السبت، 29 أبريل 2017

( أحداث علمية مشهورة من نسج الخيال )

تفاحة نيوتن .. سقطت أم لم تسقط ذلك هو السؤال

د/ أحمد بن حامد الغامدي

(تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء) تلك كانت رؤية الكاتب والمفكر الاسكتلندي توماس كارليل حيث طرح في كتابه الذائع الصيت (الابطال: عبادة البطل والبطولة في التاريخ) نظرية الرجل العظيم Great Man theory وكيف أن الابطال هم من شكلوا التاريخ من خلال قراراتهم وسماتهم الشخصية. وعلى نفس النسق تقريبا تم سحب واستطراد نظرية البطولة heroic theory لتشمل العلماء والمخترعين الذين ساهموا في تغيير مسيرة الحضارة البشرية ونتيجة لدورهم المعرفي الكبير هذا تم التعامل معهم بنوع من (التقديس) والانبهار والاعجاب. لذا يغلب توصيف هؤلاء العلماء والمخترعين بأنهم عباقرة وعظماء وأبطال لدرجة أن البعض قد يستغرب أنهم قد يقع منهم الخطأ والزلل فضلا عن ارتكابهم لأي جريمة وهذا ما لمسته من بعض ردود الافعال والاستفسارات عندما نشرت مقال سابق حمل عنوان (صراع ديكة العلم). المشكلة تكمن أن نظرة الاعجاب نحو الشخصيات التاريخية المفصلية لا تقف عند جعلهم أبطال وعظماء وإنما ايضا قد تنزلق كذلك في خلق مزيد من الهالة والبهرجة تنتهي بصناعة الاسطورة واختلاق الخرافة المرتبطة بتلك الشخصية.
من ذلك مثلا أن الاسكندر المقدوني ليس فقط عند البعض قائد عسكري فذ  ولكنه في مرحلة المراهقة استطاع ترويض الحصان الجامح (بوسيفالوس) الذي كان يطرح أعتى الرجال. كما يفضل أحيانا خلق أجواء من الغموض والاثارة في حياة العباقرة فحتى الان لا نستطيع أن نجزم إن كان الشاعر المتنبي قد ادعى النبوة أم لا في حين أن أديب الانجليزية الأوحد شكسبير يقول البعض أنه في واقع الأمر أكثر من رجل واحد!!. بعض أخبار القادة والعظماء لا تكتمل عند البعض إلا بعد أن يضفي عليها ظلال من الرومانسية حتى وإن كانت مختلقة فنابليون بونبارت ربما كان يعشق زوجته جوزافين ولكن نظرا للعدد الغفير من العشيقات والمحظيات في حياته حتى بعلم زوجته، لذا يحق لنا أن نشكك في نسبة عبارة (وراء كل رجل عظيم امرأة) أنها من حكم أقواله.
ما سبق مقدمة مطولة بعض الشيء (أعتذر عنها) اضطررت لها لكي أصل لمحاولة تفسير وتبرير لماذا ترتبط شخصية العديد من رموز و (عباقرة) العلوم ببعض القصص والاخبار والاحداث المختلقة وغير الدقيقة والتي غالبا ما تكون من نسج الخيال. ما دعاني لكتابة هذا المقال هو بعض الاستفسارات التي وصلتني عن مقالي الأخير (السياحة العلمية) والتي تم الاشارة فيه بشكل طفيف إلى أن بعض القصص المنسوبة لمشاهير العلماء مشكوك فيها مثل سقوط تفاحة نيوتن أو استخدام جاليليو لبرج بيزا المائل. ولهذا سوف أحاول بصورة مختصرة نسبيا مناقشة بعض النماذج للقصص والاخبار العلمية المشهورة والمشكوك في صحتها.

سقطت أم لم تسقط .. ذلك هو السؤال
التمازج بين نظرية البطولة السابقة الذكر والخرافة العلمية scientific myth أفرز نوع من (الدراما العلمية التشويقية) حيث لم يعد كافي أن نُثني ونمدح عالم بأنه عبقري ولمّاح ومتفاني في إجراء التجارب، وهذا سياق علمي يفتقد للإثارة والتشويق لأن أي عالم أو مخترع يظل يعمل في  مختبره لفترة طويلة وبجد وتفاني قطعا سوف يصل لشيء ما. وبدلا من حالة البرود في مسار الاخبار العلمية تدخل الان على مسرح الاحداث القصص المتكررة بأن العالم توصل لهذا الاكتشاف في لحظة إلهام دراماتيكية (تفاحة نيوتن) أو من خلال إجراء تجربه في ظروف غرائبية (برج بيزا). ولنبدأ القصة من أولها منذ ألفين سنة قبل عصر نيوتن الكل يعرف القصة المشهورة عن العالم اليوناني ارخميدس الذي (حسب الاسطورة العلمية) عندما اكتشف قانون الطفو أخذ يجري في الطريق وهو عريان صارخاً Eureka وجدتها وجدتها. في واقع الأمر لم يتم الاشارة إلى هذه الحادثة في أي من كتب أرخميدس الاصلية وأول كتاب ذكرت فيه هذه القصة الشيقة والطريفة كان بعد أكثر من ثلاثة قرون من عصر ارخميدس حيث وردت القصة في  كتاب اسمه المعمار ألفه مهندس معماري روماني يدعى ماركو فيتروفيو. السؤال الان هل كان هذا المعماري فيتروفيو هو من هندس واختلق قصة صرخة اليوريكا العارية أم أشخاص مجهولين قبله وماذا عن اساطير قيام أرخميدس بتسليح جيش جزيرة صقلية بمرايا ضخمة حارقة أو بروافع وكماشات ضخمة تحطم سفن الاعداء والغزاة هل هذه الاخبار من نسج الخيال أيضا. لم يثبت حتى الآن أن أرخميدس ذكر قصة الاغتسال في الحمام وتاج الملك وحتى عندما أعلن في عام 1906 أنه تم في اسطنبول اكتشاف مخطوط أحد كتب أرخميدس القديمة المسمى (كتاب الطريقة) أصيب العديد بخيبة أمل عندما لم يوجد في هذا الكتاب أي اشارة لتلك القصة الاسطورية.
الغالب أن قصة أرخميدس مختلقة وغير صحيحه بدليل أنه لم يذكرها بنفسه مع أنها حادثة غريبة وجديرة بالرواية وعلى نفس النسق نجد أن قصة سقوط تفاحة نيوتن على أم رأسه ومن ثم تسبب هذه الخبطة في (جذب) انتباه لربط دوران القمر حول الارض بقوى الجاذبية، نجد أن هذه القصة الشيقة والنادرة كان المفروض أن يكررها نيوتن كثيرا على زواره وتلاميذه بل وحتى عجائز قريته فضلا عن أن يتكاسل عن توثيقها في أي من كتبه المختلفة. لكن الواقع أن نيوتن حتى وإن عُمر طويلا حتى بلغ سن 84 لم تشتهر إطلاقا على لسانه هذه القصة ولم تظهر إلا بشكل طفيف جدا ومختصر في كتاب نشر بعد وفاته بحوالي 25 سنة. لقد قام الكاتب وعالم الاثار وليم ستوكلي عام 1752 بنشر كتاب خاص عن السيرة الشخصية لنيوتن سماه (ذكريات حياة السير إسحاق نيوتن) كان جزء منه مبنى على الحوارات واللقاءات التي اجراها ستوكلي مع نيوتن عبر السنوات وفي بعض سطور هذا الكتاب تم ذكر قصة سقوط التفاحة منسوبه أن نيوتن هو من تذكر وقوع هذه الحادثة. بقي أن نقول أن هذه الحادثة إن حصلت فهي ربما تمت في عام 1665 وهي السنة التي توصف بالسنة العجيبة في حياة نيوتن (مثل سنة 1905 العجيبة في حياة اينشتاين) حيث كان نيوتن في سن 23 وبعد أن أقفلت جامعة كامبريدج ابوابها بسبب وباء الطاعون الرهيب رجع نيوتن لمدينته الصغيرة وولسثروب وهنالك توصل لعدد كبير من بدايات اكتشافاته العلمية في الميكيانيكا والرياضيات والبصريات وغيرها وعلية فإن شجرة تفاح نيوتن المزعومة لا يمكن تحديدها لأن نيوتن حسب رواية ستوكلي هو اشار فقط لذكرياته مع سقوط ثمرة التفاح ولم يحدد له بالضبط مكان شجرة التفاح المزعومة.

