الاثنين، 27 يوليو 2020

( دور العبادة .. غنيمة حرب )

الاحتواء وإعادة الاسترداد للمواقع الدينية حلقة في سلسلة صراع الحضارات

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

من أشد اللحظات التاريخية الكارثية في تاريخنا الإسلامي هي سنوات سقوط الأندلس ولكن في المقابل تلك الفترة التاريخية عينها هي ما تسمى في التاريخ الاسباني والأوروبي بفترة ( حروب الاسترداد ) Reconquista والتي لم تكتف باستعادة السيطرة على الأراضي الاسبانية وانتزاعها من الحكم الاسلامي ولكن ايضا إعادة فرض الطقوس الدينية على دور العبادة القديمة. في فترة ما من زمن حكم الرومان للأراضي الاسبانية يعتقد أنها في زمن الإمبراطور كلوديوس أقيم معبد روماني وثني في مدينة قرطبة الاسبانية ولاحقا بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية وانتشار المسيحية زمن القوط الغربيين تم أنشاء كنيسة مسيحية كاثوليكية محله. وكما هو معلوم في زمن الخلافة الأموية في الأندلس أمر عبد الرحمن الداخل بتحويل تلك الكنيسة إلى جامع قرطبة الكبير. ولهذا لا غرابة أنه كان من آثار ونتائج ( الاسترداد ) أن يحرص حكام قرطبة الجدد ان يعيدوا تحويل الجامع السليب إلى كاتدرائية مسيحية. وقبل ذلك بعد عقود من الزمن وعندما سقطت أشبيلية تم تحويل مسجدها الضخم إلى كاتدرائية كاثوليكية كانت تعتبر في القرون الوسطى أكبر كنيسة مسيحية ومتفوقة بذلك حتى على كنيسة آيا صوفيا في القسطنطينية.

من مظاهر الصراع ( والسيطرة ) بين الحضارات والأمم والإمبراطوريات المتنازعة التعبير عن الهيمنة السياسية بأشكال متعددة قد تصل حتى الحرص على السيطرة على دور العبادة واعتبارها من غنائم الحرب. فمثلا عندما استطاع الإسكندر الأكبر المقدوني اجتياح مصر الفرعونية في وقت ضعفها لم يتردد أن يقيم معبد وثني مصغر في قلب قدس الاقداس للديانة الفرعونية في معبد الكرنك وهو ما يعرف باسم (مقصورة الإسكندر). وحذو القذة بالقذة عندما غزا مصر الشاه الفارسي الإمبراطور قمبيز الثاني واستولى عليها لمدة أربع سنوات أدعى (كما أدعى الإسكندر من قبل بأنه ابن رع إله الشمس لدى الفراعنة. كما أنه أرسل جيش مدجج إلى واحة سيوة في الصحراء الغربية للسيطرة على معبد آمون أحد أهم آلة الديانة الفرعونية.

وفي مثل هذه الأجواء ندرك أن ظاهرة تحوير وتحويل دور العبادة من ديانة إلى ديانة أخرى أمر متكرر جدا وشائع في جميع الحضارات فعدد كبير جدا من المعابد الوثنية الرومانية تم تحويلها إلى كنائس ومن ثم لاحقا حولت إلى مساجد وهذا ما حصل بالضبط مع الجامع الأموي في دمشق ومسجد آيا صوفيا في إسطنبول. 

كما هو متوقع عندما تختلط الحزازات الدينية بالصراع السياسي فغالبا ما تكون هذه الخلطة سبب لكثير من التوتر الحضاري. أحد أهم المعالم الأثرية للحضارة الإغريقية هو معبد البارثينون المشرف على مدينة أثينا. وأثناء فترة الحكم العثماني لبلاد اليونان تم ولمدة قاربت القرنين من الزمن بناء مسجد على الطراز العثماني داخل هذا المعبد الذي كان في فترة ما كنيسة. وبعد استقلال اليونان عن حكم بني عثمان تم مباشرة إزالة أي معلم يدل على وجود المسجد وهذا شيء متوقع بسبب الصراع السياسي والديني الحاد جدا. في المقابل وبسبب انعدام وجود مثل هذا النوع من الاحتقان الديني والسياسي توجد قصة مشابهة لا تثير أي ردة فعل أو اعتراض. في الحضارة الفرعونية القديمة يعتبر معبد الأقصر ثاني أهم معبد ديني فرعوني بعد معبد الكرنك ومنذ العصر الأيوبي تم إنشاء مسجد داخل هذا المعبد الفرعوني وحتى زمان الناس الحالي لم يعترض أحد وربما لم يعلم الكثير بوجود هذا المسجد. وكذلك يعتبر دير سانت كاترين بالقرب من جبل الطور في جنوب سيناء ربما أقدم دير كنسي في تاريخ المسيحية ومنذ حوالي ألف عام وحتى الآن يوجد مسجد فاطمي داخل الدير ومع ذلك يوجد حالة تعايش وتفاهم.

بلا شك سوف يبقى أمر (الاحتلال وإعادة الاسترداد) للمواقع الدينية بؤرة توتر وصراع مستمر (كما حصل مع المسجد بابري في الهند) ولكن ما حصل قد حصل وإن كان خلاف الأولى وأنه ربما كان من الأفضل اختيار بقعة العبادة في منطقة محايدة وطاهرة أصلا من أرجاس الوثنية والانحراف العقدي والديني.

والله أعلم بالصواب


( شعر الوقوف على الأطلال .. دليل سياحي لمنطقة الباحة )

التاريخ العريق لمنطقة الباحة يحتاج خارطة طريق لتعرف على معالمه الثقافية 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في الأمثال الشعبية الدراجة يقال (قديمك نديمك) وهذا عزاء البعض منا مع الجائحة الأخيرة وانقطاع السبل للسفر الخارجي فإعادة اكتشاف الداخل هي محطة الوصول المتاحة في جدول الرحلات. في مثل هذه الأوقات من العام الماضي كنت مع بعض الأحباب الأفاضل في زيارة للديار الروسية ولهذا كتبت مقال عن أدب الرحلات بعنوان (موسكو في الذاكرة العربية). صحيح أنه بعد ذلك مباشرة كتبت مقال عن واقعنا المحلي حمل عنوان (مدينة الطائف وكيمياء الورود) ولكن أنا الآن في حالة مراجعة ووقفة عتاب عن مدى انعكاس ديار الأهل ودوحة الأصل في بعض ما أكتب.

