الجمعة، 20 مارس 2020

( تعطيل الدراسة .. إطلاق للإبداع !! )

كيف ساهم وباء الطاعون في تعزيز عبقرية نيوتن وشكسبير

د. أحمد بن حامد الغامدي

في زمن ما قديم تنبأ الأديب الفرنسي البارز فيكتور هوجو بأن من (يفتح باب مدرسة يغلق باب سجن) لكن مع الفرحة الغامرة التي اكتسحت شرائح واسعة من أبنائنا الطلاب وقت الإعلان عن تعطيل الدراسة يبدو وكأنهم كانوا في سجن وبإغلاق باب المدرسة فتحنا لهم أبواب تلك الزنازين المسماة بالفصول الدراسية. نقد (المنظومة التعليمة) أمر ذائع وشائع في كل الشعوب وعبر جميع العصور فمثلا في بداية القرن العشرين كان التعليم الانجليزي يعتبر قمة الأصالة في الجودة في حين أن التعليم الامريكي يعتبر قمة المعاصرة في التطوير نتيجة لنظريات الفيلسوف وعالم النفس الامريكي جون ديوي. ومع ذلك لم يتردد علم الرياضيات والفيلسوف الانجليزي الحاصل على جائزة نوبل بيرتراند راسل في نقد التعليم الانجليزي بقوله (يولد البشر جاهلين ولكنهم لا يولدون أغبياء، ثم يصبحون اغبياء بفضل التعليم) أما نقد مارك توين أشهر أديب أمريكي للتعليم في بلده فلخصه بقولة (لم أسمح قط لتعليمي الدراسي أن يشوش على ثقافتي).
هل البيئة المدرسية خانقة للإبداع؟ هذا سؤال مشروع وإن كانت الإجابة عليه غير حاسمة ويستطيع الجميع حشد الأدلة إما الداعمة أو المنافية لجميع وجهات النظر حول نقطة الجدل المطروحة. ولكن من باب الاستجمام الفكري والملاطفة المعرفية لعلنا نشغل وقت هذه الاستراحة الاجبارية للعملية التعليمية بسرد أخبار وقصص بعض مشاهير العلماء والادباء والفنانين الذين ساعدت قرارات تعطيل الدراسة في زمانهم بسبب تفشي الأوبئة والامراض في شحذ مواهبهم وإبداعاتهم الفريدة.
أثناء الدراسة الاكاديمية لعبقري العلوم إسحاق نيوتن في جامعة كامبردج اجتاح الجزر البريطانية وباء الطاعون وذلك عام 1665م والمشهور في كتاب التاريخ بوباء (طاعون لندن العظيم) حيث يقال إنه حصد أرواح ربع سكان العاصمة البريطانية. ونتيجة لخطورة هذا الوباء المريع تم (تعطيل الدراسة) في المدارس والجامعات الانجليزية وهذا ما دفع نيوتن للعودة إلى منزل أسرته في مدينة وولثروب الصغيرة في طرف الريف الإنجليزي حيث انخرط ذلك الشاب في خلوة فكرية وذهنية أثمرت إبداع علمي غير مسبوق. في الواقع الفترة الزمنية بين عامي 1665م و 1666م تسمى في كتب التاريخ (بسنة نيوتن العجيبة) حيث نجد فيها الطالب نيوتن بعد أن تخلص من تأثير أعرق الجامعات العلمية في عصره يستطيع من خلال عزلته تلك التوصل لمجموعة من أكثر الاكتشافات العلمية إذهالا. حيث ليس فقط أكتشف قانون الجاذبية بل أيضا توصل لاكتشاف القوانين الثلاثة المشهورة في علم حركة الاجسام ووضع أسس حساب التفاضل والتكامل واكتشف طبيعة الضوء كما أكتشف نظرية ذات الحدين وقانون التربيع العكسي. مثال آخر (لسنة الالهام العجيبة) حصلت مع أسطورة العلم الحديث ألبرت أينشتاين وذلك عام 1905م حيث أكتشف فيها هو الآخر أبرز إنجازاته العلمية على الاطلاق ولكن تلك قصة أخرى ليس هذا أوان سردها.