ونأتي الأن للقصة العلمية المشهورة عن أسطورة العلوم الايطالي جاليليو جاليلي حيث يقال أنه قام في عام 1589 بإثبات خطأ نظرية أرسطو المتعلقة بأن الاجسام المختلفة الكتلة تسقط بسرعات متفاوتة وذلك من خلال إسقاط حجرين مختلفي الكتلة والحجم من أعلى برج بيزا المائل. وكما حصل مع أرخميدس من قبل ومع نيوتن من بعد لم يثبت عن جاليليو بشكل مباشر وصريح انه أشار لقيامه بإجراء هذه التجربة ولم يتم ذكرها في أي من كتبه التي ألفها. وأول إشارة لهذه القصة ظهرت بعد وفاة جاليليو بعدة سنوات في كتاب عنوانه (الرواية التاريخية لحياة جاليليو جاليلي) ألفه في عام 1654 أحد تلاميذ جاليليو الذي يدعى فيفياني. الجدير بالذكر أن تجربة اسقاط الاحجار أو كرات الرصاص المختلفة الكتلة بهدف أثبات خطأ نظرية أرسطو قد تمت بالفعل عام 1586 أي قبل الوقت المزعوم لتجربة جاليليو بثلاث سنوات حيث أجراها عالم الفيزياء الهولندي سيمون ستيفن مستخدما برج إحدى الكنائس ومن ثم قام بنشر تفصيل نتائج تجاربه في كتاب علمي سماه علم السكون الستاتيكا . إذا علمنا أن نشر كتاب سيمون ستيفن كان في عام 1586 أي قبل ولادة فيفياني تلميذ جاليليو بحوالي 36 سنة نعلم حينها مدى وجاهة الشكوك في صحة ربط جاليليو بتجربة برج بيزا المائل. المحرج حقا أن مشاكل جاليليو مع الكرات الساقطة والمتدحرجة لم تقف عند هذا الحد فمن الثابت تاريخيا أن جاليليو في كتابة المسمى كتاب الحركة نشر نتائج أبحاثه حول قانون الحركة للأجسام الساقطة  ذلك القانون المستخلص من تجربة (دحرجة) وليس إسقاط كرات من الرصاص فوق سطح مائل وقياس سرعة تحركها. وبعد عدة سنوات من نشر هذه الافكار العلمية حاول بعض العلماء تكرار نفس هذه التجربة ولكنهم لم يتوصلوا لنفس النتائج بالضبط مما جعل بعض المؤرخين يتهمون جاليليو بأنه قام بشكل متعمد بتعديل وتلفيق fabricate النتائج لتصبح متوافقة مع القانون الذي توصل له.
   
وما آفة الاخبار إلا رواتها
في العلم كما في السياسة والادب نجد أن بعض الاخبار المختلقة والمكذوبة مصدرها اشخاص آخرين غير من نسبة لهم ولهذا قد يكون عذر أرخميدس وجاليليو ونيوتن حول تلك القصص الخرافية المرتبطة بهم أنها لم تصدر عنهم وأن عذرهم هو عين حال الشاعر العباسي الشريف الرضي عندما أعتذر قائلاً:
وهم نقلوا عنّي الذي لم أفُه بهِ        وما آفة الاخبار إلا رواتها

ألبرت أينشتاين شخصية علمية عبقرية بكل المقاييس واستناداً إلى ما قررناه في أول المقال من (نظرية البطولة) وما يتبعها من التقديس وعشق الغرائبية لذا لا أن يرتبط بهذه الشخصية المعاصرة العديد  من الاساطير العلمية. فمن القصص (المفبركة) المتداولة عن اينشتاين أنه عندما نشر نظريته النسبية المشهورة كان عدد قليل من العلماء يفهما ويدرك أبعادها ويقال من باب الطرفة أنه حينما سأل صحفي عالم الفلك البريطاني السير آرثر إدنغتون إن كان صحيحا أنه أحد الاشخاص الثلاثة في العالم الذين يستطيعون فهم النظرية النسبية وعندها تظاهر إدنغتون بالتفكير العميق ثم أجاب (أنا أحاول أن أفكر من هو الشخص الثالث غيري أنا وأينشتاين !!). الغريب في الأمر أن هذه القصة الطريفة لها سند من الحقيقة لكنها شوهت بشكل كبير ففي عام 1919 أثبت عالم الفلك البريطاني السير أرثر إدينغتون صحة تنبأ النظرية النسبية لاينشتاين فيما يتعلق بانحناء الضوء عند مروره بقرب الشمس. وبسبب الشهرة العالمية الطاغية التي نالها اينشتاين بعد هذا التأكيد العلمي قررت جريدة النيويورك تايم أن تجري مقابلة مع أينشتاين ولكنها ولأمر غريبا جدا وغير مفهوم أرسلت الصحيفة مراسلها لرياضة الجولف !! هنري كراوتش لإجراء المقابلة مع أعظم العقول البشرية في العالم. وبحكم أن الصحفي المتخصص في الرياضة لم يفهم شيء علي الاطلاق من كلام اينشتاين العلمي العميق لذا حاول أن يضيف شيء من التشويق حول هذه النظرية ومكتشفها فزعم كراوتش بكل بساطة أن اينشتاين عندما ألف كتاباً خاصاً عن النظرية النسبية بالكاد وجد دار نشر توافق علي طباعة هذا الكتاب لأنه لا يوجد علي مستوى العالم إلا حوالي 12 شخصاً يمكن أن يفهموا هذه النظرية العويصة.
ومن الاساطير العلمية الملفقة عن العلماء تلك القصة المشهورة في مجال تاريخ المخترعات العلمية من أن أول جملة تم النطق والتحدث بها عبر جهاز الهاتف قيام المخترع الامريكي ألكسندر جراهام بيل بنداء مساعده السيد واطسون عندما خاطبه عبر الهاتف بقوله (سيد واطسون، احضر حالا، أريد أن اراك). إن نجاح أول تجربة في التاريخ بنقل الصوت البشري عبر جهاز الهاتف حدث مثير جدا ويستحق جو من الحماس أكثر من تلك العبارة الباردة. ولنفهم هذا البرود المحير تقول الاسطورة العلمية أن سبب اطلاق هذه الجملة الغريبة أن السيد جراهام بيل اثناء عمله في مختبره قام عن طريق الخطأ بسكب كمية من حمض البطارية على طاولة المختبر مما جعله يسارع باستدعاء معاونه السيد واطسون لمعالجة الموضوع. على كل حال لقد تبين من مرجعة سجلات التجارب العلمية لمختبر السيد جراهام بيل في يوم العاشر من شهر مارس لسنة 1876 (وهو اليوم الذي حصل تم فيه اكتمال اختراع الهاتف) أنه لا يوجد إي اشارة لحصول حادثة انسكاب الحمض المزعومة.
ونختم موضوع اختلاق وتلفيق الاخبار والقصص عن عباقرة العلماء أنه حتى مع الشخصيات العلمية التي اشتهرت بالمثابرة والجد والاستغراق الكامل في العمل مثل المخترع الامريكي توماس أديسون إلا أننا نجد أنه لا يشفي غليل البعض أن يكون اختراعه العلمي الابرز (المصباح الكهربائي) إلا نتيجة ظروف دراماتيكية شيقة وغريبة. من الثابت تاريخيا وعلميا أن أديسون وظف العشرات من العلماء والفنيين لعدة سنوات لإجراء الاف التجارب على المئات من المواد المختلفة التي يمكن استخدامها كفتيل ملائم للمصباح الكهربائي. وبدلا من نسبة الفضل للمثابرة والاجتهاد تقول القصة المفبركة أن الحظ والالهام كان حليف أديسون عندما لاحظ طرف خيط قطني خارج من سترته الصوفية ومن هنا بدأت الاسطورة أن فكرة استخدامه للخيط القطني المُكربن كأول مصباح كهربائي ناجح بدأت من هذه الحادثة المزعومة.

