الثلاثاء، 23 أغسطس 2022

( المكسيك في الذاكرة العربية )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 قبل عدة سنوات عندما زرت مع بعض الزملاء الكرام العاصمة الروسية موسكو كتبت مقالا خاصا حمل عنوان (موسكو في الذاكرة العربية) تم في مطلع ذلك المقال إجراء مقارنة بين عمق الذكريات العربية لمدينة باريس في مقابل ضحالة تلك الذكرى في حق مدينة موسكو. والمنطلق كان قائما على حقيقة أنه في فترة زمنية متقاربة في منتصف القرن التاسع عشر أرسل حاكم مصر الوالي محمد على باشا بعثات علمية إلى كلاً من باريس وموسكو ولكن شتان ما بين الجهتين في ندى الذاكرة وثراء التواصل. ففي حين لاقت رحلة وكتاب رفاعة (الطهطاوي) إلى باريس اهتماما فائقا نجد أن رحلة وكتاب عيّاد (الطنطاوي) إلى موسكو غشاها النسيان. ومع ضعف الذاكرة العربية عن موسكو مقارنة بباريس إلا أنه في ذلك المقال استطعت حشد أخبار الذكريات الروسية لعدد وافر من الرحالة العرب من مثل ابن فضلان ومحمود رشاد بك ومحمد العبودي أو من الشعراء مثل ميخائيل نعيمة ومحمود درويش وعبد الوهاب البياتي أو الأدباء مثل علي أحمد باكثير ويوسف القعيد ومحمد سعيد العريان وشوقي ضيف أو رموز الصحافة مثل أنيس منصور وأحمد بهاء الدين وغيرهم كثير.

وبحكم قيامي هذه الأيام بزيارة الديار المكسيكية استحسنت فكرة إعادة تجربة كتابة ذلك المقال مع تعديل العنوان والمحتوى لصبح عن (المكسيك بعيون عربية) وكذلك عن نبش أحافير الذاكرة العربية عن ذلك البلد الشاهق البعد والغارق في العزلة. عندما حصل الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث على جائزة نوبل في الأدب عام 1990م كان من أهم أعماله الأدبية التي ذكرتها الأكاديمية السويدية في منحه الجائزة، مجموعته الشعرية (متاهة العزلة) والتي تعرض فيها باث لمعاناة الشعب المكسيكي للعزلة وفقدان الهوية. بالجملة حتى عقود مضت كانت القارة الأمريكية الجنوبية (أمريكا اللاتينية) في عزلة عن بقية العالم ومن هنا استخدم الأديب الكبير غابرييل ماركيز (الحاصل على جائزة نوبل والذي عاش أغلب عمره في المكسيك ودفن فيها)، استخدم رمزية العزلة في عنوان روايته الأشهر: مائة عام من العزلة. وعليه لا غرابة ولا عجب أن نجد الذاكرة العربية (معزولة) عن هذا البلد الفريد ويضاف لذلك أنه نظرا للبعد الجغرافي الهائل للمكسيك عنا فلذا كما يقال: بعيد عن القلب بعيد عن العين ومن هنا شهادات (المكسيك بعيون عربية) كانت نادرة جدا.