الساري في سراة بلاد غامد وزهران لا يحتاج لتنشيط سياحي لإرشاده لجمال الطبيعية ولكن ربما قد يحتج لدليل سياحي من نوع أدبي وخارطة طريق من فن شعري لإعطائه جرعة مكثفة عن العراقة الثقافية لمنطقة الباحة. وهنا يأتي دور الشعر والأدب عندما نستلهم قول عبد القاهر الجرجاني عنه أنه (يؤدي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى ترى به آثار الماضيين مخلدة في الباقين، وعقول الأولين مردودة في الآخرين). ومن آثار الماضيين المخلدة في الباقين نحاول من خلال قصائد الشعر وبدائع النظم أن نتعرف على الصلة بيننا وبين سلفنا الأول وجيلنا الأقدم ونستدعي أطياف أعلام الشعر والشعراء الذين درجوا على (باحة السراة) وخلدوا بعض ربوعها وبقاعها التي وردت في شعرهم وقصيدهم.
يقول الشاعر الفلسطيني المعاصر محمود درويش (بدون الذاكرة لا يوجد علاقة حقيقة مع المكان) ومن هنا نكتشف بعد إضافي للشعر فلا يكفي أن يكون تعبير عن العاطفة ومؤثر في الإحساس ولكن ينبغي أن يكون كذلك ترجمة لاستعادة الماضي واستحضار الذاكرة من خلال ربط المشهد المكاني مع التشكيل الوجداني. ومن هذا المدخل ربما نعلم لماذا كان من أبرز معالم الشعر الجاهلي ظاهرة الوقوف على الأطلال والمقصود بها في الغالب الوقوف على ما تبقى من ديار المحبوبة وكلنا يعرف من قصائد المعلقات اسماء بعض المواضع التي وقف عليها الشعراء مثل سقط اللوى/الدخول/ حومل/ المتلثم/ العلياء/ السند/ الرقمتين/ الجواء. وللمزج بين الأدب والتنشيط السياحي لصيف منطقة الباحة لهذا العام لعل الزائر فيما هو يتفيأ أجواء الطبيعة في أرض الجبال والكادي لعله كذلك يقف على إطلال الإرث الأدبي لفحول شعراء العرب الذين تردد صدى قصيدهم في باحة الأدب.

في شعر العرب كثير ما تبدأ (الوقفة الطللية) بالسؤال المتوجع والاستفسار المتفجع (لمن الديار) الذي ضج به عدد من شعراء المعلقات (كالحارث اليشكري وزهير وامرؤ القيس) ومنهم الشاعر الفحل عبيد بن الأبرص بمطلع قصيدته:
لمن الديار بصاحةٍ فحَروسِ      درست من الإقفار أي دُروسِ

وهذا المطلع المتكرر نسج على منواله الشاعر الجاهلي عبدالله بن سَلِمه الغامدي في قصيدته الرائقة التي مطلعها:
لمن الديارُ بتَوْلَع فيَبُوسِ           فبَيَاضُ رَيْطَة غير ذاتِ أنيسِ
أمست بمُستنِ الرياح مُفِلةٌ         كالوشم رُجِّع في اليد المنكوسِ
وكأنما جَرُّ الرَّوامسِ ذيلها في    صحنها المعفوُّ ذيل عروسِ
وما يهمنا هنا هو ذكر المواقع المكانية والطللية (تولع ويبوس وبياض ريطة) التي وردت في مطلع القصيدة فمن المرجح أن موقعها الفعلي في محافظة بلجرشي وبالتحديد في بادية بني كبير في نهاية وادي قرشا كما أن من المحتمل أن موقع (تولع) قد تحرف اسمه في الوقت الحاضر وأصبح (مولع).
أمر آخر تجدر الإشارة له أنه في تاريخ الأدب العربي إذا قيل إن هذه قصيدة (مفضلية) فهذا يشير أنها قصيدة من الطراز الأول لأنها قصيدة شعرية ورد ذكرها في كتاب (المفضليات) وهو كتاب الاختيارات الشعرية للمفضل الضبي. وهذا الكتاب الأدبي يعتبر أهم مؤلف جمع أمهات عيون الشعر العربي وبالرغم من أن عدد القصائد الواردة فيه قليلة (69 قصيدة فقط) نجد اثنتين منها كانت لشاعرنا الجرشي الكبير عبد الله بن سلمه الغامدي وفي ترتيب متقدم نسبيا وهي هذه القصيدة (رقم 19) والقصيدة التي قبلها.

ومن الوقوف بالأطلال من بلاد غامد إلى ديار زهران ووقفة طللية مع الشاعر الجاهلي الزهراني حاجز بن عوف الأزدي وشعره زاخر بذكر المواقع والأماكن التي ما زالت (رسومها) وآثارها موجودة حتى الآن ومن ذلك قوله:
سَأَلتُ فَلَم تكلِّمُنـي الرُسـومُ          فَظَلـتُ كَأَنَّنـي فيهـا سَقيـمُ
بقارعةِ الغَريفِ فَذاتِ مَشـيٍ        إِلى العَصداءِ لَيسَ بها مُقيـمُ
وقرية (العصداء) معروفة اليوم في محافظة بني حسن من بلاد زهران
أما (الغريف) فهي قرية قرب وادي تربة. ولهذا الشاعر الزهراني قصيدة أخرى لها مطلع طللي يسير فيه (وهو العدّاء المشّاء) على خطى عميد شعراء الجاهلية امرؤ القيس في مطلع قصيدة:
لمن طللُ أبصرته فشجاني      كخطب زبور في عسيب يمانِ
بينما كان مطلع قصيدة حاجز بن عوف:
لمن طللُ بعَتمَةَ أو حُفارِ         عفته الريح بعد والسواري
عفته الريح واعتلجت عليه      بأكدر من تراب القاع جارِ
بلا شك التحديد الدقيق لمواقع هذه الأماكن الجغرافية والتاريخية بالغ الصعوبة لكن يمكن الاسترشاد بوجود موقع معروف يشتهر باسم (عتمة زهران) وهي مكان قديم كان يحتوي على شجرة زيتون بري (العتم) ويقع في قرية سد الحوية بالقرب من وادي برحرح بمحافظة المندق. في حين توجد قرية من قرى زهران تحمل اسم (قرية حفار) وهي تقع في إقليم تهامة في محافظة قلوة.