حادثة إضافية يمكن سردها لتعزيز ظاهرة الالهام والابداع في زمن تعطيل الدراسة بسبب الوباء نجدها في مجريات الأحداث العجيبة لحياة أحد أشهر عباقرة الموسيقى ألا وهو الموسيقار النمساوي موزارت. في نهاية القرن الثامن عشر كانت الإمبراطورية النمساوية من أكثر الأمم تطورا في العالم والحضارة ومع هذا لم يمنع ذلك من انتشار وباء مرض الحصبة في العاصمة فيينا مما تسبب في مصرع ألاف من ضمنهم عدد من أفراد الأسرة الحاكمة. لقد كان الأطفال الصغار هم أكثر ضحايا وباء الحصبة الذي انتشر في النمسا عام 1767م مما أصاب المجتمع بالشلل شبه التام مما دفع العديد من الأسر ليس فقط لسحب أبنائهم من قاعات المدارس ولكن أيضا الهروب بهم من المدن الموبوءة. وهذا ما قام به أماديوس موزارت والد الطفل المعجزة فوافغانغ موزارت الذي كان في سن الحادية عشر وقت انتشار الوباء حيث انتقلت الأسرة من مدينة فيينا إلى مدينة ريفية صغيرة تقع في شرق التشيك. وبالرغم من إصابة موزارت وأخته الكبرى بمرض الحصبة إلا أنهما نجيا من الموت المحتم على الأطفال في سنهما وبالرغم من إصابة موزارت بالعمى المؤقت إلا أنه في نهاية الأشهر الأربعة التي قضاها في مدينة أولوموتس التشيكية تجلت موهبته الموسيقية في أوضح صورها عندما تمكن وهو في سن الحادية عشر من تأليف إحدى أشهر مقطوعاته الفنية (السيمفونية السادسة).
وبالانتقال من الابداع الصوتي إلى الابداع البصري نجد أن مدينتي فلورنسا والبندقية الايطاليتين تنافستا في زمنا ما على أي منهما تحشد أكثر عدد من عمالقة الفن التشكيلي وفي مقابل افتخار فلورنسا بالأسماء البراقة مثل مايكل أنجلو ورافائيل ودافنتشي لطالما عوضت مملكة البندقية حالة النقص الفني لديها بتلميع موهوبها الشاب الرسام تيتيان. المشكلة تكمن أن الشاب تيتيان ظل لسنوات طويلة وهو يتدرب في المدرسة الفنية للرسام جورجوني مؤسس مدرسة البندقية الفنية والذي كان له تأثير كبير على تيتيان وغيره من المريدين وطلاب الفنون التشكيلية. تشير بعض الدراسات التاريخية إلى أن اللحظة الفاصلة في تاريخ الشاب تيتيان حصلت عند وفاة معلمة جورجوني نتيجة أصابته في الوباء الذي اجتاح مدينة البندقية عام 1511م وأجبر الشاب تيتيان للفرار من الوباء إلى مدينة بادوفا في شمال إيطاليا. ما حصل بعد ذلك أن هذا الشاب الموهوب وفي عزلة عن تأثير معلمه الأسبق اظهر نوبغ فني كبير واستقل بنمط وأسلوب فريد في مجال الرسم التشكيلي ضمن له الخلود الفني كأحد أشهر فناني عصر النهضة الإيطالي.