أساطير عربية في دنيا العلوم
بالإضافة لما سبق ذكره توجد قصص أخرى من نسج الخيال عن كم غفير من مشاهير العلماء ومن السهل نسبيا اكتشاف تلك القصص المختلقة لأن المؤرخين والعلماء الغربيين لا ينساقون كثيرا خلف العاطفة ولديهم حس الجراءة العالية في نقد الاخبار والتاريخ. للأسف الوضع يختلف تماما في واقعنا العربي والاسلامي حيث تسوقنا العاطفة والحنين لأمجاد الحضارة الاسلامية الغابرة أن (نتشبث) بأي قصة أو خبر ولو ملفق عن عظمة العلماء العرب ولهذا قلما تجد من يشكك في صحة الاساطير العلمية في لباسها العربي الفضفاض. على سبيل المثال يحق لنا مثلا أن نفخر أن الطبيب المسلم الكبير أبن سينا قد يكون من أوائل من شخّص أعراض مرض (الحب) وأحداث قصته المشهورة مع الامير العاشق في مدينة همذان تدل على ذلك. وتقول القصة أن ابن سينا شخّص حالة المريض وعرف المرأة التي يحبها عن طريق جس نبض المعصم الايسر للمريض. ولكن مهلاً فهل هذه القصة حقيقية أم هي من نسج الخيال ويحق لنا أن نشكك فيها لأن كتب تاريخ علم الطب تذكر قصة مطابقة تماما حصلت قبل زمن أبن سينا بأكثر من 1300 سنة مع الطبيب اليوناني الاشهر أبو قراط. وفي هذه القصة الغارقة في القدم بدلا من أمير همذان العاشق نجد أن ابن ملك مقدونيا بيرديكاس يصاب (بمرض الحب) الذي لم يستطع أي طبيب أن يشفيه منه حتى تم استدعاء الطبيب الاشهر أبو قراط الذي ليس فقط شخص المرض بل أنه عرف من هي المرأة التي يحبها هذا الشاب المغرم وأنها إحدى محظيات وجواري أبيه الملك.
 لاشك أن العالم العربي الحسن أبن الهيثم أحد ابرز علماء الفيزياء وخصوصا في علم الضوء والبصريات ومع ذلك لن تجرنا العاطفة للقبول ببساطة (الاشاعة العلمية) التي تنسب لأبن الهيثم اختراع النماذج البدائية من الكاميرا وكيف أنه توصل لهذا الاختراع بعد أن كان مختبأ (وقيل محبوساً) في غرفة مظلمة بها ثقب صغير كان يراقب منه جنود طاغية مصر الحاكم بأمر الله. وبهذا تزعم الخرافة العربية أنه بذلك الثقب الصغير في جدار الغرفة المظلمة أو قماش الخيمة المزعومة تم اختراع جهاز الكاميرا (القمرة المظلمة) camera obscura على يد ابن الهيثم. بينما المصادر التاريخية العلمية الأوروبية تثبت أن أبن الهيثم بالفعل قد استخدم الكاميرا لكنها كذلك تشير إلى أنه في النسخة اللاتينية المترجمة من كتاب البصريات الذي ألفه أبن الهيثم عام 1027 ميلادي  يوجد فيها على لسان أبن الهيثم بعد ذكر الكاميرا اعتراف صريح  مصاغ باللاتيني الفصيح: Et nos non inventimus ita (نحن لم نخترعها). ومن شبه الثابت تاريخا أن الاشكال والنماذج الأولى للكاميرا أو القمرة المظلمة معروفة منذ قدماء الصينيين كما توجد لها اشارات في تاريخ اليونان. وختاما لو حصل في مستقبل الايام نشوء حركة نقدية جادة في تدقيق التراث العلمي العربي فمن المحتمل أننا سوف نخسر العديد من الأساطير العلمية العربية من مثل قصة طيران عباس بن فرناس أو اختراع جابر بن حيان لنوع من الورق لا تحرقه النار أو قصة تحديد الرازي للموقع المناسب لمستشفى بغداد باستخدام قطع اللحم التي لم تتعفن بسرعة. الحقيقة العارية غالبا بشعة ومنفرة والعيش في الوهم الخادع أجمل وأريح والبعض منا بعضنا قد حسم الامر على مبدأ القاعدة المشهورة (كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر !!).