تجدر الإشارة إلى أن مطالع القصيدة العربية القديمة لها أشكال وأنماط مختلفة تستخدم للتعبير عن استحضار الذكريات أو التعبير عن تعزيز الارتباط بالأهل والأرض. ولهذا بدل الاستهلال بالوقفة الطللية المعتادة يعمد بعض الشعراء بافتتاح مطلع القصيدة بوصف حالة القلق والأرق التي تصيبه من جراء استحضار أطياف وذكريات المحبوب. ومن أمثلة هذه القصائد الرنانة البديعة ذات مطلع السهاد والأرق قول الأعشى الرائق:
أَرِقتُ وَما هَذا السُهادُ المُؤَرِّقُ       وَما بِيَ مِن سُقمٍ وَما بِيَ مَعشَقُ
وما يهمنا في الواقع هو مطلع قصيدة امرؤ القيس المشهورة في رثاء أبية والتي مطلعها:
أرقتُ لبرقٍ بليل أهل         يُضيء سناه بأعلى الجبل

وهنا نجد شاعرنا يعلى الأحول الأزدي وهو شاعر أموي من قبيلة شُكر التي تقع ديارها بالقرب من مدينة بلجرشي يستلهم مطلع قصيدة الملك الضليل فكما أصاب الأرق امرؤ القيس ببرق يهل من الجبل كذلك أرِقَ شاعرنا لبرق يهل من دون جبل شدا وهو أحد أهم وأشهر المعالم الجغرافية والتضاريس الطبيعية في منطقة الباحة ويقع بين مدينتي قلوة والمخواة. ولهذا الجبل عدة قمم شاهقة بينها قمتين مزدوجتين وهذا ربما يفسر لماذا جاءت لفظة شدا (مثناه) والبعض يفضل أن يرجع التثنية إلى جبلي شدا الأعلى وشذا الأسفل وإن كان أحدهما لزهران والآخر لغامد:
أَرِقتُ لِبَرقٍ دونَهُ شَدَوانِ               يَمانٍ وَأَهوى البَرقَ كُلَّ يَمانِ
فَبِتُّ لَدى البَيتِ الحَرامِ أَشيمُهُ         وَمَطوايَ مِن شَوقٍ لَهُ أَرِقانِ
شاعرنا في الواقع كان من صعاليك العرب وكان يقطع الطريق وعندما تم القبض عليه سجن في مكة وهنا أخذ يحن لديار ومضارب قومه وبالرغم من أنه في البلد الحرام وقرب بئر زمزم إلى أنه يحن إلى ماء قومه ولهذا يقول:
وَلَيتَ لَنا بِالجَوزِ وَاللَوزِ غيلَة                جَناها لَنا مِن بَطنِ حَليَةَ جانِ
وَلَيتَ لَنا مِن ماءِ ( حزنة ) شَربَةً           مُبَرَّدَةً باتَت عَلى طَهَيانِ
والبعض يورد البيت كالتالي:
وَلَيتَ لَنا مِن ماءِ ( زمزم ) شَربَةً         مُبَرَّدَةً باتَت عَلى طَهَيانِ
يعنى أنه يتمنى بدل شرب ماء زمزم أن يحصل على شربة ماء من ديار قومة قد تمّ تبريدها على الصفا الشاهقة لصخرة طهيان على سفوح جبل حِزنة (أعلى جبل بمحافظة بلجرشي) وتشتهر هذه المنطقة اليوم باسم (شلالات طهيان) أو (صفا الطهيان).
الغريب في الأمر أنه إذا كان بعض الشعراء الفحول يتمنى شربة ماء من بلاد أهله نجد أن بعض الشعراء الآخرين عندما يهاجر من أرض قومه لا يرغب في العودة ولا يحن لها. وربما من صور ذلك قول الشاعر الجاهلي عامر بن ثعلبة من أزد عمان عندما هاجر ونزل في أرض عمان قال يخاطب وادي بيدة (أبيدة) ومن سكن فيها:
أبلغ أبيدة أنّي غير ساكنها           ولو تجمّع فيها الماء والشجرُ
منا بأرض عمانٍ سادةٌ رُجحٌ        عند اللقاء وحيّ دارهم هَجَرُ
و(بيدة) كما هو معلوم الوادي المشهور في محافظة القَرى من أرض زهران.

الشنفرى .. كل الصيد في جوف الفَرا
ونصل الآن إلى شاعر منطقتنا الأشهر بلا منازع وهو الشاعر الجاهلي الشنفرى (ثابت بن أواس) صاحب قصيدة لامية العرب الفائقة الشهرة والمصنف من الطبقة الثانية من طبقات فحول شعراء العرب. وبالرغم من وجود اختلاف في نسبه إلا أن العديد من الباحثين يرجح أنه من زهران (والبعض يقول إنه من رجال الحجر) ويقال إن قبره على الأغلب موجود الآن في قرية سلامان بمحافظة المندق وإن كانت حادثة مقتلة المشهورة تمت في وادي الناصف في بيدة بمحافظة القَرَى من بلاد زهران.
المثل السائر الذي يقول (كل الصيد في جوف الفَراَ) ينطبق بحق على الشنفرى فهذا المثل يطلق على الشخص الذي يبزّ ويفوق غيره وهذا ما نجده بصورة جليه مع شاعرنا الفحل الذي عدد أسماء المواقع الجغرافية من منطقة الباحة الواردة في أبياته الشعرية تفوق ربما جميع أسماء الأماكن التي وردت في قصيد بقية الرعيل الأول من شعراء غامد وزهران.

لسنوات طويلة نشأ وترعرع الشنفرى في بني سلامان من قبائل زهران ولهذا عندما درج ومرج في أنحائها انعكس ذلك في شعره (الجغرافي) ومن ذلك قوله:
فإن لا تَزُرني حَتفتي أو تُلاقني         أَمَشّي بدَهوٍ أو عِدافٍ بنوُّرا
أُمشّي بأطراف الحَماطِ وتارة           تُنفَّضُ رجلي بُسبُطاً فعَصَنصَرا
ويوماً بِذاتِ الرَسَّ أو بَطنِ مِنجَلٍ      هنالك نَبغي القاصِيَ المُتغَوَّرا
وفي هذه الأبيات نجد أن (سبط) و(عصنصر) هي أسماء جبال في منطقة بني بشير من زهران في حين أن (الرس) هي بئر ماء لقبيلة سلامان في نفس المنطقة بينما وادي (منجل) من الأودية المعروفة في المخواة. أما موقع (دَهو) المذكور في البيت الأول فربما حرف مع الزمن إلى (رَهو) وهو اللفظ الشائع الآن (بالرهوة). وإذا صح هذا الاحتمال بتحريف نطق بعض الكلمات مع الزمن فربما على نفس السياق نجد أن كلمة (عِداف) هي موقع قرية العدفة من قرى قبيلة دوس الزهرانية.

