال السلطة وبين وسائل الإعلام القديمة (الصحافة) أمر معلوم منذ عقود طويلة خصوصا مع صحف الإثارة الشعبية (صحف التابلويد في بريطانيا أو الصحف الصفراء في أمريكا). لكن ما استجد في الفترة الأخيرة هو حرب الاستنزاف وكسر العظم بين رجال السياسة وبين وسائل الإعلام الحديثة لدرجة المهاترات بين الرئيس الأمريكي وبين الشبكة الفضائية CNN التي وصفها بأنها قناة كاذبة أو تهجمه على الموقع الالكتروني العملاق موقع محرك البحث جوجل واتهامه بأنه مزور. الاجواء المحتقنة بين تلك الخصوم ينتج عنها تصرفات غريبة في خطة الجبهة الفاصل بينهما: ففي المؤتمرات الصحفية للحكومة الامريكية يتم التجاهل المهين لمراسلي وسائل الإعلام المشاكسة ولا يسمح لهم بطرح الاسئلة بل وصل الأمر حتى إلى سحب تراخيص الدخول لبعضهم ومنعهم من حضور اللقاءات الصحفية اليومية في البيت الأبيض.
وكما هو متوقع كان رد وسائل الإعلام سريع وفي العمق لدرجة أنه لأول مره في تاريخ الصحافة الأمريكية يسند كتابة (المقال الافتتاحي) في جريدة النيويورك تايمز (أهم جريدة في العالم على الإطلاق هي والواشطن بوست) لتسريب خطير من شخص متعاون مع الصحافة من داخل الطاقم الإداري في البيت الأبيض يصف نفسه بأنه: عضو في المقاومة ضد الرئيس. كما تم تنظيم حملة ضخمة اشتركت فيها حوالي 300 وسيلة إعلامية تهدف إلى إدانة واسعة لما أسمته بالحرب القذرة من الرئيس على وسائل الإعلام.

شواهد التاريخ المتكررة تثبت أن مهنة البحث عن المتعاب (الصحافة) بالفعل قد تسببت في العنت والعيش الضنك لبعض أباطرة وكبار رجالات السياسة. فضيحة ووترغيت التي تسببت في إجبار الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون على الاستقالة ما كان لها أن تأخذ هذا الزخم لولا ملاحقة المحقق الصحفي المشهور بوب وودورد ونشره المتتابع عن  خبايا وتسريبات القضية في صحيفة الواشنطن بوست ذات التأثير الطاغي. وقد كان للكتاب الذي قام بتأليفه روبرت (بوب) وودورد عن فضيحة ووترغيت والذي حمل عنوان (كل رجال الرئيس) دور مؤثر في تحديد أطر النهاية السياسية المذلة للرئيس نيكسون. وجدير بالذكر أن وودورد قد قام هذا الاسبوع بنشر مقتطفات عن كتاب صاعق جديد يتعلق بالرئيس الامريكي الحالي أطلق عليه اسم (الخوف Fear) يدور عن الفوضى والتخبط داخل أورقة البيت الابيض خصوصا في القضية الاخيرة المتعلقة بتحقيقات المفتش مولر ضد الرئيس. وتجدر الاشارة بهذه المناسبة إلى أن البعض يلقب الصحفي بوب وودورد بكاشف أسرار البيت الابيض فهو صحفي مشاكس تسبب في الكثير من الحرج للرئيس الامريكي جورج بوش الابن عندما نشر كتاب (خطة الهجوم) وهو عن كوارث الحرب الامريكية في العراق كما له كتاب آخر حمل عنوان (حروب أوباما). أما بخصوص ردة فعل الرئيس نيكسون حيال وسائل الاعلام المناهضة له فإنه حاول أن يلغي ترخيص إحدى القنوات التلفزيونية التابعة لجريدة الواشنطن بوست كما أنه كان يحذر طاقمه الاداري من خطورة الاعلام ويقول لهم (الصحافة هي عدوتكم).  كما أشتهر عن نيكسون أنه أعدّ ما سماه (قائمة الأعداء) والتي اشتملت على حوالي خمسين شخصية من رجال الصحافة وبعضهم صدر ضدهم حظر ومنع من دخول البيت الابيض أو السماح لهم بحضور المؤتمرات الصحفية للرئيس الامريكي. 