الثلاثاء، 18 أبريل 2017

( السياحة العلمية .. وأغرب مؤتمر في التاريخ )

صورة تذكارية لأعجب مؤتمر علمي في التاريخ شارك فيه 17 من علماء نوبل
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
لحظات وامكان مهد الاكتشافات والاحداث العلمية المفصلية تستحق أن تخلد في التاريخ البشري الجمعي بأسلوب خاص ولهذا كثر في العقود الأخيرة قيام العديد من الجمعيات العلمية مثل جمعية تقدم العلوم الامريكية AAAS والجمعية الملكية البريطانية بالاحتفال (بالمعالم العلمية Landmarks of Science ) التي شهدت اكتشافات محورية كبرى ذات تأثير كبير في مسيرة البشرية ونصب لوحة تذكارية في هذه المواقع العلمية. ومواقع هذه (الاثار العلمية) تتنوع بشكل كبير فقد تكون مختبر علمي أو مصنع إنتاج أو منزل عالم أو حتى مطعم خطرت للعالم فيه فكرة اكتشاف علمي بارز بل إن حانة النسر the Eagle pub في مدينة كامبريدج من المعالم السياحية المشهورة لا لسبب إلا لأن العالمين جيمس واتسن وفرانسيس كريك احتفلا مع زملائهم بتوصلهم لاكتشافهم العلمي الهائل والمتعلق بمعرفة التركيب الكيميائي للحمض الوراثي DNA وأنهما بذلك اكتشفا (سر الحياه). الجدير بالذكر أن نصب وتثبيت ما يسمى اللوحات المعدنية التذكارية memorial plaque هو تقليد شائع منذ أكثر من قرن ونصف للاحتفال بالأحداث السياسية والادبية والتاريخية المميزة ولهذا تصبح مع الزمن هذه النصب والاماكن من (المعالم) السياحية الجذابة. وكما أصبح شائع في حياتنا مصطلحات وبرامج السياحة العلاجية والسياحة الدينية والسياحة الادبية فقد أخذ ينتقل تقليد وظاهرة زيارة المعالم العلمية من دنيا التاريخ والادب إلي دنيا العلوم. ولهذا نجد حاليا حرص الالاف من السياح على التصوير مع شجرة تفاح نيوتن في جامعة كامبريدج (مع أن الشجرة الاصلية - لو صحت قصة سقوط التفاحة - هي في مدينة وولسثروب الصغيرة التي ولد فيها نيوتن) بينما المئات من السياح الاجانب ربما يرغبون في زيارة (فيلة جاليليو Villa il Gioiello) وهو منزل جميل في ضواحي مدينة فلورنسا الايطالية حيث تم تنفيذ الاقامة الجبرية (وليس الحبس أو التعذيب) على جاليليو بعد حكم عليه بالاشتباه بالهرطقة ومخالفة الدين الكاثوليكي. في حين أن بعض السياحة العلمية لا تكون لزيارة مختبر أو منزل عالم مشهور ولكن لزيارة قبره وقد لاحظت عند زيارة مبنى البانثيون ذلك المبنى الجميل في قلب العاصمة الفرنسية المسمى بمقبرة العظماء أن السياح والزوار يحرصون فقط على وضع أكاليل الزهور على قبر السيدة ماري كوري اسطورة العلم المشهورة والحاصلة على جائزة نوبل مرتين.
كل من اعتاد السفر بهدف السياحة يعلم شعور اكتشافه (للفرص السياحية الضائعة) فبعد فترة زمنية من مغادرتك لوجهتك السياحية تعلم لاحقا أن بها مكان أو معلم مميز جدير بالزيارة والمشاهدة. وعلى نفس النسق إذا كنت مهتم بزيارة المعالم والاماكن العلمية البارزة تكتشف مع الوقت أنه قد فاتك زيارة معلم أو مكان ذا أهمية كبيرة مرتبط بتطور العلوم. اثناء دراستي للغة الانجليزية في منتصف التسعينات الميلادية أقمت في مدينة مانشيستر البريطانية لمدة ستة أشهر وفي ذلك الحين لم اترك متحف و معلم تاريخي وسياحي لم ازره في مدينة مانشيستر أو في المدن القريبة منها . وبعد ذلك بسنين علمت أن تجربة العلم الانجليزي المشهور إرنيست رذرفورد الملقب بأبو الفيزياء النووية والمتعلقة باكتشاف التركيب الداخلي للذرة (نموذج رذرفورد للذرة) تمت في مختبرات قسم الفيزياء بجامعة مانشيستر وعلى مقربة من معهد اللغة الذي كنت أدرس فيه. ولأن هذه التجربة تعتبر إحدى أهم التجارب على الاطلاق في تاريخ العلم الحديث كما إنها التجربة العلمية الوحيدة حتى الان التي يتوصل لها عالم مشهورة بعد ان يحقق جائزة نوبل وبالتالي تطغى أهميتها وشهرتها على تجربة جائزة نوبل (حصل رذرفورد على جائزة نوبل عام 1908 في حين تمت تلك التجربة العبقرية عام 1911)، لذلك أحسست أنني أضعت فرصة معرفية كبيرة بعدم زيارة (مبنى رذرفورد) والذي اعتبر منذ عام 1990 أحد أهم المعالم التاريخية والعلمية المميزة في بريطانيا.
 