يقال إن الإنسان ابن بيئته والشنفرى بيئته أرض الجبال والمرتفعات ولهذا كثر ذكر أسماء الجبال وذرى القمم في شعره ومن ذلك قوله:
إذا أصبحتُ بين جبال قوٍّ        وبيضانِ القُرى لم تَحذريني
وجبل (قو) يوجد إشكال كبير في تحديد موقعه وربما حرف الاسم إلى (قوب) ولكن هذا وادي شهير في زهران وليس جبل. بينما جبل (بيضان) هو على اسم قبيلة بيضان الزهرانية العريقة وربما أنه في زمن الشنفرى في القدم كان يوجد جبل محدد له هذا الاسم لأنه تكرر في شعر الشنفرى حيث نجده في قصيدة أخرى يقول:
لو أن الذي لي من هوى أمِّ مسلم       بيضان زالت من ذراه القُدامسُ

فهو هنا يتحدث بأن حبه لأم مسلم يطيش بلبه وعقله كما تطيش الصخور الكبار والجلاميد من قمة ذرى جبل بيضان.
ومن المعالم الجغرافية الواردة في شعر الشنفرى ذكره لجبل (المرقبة) المطل على تهامة وهي قمة شاهقة الارتفاع والانعزال فناسب أن (يوظفها) الشنفرى في شعره لكي يصف سمو شخصيته وشجاعته:
ومَرقَبَةٍ عَنقاءَ يَقصُرُ دونها           أخو الضروَةِ الرجلُ الحَفِيٌّ المُخَفّفُ
نَعَبتُ إلى أدنى ذَراها وقد دَنا        من الليلِ مُلتَفُّ الحديقةِ أسدَفُ
(البيئة تشكل الشخصية) وهذا ينطبق في حال شاعرنا الكبير ولهذا نكرر التنويه لكثرة ذكر الجبال والقمم في شعره وبالخصوص جبل (السرد) من أرض زهران:
كأنْ قدْ فلا يَغرُركِ منّي تَمكَّثي            سلكتُ طريقا بين يَرْبَغَ فالسَّردِ
وإنّي زَعِيمُ أن ألُفَ عَجَاجَتِي              على ذِي كِسَاءٍ من سَلاَمَانَ أو بُردِ
وأمشي لدى العَصدَاءِ أبغي سَرَاتهُمْ      وأسلُكَ خَلاّ بين أرْفاغَ والسّردِ
و(العصداء) سبق الحديث عنها بأنها قرية في محافظة بني حسن من بلاد زهران وكذلك (أرفاغ) جبل في منطقة قومه قبيلة بني سلامان بن مفرج.

وفي الختام نعرج على التباين والتناقض في شخصية الشنفرى فهو في قصيدته التائية البديعة السبك (القصيدة رقم 20 من ديوان المفضليات) يذوب عاطفة ورقة في تعامله المرأة ممثلة في زوجته حتى وإن هجرته بينما مع الرجال نجده فاتك وقاتل لخصمه ولو كان بين الحجيج وفي الشهر الحرام. وكما فخر في قصيدته التائية بغارته وهجومه على خصومه ولو كانوا في أرض منى نجده في قصيدته الخالدة (لامية العرب) لا يتردد في المفاخرة بأنه أغار على أعدائه في الليل البهيم والماطر (ومساهم ولم يصبحهم) بالقتل والفتك العام فرمل النساء ويتم الأطفال:
فأيًّمتُ نِسواناً وأيْتَمْتُ إِلْدَةً      وعُدْتُ كما أبْدَأتُ والليلُ ألْيَلُ
وأعترف أن ما ساقني لذكر هذا الجانب الشنيع من قصة الشنفرى الفاتك المبير ورمز صعاليك العرب (تكفي شهرته المدوية لقتلة مائة رجل من قبيلته نفسها) إلا لكي أن أشق طريق لذكر موقع جغرافي ورد في شعر الشنفرى وجرت فيها جريمة قتل. تقول كتب الأدب أن رهطاً من أهل غامد من بني الرمداء (هل هم من قرية دار الرمادة .. لست أدري) تربصوا للقبض على الشنفرى فأعجزهم وفر منهم إلى أن وصل إلى موقع يسمى (دحيس) فوجد رجلين من بني سلامان فقتلهما ووثق موقع الجريمة بقولة:
قتيلَيْ فِجارٍ أنتما إن قُتِلتُما       بجوف دَحِيس أو تبالةَ يا اسمعا
ووادي (دحيس) يقع بالقرب من قرية القوارير وهي إحدى قرى بني بشير في محافظة القرى من زهران.

وبعد، فقد طوفنا كثيرا في ربوع منطقة الباحة وما زال في الجعبة العديد من المناطق التي ساقها الشنفرى وغير من فحول شعراء الباحة القدامى في قصائد (الشعر الجغرافي) لمناطق وديار أخرى مثل بيشة وأرض البقوم وخثعم وديار بني شهر وبللسمر وغيرها كثير ولكن تلك مسؤولية لجان التنشيط السياحي لتلك المناطق لنبش كتب الأدب والتاريخ وأخرجاها للجمهور والقراء.