وقبل أن تختم لا يجدر بنا أن نغادر قبل أن نعرج على دنيا الادب والشعر ونستعرض قصة شاب آخر ساهم الوباء والطاعون في زيادة مواهبه وإبداعاته الأدبية إلا وهو أسطورة الأدب الغربي وليم شكسبير. للغالبية العظمى منا فإننا نعرف فقط عن شكسبير عبقريتة في تأليف الأعمال المسرحية الخالدة بينما للقارئ الغربي شهرة شكسبير (كشاعر) لا تقل لديهم عن شهرته (ككاتب مسرحي) لدرجة أن شكسبير نال لقب شاعر الأمة الإنجليزية (The English Bard). ومع ذلك تنبغي الإشارة إلى أن الشاب وليم شكسبير لم يكتب في بداية حياة إي قصائد شعرية حتى عام 1592م عندما انتشر وباء الطاعون في مدينة لندن مما أثر كثيرا على الحياة الاجتماعية للشعب الإنجليزي وكان من سوء حظ شكسبير أن أجبرت جميع المسارح على أن تغلق أبوابها. في أوائل شبابه كان مصدر الدخل المادي لشكسبير يأتي من تأليف الأعمال المسرحية والعمل كممثل مسرحي ولهذا عندما وجد شكسبير نفسه في ورطة مالية وأدبية مؤكدة أتجه من تلك اللحظة إلى تأليف المقطوعات الشعرية القصيرة التي تسمى السوناتة sonnet وهي في الغالب قصيدة مكونة من أربعة عشر بيتا. وفي ذلك الزمان وفي كل زمان كان للشعر رونقه ومكانته الأدبية الرفيعة ويحظى بتقدير فائق من جميع شرائح المجتمع وبالخصوص طبقة النبلاء ولهذا لا عجب أن نجد أن شكسبير يهدي قصائده الأولى إلى أحد كبار رجالات الأسر الأرستقراطية الإنجليزية الذي تعهده بالرعاية المالية المجزية. وبهذا كان وباء الطاعون بالنسبة لشكسبير منحة في هيئة محنة ونقمة تجر نعمة حيث تسبب في مزيد من التدفق الإبداعي وتعزيز إضافي لمكانته الأدبية وثرائه المالي.
وختاما الجميع يعلم أن الكارثة التي تعم العالم هذه الأيام مصدرها من الصين ولهذا ربما في المرة القادمة التي نسمع فيها الحكمة الصينية المشهورة عن التعليم والتي تقال على لسان الفيلسوف كونفوشيوس (قل لي وسوف أنسى، أرني وقد أتذكر، أشركني وسوف أفهم) هل يصح أن نضيف لها عبارة (أعزلني وسوف أبدع) !!!.