الرئيس الامريكي الثاني الذي تضرر كثيرا من الاعلام وخسر منصبه القيادي هو الرئيس ليندون جونسون الذي كان الرئيس الامريكي الوحيد الذي لم يستطع توظيف عدم رغبة الشعب الامريكي في تغيير الرؤساء وقت الحروب كما حصل مع الرئيس ويلسون أثناء الحرب العالمية الأولى والرئيس روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية والرئيس جورج بوش الابن بعد حرب العراق الثالثة. في الواقع توافقت الانتخابات الامريكية الرئاسية عام 1968م مع قمة زخم حرب فيتنام الكارثية وبالرغم من وجود أكثر من نصف مليون جندي في ساحات القتال تلك إلا أن الشعب الامريكي فضل اسقاط الرئيس جونسون بالرغم من اصلاحاته الداخلية الملموسة فيما يتعلق بالحركة المدينة أو حقوق السود. مشكلة الرئيس جونسون كانت مع الصحافة ووسائل الاعلام التلفزيونية التي نقلت للشعب الامريكي وبشكل صاعق فضائع الحرب الطاحنة في فتنام والخسائر الهائلة للجنود الامريكان وحرق قرى الشعب الفيتنامي المقهور. ولهذا كان اداء الرئيس جونسون في الانتخابات الامريكية ضعيفا جدا ومخزيا لدرجة أنه خرج من الادوار التمهيدية الاولى ولم ينجح حتى بضمان ترشيح الحزب الديمقراطي له. وبهذا نعلم سبب المرارة التي شعر بها الرئيس جونسون حيال الصحفيين وخصوصا المشرفين على جريدة النيويورك تايمز حيث وصفهم في محادثة خاصة  بأنهم (شلة من الشيوعيين
a bunch of commies).

السردية التاريخية للصراع بين الرئاسة والإعلام
ساحات القتال والتراشق بين فخامة رؤساء أمريكا وبين سفراء صاحبة الجلالة (الصحافة) أمر متجذر في تاريخ الولايات المتحدة الامريكية ويعود إلى حقبة الاباء المؤسسين للأمة الامريكية. وإذا كان رجال الصحافة يتسلحون بالتعديل الأول First Amendment للدستور الامريكي الذي تم اعتماده عام 1791م والذي يكفل في جزء منه حرية التعبير عن الرأي ويمنع التعدي على حرية الصحافة إلا أن الرد الرئاسي كان حاسما وإن تأخر بعض الشيء. فالرئيس الامريكي جون آدمز (ثاني رئيس للولايات المتحدة) اصدر بعد ذلك بسبع سنوات أي عام 1798م القانون الصاعق المسمى (قانون منع التحريض على الفتنة  Sedition Act) والذي جعل من نشر أي نقد للحكومة جريمة يعاقب عليها القانون !!. هذه المهزلة القانونية لم تستمر طويلا في التاريخ الامريكي فبعد وصول الرئيس الامريكي الثالث توماس جيفرسون للسلطة ألغى هذا القانون المثير للجدل وقال عبارته المشهورة (أنا أفضل صحافة بدون حكومة على حكومة بدون صحافة) ومع ذلك لاحقا عبر جيفرسون نفسه عن امتعاضه من الصحافة عندما قال (الرجل الذي لا يقرأ شيءً على الإطلاق أفضل تعليما من الرجل الذي لا يقرأ إلا الجرائد).

بلا شك إن أكثر فترة يتعرض فيها الرؤساء لحرب الاستنزاف مع الصحافة غالبا ما تحصل وقت الحروب وانشغال الحكومة بمشاكل الصراع الحربي مع الدول الأخرى. ولهذا نجد أن الرئيس الامريكي وودرو ويلسون أثناء سنوات الحرب العالمية الاولى يفرض الرقابة على التقارير الصحفية التي كان يخشى أن تؤثر على الجهود الحربية لحكومته كما أنه أنشأ ما سُمي (لجنة الاعلام الأمني) لمحاولة توجيه الرأي العام لدعم موقف الحكومة من الحرب. وعلى نفس النسق تقريبا نجد أن الرئيس الامريكي فرانكلين روزفلت كان شديد الصرامة ضد تأثير الصحافة أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية وكما فعل سلفه السابق انشأ روزفلت (لجنة الاتصالات الفيدرالية) التي تهدف لخمد أي أخبار صحفية مضره للحكومة كما أنه حاول اصدار قانون من الكونجرس سمي مشروع قانون التشهير Libel Bill يهدف لتجريم نشر أي تقارير صحفية حساسة تضر بالحكومة أثناء الحرب.