( أينشتاين والعنصرية ضد السود )

أينشتاين يشرح درس للتاريخ

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في أواخر عمر عالم الفيزياء الأسطورة ألبرت أينشتاين ونتيجة لتردي حالته الصحية وهو يدب نحو سن السبعين كان يرفض قبول الحصول على المزيد من التكريم المعنوي بمنحة الدكتوراه الفخرية. تغير هذا الموقف عام ١٩٤٦م عندما عرضت عليه جامعة أمريكية شبه مغمورة أن تمنحه الدكتوراه الفخرية وهنا تحمس أينشتاين لقبول هذا التكريم وإلقاء محاضرة علمية واللقاء بطلاب الجامعة. السبب الوحيد الذي غير رأي وموقف أينشتاين أن تلك الجامعة كانت توصف بأنها (جامعة السود) وهي جامعة لينكولن بولاية بنسلفانيا والتي سميت بهذا السم بالذات (على اسم الرئيس الأمريكي إبرهام لينكلون الملقب بمحرر العبيد) لأنها كانت أول جامعة تسمح المجال للسود بالدراسة بها. قبل زيارة أينشتاين بعام واحد فقط لتلك الجامعة تم تعيين أول مدير أسود لها والذي بمجرد تواصله مع أينشتاين ودعوته للحضور لتلك الجامعة وافق مباشرة وذلك نتيجة للاهتمامات الفكرية والسياسية له بمناصرة حركة الحقوق المدنية للسود والمناهضة للعنصرية والتمييز ضد السود.
أثناء لقاء أينشتاين مع الطلاب السود بجامعة لينكولن سأله أحدهم أن يشرح لهم وبشكل مبسط نظريته النسبية الشهيرة وهنا قام أينشتاين بشرح النظرية وكتابة معادلاتها على لوح السبورة الأسود وتم تخليد هذه اللحظة بالتقاط صورة فوتوغرافية مميزة. ولا أعلم هل حرصت جامعة لينكولن (التي تقع في مدينة أكسفورد الأمريكية) بنزع تلك السبورة وعدم مسحها كما فعلت قبل ذلك بحوالي عشرين سنة جامعة أكسفورد البريطانية والتي حتى الآن ما زالت تحتفظ في متحف الجامعة باللوح الخشبي الذي شرح عليه أينشتاين نظريته النسبية عندما زار تلك الجامعة العريقة عام 1931 ميلادي.
بدون خلاف كان لأينشتاين موقف نبيل في الاعتراف والمساندة لحقوق السود في عام 1946م ولكن هذه النزعة الإنسانية لأينشتاين لم تمتد للحقوق العربية التي اعتدى عليها اليهود والصهاينة بعد ذلك بسنتين عند الإعلان عن قيام الكيان الإسرائيلي الغاصب. وبالجملة لم يكن هذا الموقف مستغرب كثير من أينشتاين اليهودي الديانة والذي حرص سابقا على زيارة فلسطين بل تم في مرحلة ما أن عرض عليه الرئيس الإسرائيلي بن غوريون أن يخلفه في منصبه عام 1952 ميلادي. بدرجة ما قد يكون اجترار تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أمرا مقحم هنا وبعيد عن حقوق السود في الأراضي الأمريكية ولكن من غرائب الصدف لإثبات استحقاق السود للمساواة مع البيض أن الدبلوماسي الأمريكي وأستاذ علم السياسة بجامعة هارفرد رالف بنش كان هو من عمل كوسيط من قبل الأمم المتحدة في الصراع العربي الاسرائيل وهو بالمناسبة أول شخص أسود في التاريخ يحصل على جائزة نوبل (حصل عليها عام 1950م في مجال السلام). وعلى ذكر نضال حركة الحقوق المدنية للسود في أمريكا في سياق ذكر جوائز نوبل للسلام تجدر الإشارة إلى أن أهم شخصية في تاريخ السود في أمريكا هو الناشط السياسي ضد التميز العنصري مارتن لوثر كنغ الذي بتبنيه لحركة اللا عنف تم منحه جائزة نوبل للسلام عام 1964 كثاني رجل أسود أمريكي يحصل على هذا التكريم البارز.
الكثير من التغيرات السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية حصلت عبر السنين للسود في أرض العم سام لدرجة أن منصب رئيس الولايات المتحدة شغله كما هو معلوم رجل أسود (وإن لم يكن من نسل العبيد) وكما أشرنا أن أشهر عالم في التاريخ المعاصر كان يقوم بنفسه بشرح إحدى أهم وأصعب النظريات العلمية لحشد من الطلاب السود. الجدير بالذكر إنه على أرض الأحلام الأمريكية قبل حوالي مئة عام من محاضرة أينشتاين للطلاب السود كان ما تزال بعض الولايات تصدر القوانين التي تمنع تعليم السود والعبيد القراءة والكتابة ومن ذلك مثلا إصدار ولاية ميسوري عام 1847م لقانون تجريم تعليم السود. وفق تلك القوانين الجائرة الصادرة على أرض الحرية المزعومة يمكن للرجل الأبيض الذي يخاطر بتعليم السود القراءة والكتابة أن يتعرض لغرامة مالية وربما يتعرض للسجن لمدة ستة أشهر في حين أن العبد الأسود نفسه سوف تكون عقوبته الجلد وتعذيب الذي قد يفضي إلى الموت. الرجل الأمريكي الأبيض المستبد لم يقتصر في محاولته للسيطرة على العبيد السود بربطهم بقيود السلاسل ولكن أيضا بتكبيلهم بأصفاد الجهل والأمية. ولهذا عندما سنت تلك القوانين الظالمة بتجريم تعليم العبيد القراءة والكتابة كانت يتم تبريرها بحجة أن بعض العبيد المتعلمين يمكنهم أن يقوموا بكتابة صكوك مزورة عتق من الرق. وكما إن العلم نور فإن الحرية هي المشعل الذي يضيء طريق الإنسانية وبهذا العلم والحرية قرينان لا ينفصلان ولهذا أدرك المناضل الأمريكي الأسود فريدريك دوغلاس في أوائل شبابه أن المبرد الذي يمكن أن يقطع أصفاد العبودية هو سن القلم وأن سر قوة الرجل الأبيض في السيطرة على العبيد أن يكبلهم بالجهل والأمية. صحيح أن فريدريك بدأ تعلم القراءة وهو طفل على يد زوجة سيده إلا أنه أكمل لاحقا تعليمه بشكل سري ومن مراقبة الأطفال البيض وهم يتعلمون تهجئة الكلمات وبشكل متدرج أصبح ذلك الشاب قارئا شغوف. ثم لاحقا تنامى فكر ذلك العبد المتحرر ليصبح كاتب ومفكر وناشط سياسي مشهور وأحد أبرز رواد الدفاع عن حقوق السود في أمريكا كما شارك هو وولده في الحرب الأهلية الأمريكية تحت قيادة الرئيس الأمريكي لينكولن بل إن استقلاليته الفكرية وصلت به أنه كان يحث أتباعه على عدم إعادة انتخاب الرئيس لينكولن والتصويت لخصمه لأن محرر العبيد لم يف تماما بجميع وعوده ولم يمنح السود حق التصويت.
عبر السنوات وبشكل متدرج أخذ السود في الولايات المتحدة في انتزاع حقوقهم المدنية وترسيخ تواجدهم السياسي والإعلامي وتفوقهم الفكري والأدبي (المرأة الأمريكية الوحيدة التي حصلت على جائزة نوبل في الأدب عن الأعمال الروائية التي تصف المجتمع الأمريكي هي الكاتبة السوداء توني موريسون). ومع ذلك ما زال أمام المجتمع العلمي للسود في أمريكا شوط بعيد من النضال والعرق والدموع ليصبح العلماء والباحثين السود في أمريكا في مصاف زملائهم من البيض والأعراق الجنسية الأخرى. في بداية المقال عرجنا على اللقطة الفوتوغرافية المميزة لأينشتاين في عام 1946م وهو يشرح النظرية النسبية لفصل من الطلاب السود ولكن هذا لا يعني أن السود ضعيفو التفكير ولا يستوعبون الأفكار العلمية المتقدمة فأول رجل أمريكي أسود (بوشية إدوارد) حصل على درجة الدكتوراه في علم الفيزياء في فترة مبكرة جدا وذلك عام 1876م ومن جامعة ييل العريقة. وعندما كان ألبرت أينشتاين يشارك مع المئات من العلماء في مشروع مانهاتن لتصنيع أول قنبلة ذرية كان من زملائه عالم الكيمياء الأسود كوارترمان ألبرت والذي ساهم في عزل وتخصيب عنصر اليورانيوم. ومع ذلك للأسف الشديد حتى الآن لا يوجد عالم أمريكي أسود حصل على جائز علمية مرموقة أو تولى منصب إدارة مركز أبحاث أو جمعية علمية كبرى (باستثناء هنري هيل الذي أصبح أول رئيس أسود للجمعية الكيميائية الأمريكية). الطريف في الأمر أن أحد أكثر العلماء شهرة في أمريكا هو عالم الفيزياء الفلكية الأسود نيل تايسون وبالرغم من شهرته المدوية كمقدم للبرامج العلمية الوثائقية في قناة ديسكفري إلا أن أهم إنجاز علمي له ليس اكتشاف ظاهرة فلكية جديدة أو تطوير نظرية علمية معقدة ولكن اشتهر بسبب حملته العلمية والإعلامية لتغيير عدد كواكب المجموعة الشمسية من تسعة إلى ثمانية كنتيجة لإسقاط مكانة كوكب بلوتو وجعله بمرتبة كوكب قزم.
إرهاصات الأحداث الحالية تشير إلى أن أوضاع السود في أمريكا سوف تتحسن نوعا ما في المستقبل ومن المحتمل إصدار وسن حزمة من التشريعات القانونية التي تصب في مصلحة المهمشين السود. ومع ذلك التهميش للباحثين والعلماء من أصحاب البشرة السوداء ما زال ضاربا بأطنابه في المجتمع العلمي الأمريكي ولهذا ربما تمر عقود طويلة قبل أن يحصل أي عالم أسود على جائزة نوبل في التخصصات العلمية والعلم عند الله.