فرص سياحية ضائعة
لم تكن تلك فرصتي السياحية التاريخية الضائعة الوحيدة فعبر السنين قمت بحصر وإعداد قائمة خاصة بي تشمل على (الفرص السياحية الضائعة ذات الطابع العلمي) لمعالم أو أماكن جديرة بالزيارة لم أعلم بها إلا بعد فترة من مغادرتي للمدينة أو البلد الذي قمت بزيارته. لقد زرت متحف التاريخ الطبيعي بلندن أكثر من مرة ولم أنتبه أنه يحتوي على عينات الطيور التي جمعها العالم المثير للجدل تشارلز داروين من جزر غالاباغوس وبنى عليها نظرية التطور وأعتقد أن مشاهدة هذه العينات بنفسي رأي العين أمر يثير الفضول. الفرص السياحية الضائعة في حياتي لم تكن في مجال العلوم فقط فبعد فشلي في الدخول لمتحف أكاديمية مدينة فلورنسا الايطالية لمشاهدة تمثال ديفيد لمايكل أنجلو بالرغم من وقوفي في صف طويل في الشارع لمدة ساعة ونصف إلا أن ما زاد في غبني أنني علمت لاحقا أنه بدلا من ذلك الجهد الضائع كان بإمكاني أن أشاهد أصبع جاليليو (الاصبع الاوسط لليد اليمنى) المعروض على بعد أمتار قليلة في متحف جاليليو في وسط فلورنسا. ومما يزيد في الشجن إنني لا أعتبر نفسي حظيت بفرصة سياحية مرتبطة بهذا العالم الاسطورة فبالرغم أنني ارتقيت وصعدت حتى قمة برج بيزا المائل وبذلك قد أكون تواجدت في (مسرح الحدث) لإحدى أشهر التجارب العلمية إلا أن العديد من المؤرخين يشككون في صحة وقع تجربة ألقاء الاحجار المختلفة الكتلة من أعلى برج بيزا بواسطة جاليليو. خطورة الانزلاق من قمة برج بيزا المائل أمر محسوس مما يجعل محاولة ألقاء الاحجار الثقيلة (تجربة) غير آمنه وبالقطع لم يرمي جاليليو الاحجار من قمة البرج لأن الطابق الأخير أصغر من الذي تحته وعلية ربما تمت المحاولة من الطابق السابع. وفي جميع الحالات سوف تكون تجربة اسقاط الاحجار تجربة غير مريحة فقد شل فكري في تلك الزيارة قلقي البالغ على سلامة أبني عبدالرحمن الذي رافقني في هذه التواجد التاريخي والعلمي الشيق على قمة البرج المائل.   
من الفرص السياحية العلمية المميزة التي لم يحالفني التوفيق فيها أن  زيارتي لمدينة فرانكفورت الالمانية كانت بالقطع ناقصة لأنني لم أعرف إلا لاحقا بوجود متحف الاجهزة العلمية الاسلامية التابع لمعهد تاريخ العلوم العربية الذي اقامه العالم الكبير فؤاد سيزكين. ومن المؤسف والمخجل معاً أنه لم يكن يوجد لفترة طويلة بالعالم الاسلامي أي متحف متخصص بتاريخ العلوم الاسلامية ولكن بحمد الله تغير الحال أخيرا حيث ساهم فؤاد سزكين في انشاء متحف لتاريخ العلوم الاسلامية في اسطنبول افتتح عام 2008 كما ساهم كذلك في انشاء متحف آخر مصغر في رحاب جامعة الامام الاسلامية. أما تجربتي الشخصية فإن أجمل وأفضل عرض شيق وشامل عن عراقة الحضارة الاسلامية في مجال العلوم والطب وجدته في متحف واحة العلوم بمدينة غرناطة ولكن للأسف لم يقم الاسبان بتسميته بجناح تاريخ العلوم الاسلامية وإنما أطلقوا عليه أسم (جناح العلوم الاندلسية).
بسبب افتتاني بغموض ورمزية (الخيمياء) سميت مدونتي الخاصة (الخيمائي) ولسنين طويلة كنت أعجب بلوحة الخيميائي Alchemist لرسام الثورة الصناعية الانجليزي جوزيف رايت والتي خلد فيها قصة اكتشاف عنصر الفسفور المضيء وكالعادة لم أعلم إلا قبل فترة قصيرة جدا أن هذه اللوحة المذهلة موجودة في صالة الفنون بمدينة ديربي البريطانية وعلى بعد نصف ساعة فقط من مدينة لفبرا التي درست بها لمدة خمس سنوات وبهذا ضيعت مرة أخرى مشاهدة الاعمال الفنية لهذا الرسام والذي تعتبر لوحاته من (معالم) الثورة الصناعية في بريطانيا حيث خصص العديد من رسوماته لتخليد العلماء والتجارب العلمية. وعلى ذكر جامعة لفبرا التي درست بها الماجستير والدكتوراه كنت أشاهد عند مبنى أتحاد الطلبة بالجامعة جهاز ميكانيكي كبير كنت اعتقد أنه فقط (مجسم أو نموذج مقلد replica) لأحد المحركات البخارية التي صنعها المخترع البريطاني المشهور جيمس وات أبو الثورة الصناعية. وقبل عدة سنوات كنت اقرأ في كتاب عن تاريخ التقنية وذكر فيه بشكل عرضي أن (نسخة أصلية) من أحد المحركات البخارية المستخدمة لضخ الماء موجود في جامعة لفبرا البريطانية. وبعد مزيد من البحث تبين لي أن هذا المحرك البخاري وإن لم يصنعه جيمس وات بنفسه حيث أنه صنع بعد وفاته بحوالي ثلاثين سنة إلا أنه وثيق الصلة بالمخترع الاسطوري جيمس وات حيث أنه صنع بواسطة الشركة التي أنشأها جيمس وات لإنتاج المحركات البخارية. وحتى الان تعرض صفحة جيمس وات الالكترونية على موقع موسوعة الويكيبيديا صورة هذا المحرك البخاري الملتقطة من قلب جامعتي العزيزة وبإشارة صريحة لأسم جامعتي وارتباطها بهذا المخترع البارز. وطبعا لو استقبلت من أمري ما استدبرت لربما حرصت ان ألتقط لنفسي صورة سلفي مع هذا المحرك البخاري الذي يعتبر أحد اقدم القطع الاصلية في بريطانيا مهد الثورة الصناعية الكبرى.
بلا شك يعتبر المحرك البخاري هو أكثر اختراع يرمز لعصر الثورة الصناعية (العصر البخاري) أما أكثر الشخصيات العلمية المرتبطة بالاختراعات التقنية وبراءات الاختراع فهو بلا منازع المخترع الامريكي البارز توماس اديسون. وللأسف الشديد ضاعت مني فرصة سياحية علمية أخرى لمشاهدة جهاز أصلي تم اختراعه وتصنيع بواسطة اديسون ويعرض حاليا في متحف العلوم في لندن. المشكلة تكمن في أن أول زيارة لي لمدينة لندن كانت بصحبة زوجتي وبعد أن قضينا الايام الاولى في زيارة المتحف البريطاني (المتعلق بالآثار والتاريخ) ومتحف الشمع ومتحف التاريخي الطبيعي (المتعلق بعلم الاحياء والديناصورات) جاء أخيراً موعد زيارة متحف العلوم الضخم في لندن والمكون من سبعة مستويات ويحتوي حوالي 300 الف قطعة علمية. بعد ساعات طويلة قضيناها في التجوال والتنقل بين هذه المخترعات المتنوعة والعتيقة ليس من العدل بعد ذلك أن ألوم زوجتي عندما شعرت أخيرا بالممل وأصبحت تحثني على المغادرة ولهذا فاتني أن أنتبه لوجود جهاز الحاكي (الفونغراف الذي يعتبره البعض أبو جهاز الراديو). وحيث كان هذا الجهاز الاثري من اختراع وتصنيع ذائع الصيت اديسون فالحق أقول أنني ضيعت فرصة ثقافية مميزة.
 أما أسطورة العلم الحديث ألبرت أينشتاين فقد فاتني للأسف الالتقاء ببعض المعالم العلمية المرتبطة في ثلاث مواقع على الاقل حيث كنت أعلم مسبقا أن أينشتاين قد زار جامعة أكسفورد البريطانية عام 1931 وألقى فيها محاضرة شهيرة عن النظرية النسبية وأن الجامعة لا تزال تحتفظ باللوح الخشبي (السبورة) التي شرح عليها النظرية. ولكن عند زيارتي لجامعة أكسفورد لم أكن أعلم تماما موقع حفظ هذه السبورة وبالرغم من أنني سألت عن مكانها في تلك الزيارة أحد الزملاء الافاضل الذي كان مبتعثاً للدراسة في هذه الجامعة العريقة إلا أننا كنا نجهل تماما مكان حفظها ولم أعرف إلا قبل سنتين فقط أنها موجودة في متحف تاريخ العلوم بجامعة أكسفورد والذي هو مفتوح لأي زائر عادي من خارج الجامعة. ربما تكون افضل مدينة لمشاهدة المعالم الاثرية المرتبطة بأينشتاين هي مدينة بيرن العاصمة الادارية لسويسرا حيث عاش فيها أينشتاين لعدة سنوات أهمها على الاطلاق سنة 1905 وهي (السنة العجيبة) التي توصل خلالها الشاب أينشتاين لعدد من افكاره العلمية الخالدة. وعلى كل حال توجد فرصة سياحية للتعرف عن قرب على أينشتاين في هذه المدينة سواءً من خلال زيارة مكتب تسجيل براءات الاختراع الذي كان يعمل فيه أو زيارة  شقته الصغيرة التي تحولت إلى متحف مشهور أو على الاقل من خلال متحف تاريخ مدينة بيرن حيث يوجد جناح خاص ومتكامل عن حياة أينشتاين وانجازاته العلمية التي توصل لها في هذه المدينة. لكن واقع الحال أن نداء الطبيعة كان أكثر سحراً بالنسبة لي وللرفقة الكريمة من الزملاء الذين كنت معهم  فتواجدي في مدينة بيرن كان قصير جدا وتمثل فقط في هيئة مرور عابر حيث كنت منتقلا من مدينة جنيف إلى مدينة إنترلاكن المنتجع السياحي المشهور في أحضان جبال الالب السويسرية.
 