وفي الختام يمكن استعراض أمثلة متكررة طوال التاريخ الامريكي لحالة الشحناء والتنافر بين الصحافة والاعلام وبين أبرز وأشهر رؤساء الولايات المتحدة مثل لينكون وثيودور روفلت وايزنهاور وكيندي وكارتر وريجان وكلينتون ومع ذلك تبقى (القوة الناعمة) في المجتمع الامريكي مثل حرية التعبير عن الرأي هي من أهم الضمانات لسلامة الامة الامريكية ومقدرتها على التصحيح الذاتي وتخطي الازمات والاخطاء المقترفة في دهاليز السياسة.

الاثنين، 17 سبتمبر 2018

( اينشتاين .. تاريخ حافل بالفشل !! )

التلميذ أينشتاين .. أشهر تلميذ متعثر في التاريخ

د/ أحمد بن حامد الغامدي

بلا جدال يعتبر عالم الفيزياء الالماني الأصل ألبرت أينشتاين اسطورة العلم الحديث وأحد أشهر الشخصيات المعروفة على مستوى العالم وهو بهذا رمز للنجاح والتوفيق وحسن الطالع. في تصور البعض قد يكون اينشتاين رمز وتجسيد ملموس لما يمكن وصفه (بأيقونة النجاح) ومن كان بعبقرية وتفوق اينشتاين يصعب أحيانا تخيل أنه قد ذاق مرارة الفشل. ومع ذلك فإن أحد أسرار نجاح اينشتاين أنه مثال واقعي للمقولة الحكيم للداهية السياسي البريطاني وينستون تشرشل (النجاح هو القدرة على الانتقال من فشل إلى فشل آخر من دون فقدان الحماسة).
النجاح رحلة مستمرة تمر على عدد كبير من محطات الاخفاق ولهذا مع استعدادنا جميعا يوم غد الأحد (للعودة للمدارس) يجب أن لا نقسوا كثيرا على أبنائنا الطلاب إذا واجهتهم بعض الكبوات أثناء صعودهم لسلم النجاح. قبل حوالي سنتين وفي مثل هذه الاجواء لاستقبال العام الدراسي الجديد كتبت مقال حمل عنوان (العودة للمدارس ..  لحظة كئيبة في طفولة عباقرة العلماء) تم الاشارة هنالك للبيئة المدرسية الكئيبة التي سببت الفشل المؤقت لكبار ومشاهير العلماء والمخترعين مثل نيوتن واينشتاين واديسون ودارون وثمانية علماء آخرين ممن حصلوا على جائزة نوبل.
 وهنا سوف نكمل فقط مسيرة حياة شيخ مشايخ قبيلة العلم اينشتاين والاخفاقات والفشل المتكرر في تاريخه وفي جميع مناحي حياته التعليمية والمهنية والبحثية لنعطي لمحة سريعة عن the Other Einstein الوجهة الاخر لأينشتاين. ومن صفحات كتاب حياة هذا (العالم) نثبت خطأ مقولة الاديب الانجليزي أوسكار وايد الذي قال: النجاح هو (علم) .. إذا حققت الظروف تنال النتيجة.

السجل الأكاديمي لأينشتاين .. إخفاق متواصل
مشكلة (صعوبات التعلم) أبعد ما تكون مرتبطة في ادراكنا بشخصية علمية في قمة العبقرية مثل اينشتاين لكن هذا هو الواقع بكل ما فيه من غرابة ودورس في طبيعة واقع الحياة. توجد اشارات تاريخية موثقة للحياة المبكرة لأينشتاين أنه تأخر في النطق والكلام إلى حوالي السن الثالثة من عمره كما يشاع أنه كان يعاني من مشكلة عسر القراءة Dyslexia وإن كان خبر تأخر قدرته على القراءة لسن متقدمة أقرب للخرافة من الحقيقة التاريخية الثابتة. ومع ذلك وباعتراف اينشتاين نفسه فقد ذكر انه في طفولته كان يعاني من ضعف ملكة الحفظ لديه  ومن هنا حصلت الحادثة الشهيرة من أن معلم اينشتاين للغة الاغريقية كتب في سجله الدراسي (بأنه لا ينفع لشي) كما قال له أنه لن ينجح في حياته. وبالجملة كانت قدرات اينشتاين التعليمية في المدرسة تتسم بالبطيء وشورد الذهن والانعزال والمشاكسة وعدم قبول النظام وتكرار الغياب.