( طوبى للأطباء )

طوبى للأطباء وشكرا للنبلاء

د/ أحمد بن حامد الغامدي

(لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب) والقائل هو الإمام الشافعي وهذا المديح مشفوع بكل لسان ومنشور في كل زمان. وشخصية الطبيب فاعلة وحاضرة في حياة الناس وفي دنيا الأدب فقلَّ أن يوجد كاتب مشهور لم تكن شخصية الطبيب من أبطال روايته كما نجد ذلك عند تشارلز ديكنز وألبرت كامو وشكسبير وجوستاف فولبير وأجاثا كريستي وفولتير وغوته ووليم فوكنر وسومرست موم وتوماس مان ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحي حقي وعلاء الاسواني والقائمة تطول وتطول. الجميع يعلم أن الأطباء وأفراد الطاقم الصحي هم خير مثال على الإخلاص في العمل والتفاني في التضحية بالنفس لدرجة الفناء حقيقة لا مجازاً.
يتعرض الأطباء لأخطار مهنية متعددة من أكثرها شيوعا انتقال العدوى لهم من مرضاهم وهذه المعضلة تم تسجيلها في بعض الأعمال الروائية فهذا الأديب الروسي الكبير أنطون تشيخوف يسطرها في رواية (الجناح رقم 6) والتي تدور عن إصابة طبيب أعصاب وأمراض نفسية بعدوى المرض ودخوله للمستشفى مع نفس المرضى الذين كان يعالجهم. بينما الروائي البرتغالي جوزية ساراماغو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1988يكتب روايته (العمى) الملائمة لزماننا الحالي حيث تدور عن مرض ووباء يصيب مدينة صغيرة وينتقل هذا المرض إلى طبيب العيون الذي يصاب به هو وزوجته ومن ثم يتم الحجر الصحي عليهما مع بقية المرضى.
منذ الأزل والناس يتعجبون من إصابة الطبيب بالمرض ولذا قيل بتهكم وسخرية (يداوي الناس وهو عليل) ومع ذلك فالمقام لأهل العقول النيرة مقام موعظة ومواساة ولهذا الكاتب الإيرلندي برنارد شو الشهير بسخريته اللاذعة دوما لم يسخر من هذه المفارقة وبدلا من ذلك علق بعمق بصيرة (أكثر الأشياء مأساوية في العالم: الطبيب المريض). إصابة الطبيب بالمرض حدث كاشف عن ضعف الطبيعة البشرية حتى وإن تخيل الإنسان أنه قادر على السيطرة على كل شي فيمكن أن يضعف في لحظة في نفس موطن القوة. ومن جانب آخر إصابة الطبيب أو أفراد الطاقم الصحي بالمرض فضلا عن الوفاة بسبب ذلك دلالة شجاعة وفروسية في أرض المعركة كما أنها دلالة كرم ونبل أخلاق في عدم التردد بالتضحية بالنفس فهم أحق من يوصف بقول القائل (يجود بالنفس إن ظن الجواد بها).
في الوصايا والإرشادات المنسوبة إلى أبي الطب أبقراط لأبناه الأطباء أن (كرامة الطبيب تقتضي منه أن يكون سليما في مظهره بل وحتى أن يكون سمينا) ومقصود أبقراط أن الطبيب عندما يكون في حالة صحية جيدة فهذا يعطي طمأنينة للمريض أن طبيبه من النوع الجاد والمهتم. فما بلك بشعور المريض عندما يعلم بأن الشخص الذي يتولى معالجته سوف يخلص في ذلك حتى لو وصل الأمر أن يصاب هو بالمرض.
جائحة وباء فيروس الكورونا اجتاحت المرضى والأطباء وأفراد المنظومة الصحية من الممرضين والفنيين بل وحتى الإداريين وتشير الإحصاءات الأولية إلى اقتراب رقم عدد الوفيات من الأطباء بهذا الوباء على مستوى العالم حوالي الأربعمائة طبيب. منهم أكثر من مائه فقيد في إيطاليا وحدها بينما وفق أرقام نقابة الأطباء المصرية فقد تجاوز عدد الوفيات في صفوف الأطباء بسبب الوباء الأخير أكثر من ستين فقيدا وكذلك عشرات الضحايا من الأطباء العرب والمسلمين في الغرب نسأل المولى عز وجل أن يتقبل أهل الإسلام من هؤلاء الأطباء شهداء عنده. والمقلق حقا أن صحيفة الديلي ميل البريطانية نشرت تقرير يستند إلى أرقام رسمية تشير إلى أن حوالي ثلث أعضاء الكادر الطبي في بريطانيا ممن لهم ارتباط بمكافحة وباء الكورونا ثبت أصابتهم به وأن هذا الرقم يقترب من ستة آلاف شخص مما تسبب في صدمة حادة للقطاع الطبي. ومن جانب آخر تعطي الأرقام الإحصائية جانب تطميني أن عدد الوفيات الفعلية من هذا الرقم المهول منخفض نسبيا حيث نشرت جريدة الجاردين البريطانية خبر يذكر أن أعداد المتوفين من وباء الكورونا من أعضاء الخدمة الصحية الوطنية NHS في بريطانيا هم حوالي 200 فقيد.