الخميس، 12 مارس 2020

( الحب في زمن الكورونا )

هل حان الوقت لإصدار الجزء التالي من روايات أدب الكوارث والاوبئة

د/ أحمد بن حامد الغامدي


بدون منازع يعتبر الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز آخر أهم الادباء العالمين وبالرغم من الشهرة المدوية لروايته المتشعبة (مائة عام من العزلة) وحصوله على جائزة نوبل في الادب عام 1982م إلا أن أكثر ما يستدعي ذكراه هذه الأيام هي روايته الرومانسية (الحب في زمن الكوليرا). ثنائية الموت والحياة والحب والفراق منتشرة كثيرا في العديد من الاعمال الأدبية الذائعة الصيت ولتعدد الشواهد الأدبية التي يمكن حصرها في هذا المجال سوف نقتصر فقط على سرد أعمال الادباء الحاصلين على جائزة نوبل في الأدب.
 
فهذا الروائي الألماني البارز توماس مان تؤهله رواية (الموت في البندقية) للحصول على جائزة نوبل في الادب عام 1929م وفيها يروي بأسلوب أدبي رفيع حالة الهلع النفسي والركود الاقتصادي من جراء انتشار وباء الكوليرا في منتجعات مدينة البندقية والذي يتسبب في نهاية الأمر بمصرع العجوز المتصابي بطل الرواية.
أديب آخر من حملة جائزة نوبل ساهم الهلع من انتشار الامراض الوبائية الفتاكة في بروز شهرته العالمية ومن ثم حصوله على جائزة نوبل في الادب ألا وهو الروائي الفرنسي المعروف ألبير كامو صاحب رواية (الطاعون) والتي تقع أحداثها في مدينة وهران الجزائرية وقت أن كانت تحت الاحتلال الفرنسي وهي رواية أدبية رمزية حيث لم يحصل انتشار لوباء الطاعون بشكل فعلي في تلك المدينة الساحلية الجميلة. وإذا كانت رواية الطاعون متخيلة وغير حقيقة فتوجد رواية تدور عن وباء متخيل وغير حقيقي وكأنها بذلك من روايات (الخيال العلمي) إلا وهي رواية (العمى) للكاتب البرتغالي جوزية ساراماغو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1995ميلادي. وتدور أحداث هذه الرواية عن وباء غامض ينتشر بسرعة في العالم أجمع ويتسبب في إصابة البشر بالعمى وما يتبع ذلك من الفوضى والتخريب وانهيار الحياة المدنية.