الجميع يعلم الحركة الأدبية الفريدة التي أطلق عليها اسم (شعراء المهجر) وهم كوكبة من أبرز شعراء العربية في القرن العشرين الذين هاجروا للإقامة والحياة في العالم الجديد أي إلى (الأمريكيتين). وفي حين حظيت الولايات المتحدة بأهم شعراء المهجر وعلى رأسهم جبران خليل جبران وإيلياء أبو ماضي وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني نجد أن (المهجر الجنوبي) أي القارة الأمريكية اللاتينية استوطنها الشعراء الأقل شهرة نسبيا من مثل رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) وإلياس فرحات وزكي قنصل. وفي حين تجمّع أدباء المهجر الشمالي في (الرابطة القلمية) التي كان مقرها مدينة نيويورك نجد أن أدباء المهجر الجنوبي تحلقوا حول (العصبة الأندلسية) التي كان مقرها مدينة ساو باولو البرازيلية وكذلك (الرابطة الأدبية) ومقرها العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. وهذا الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة كان يعمل في السلك الدبلوماسي وتولى منصب السفير في عدد من دول أمريكا الجنوبية مثل البرازيل والأرجنتين والتشيلي لكنه لم يزر المكسيك. والمقصود أنه بالرغم من تعدد بلدان المهجر التي استقر بها أولئك الشعراء العرب المهاجرين إلى أمريكا وكندا والبرازيل والأرجنتين وفنزويلا وتشيلي وكولومبيا إلا أنه لا يوجد أي شاعر أو أديب معروف هاجر واستوطن البقاع المكسيكية وهذا يعزز أنها بالنسبة للأدب العربي هي (متاهة العزلة).

الاستثناء شبه الوحيد حصل فقط في السنوات القليلة الماضية وذلك عندما ظهر في المكسيك مهرجان أدبي يسمى (ملتقى المكسيك الدولي للشعر) تم من خلاله استضافة بعض الشعراء العرب كان من أشهرهم الشاعر السوري أدونيس بالإضافة للفيف من الشعراء العرب الأقل شهرة مثل الشاعر المصري أحمد الشهاوي والمغربي عبد اللطيف اللعبي الذي تم تتويجه في عام 2017 في ذلك المهرجان الشعري بالمكسيك بالجائزة الدولية للشعر. ومن جانب آخر حصل استثناء إضافي فيما يتعلق بأدب الرجل العربي المقيم في المسيك والمقصود أن بعض المقيمين في تلك الديار من ذوي الأصول العربية أصبح لهم حضور في المشهد الثقافي المكسيك نتيجة تأليفهم أعمال أدبية باللغة الإسبانية. ومن أهم من يستحق الإشارة هنا الشاعر ذي الأصول اللبنانية خيمي صغبيني التي تعتبر دوواينه واسعة الانتشار في أوساط الشباب المكسيكي وقبل عدة سنوات قام الشاعر اللبناني قيصر عفيف الذي أقام فترة في المكسيك بترجمة بعض القصائد المختارة من أشعار خيمي صغبيني.

وفيما يتعلق بالرواية الأدبية فلا وجود للأدباء العرب في المكسيك وإن كانت الشخصية العربية لها بعض الحضور في بعض الروايات المكتوبة باللغة المكسيكية ومن ذلك مثلا رواية (دون سيمون اللبناني) للكاتب المكسيك جييرمو دي أندا. بالمناسبة للعرب حضور لافت في أدب القارة الأمريكية الجنوبية لدرجة أنه ظهر كتاب كامل حمل عنوان (الشخصية العربية في روايات أمريكا اللاتينية) للباحث داود سلوم. وبحكم أن مشاهير كتاب أمريكا اللاتينية مثل الكولومبي غابرييل ماركيز والروائية التشيلية إيزابيل الليندي أقاموا أغلب سنواتهم الأدبية في المنفى المكسيك فهل الشخصيات العربية في رواية ماركيز (وقائع موت معلن) أو رواية الليندي (إيفالونا) كانت مستوحاة من عرب المكسيك أو من عرب بلدانهم الأصلية، هذا تساؤل يحتاج للبحث والتدقيق. من المشتهر أن أبرز رواية لغابرييل ماركيز وهي (مائة عام من العزلة) كتبها في الواقع أثناء إقامته في مدينة أكابولكو المكسيكية ولقد كان لزوجته مرسيدس بارشا قصة مشهورة في دعمه المادي والمعنوي أثناء كتابته لهذه الرواية الخالدة وبقي أن نقول إن السيدة بارشا هي في الواقعي عربية ومن أصول مصرية وهذا قد يفسر قدرة تلك الزوجة على حسن التدبير المالي.