اجتماع فريد على مستوى القمة العلمية
حتى الأن كانت أفضل وأهم فرصة (للسياحية العلمية) بالنسبة لي لزيارة أحد أهم المعالم العلمية المتعلقة بأينشتاين وكوكبة فريدة من مشاهير العلماء ليست في زيارة مختبر علمي أو منزل أحد مشاهير العلماء والمخترعين ولكن بكل بساطة بزيارة أحد فنادق مدينة بروكسيل عاصمة بلجيكا. كما هو معلوم كل سائح يحتاج لإقامة في فندق ولا أفضل (للسائح العلمي) من الاقامة في فندق المتروبول في وسط مدينة بروكسيل حيث عقد في عام 1927 (أعجب مؤتمر في التاريخ) وهو مؤتمر سولفي الخامس الذي شارك فيه دفعة واحدة 17 من العلماء الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء !!. هذا المؤتمر الفريد في تاريخ العلم من شبه المستحيل أن يتكرر مرة ثانية ليس فقط لصعوبة تجميع مثل هذا العدد الكبير من الفائزين بجائزة نوبل ولكن ايضا لأن المشاركين فيه كانوا من اشهر وأبرز (القمم العلمية) في العصر الحديث من مثل اينشتاين ومدام كوري ونيلز بور وماكس بلانك وشرودنجر وهايزنبرج ودي برولي ووليم براغ وبول ديرك ولانجمير وتشارلز ويلسون وأرثر كمبتون وماكس بورن وهذه الكوكبة من أسماء العلماء يعرفها كل طلاب الجامعات الذين درسوا مقررات الفيزياء والكيمياء العامة. إذا علمنا بالإضافة لذلك أن هذا المؤتمر الاستثنائي في تاريخ العلوم شارك فيه 29 من أبرز وأذكى العقول العلمية حتى وإن كان بعضهم لم يحصل على جائزة نوبل ولهذا بعض كتب تاريخ العلوم تشير إلى أنه لم يجتمع منذ فجر التاريخ وحتى الان مثل هذا (الحشد العلمي الفائق) الذكاء في مكان وزمان واحد.
ولا عجب أن نعلم أن سبب حشد هذا العدد الكبير من عباقرة العلماء كان لمناقشة ابعاد وتعقيدات و(غرابة) نظرية ميكانيكا الكم التي ما زالت تحير العلماء حتى الان لدرجة أن أينشتاين صاحب (النظرية النسبية) المعقدة لم يكن مقتنعا تماما بنظرية (ميكانيكا) الكم بالرغم من أنه كان هو بالذات من الاشخاص الذين رسخوا مفهوم الكم quantum وذلك في سنته العجيبة المشهورة 1905 التي سبق الاشارة لها.
وبشكل مختصر تهدف نظرية ميكانيكا الكم لمحاولة تفسير الظواهر الفيزيائية على مستوى الذرات والجسيمات الاولية المكونة لها وقد نجحت في ذلك بشكل مذهل ولكن مشكلتها (الفلسفية) الكبرى أنها ليست فقط معقدة وغريبة بشكل كامل لدرجة أن عالم الفيزياء الامريكي المعروف ريتشارد فاينمان قال بعد ظهورها بنصف قرن (أعتقد أنه بإمكاني القول بثقة .. لا أحد يفهم ميكانيكا الكم) علما بأنه نفسه قد حصل على جائزة نوبل لتطوير بعض جوانب هذه النظرة. مشكلة نظرية الكم ايضا أنها عكس النظريات الفيزيائية الكلاسيكية هي قائمة على (الاحتمالات) ولا شيء في عام الكم الذري (مؤكد) وثابت ومن هنا ظهرة نظرية مبدأ عدم اليقين المشهورة لهايزنبرج. لذا ينقل عن أينشتاين قوله (ميكانيكا الكم جديرة بقدر كبير من التقدير .. لكن يوجد لدى حدس داخلي بأنها ليست الحقيقة). الجدير بالذكر أن الاعتراض المشهور جدا لأينشتاين ضد نظرية ميكانيكا الكم عندما قال (إن الله لا يلعب بالنرد) دلالة على اعتراضه لجانب الاحتمالية والضبابية في سلوك الالكترون والجسيمات الاولية الذرية، هذه المقولة تمت في صالات فتدق المتروبول في بروكسيل واثناء نقاشات هذا المؤتمر العلمي الفريد ولهذا رد عالم الفيزياء الدنماركي البارز نيلز بور (صاحب نموذج بور Bohr المشهور لتركيب الذرة) على أينشتاين عندما قال له: توقف عن إملاء ما يجب على الله فعله.
ولعل الأمر ايها القارئ العزيز بعد كل هذه الدراما الفلسفية والاثارة الجدلية والحوار العلمي يشف ويشي بالأهمية التاريخية القصوى لهذا الفندق البلجيكي ومنطقية وضعه على قائمة المعالم السياحية العلمية الواجب زيارتها خصوصا  إن سلسلة مؤتمرات سولفي Solvay Conferences ما زالت تعقد حتى اليوم في هذا الفندق ويحضرها كالعادة مشاهير العلماء العديد منهم من حملة جائزة نوبل. بقي أن أقول أنني في واقع الحال كنت أعرف مسبقا الكثير عن هذا المؤتمر العلمي الفريد ولكنني كنت أعتقد أنه كان يعقد في إحدى الجامعات الاوروبية ولم أعلم إلا قبل أشهر قليلة فقط أن مكان انعقاده هذا المؤتمر الاسطوري في ذلك الفندق (المحظوظ). لذا زيارتي الاخيرة قبل سنتين لمدينة بروكسل أعتبرها الآن ناقصة بشكل صارخ لأنني لم أزر فيها موقع اجتماع القمة لعباقرة العلوم  حتى وإن حظيت بدلا عن ذلك بزيارة موقع معركة واترلو التي هزم فيها نابليون. وختاماً من المحتمل أن الإقامة في فندق المتروبول الراقي السابق الذكر مكلف جدا لكن إن حصل وأن فعلت ذلك يوما ما قارئي العزيز فأعلم أنك بذلك تحقق الحكمة المشهورة (السفر هو الشيء الوحيد الذي تُنفق عليه لكنك تزداد غنى).
 