في سن الرابعة عشرة انتقلت اسرة اينشتاين للعيش في جنوب ايطاليا في حين ظل الفتى المراهق اينشتاين يقيم في مدرسة داخلية في مدينة ميونخ الالمانية وبعد ستة اشهر من مغادرة اسرته ترك اينشتاين المدرسة وغادر البلد. وبالرغم من الاخفاق المبكر في حياته إلا أن الخطوة الغريبة للشاب أينشتاين أنه في سن السادسة عشرة تقدم للتسجيل في المعهد التقني العريق بمدينة زيورخ السويسرية وهنا حصل أول أخفاق حقيقي في حياة اينشتاين حيث رسب في اجتياز اختبارات القبول لهذا المعهد العلمي ولهذا اضطر أن يتعلم لمدة سنة في المدرسة الثانوية السويسرية لكي يستعد لاجتياز اختبارات القبول التي فشل فيها سابقا.
أما عن الاداء الاكاديمي لأينشتاين في دراسته الجامعية فيبدو من كتاباته الخاصة أنه واجهته بعض الصعوبات الاكاديمية اثناء تلك الدراسة، فمثلا يقول أنه في وقت الامتحانات كان يشعر وكأنه ذاهب للإعدام بالمقصلة وليس ذاهب لأداء الاختبار كما أنه يعترف بأن التعليم كان صعبا عليه وانه كان يحتاج أن يسأل معلميه العديد من الاسئلة. كما أن سجله الجامعي يوثق لغيابه المتكرر عن المحاضرات الاكاديمية لدرجة أنه في أحد المقررات الجامعية لم يحضر إلا لمدة اسبوعين فقط وتغيب عن بقية المحاضرات.
كما سوف نناقش بعد قليل كانت المسيرة المهنية لاينشتاين في بداية حياته الوظيفية متواضعة ولهذا حرص منذ البداية أن يحسن فرصته بالعمل بالجامعة من خلال الحصول على درجة الدكتوراه وهي المهمة بالغة الصعوبة والالم في حياته. قصة تعثر أينشتاين (المتكرر) في الحصول على الدكتوراه معقدة ومحزنة وغريبة ونتيجة للمصاعب الحقيقية التي واجهها اينشتاين في نيل درجة الدكتوراه كتب رسالة إلى صديق مقرب يذكر فيها أنه قد تخلى عن الفكرة برمتها لأنها لن تقدم له الكثير كما أنه بدأ يشعر بالضجر من هذه (المسرحية الهزلية). على كل حال يمكن تلخيص معاناة أينشتاين في فشله في الدكتوراه كالتالي: خلال خمس سنوات من عام 1901م وحتى عام 1905م حاول اينشتاين في (ستة محاولات منفصلة) للتقدم لنيل درجة الدكتوراه من جامعة زيورخ السويسرية. في بداية الأمر كان المشرف على بحثه في الدكتوراه عالم الفيزياء الألماني هاينريش فيبر Weber وقد قام اينشتاين بتقديم ثلاثة مقترحات بحثية لهذا المشرف بل أن المقترح الثالث منها قدم علي شكل رسالة دكتوراه dissertation  مكتوبة . لكن هذا المشرف العنيد رفضها جميعا إما بحجة عدم كفاية التجارب العلمية أو رفض المحكمين لها أو عدم كتابتها بالطريقة السليمة (بل حتى كان يحتج على نوع الورق المستخدم). بعد كل هذه المعاناة قام اينشتاين بطلب تغيير مشرف رسالة الدكتوراه إلى عالم الفيزياء السويسري ألفرد كلاينر Kleiner والذي بدوره هو الاخر كرر في البداية نفس  المأساة برفض رسالة دكتوراه كتبها اينشتاين لأن فيها انتقادات علمية حادة لأحد أعمدة علم الفيزياء في ذلك الوقت الفيزيائي النمساوي الشهير بولتزمان. وفي بداية عام 1905 قدم اينشتاين الفكرة الخامسة لأطروحة الدكتوراه عن موضوع الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة وقد تم رفضها لأن استاذة الجامعة الذين قاموا بمراجعتها وتحكيمها  لم يفهموها. ومن حادثة قصة رفض استاذة الجامعة للأطروحة العلمية لأينشتاين لأنهم لم يفهموها نعرف مصدر القصة