وكما هو معلوم في عالمنا العربي والإسلامي لم يحصل على جائزة نوبل في الأدب إلا الروائي العربي الكبير نجيب محفوظ ونجد أن الوباء هو مدخل روايته المشهورة (الحرافيش) لدرجة أن بطل الرواية وهو عاشور (الناجي) سمي كذلك لأنه استطاع هو واسرته أن يفر بهم وينجو من الوباء القاتل الذي فتك بجميع سكان المدينة التي كان يعيش بها. بينما الأديب التركي المعاصر أورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل في الأدب سنة 2006 وكان من أبرز أعماله الأدبية التي لفت الأنظار له على المستوى العالمي رواية (القلعة البيضاء) والتي يدور أحد محاورها عن انتشار وباء الكوليرا في مدينة إسطنبول في القرن السابع عشر.

وبحكم أن أصداء أحداث الصين ما زالت حاضره في الاذهان لعل من المناسب الاشارة إلى أن الروائي الصيني مو يان الحاصل قريبا على جائزة نوبل في الادب (في عام ٢٠١٢م) لم يكون هو الآخر بعيد أن أجواء أدب الكوارث والاوبئة. في رواية (مكابدة الحياة والموت) يناقش بأسلوب رمزي التأثير السياسي والفكري للشيوعية على المجتمع الصيني ممثلا في قرية صينية ينتشر فيها وباء غريب يصيب الحيوانات ويتسبب في نفوق الخنازير ثم حيرة أهل القرية في الطريقة الامثل للتخلص من جثث الحيوانات النافقة إما بالحرق أو بالغمر. يحصل هذا الوباء المريع في نفس يوم وفاة الرئيس الصيني تسي تونغ مما يشغله أهل القرية عن هذا الحدث الجلل وبهذا كأن الرواية هي نقد رمزي لذلك النظام الشيوعي الشمولي. الجدير بالذكر أن تلك الرواية الصينية نشرت في عام ٢٠٠٨م أي بالتزامن تقريبا مع حمى القلق من تفشي مرض إنفلونزا الخنازير.

وبالعودة إلى رواية ( الحب في زمن الكوليرا ) نجد أن غابرييل ماركيز وظف الرومانسية في سياق الموت عندما جعل بطل الرواية العجوز يحتال في الاستفراد بمحبوبته عندما خدع ركاب أحد القوارب بأنه توجد اصابات بوباء الكوليرا بينهم مما يجعلهم يهرعون لمغادرة القارب. وبحكم أن القوانين في تلك الفترة تلزم أصحاب القوارب الموبوءة أن تبقى في عرض النهر وان ترفع على ساريتها راية العلم الاصفر فلهذا تمكن فلورينتينو الكهل بعد مرور نصف قرن من الحب اليائس والبائس أن يحظى بالخلوة الطويلة مع محبوبته الارملة المكلومة.
بكل الصدق لا أعلم ما هي العقدة الدرامية للرواية المتخيلة (الحب في زمن الكورونا) لكن لو جاز لي أن أقترح علي أي روائي أو أديب صيني عن الحبكة الفنية للربط بين الغرام والألآم والهناء والفناء لاقترحت التالي:
في ثقافة الحضارة الصينية توجد مكانة خاصة وطقوس معينة للعطاس والزكام فمثلا يعتقد أهل الصين وبعض شعوب شرق آسيا أنه ( أذا عطس رجل مرتين بشكل مفاجأ ومن دون سبب واضح فهذا يعني أن شخصا ما قام بأغتيابه وقدح فيه،  أما اذا عطس الرجل ثلاث مرات متتالية فهذا يعني أن شخصا ما يحبه. وعليه في رواية ( الحب في زمن الكورونا ) لنا أن نتخيل أن شخص يهيم عشقا بامرأة ما ولكن لا يعلم هل هي تبادله الحب أو لا وتزداد حالته شكوكا وحيرة عندما يصاب بمرض الكورونا والتي من أعراضه السعال والرشح والعطاس.  فهل إذا حصل وان عطس بطل الرواية ثلاث مرات متتاليه وقت اصابته بالكورونا فهل هذا يعني أنه يوجد بالفعل شخص يحبه أم أن الامر لا يعدو رشح زكام ونزلة بردوكما كان المعري رهين المحبسين فكذا حال المتيم المفتون بأرض الصين رهين الحجر الصحي وأسير الحيرة وقلق الشك هل بالفعل هنالك من يعشقه أم أن عطساته الثلاث مجرد وهم باطل وأمل زائل.