 
 


الأربعاء، 5 أبريل 2017

( فتيات في لحظة الانكسار .. صور للتاريخ )

فتاة الموصل وكأنها المقصودة بتوصيف المتنبي (دمع الحزن في دمع الدلالِ)
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في أوقات الحرب والقتال وفي أجواء الكوارث الطبيعية المهلكة كالزلازل والفيضانات والقحط تكون المشاعر الإنسانية في أقصى درجات الشفافية وقوة التأثير في الآخرين المتعاطفين مع المعذبين في الارض. وبحكم أن الصورة أقوي من ألف كلمة كما يقال أصبحت مهنة (المصور الصحفي) واحدة من أكثر المهن الإعلامية تأثيرا في الجماهير وذلك عند التقاط صورة لروح إنسانية منكوبة في ساحات القتال أو مطحونة تحت رحى الكوارث. وكنتيجة وتقدير لأثر الصور الفوتوغرافية التي تعكس المشاعر الإنسانية الصارخة يتم حاليا طرح العديد من الجوائز الدولية في مجال التصوير أشهرها بلا شك جائزة بوليتزر  Pulitzer Prize للتصوير والتي تمنح للصور الفوتوغرافية الأكثر تميزا في مجال الاخبار الاعلامية  أو صور والتحقيقات الصحفية وهذه الجائزة تمنح من خلال جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك. ومن الجوائز العالمية المرموقة في هذا المجال كذلك جائزة الصحافة العالمية للتصوير والتي تمنح من خلال منظمة مختصة في هولندا.
في واقع الحال كل شعوب الارض تألم لوقع المأساة وتتوجع من شعور المعاناة التي تصيب الارواح المنكوبة وخصوصا إذا كانت هذه الارواح البشرية المعذبة هي روح الطفولة البريئة. وهذا يفسر لنا بكاء ونشيج الملايين عبر العالم لصور أطفال سوريا (خصوصا الطفل الغريق إيلان) والطفل الفلسطيني رمز الشهادة محمد الدرة أما الاعلام الغربي ونظرا لأن المأساة تقع أحيانا على أراضيه فقد صدمت الشعوب الغربية في العمق عندما  نشرت صورة الطفل الامريكي الصريع من تفجير مدينة أوكلاهوما عام 1995 وهو بين يدي رجل الشرطة بعد أن أنتشله من بين الركام. وقبل ذلك بعقود اثارت صورة الأبن الاصغر للرئيس الامريكي جون كندي أحزان الامريكيين عام 1963 عندما وقف وهو في سن الثالثة أمام تابوت والده المقتول وقام بتوديعه بتحية عسكرية طفولية اصبحت من أشهر صور فترة الستينات في القرن العشرين.
 
وفي هذا السياق نفهم ما تم خلال هذا الأسبوع وبشكل واسع عبر وسائل الإعلام العربية ووسائل التواصل الاجتماعي من تداول صورة الطفلة العراقية النازحة هي وأهلها من مدينة الموصل فرارا من أجواء القتال الضاري فيها.  لقد تم التقاط هذه الصورة لها بواسطة مراسل وكالة رويترز للأنباء واشتهرت عالميا بسبب المشاعر الإنسانية المتزاحمة والمتضادة على محيا الطفلة الجميلة. فبعد أن فجعت وأخرجت هي وأسرتها تملكتها مشاعر الخوف والحزن والقهر ويبدو أنه عندما طلب منها المراسل الصحفي أن يأخذ لها صورة فوتوغرافية تفاجأت وغشى ثغرها البريء ظلال من ابتسامة مكبوتة. ولهذا أصبحت هذه الطفلة من ذوات الخدور التي فاجأها المصاب وأبرزها وأخرجها من بيتها وكأنها تجسيد للأبيات المتنبي المشهورة:
وأبْرَزَتِ الخُدورُ مُخَبّآتٍ        يَضَعْنَ النِّقْسَ أمكِنَةَ الغَوالي
أتَتْهُنّ المُصيبَةُ غافِلاتٍ          فدَمْعُ الحُزْنِ في دَمعِ الدّلالِ
 
مأساة مريعة لطفلة عربية أخرى رصدتها عدسات الاعلام وتجاوب معها أحرار العالم حصلت للطفلة الفلسطينية هدى غالية ذات العشر سنوات حيث ظهرت عام 2006 وهي تبكي بفجيعة محزنة بالقرب من جثامين سبعة من أفراد عائلتها على شاطئ بحر غزة في بيت لاهيا. هذه المجزرة الرهيبة حصلت بعد قيام البوارج الاسرائيلية وبدون مبرر واضح بقصف المدنيين المصطافين على شاطئ البحر مما اثار موجة غضب عالمية تجاه الوحشية الصهيونية. قد لا تكون فتاة غزة وعائلتها على وعي كامل بالخطر المحدق بهم لكن الوضع كان مختلف تماما أثناء الحرب الفيتنامية حيث حصل عام 1972م هجوم بقنابل النابالم المحرقة على قرية ريفية صغيرة. وهنا حصلت مأساة (فتاة النابالم) الفيتنامية الشهيرة للطفلة كيم فوك ذات التسعة أعوام والتي تعرضت وافراد اسرتها للهيب قنابل النابالم المريعة والتي ألقتها الطائرات الفيتنامية الجنوبية الحليفة للجيش الامريكي. وعندما فرّ افراد القرية من الحرائق المشتعلة تم التقاط صورة غاية في الشهرة لهذه الفتاة المنكوبة التي كانت  تجري في منتصف الطريق وهي تصرخ من ألم الحريق كما أنها قامت وبعفوية طفولية تامه بخلع كامل ملابسها وتحريك ذراعيها في الهواء كمحاولة لتخفيف الالم الفظيع. والجدير بالذكر أن صورة (فتاة النابالم) الفيتنامية قد حصلت على جائزة بوليتزر  للتصوير عام 1973 كما إن هذه الفتاة تم انقاذها وعلاجها في ولاية ميامي وهي حاليا تعيش في كندا.
كما هو واضح فإن الصور الحزينة للفتيات السابقات تم التقاطها وهن في عز المأساة وفي لحظة الانكسار النفسي المؤلمة ولكن بعض الصور ذات الشهرة العالمية الطاغية تم التقاطها في ظروف أقل درامية وإن كانت أجواء الحرب ما زالت تخيم على ظروف التقاط تلك الصور. ومن أطرف الصور التي يمكن ذكرها في هذا السياق (وإن كانت أجواء الحرب ليست مجالا للمرح) صورة تلك الطفلة السورية ذات البراءة الملائكية والتي التقطت لها في أحد مخيمات اللاجئين السوريين في جنوب تركيا. ففي أواخر عام 2014 قام أحد الصحفيين بالتقاط صورة فوتوغرافية لتلك الطفلة الجميلة ذات الاربعة سنوات والتي عندما شاهدت كاميرا التصوير بيده حسبتها نوع من الاسلحة ولهذا وبكل عفوية وبراءة قامت الطفلة برفع يديها الصغيرتين ومدهما فوق راسها وشدت على شفتيها ونظرت بخوف للعدسة وكأنها تستسلم للمصور الذي توهمت أنه يريد ان يقتلها. وكأننا بهذه الكوميديا السوداء نقوم بتجسيد حال الامة العربية المزري التي يتعرض فيها حتى الاطفال للتخويف والترويع. أما الفتاة الافغانية المذهلة شربات جولا والملقبة (بفتاة الموناليزا الافغانية) فربما تعتبر صورتها من اشهر صور التقارير الصحفية في جميع العصور. وقد التقطت لها تلك الصورة التي نشرتها مجلة الناشونال جيوغرافيك على غلاف مجلتها في عام 1984 عندما كانت تقيم في مخيم اللاجئين الافغان في باكستان وقد كان لها من العمر في ذلك الوقت 12 سنة. وبالرغم من الهدوء الظاهر على ملامح هذه الفتاة إلا أن عينيها الواسعتين والمحدقة بتركيز آسر لعدسة الكاميرا أوحت بالشيء الكثير عن معاناة النازحين والمشردين من الحرب في أفغانستان وقت الاعتداء الروسي الغاشم. والجدير بالذكر أن هذه الصورة اصبحت لاحقا (أيقونة عالمية) بالغة الشهرة لدرجة أن منظمة العفو الدولية كانت تستخدم هذه الصورة على نطاق واسع في كتيباتها وملصقاتها. ومن الملائم الاشارة ايضا أنه تم في عام 2002 تمكن المصور ستيف ماكوري الذي ألتقط تلك الصورة وفريق ناشونال جيوغرافيك من العثور مرة أخرى على (فتاة أفغانستان) وهي في سن الثلاثين بعد أن تزوجت وتم تصوير فلم وثائقي خاص عنها.
 