المشهورة عن أخت اينشتاين مايا التي ذكرت أن اينشتاين تقدم ببحثة حول النظرية النسبية إلى جامعة زيورخ لنيل درجة الدكتوراه لكن الجامعة رفضت طلبه لأن استاذة الجامعة بدت لهم النظرية غريبة وغير مفهومة. بقي أن نقول أن العنوان العلمي الرصين (الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة) هو نفسه ما اشتره لاحقا بلاسم الاكثر (شعبية) ألا وهو النظرية النسبية الخاصة. ثم في منتصف عام 1905م قدم اينشتاين الفكرة السادسة لمشروع بحث الدكتوراه ممثلة في أطروحة علمية مكتوبة تتعلق بتحديد حجم الجزيئات الكيميائية في السوائل وبحسب ما رواه اينشتاين فقد أبلغه أساتذة جامعة زيورخ أن الاطروحة الجديدة غير مقبولة تماما لأنها قصيرة جدا ويجب عليه تعديلها وهنا كان موقف اينشتاين (وربما بشيء من الدعابة) أنه أضاف جملة واحدة فقط لرسالة الدكتوراه وأعاد تقديمها للجنة المناقشة التي اضطرت لقبولها. لاحقا سوف يندم اينشتاين  على عدم قيامه بتعديل رسالة الدكتوراه لأنه لو فعل لكان جنب نفسه مهانة رفض طلبه للعمل كأستاذ جامعي !!.

المسار المهني لأينشتاين .. بداية متعثرة
كما قلنا سابقا يعتبر اينشتاين (رمز وأيقونة النجاح) ومع ذلك تبين لنا أن مسار النجاح طريق مفروش بالفعل بالأشواك وكما تعثر اينشتاين مرارا حتى حصل على درجة الدكتوراه ففي نفس تلك الفترة الكئيبة من حياته كان يجاهد للحصول على وظيفة ملائمة تعيله واسرته. في عام 1900م عندما تخرج اينشتاين من المعهد التقني السويسري كاد ان يحصل على وظيفة معيد لولا اعتراض أحد اساتذة الكلية بسبب السلوك غير الاكاديمي المشاغب لأينشتاين. بعد ذلك حاول اينشتاين أن يبحث له عن وظيفة معلم للرياضيات والفيزياء وبالفعل تمكن من التدريس بشكل مؤقت لمدة ستة أشهر في المدرسة الثانوية بمدينة فينترتور الصغيرة شمال زيورخ. وبعد التنقل في بعض المهن الصغيرة واضطراره للعمل كمدرس خصوصي وصل اينشتاين لحالة من الاحباط وهنا كتب الرسالة التي سبق ذكر أنه أرسلها لأحد أصدقائه المقربين ويذكر فيها فقدانه الأمل للحصول على الدكتوراه والعمل بالجامعة. وهنا قام هذا الصديق وبمساعدة والده في التوسط لحصول اينشتاين على وظيفته الشهيرة والمتواضعة من الدرجة الثالثة في مكتب تسجيل براءة الاختراعات بمدينة بيرن السويسرية.
وبعد أن حصل اينشتاين على شهادة الدكتوراه من جامعة زيورخ تقدم عام 1907م للحصول على وظيفة أستاذ جامعي بجامعة  مدينة بيرن Bern المغمورة ومع ذلك تم رفض طلبه تحت ذريعة أن أطروحة الدكتوراه ناقصة وغير كافية. ولهذا اضطر اينشتاين أن يتقدم بعد سنة لنفس  تلك الجامعة ولكن هذه المرة بعد تعديل وتطويل الاطروحة ومع ذلك كانت الوظيفة الجامعية التي حصل عليها اخيرا ليست وظيفة دائمة وإنما قبول (تحت التجريب) بل أن  لقبه العلمي في تلك الجامعة كان : محاضر شخصي (privatedozent). وبهذه المناسبة تجدر الاشارة إلى أن صورة خطاب رفض الجامعة لطلب اينشتاين المتداول بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي والانترنت هو خطاب مزيف . في ذلك الخطاب المفبرك يتم تعليل رفض طلب اينشتاين للوظيفة الجامعية إلى أن النظرية النسبية لأينشتاين خيالية وتم نقدها بأنها غير علمية وهذا التناقض (المزعوم) هو ما ساهم في شعبية انتشار ذلك الخطاب.