الوباء وكتابة (أو طمس) التاريخ

الوباء والطاعون أوقف نابليون من إكمال غزوه للعالم العربي
د/ أحمد بن حامد الغامدي

في البدء لا اعتراض على صحة المقولة الشائعة (أن التاريخ يكتبه المنتصر) ولكن التدقيق المطروح هو عن طبيعة (المنتصر) الذي يصنع ويشكل التاريخ فهذا المنتصر لا يشترط دائما أن يكون جيش جرار أو شخص عظيم مختار وإنما قد يكون ميكروب ضئيل لا ترصده الأبصار. التاريخ البشري في القديم والحديث هش وقابل للكسر والانحناء نتيجة تأثير عوامل ومؤثرات عديدة ومتداخلة من ضمنها الأمراض والأوبئة والعدوى. في التاريخ الإنساني كم من بلاء ووباء أفرز تغييراً في موازين القوى السياسية وأسقط إمبراطوريات عتيقة وأقام ممالك جديدة. بل الأعجب من ذلك كم (محنة) أمراض معدية شنيعة أثمرت (منحة) عظيمة وخير كثير في تطوير مهنة الطب مثلا أو تغيير أساليب التجارة أو حتى التأثير على جودة الأعمال الأدبية والفنية والمعمارية.
يقال أن من يسيطر على مصر والشام فهو بالفعل يتحكم على كامل العالم العربي ولهذا تشتت موجات الغزو الصليبي والمغولي عندما أحكمت فقط على أحد اقطاب محور (القاهرة - دمشق) ولهذا يحق لنا أن نعجب عن كيفية مسار تاريخ منطقتنا العربية لو تمكن نابليون بونبارت وجيشه العسكري الحديث من الجمع بين غزو الديار المصرية وغزو البلاد الشامية. بعد توغل سهل لجيش الفرنجة الفرنساوي واحتلالهم لمدينتي حيفا ويافا في مطلع عام 1799م تغير بشكل حاد مسار التاريخ عندما تعثر جنود نابليون في حصار مدينة عكا ثم اجتاحتهم الكارثة الكبرى عندما تفشى وباء الطاعون الرهيب في جيش الحملة الفرنسية مما اضطر بونبارت للفرار والعودة إلى مصر وبهذا ذاق الجنرال أول هزيمة كبرى في حياته. آخر هزيمة كبرى تعرض لها الامبراطور الفرنسي بونابرت كانت في معركة واترلو على الارض البلجيكية كما هو معلوم لكن أقصى هزيمة تعرض لها نابليون على الاطلاق هي تلك التي خسر فيها حوالي 300 ألف جندي من جيشه العرمرم والذي كان يفخر به ويسميه (الجيش العظيم Grande Armee). في عام 1812م بدأ نابليون مغامرته الكبرى لغزو الامبراطورية الروسية وبالرغم من أنه أنطلق بجيش مهول من فرنسا يبلغ تعدده حوالي 600 ألف جندي إلا أنه خسر نصف ذلك الجيش عندما مر عبر الاراضي البولندية وهنالك ذاق جنوده حمام الموت ليس بحد السيف ورصاص البنادق ولكن من جراء انتشار وباء التيفويد بينهم مما افشل خطة نابليون الاصلية في أن يصل لروسيا في فصل الصيف. وهنا تولى (الجنرال الثلج) هزيمة بقايا الجيش الفرنسي التي وصلت أرض الجليد الروسية في عز فصل الشتاء وبهذا تسبب بلاء الجليد ووباء التيفويد في كتابة الخاتمة السياسية والعسكرية ليس فقط لنابليون بل للامة الفرنسية بأكملها.  الغريب في الأمر أنه قبل ذلك بسنوات قليلة وبالتحديد عام 1809م استخدم نابليون (السلاح الجرثومي) في حربه ضد العدو البريطاني عندما تقابل الجيشين على ضفاف السواحل الغربية لهولندا وهنا أمر نابليون بهدم السدود وإغراق المنطقة التي بالقرب من الجيش الانجليزي بمياه السيول. بعد ذلك بفترة من الزمن أنتشر البعوض في الاجواء وأصاب وباء الملاريا الجيش البريطاني وقتل منه أكثر من أربعة الاف جندي وهنا كان التعليق الخبيث لنابليون (لا يجب أن نقاوم الانجليز بغير الحمى وهي كفيله بتبديدهم جميعا).
بلاء الوباء أو طعنة الطاعون القاتلة كثيرا ما أعادت كتابة التاريخ في مسار جديد أو يمكن إعادة صياغة العبارة بأن الوباء (طمس) مساق بديل للنص التاريخي. لقد غزا نابليون الشرق والغرب واحتل بلاد شاسعة وإن كان مخططه لغزو الاراضي الفلسطينية أفشلة الميكروب البكتيري لوباء الطاعون فإن كتابة التاريخ قبل ذلك بحوالي ألفين سنه تم إعادة طمسها عندما كان السلف والمثل الأعلى لنابليون القائد المقدوني الإسكندر الأكبر بعد أن غزا الشرق والغرب يفكر أن يكمل احتلاله للعالم بغزو جزيرة العرب كما أخبر قادة جيشه المقربين. في أواخر حياته القصيرة كان الإسكندر المقدوني يقيم في عاصمة امبراطوريته في مدينة بابل ونظرا لانتشار وباء حمى الملاريا أو حمى التوفئيد في العراق في تلك الفترة فقط غزت تلك الميكروبات الممرضه جسده قبل أن يشرع ذلك المقاتل الشاب ذي 32 ربيعا في شن الحملة المقدونية لاقتحام البلاد العربية وبهذا طمس التاريخ المحتمل لوجود تأثير حضاري غريب في قلب الأمة العربية.