 الرحالة العرب وشحن الذاكرة المكسيكية

في الواقع كما كان الحضور الأدبي في المكسيك يعاني من متاهة العزلة فكذلك كانت الديار المكسيكية حتى زمن قريب شبه معزولة عن الرحالة العرب فلم يصلها مشاهير الرحالة المعاصرين الذي جابوا الآفاق من مثل أمين الريحاني أو محمد كرد على أو أنيس منصور. صحيح أن لبعض العرب تواصلا قديما مع دول وشعوب القارة الأمريكية الجنوبية لكن في الأعم الغالب كان أولئك الرحالة من نصارى العرب. ومع ذلك من يطلع على مذكرات القسيس العراقي إلياس بن حنا الموصلي الذي طاف بدول أمريكا الجنوبية في نهاية القرن السابع عشر أو التاجر الأردني المسيحي خليل سماوي الذي زار أمريكا الجنوبية في بداية القرن العشرين، لا يكاد يجد إلا شذرات محدودة من ذكرياتهم عن المكسيك.

وهنا نصل للمرحلة المفصلية في تفعيل وتنشيط الذاكرة العربية حيال المكسيك ففي مطلع القرن الخامس عشر الهجري وبالتحديد في يوم السبت الواحد والعشرين من شهر ذي القعدة لعام 1401 هـ وصل عميد الرحالة العرب معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي رحمة الله إلى العاصمة المكسيكية. وبالرغم من أنه أقام بها لمدة خمسة أيام فقط إلا أنه وفي كتابه الماتع كالعادة (رحلات في أمريكا الوسطى) استعرض تفاصيل التفاصيل عن مشاهداته المطولة في هذه المدينة. وخلال 45 صفحة من ذلك الكتاب شحن الشيخ العبودي الذاكرة العربية بمعلومات ومشاهدات هامة عن المكسيك يمكن استخدامها كمرجع لتغير حالة الجالية الإسلامية في المكسيك خلال العقود الماضية. ففي حين لم يشر العبودي لوجود أي مسجد أو مركز إسلامي في تلك المدينة وقت زيارته لها نجد أنه تم افتتاح أول مركز إسلامي بها عام 1995م واليوم يوجد بها عدد من المساجد من أشهر مسجد محمد بن الوهاب لأهل السنة ومسجد أهل البيت للطائفة الشيعية.

وكما تزايد عدد المساجد والمراكز الإسلامية في المكسيك في السنوات العشر الأخير تزايد وبشكل واضح عدد الرحالة والسياح العرب والعديد منهم حرص على توثيق مشاهداتهم وذاكرتهم الجمعية في وسائل متعددة سواء في قنوات خاصة على اليوتيوب أو حسابات أخرى على وسائل التواصل الاجتماعي مثل السناب شات والإنستقرام. وما يهمنا هنا هو ذكر الوسائل الأكثر استمرارية في حفظ (الذاكرة العربية عن المكسيك) وهي تأليف الكتب الخاصة بما يسمى أدب الرحلات.  وأهم تجربة نذكرها هنا ما أنتجه الأديب والرحالة السوري المميز خليل النعيمي في كتابه (الصقر على الصبار: رحلات في أمريكا اللاتينية) وعنوان هذا الكتاب يعكس الأسطورة المكسيكية المأخوذة من حضارة الأزتيك ونجدها الآن مرسومة على علم دولة المكسيك: صقر يقف على نبتة صبار وهو يمسك بمنقاره ثعباناً. في عام 2017م أصدر الرحالة الكويتي الشاب عبدالكريم الشطي كتابا ثريا بالمعلومات التاريخية والجغرافية والمحشو بالعديد من الأبيات والاقتباسات الشعرية والأدبية وعنوان ذلك الكتاب (تسكع في أمريكيا اللاتينية). وبالرغم من أن ذكرياته ومشاهداته في المكسيك لم تكن ثرية بشكل واسع إلا أنه أطلق على المكسيك لقبل طريف (بلد من ذرة !!) وهو بهذا يشير إلى أكلات التاكو والتورتيلا الفريدة. ونختم ذكر كتب أدب الرحلات بالإشارة إلى كاتب (الرحلة البهية إلى بلدان أمريكا اللاتينية) للأديب والناقد والرحالة المغربي أحمد المديني وبالمناسبة هو قد حصل قريبا على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة.