بعد هذه البداية المهنية المتعثرة كمدرس خصوصي أو كموظف مغمور من الدرجة الثالثة ثم كأستاذ جامعة مؤقت بدأت الشهرة العلمية والمكانة البحثية لآينشتاين تتزايد يوما بعد آخر فحصل على وظيفة جامعية في جامعة براغ بدرجة بروفيسور ثم انتقل منها إلى جامعة زيورخ واخيرا حصل على  منصب مدير المعهد الفيزيائي في جامعة برلين. وكما هو معلوم بعد وصول هتلر والحركة النازية للحكم في ألمانيا هاجر اينشتاين إلى الولايات المتحدة وعمل في معهد الدراسات المتقدمة بجامعة برينستون الأمريكية.
كلمة أخيرة فيما يخص (المسار المهني) لأينشتاين فهو إلى حدا ما ناقص فبحكم أن أينشتاين منذ بدايات القرن العشرين وحتى وفاته وهو يعتبر بدون منازع أعظم وأشهر شخصية علمية  وبهذا كان بإمكانية العمل في أفضل الجامعات أو المراكز البحثية العريقة والمشهورة. ولكن لأسباب غير مفهومة تماما فضل العمل في معهد الدراسات المتقدمة IAS حديث الأنشاء بالإضافة لكونه معهد علمي متخصص أكثر في علم الرياضيات. في نفس الفترة عرض علي اينشتاين العمل في جامعة أكسفورد لكنه رفض ذلك وفضل العمل في ذلك المعهد شبه المجهول (لاحقا بفضل شهرة اينشتاين تقاطر العشرات من أبرز العلماء على هذا المعهد) . لقد كان باستطاعته العمل في أهم مراكز أبحاث علم الفيزياء مثل جامعة كيمبردج أو جامعة مانشيستر التين لهما تاريخ عريق في أبرز الاكتشافات العلمية المتعلقة بالذرات وكذلك الجامعات الامريكية الشهيرة في مجال الفيزياء مثل جامعة بيركلي وهارفرد وكالتك بل وحتى جامعة برينستون نفسها ولكن في قسم علم الفيزياء وليس معهد الدراسات (الرياضية) المتقدمة. يبدو أن اينشتاين متواضع أو لا يعرف تماما ثقل قيمته العلمية بدليل أنه عندما تم التعاقد معه للعمل في جامعة برينستون طلب منه أن يحدد الراتب الذي يرغب فيه فطلب فقط ثلاثة الاف دولار في حين أن الجامعة عرفت (قيمته في سوق الاقتصادي المعرفي) ومنحته أكثر من خمسة أضعاف الراتب الذي طلبه.

أخطاء اينشتاين العلمية وهفواته
قديما قيل لكل جوادِ كبوه ولكل عالمِ هفوه وعباقرة العلم ليسوا بمعزل من هذا المصير فهم عرضه للأخطاء والهفوات لدرجة أن من الاقوال التي تنسب لأينشتاين نفسه (الشخص الذي لم يقع في أي خطأ هو الشخص الذي لم يجرب عمل أي شيء). ومع ذلك الاخطاء في بعض الأحيان ليست مجردة هفوات مقبولة ولكن قد تصل إلى حماقات علمية فاحشة يحتار الواحد منا في فهم كيف تقع من القامات العلمية الرصينة. دنيا العلم والعلماء بها العديد من التناقضات المضحكة والعجيبة من ذلك مثلا: عالم الفيزياء المجري فيليب لينارد الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1905م عن أبحاثه عن الاشعة المهبطية أقتنع المجتمع العلمي بتفسير اينشتاين لمصدر تلك الاشعة المهبطية وربطها بظاهرة التأثير الكهروضوئي photoelectric effect التي اقترحها اينشتاين وحصل من جرائها جائزة نوبل عام 1921م. لكن الفيزياء فليب لينارد رفض قبول تفسير اينشتاين كما رفض قبول النظرية النسبية وكان يصفها بالخدعة اليهودية. الاغرب من ذلك أن ظاهرة التأثير الكهروكيميائي التي ضمنت جائزة نوبل لأينشتاين لا يمكن تفسيرها علميا من غير القبول بنظرية ميكيانيكا الكم التي يرفضها أينشتاين !! ولك أن تعجب من علماء نوبل الذين يرفض بعضهم أبحاث بعض حتى وإن نالت جائزة نوبل !!.