إمبراطوريات آيلة للسقوط بسبب .. فيروس
الجراثيم الممرضة والميكروبات المعدية شيء مخيف ولهذا لم تفلح محاولة عالم الجراثيم الفرنسي المعروف لويس باستور في تلطيف الشعور السلبي نحوها عندما قال (ليست الجراثيم هي من نحتاج أن نقلق منها ولكن ضميرنا الداخلي). التاريخ الانساني مثخن بكوارث الأوبئة المميتة التي تسببت في زوال إمبراطوريات وممالك كانت يوما ما مسيطرة ومزدهرة وخير مثال (أول أفجع مثال في الواقع) هو ذكر تأثير انتشار وباء الحصبة والجدري في امريكا اللاتينية. لقرون طويلة ازدهرت حضارة شعب الازتيك في الاراضي المكسيكية وشعب قبائل الإنكا الهندية على سفوح جبال البيرو. مسار التاريخ تغير أسلوب كتابته بشكل دراماتيكي عندما هبط القائد الاسباني هرنان كورتيز على ساحل المكسيك في مطلع القرن السادس عشر الميلادي وفي أعجوبة من أعاجيب التاريخ استطاع الجيش الاسباني المكون من 600 جندي من غزو امبراطورية الازتيك المكسيكية التي يبلغ عدد سكنها عشرات الملايين. لقد توافق الغزو الاسباني مع غزو ميكروبات وباء الجدري الذي وصل المكسيك عام 1520م وأهلك حوالي نصف شعب الازتيك بمن فيهم الامبراطور كيتلاهوك. وبحكم أن الغزاة الاسبان لديهم مناعة نسبية ضد مرض الجدري فلهذا لم يتأثر الجنود الاسبان كثيرا بهذا الوباء مما جعل الازتيك يخشونهم وكأنهم آلهة لا يقهرون خصوصا وأنهم محصنون بأسلحة فتاكة جيدة لا يعرفها هنود المكسيك: الخيول والعربات والبارود. نفس الأمر تكرر حذو القذة بالقذة عندما هبط الغازي (الكونكيستدور) الاسباني فرانشيسكو بيزارو على ساحل البيرو عام 1531م وبحوزته كتيبة عسكرية تافهة لا تتجاوز 180 جندي و 27 حصان ومع ذلك استطاع أن يسقط امبراطورية الإنكا التي أنهكها قبل قتال الاسبان انتشار وباء الجدري والذي قضى على الملايين من شعب الإنكا بما فيهم الامبراطور.
زوال إمبراطورية الازتيك التي تضاهي أهرامها المكسيكية ضخامة وعظمة الاهرام المصرية بسبب جراثيم صغيرة أمر محير وربما يصعب أن يصدقه البعض كما يصعب أن نقنع الجميع أن زوال إحدى أهم وأكثر الامبراطوريات تأثيرا في تاريخ البشرية تم نتيجة فتك الأوبئة المعدية. في العصور القديمة كانت الامبراطورية اليونانية من القوة والتقدم العلمي والمعرفي لدرجة أنها دحرت الغزو المتكرر للجيوش الفارسية المهولة العدد ومع ذلك كان اضمحلال تأثير الامبراطورية اليونانية من المسرح الدولي بسبب تفشي وباء الطاعون في عاصمة الجزر اليونانية مدينة أثينا. يشير المؤرخ اليوناني الشهير ثوسيديديس صاحب كتاب تاريخ الحروب البيلوبونيزية بين أثينا وإسبارطة أن هذه الحروب الطاحنة انتهت عام 430 قبل الميلاد عندما تفشى وباء الطاعون اثناء حصار مدينة أثينا وتسبب في مصرع ليس فقط كبار قادة المدينة مثل حاكمها المحنك بريكليس ولكن ايضا في هلاك حوالي ثلثي سكان المدينة. وبالتالي تسبب الوباء بشكل مريع في اضعاف قدرت الدفاعات البحرية لحماية المدينة من اجتياح جنود الأسطول الاسبارطي المشهورين بكفائتهم الحربية وشراستهم القتالية مما تسبب في السقوط النهائي والمستمر للحضارة اليونانية.
في العادة لا تذكر الامبراطورية اليونانية إلا وتذكر خليفتها الامبراطورية الرومانية وهو ما سوف نفعله الان وإن كنا لا نستطيع أن نبالغ ونعلل سقوط الامبراطورية الرومانية بسبب الاوبئة المعدية. ومع ذلك كانت لحظة (التدهور الخطيرة) في تاريخ الامبراطورية الرومانية وتعثر مسيرتها المزدهرة عندما انتشر بها وباء الجدري في عام 165 ميلادي. في واقع الامر استمرت الامبراطورية الرومانية لمدة خمسة قرون لكن قمة استقرار وازدهار وتقدم الحضارة الرومانية (الفترة التي تعرف باسم Pax Romana) انتهت مع نهاية حكم الامبراطور و(الفيلسوف) الروماني ماركوس أوريليوس والذي توفي من جراء وباء الجدري السابق الذكر والذي حصد معه كذلك حوالي خمسة ملايين شخص. لقد وصف المؤرخ الروماني كاسيوس ديو الاثر المدمر للطاعون الأنطوني الذي أصاب الامبراطورية الرومانية وكان يتسبب في مقتل ألفين شخص يوميا وبالتالي دمر اقتصاد والقوة العسكرية لتلك الامبراطورية العظمى ولذا وصفها كاسيوس ديو أنها انحدرت بعد الطاعون من مملكة الذهب إلى مملكة الصدأ والحديد. أما خاتمة انهيار الامبراطورية الرومانية عام 476م فليس من المستغرب أن نعلم أنه سبق هذا السقوط النهائي بعدة عقود انتشار وباء الطاعون الذي سهل انهيار الرومان المذل والمهين على يد الهمج والبرابرة سواء من  قبائل الهون القادمة من الشرق أو جحافل القوط القادمة من الشمال.