كوارث الطبيعة وضحايا الطفولة
الكوارث الطبيعية (زلازل، فيضانات، أعاصير، جفاف ..الخ) قد تتسبب في زوال وهلاك أمم ودول وحضارات قائمة فما بالك بقدرتها على تمزيق إيهاب الطفولة الرقيق. ومرة أخرى نجد الصور الفوتوغرافية والتغطية الاعلامية المتعلقة بتأثير الكوارث الطبيعية على الاطفال تدمي القلب وتبكي العين وتجرح الروح. ومن أكثر الصور الصحفية التي خلدتها ذاكرة الملايين من البشر تلك المتعلقة بصور الاطفال الافارقة في المجاعات وكوارث الجفاف التي تكررت على عدد من الدول الافريقية المختلفة عبر العقود الماضية. ولهذا لا عجب أن نعلم أن جائزة الصحافة العالمية للتصوير في عدة أعوام ذهبت لصور فوتوغرافية وثقت حال الطفولة المنكوبة أثناء الجفاف والمجاعة. فمثلا جائزة الصحافة العالمية للتصوير لعام 1975 كانت لطفل جائع اثناء القحط الذي أصاب النيجر في تلك السنة بينما جائزة الصحافة العالمية للتصوير لعام 1981 كانت صادمة للملايين من البشر لأنها كانت تظهر المفارقة الحادة بين يد طفل أوغندي ضامرة جدا وهي في راحة رجل أبيض سمين وذلك أثناء موجة الجفاف الكارثية التي أصابت القرن الافريقي في مطلع الثمانينات من القرن العشرين.
أما اكثر القصص مأساوية وفجيعة فيما يتعلق بصور ضحايا الجفاف والمجاعة من الاطفال فهو ما حصل عام 1993 مع طفلة صغيرة من جنوب السودان والتي اصابها الجوع الشديد والاعياء لدرجة أنها سقطت على الارض وهي في طرقها لمخيم الاغاثة حيث لم تعد تقوى على المشي أو الزحف. وصادف أن كان في نفس المكان المصور الصحفي كيفن كارتر وفيما كان يتحضر لالتقاط صورة لها حط بقرب الطفلة المنكوبة نسر ضخم وكأنه ينتظر أن تموت ليلتهمها وهنا قام المصور الصحفي بالتقاط الصورة البالغة الشهرة والمؤلمة جدا لمصير هذه الفتاة وبعد أن طرد المصور النسر عن الفتاة المنكوبة تركها لمصيرها المحتوم. وبعد اشتهار هذه الصورة على مستوى العالم حصل كيفن كارتر على جائزة البوليتزر للتصور عام 1994 وهنا بدأت المأساة الحقيقية في حياته فبعد ان أشتهر أصبح الجميع يسأله عن مصير الفتاة والبعض منهم ربما قام بتأنيبه لعدم حمله للفتاة وتوصيها لمخيم الاغاثة. ولذلك اصيب هذا المصور الصحفي بانهيار نفسي حاد قادة للانتحار بعد ثلاثة اشهر فقط من حصوله على تلك الجائزة الدولية.   
ومن الصور الاخبارية المؤلمة لمصائب ومآسي كوارث الاطفال والفتيات مع الجفاف إلى الطرف المقابل من (الصورة المأساوية) وأعني بذلك الصور المشتهرة دوليا والتي تم فيها توثيق مصير الفتيات المنكوبات والاتي تعرضن للغرق جراء الفيضانات وطوفان المياه. ربما أكثر الصور الاخبارية التي تثير الألم النفسي في هذا الشأن هي صورة تلك المرأة اليابانية التي كانت تبحث في الركام الطيني عن أبنتها المفقودة اثناء فيضان التسونامي الشهير الذي اصاب السواحل الشرقية لليابان عام 2011م. وبعد ان وجدت الام المفجوعة طفلتها الفقيدة صريعة في الطين حملتها علي يديها وأخذت بالنحيب والبكاء المرير. ونختم هذا الموضوع المؤلم والمحزن بالتذكير بالصورة الاخبارية التي تناقلتها وسائل الاعلام بشكل مكثف عام 2015 بعد الزلزال العنيف جدا الذي أصاب دولة نيبال وراح ضحيته أكثر من ثمانية الاف قتيل. وكما يحصل دائما بعد كل زلازل عنيف يتعرض عشرات الالاف للتشرد بعد التدمير الكامل لمنازلهم ويصاب البعض بحالة هلع حادة وحصل أن شاهد مصور صحفي طلفه صغيرة عمرها سنتين فقط وهي في حالة خوف ورعب نفسي محزن لدرجة أنها كانت تحتمي وتلجأ بأخيها الصغير الذي لم يكن يزيد عمره هو الآخر عن أربع سنوات فقط. وبالفعل كانت هذه الصورة محركة للقلوب الرحيمة بسبب حالة الخوف والتشرد التي أصابت هذه الطفلة المنكوبة وأخيها وبغض النظر عن دقة نسبة هذه الصورة سواء أنها ملتقطه بعد زلازل النيبال أو أنها كانت لأطفال الشوارع في فيتنام كما يقول المشككون بمصداقية هذه الصورة.