بعد قرون من شبه الجمود في علم الفيزياء بدأ العلماء في مطلع القرن العشرين  يطرحون نظريات وافكار علمية غريبة ومحيرة وغير مألوفة مثل النظرية النسبية ونظرية الكم. ولهذا لم يكن مستغربا بطء تقبل المجتمع العلمي لهذه الافكار بل أن اينشتاين بعد أن طرح فكرة النظرية النسبية عام 1905م وكان يتم ترشيحه كل سنة لجائزة نوبل إلا أنه لم يحصل عليها إلا عام 1921م وفي موضوع غير النظرية النسبية. صحيح أن بعض العلماء في البداية لم يقتنعوا بصحة فركة عدم صرامة القوانين الفيزيائية في نظرية ميكانيكا الكم القائمة على الاحتمالات (مبدأ عدم اليقين) إلا أن الغالبية العظمى سرعان ما غيروا قناعاتهم وقبلوا تلك النظرية الهلامية. من طرائف ما يذكر هنا أن ثلاثة علماء ألمان في أوائل شبابهم (قبل أن يحصلوا على جوائز نوبل) اجتمعوا عام 1913م وهم اينشتاين وأتو شتيرن و ماكس لاوي وتناقشوا في صحة نظرية ميكانيكا الكم ثم اتفقوا جميعا بقيامهم بالحلف والتعهد أنه في حال تأكد الهراء والتخريف المتعلق بنظرية الكم فإنهم جميعا سوف يهجرون علم الفيزياء. طبعا لم يبقى على عناده من مشاهير العلماء في رفض نظرية الكم إلا اينشتاين واستمر على ذلك حتى وفاته بينما اصبحت نظرية الكم هي أكثر نظرية فيزيائية مرتبطة بالاكتشافات الفيزيائية الكبرى التي حصلت على عدد كبير من جوائز نوبل كما أنه بسببها أمكن انتاج المخترعات المذهلة مثل الكمبيوتر والليزر والاقمار الصناعية وغيرها كثير.
لمدة نصف قرن لم يقتنع اينشتاين بصحة ميكانيكا الكم كما أنه أضاع العقود الاخيرة  من حياة وهو يجهد ويكد عقلة العبقري في محاولة فاشلة ومتكررة لإنتاج ما أصبحت تعرف (بنظرية التوحيد الكبير)  Grand Unification Theory أو الاسم الشعبي لها: نظرية كل شيء !!. حتى الانفاس الاخيرة حاول اينشتاين أن يجمع في معادلة واحدة كل القوانين الاساسية في علم الفيزياء وخصوصا دمج الجاذبية مع الكهرومغناطيسية وقوى الذرات ولكن فشل في كل مساعيه المتواصلة تلك لدرجة أنه قبل ايام قليلة من وفاته في المستشفى عام 1955م كان يحاول ويحاول حل هذه المعضلة المعقدة.