وفي الختام عودا على ذي بدء ونعيد ربط أول المقال بآخره ونذكر بدور الوباء والبلاء في كتابة تاريخ منطقتنا العربية حيث ساهم الوباء والطاعون في نجاة البلاد والشعوب العربية من غزو نابليون أو في عرقلة تنفيذ مخطط الاسكندر المقدوني لغزو جزيرة العرب. ما تجدر الاشارة إليه أن بلاء الوباء ساهم في فترة ما في حماية بلاد الاسلام من (إعادة كتابة التاريخ) عن طريق (إعادة) احتلال الصليبيين لبلاد الشام والقدس حيث ساهم الطاعون في كسر موجة الحملة الصليبية الثامنة آخر الحملات الصليبية. في عام 1270م قاد الملك الفرنسي لويس التاسع بنفسه الحملة الصليبية الثامنة والتي كانت تهدف لاحتلال تونس ثم الانطلاق منها نحو الشرق لغزو مصر واخيرا استرجاع بيت المقدس. ولكن جحافل الجيوش الصليبية تبددت لحظة وصولها بسبب تفشي وباء مرض الدوسنتاريا والكوليرا بين صفوف الجنود ولم يسلم من ذلك حتى الملك لويس التاسع نفسه أنتهى أجله في تونس وانتهت مع هلاكه الحروب الصليبية. هذا الحدث مثال على (الدور الايجابي !!) للوباء والطاعون في دفع بلاء آخر عن بلاد المسلمين والتاريخ العربي به العديد من مثل هذه الاحداث المتناقضة التي وإن كانت لم تمنع سقوط المدن الاسلامية لكنها أجلت قليلا مصيرها المحتوم. من ذلك مثلا أنه بعد سقوط بغداد ودمارها على يد المغول تردد التتار بعض الوقت في اقتحام بلاد الشام والسبب في ذلك أنه بعد قتل حوالي مليون شخص في مدينة بغداد انتشر فيها الوباء الذي انتقل إلى أراضي الشام حيث عم الطاعون أغلب الحواضر الكبرى في الشام وهذا ما جعل المغول يؤخرون قليلا اجتياحهم لباقي ديار المسلمين.
في لحظة خاطفة من التاريخ كاد الوباء والطاعون أن يعيد كتابة (أو هل نقول إعادة طمس) التاريخ ليس فقط بإيقاف سقوط الشام في قبضة المغول عام 1259م ولكن أيضا في ايقاف المسلسل الحزين في إكمال سقوط الاندلس في قبضة المسيحيين. تقول كتب التاريخ أنه في عام 1489م  قام الجيش المسيحي الاسباني البالغ تعداد 25 ألف مقاتل بحصار آخر معاقل الاسلام في أرض الاندلس مدينة غرناطة. وهنا تلوح تباشير الفرج إذ انتشر وباء التيفويد بين أفراد الجيش المسيحي ليفتك خلال شهر واحد فقط بحوالي 17 ألف جندي ومع هروب بقية افراد الجيش ينتهي حصار غرناطة. كما هو معلوم كان ذلك تفريج مؤقت وتأخير مؤجل للكارثة الكبرى التي حلت بعد ذلك بثلاث سنوات عندما سقطت أخيرا مدينة غرناطة عام 1492 ميلادي.
بقي أن نقول أن الامراض الوبائية والطاعون خصوصا تستحق بحق لقب (الموت الاسود) وهي شيء مرعب في ذاكرة التاريخ البشري وحتى وإن خدمتنا بشكل من الاشكال في منع وحرف بعض المصائب والاهوال عن بلاد المسلمين إلا أنها عدو معدي يجب الخوف والفرار منه. فقط للقلوب العامرة بالإيمان والمسلمة بقضاء الرحمن يمكن أن تتلمس جوانب الحكمة  من مصيبة بلاء الوباء وخير مثال على ذلك عالم السلف الكبير الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي عاصر في عام 819 هجري انتشار وباء الطاعون في أرض فلسطين وبالرغم من أنه توفيت اثنيتن من بناته في هذا الطاعون مع خلق غفير من الناس إلا أنه سلم بقضاء الله ثم اخرج للامة الاسلامية كتابه الفريد (بذل الماعون في فضل الطاعون).