وفي لفتة إنسانية مشكورة قامت جريدة النيويورك تايمز وفي صفحاتها الأولى بنشر أسماء ضحايا وباء الفيروس في أمريكا وكما يقوم الموقع الألكتروني لجريدة الجاردين الإنجليزية ليس فقط بنشر أسماء ضحايا القطاع الصحي بل بنشر صور ومعلومات عن هؤلاء الأبطال الذين سقطوا في جبهة القتال في معركة الحرب على الفيروس. وأعتقد أنه من الوفاء لنبلاء الأطباء والقطاع الصحي الذين توفوا جراء هذا المرض أن تذكر أسمائهم وتواسى أسرهم ويرفع ذكرهم على كل صعيد. ومن ذلك في واقعنا المحلي نترحم على استشاري مستشفى الملك خالد الجامعي بالرياض الدكتور محمد الفكي والطبيب الجراح نعيم الشوردي بمستشفى حراء بمكة المكرمة والطبيب محمد قطرنجي العامل بأحد المستوصفات الصحية بالمنطقة الشرقية والممرض خالد الحسيني الممارس الصحي بمستشفى الملك عبد العزيز بمكة المكرمة والممرضة نجود الخيبري العاملة بمستشفى أحد بالمدينة المنورة والله يرحمهم جميعا ويغفر لهم ويصبر ذويهم. أما على المستوى العالم فأكثر طبيب جدير بالذكر والإشادة والتعريف به فهو الطبيب الصيني لي وينليانغ الذي كان أول من تنبه لظهور وباء كورونا كوفيد 19 في منطقة ووهان الصينية لكن تم في البداية مضايقته واتهامه من قبل السلطات بنشر الإشاعات المغرضة ثم بعد ذلك أصيب بالوباء وتوفي وهو في الحجر الصحي. تجدر الإشارة إلى أن الطبيب الصيني لي وينليانغ الذي كان أول من أكتشف مرض فيروس الكورونا وتوفي من جرائه كان في بداية الأمر يظن أن الأعراض هي لمرض السارس SARS المشابه جدا لمرض كورونا كوفيد 19المستجد. ومن عجائب الأقدار أن الطبيب الإيطالي وعالم الأحياء الدقيقة كارلو أورباني الذي اكتشف مرض السارس وفرق بينه وبين أمراض الأنفلونزا الحادة قد أصيب هو الأخرى بعدوى هذا المرض الخطير الذي انتقل له من المرضى الذين كان يشرف على علاجهم وتوفي جراء ذلك وهو بعد في سن السادسة والأربعين.

مع الرعيل الأول من نبلاء الأطباء
بشيء من التجوز يمكن أن نقول إن لهؤلاء الأطباء الشهداء سلف صالح ضحوا بأنفسهم في ميادين الشرف لخدمة الإنسانية في معاركها ضد الأمراض والأوبئة ولهذا من حق هذا الرعيل الأول التذكير بمواقفهم النبيلة وتضحياتهم الجليلة. في معركة البشرية ضد الأمراض المعدية من البديهيات اليوم استخدام سلاح (التعقيم والمطهرات) ولكن العجيب في الأمر أنه قبل قرن ونصف من الزمن لم يكن حتى الأطباء مقتنعين بحقيقة أهمية دور المعقمات في المستشفيات. في عام 1847م لاحظ الطبيب المجري إجناز سيملفيس أنه من المحتمل أن سبب ارتفاع نسبة إصابة النساء بمرض حمى النفاس أن ميكروب هذا المرض القاتل ينتقل عبر أيدي الأطباء أثناء عمليات التوليد. ولهذا ولعدة سنوات ناضل هذا الطبيب بمحاولة إقناع زملائه الأطباء وطاقم التمريض في غرف عمليات التوليد والجراحة بضرورة غسل أيديهم جيدا وتعقيمها بواسطة محلول الجير المعالج بالكلور. ولكن للأسف بعد أن تمكن هذا الطبيب بشكل حقيقي من إنقاذ حياة المئات من النساء توفي وهو في سن 47 نتيجة لإصابته بمرض حمى النفاس بعد وصلت له العدوى المميتة من خلال جرح في يده.
وبينما كان الطبيب سيملفيس (منقذ الأمهات) والحوامل يتفانى في مهنته حتى توفي من جراء الأخطار الصحية لعمل الطبيب نجد كذلك طبيب آخر يتفانى في (إنقاذ الأطفال) ويلقى نفس المصير إلا وهو الطبيب الألماني إميل بهرنغ. في واقع الأمر لهذا الطبيب مكانة خاصة في تاريخ الطب حيث كان أول شخص ينال جائزة نوبل في الطب وذلك في عام 1901م نظير اكتشافه لعلاج مرض الدفتيريا وهو المرض الرهيب الذي كان يفتك بالأطفال في ذلك الزمن. وبعد حصول بهرنغ على جائزة نوبل قام بالتبرع بالمبلغ المالي الذي حصل عليه من جائزة نوبل لإنشاء معهد طبي خاص لاكتشاف علاج لمرض السل المميت. وفي السنوات الأخيرة من حياته اعتلت صحته كثيرا لدرجة أنه توفي نتيجة لإصابته لمرض السل الذي كرس ماله ووقته وصحته لإيجاد العقار الخاص به. ولقد كان مرض السل ولا يزال من الأمراض الخطيرة والقاتلة ومن ضحاياه الذين يجدر التنويه بهم نذكر هنا الطبيب الأمريكي إدوار ترودو والذي توفي قبل الطبيب الألماني بهرنغ بسنتين فقط أي عام 1915 ميلادي. في عام 1894م قام ترودو بإنشاء أول مصح ومركز أبحاث في أمريكا متخصص بالكامل في دراسة وعلاج مرض السل (يعرف اليوم بمعهد ترودو للأمراض المعدية). الأمر المختلف قليلا في قصة ترودو مع الأخطار المهنية للعمل في القطاع الصحي أن أغلب الأطباء يصابون بالمرض من جراء العمل في حين أن ترودو أصيب في بداية حياته بمرض السل ولهذا لاحقا كرس حياته كلها لمحاولة التحكم ومنع انتشار هذا المرض وإن كان في خاتمة المطاف توفي ترودو من جراء مرض السل.