ربما لم يعترف اينشتاين ابدا بخطأه حيال عدم القبول بنظرية ميكانيكا الكم لكنه في المقابل كان شجاعا  في الاعتراف بما سماه (أكبر خطأ ارتكبه في حياته) وهو عدم قبوله في البداية بمفهوم انكماش أو تمدد الكون. منذ زمن فلاسفة اليونان وحتى مطلع القرن العشرين كان أغلب العلماء يعتقدون أن الكون سرمدي وفي حالة مستقرة. ولهذا عندما تسببت معادلات اينشتاين المشتقة من النظرية النسبية العامة بإعطاء إيحاء بأن الجاذبية سوف تتسبب في انكماش الكون لذا قام  اينشتاين  وبشكل تعسفي بإضافة شيء جديد لمعادلاته سماه (الثابت الكوني) وذلك لكي يحافظ على حالة ثبات الكون. ولكن بعد ذلك بفترة من الزمن ظهرت النماذج الأولية من نظرية  الانفجار الكبير Big Bang لكي تبين أن الكون ليس ثابت كما تصور اينشتاين وغيره من العلماء. اللطيف في الامر أن اينشتاين لم يكن فقط مخطئا في عدم تقبل أن السماء (تتحرك) لكنه ايضا لم يقبل النظرية العلمية التي تقول أن الارض تتحرك. كما أن أهم نظرية في علم الفلك هي نظرية الانفجار الكبير التي رفضها اينشتاين في البداية فإن أهم نظرية في علم الجيولوجيا هي نظرية انزياح القارات continents drifting وهي الظاهرة الجيولوجية المتعلقة بالحركة المستمر وان كانت ضئيلة جدا للصفائح التكتونية الارضية وهذا ما يسبب حركة وانزياح القارات عن مواضعها وتكون الجبال. في نفس العام الذي توفي فيه اينشتاين أي عام 1955م قام بكتابة مقدمة لكتاب علمي في مجال علم الجيولوجيا عنوانه (قشرة الارض المنزاحة) وهو الكتاب الذي يعارض نظرية انزياح وتحرك القارات وكأن اينشتاين وحتى اللحظات الاخيرة من عمره لا يتوب من خطيئة (الجمود العلمي) وعدم قبول النظريات والافكار العلمية الجديدة علما بأنه كذلك في فترة ما كان يرفض الفكرة قبول صحة الفكرة العلمية المتعلقة بحقيقة وجود الثقوب السوداء.
وبعد سلسلة الاخطاء والهفوات هذه أعتقد أننا لن نستغرب أن نعلم قيام اينشتاين برفض ظاهرة فيزيائية معقدة جدا ويكتفي (من باب السخرية)  بتفسير حصولها بأنها ناتجه عن طريق الاشباح !!. حسب النظرية النسبية فلا شيء في الكون اسرع من الضوء ومع ذلك أكتشف العلماء ظاهرة محيرة تسمى التشابك الكمي quantum entanglement حيث قد توجد جسيميات تحت ذرية صغير يؤثر بعضها في بعض بشكل آني وفي التّو والحظة حتى ولو كانت المسافة بينهما كما بين الارض والمريخ. لم يقبل اينشتاين هذه الفكرة ولهذا سخر منها وقال أنها لو حصلت فالسبب في حصولها راجع للأشباح (spooky action at distance) علما بأن هذه النظرية الغريبة تم اثبات صحتها بعد وفاة أينشتاين بحوالي عشر سنوات.
لا شك أن اينشتاين بدأ شبابه بأمارات العبقرية الصارخة لكن للأسف أنهى شيخوخته بالجمود والعناد المذموم لدرجة أن عالم الفيزياء الامريكي المعروف روبرت أوبنهايمر (الملقب بأبو القنبلة الذرية) قال عنه: خلال السنوات الأخيرة من عمر اينشتاين لم يعمل شيء جيدا. ومع اكتشاف أن أينشتاين حتى في أوائل حياته العلمية وقع في أكثر من خطأ في المعادلات الرياضية لإثبات معادلته الشهيرة (E = mc2) بل أن جميع الحلول الرياضية  الاخرى التي اقترحها لاحقا كانت غير دقيقة تماما. بهذا يمكن أن نقول أن  حياة اينشتاين كلها كانت حافلة بالفشل والوقوع المتكرر في الاخطاء والهفوات . ومع ذلك ينبغي التنبيه أنه ليس مقصدنا من هذا السرد هو تشوية أو انتقاص صورة هذا العبقري الفريد ولكن للتنبيه لحقيقة (الطبيعة البشرية) للعلم والعلماء وأنهم قد يقعون في الخطأ والزلل. ومن جانب آخر مسيرة حياة أينشتاين والصعوبات التي اعترضت حياته في كل منعطف هي درس لنا جميعا أن النجاح في دروب الحياة لا يعنى بأي شكل أن تكون حياتنا خالية تماما من الاخطاء والهفوات أو أن نستسلم عند بوادر أي إخفاق أو ضعف أو انكسار.