وفي موضوع ذي صلة، الأخطار المهنية في القطاع الصحي لا تقتصر على مجال العمل في رعاية المرضى بل قد تصل إلى بيئة المراكز البحثية والطبية الهادفة لاكتشاف أسباب مرض ما أو الساعية لتطوير لقاح أو علاج له. في نهاية القرن التاسع عشر كان وباء الحمى الصفراء يتسبب سنويا في خسائر هائلة في الأرواح والاقتصاد بل وحتى القدرة العسكرية ولهذا حاول فريق البحث التابع للطبيب الأمريكي ولتر ريد اكتشاف أسباب هذا المرض. وعندما توصل فريق البحث للافتراضية أن نوعا خاص من البعوض هو الناقل لفيروس هذا المرض القاتل لم يتردد الطبيب الشاب عيسى لازير من التبرع بإجراء التجربة الطبية عليه إذا سمح بشكل متعمد لذلك النوع من البعوض بأن يلدغه ويتسبب في نقل مرض الحمى الصفراء إليه. والمؤلم في هذه القصة أن هذا الطبيب الشاب سرعان ما توفي من جراء مرض الحمى الصفراء وهو في سن 34 مخلفا وراءه زوجة مكلومة وطفلين يتيمين. وقعت هذه الحادثة المأساوية في مطلع القرن العشرين بينما في بدايات القرن التاسع عشر حاول طبيب فرنسي يدعى نيكولاس تشيرفن معرفة كيف انتقال عدوى نفس ذلك المرض القاتل ولهذا قام في البداية بالنوم في أسرة المرضى الذين ماتوا من هذا المرض واستخدام أغطيتهم الشخصية. وعندما لم تنتقل له العدوى (لآنها تنتقل بالبعوض كما ذكرنا) قام نيكولاس بعمل في منتهى الحماقة ولكنه في المقابل دليل دامغ على عنفوان روح حب الاكتشاف عند البعض حيث قام نيكولاس بتناول وابتلاع القيء الدموي الأسود الذي يفرز من المرضى فربما يكون هو مصدر العدوى والإصابة بالمرض.
ما سبق ذكره يفتح لنا المجال باختتام هذا المقال بالإشادة والإطراء على تفاني الأطباء العاملين في مجال الأبحاث الصحية وشجاعته وإخلاصهم لدرجة المخاطرة بأنفسهم وذويهم في سبيل التقدم العلمي وخدمة البشرية. في عام 2005م حصل الطبيب الأسترالي باري مارشال على جائزة نوبل في الطب وذلك بعد أن استخدم جسده كأنبوب اختبار أو حيوان تجارب وذلك لإثبات فرضيته الطبية أن من أسباب مرض قرحة المعدة هو تعرض الجسم لنوع خاص من البكتيريا. ولهذا قام ذلك المرشال المغامر بتعمد ابتلاع ذلك النوع من البكتيريا لمحاولة إثبات أنه بالفعل يتسبب في ظهور مرض القرحة. وإذا كان بعض الأطباء النبلاء استخدم جسده كفئران تجارب لإثبات حصول المرض فإن البعض الآخر لم يتردد في أن يجرب على نفسه نتائج أبحاثه الجديدة في التطعيمات الواقية أو الأدوية والأمصال المعالجة وهذا موضوع يحتاج أن يفرد له مقال خاص ولكن تكفي الإشارة السريعة له. فنجد مما يذكر ويشكر في هذا الشأن أن الطبيب الكندي فريدريك بانتنج عندما اكتشف دواء الأنسولين لمرض السكر حقنه أولا في جسده وجسد معاونه. وكذلك المضاد الحيوي الأشهر البنسلين عندما استخلصه بكمية نقية الطبيب الأسترالي هوارد فلوري أثناء عمله في أحد مستشفيات جامعة أكسفورد تعمد أن يتأكد أنه لا يتسبب في حدوث تسمم ولهذا قام فلوري بالغرغرة به على أمل فحص قدرته على شفاء الالتهابات التي توجد في فمه بينما يتأكد في نفس الوقت أنه لا يتسبب في أعراض صحية أخطر. وفيما يتعلق بالتأكد من سلامة اللقاحات والتطعيمات الطبية قبل تعميم استخدامها نجد أن الطبيب الأمريكي جوانس سالك عندما اكتشف لقاح مرض شلل الأطفال قام بتجريبه على ثلاثة من أبنائه الصغار ليثبت للآباء المتشككين أنه تطعيم طبي آمن وفعال.

وبعد، نكرر في الختام ما ذكرناه في مناسبة سابقة أنه في زمن الكورونا الحالي الجميع وبجميع اللغات البشرية يلهج بالدعاء ويصدح بالثناء على جهود الأطباء وجميع العاملين في القطاع الصحي على دورهم البطولي في التصدي لهذه الجائحة المريعة فطوبى للأطباء وشكرا للنبلاء.