بقي أن أقول إنه لا يخفى على القارئ الكريم أن ما تم تسطيره هو عن الذاكرة العربية (الوافدة) على المكسيك وهي تلك التي الذاكرة المؤقتة التي كانت حصيلة تجربة بعض الأدباء والرحالة في الديار المكسيكية. ومع ذلك توجد تجربة ثرية جدا ومتواصلة عن الذاكرة العربية (المستوطنة) في المكسيك ونعني بها ذاكرة الجالية العربية المقيمة بشكل دائم في المكسيك. حسب توقعات المنظمة الدولية للهجرة فإن مجموع ما يسمى عرب المهجر Arab diaspora يزيد عن 13 مليون من المحتمل أن المكسيك لوحدها قد تحتوي حوالي مليون مهاجر عربي الغالبية العظمى منهم من المسيحيين من ذوي الأصول اللبنانية والسورية. ولبعض هؤلاء العرب المكسيكيين تأثير وحضور كبير في المجتمع المكسيكي مثل رجل الأعمال المكسيكي/اللبناني كارلوس سليم الذي صنفته مجلة فوربس الأمريكية عام 2013 كأغنى رجل في العالم بثروة بلغت حينها 73 مليار دولار.

وفيما يخص الوجود الإسلامي في المكسيك فهو حتى الآن ما زال ضعيفا وغير محسوس وإن كانت أعداد المسلمين في تزايد مستمر فمثلا قبل ثلاثين سنة كان أعداهم بالمئات فقط ويصلون في غرفة وفرتها لهم السفارة الباكستانية بينما هم اليوم بالآلاف وعدد كبير منهم هم من الذين اعتنقوا الإسلام ولله الحمد. على كل حال مدينة مكسيكو هي حاليا أكثر مدينة في العالم ازدحاما بالسكان حيث يتخطى عدد سكان العاصمة وضواحيها 22 مليون شخص ولهذا في هذا الموج المتلاطم من البشر يصعب جدا رصد أو التعرف على المسلمين من الملامح لدرجة أنني لم أشاهد أي امرأة محجبة وذلك لندرة أهل الإسلام في هذه البيئة المسيحية الكاثوليكية الجارفة.

 

الأربعاء، 17 أغسطس 2022

( أخلاق الفاتحين من إسبانيا إلى المكسيك )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

ذائعة بشكل كبير تلك الشاهدة التاريخية النبيلة التي ذكرها المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الهام (حضارة العرب) عندما ذكر بأنه (ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب). لقد استحضرت هذه المقولة وأنا أستعد للسفر من مدينة برشلونة الإسبانية إلى العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي والسبب في ذلك توارد المقارنة التي تفرض نفسها في الطريقة التي فتح بها العرب أرض الأندلس بالمقارنة مع الهمجية والبربرية التي احتل بها الإسبان أرض المكسيك. بالطبع كان غوستاف لوبون يقصد بالذات فتح الجيوش الإسلامية للبلدان التي كانت تقع تحت حكم الرومان مثل بلاد الشام وأرض مصر ولهذا كانت المقارنة صارخة بين ظلم وتعسف الرومان وبين حسن تعامل العرب والمسلمين مع شعوب تلك المناطق. يقول غوستاف لوبون (كان يمكن أن يعمي فتح العرب الأول أبصارهم فيقترفون من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة وليسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم .. ورحمة العرب الفاتحين وتسامحهم كانا من أسباب اتساع فتوحهم واعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم).

وفي الحقيقة إن بعض قصص وأخبار الفتوحات الإسلامية لبعض البلدان مما تفخر به هذه الأمة فمن ذلك الرواية التي وردت في كتاب فتوح البلدان للبلاذري وساقها لاحق الشيخ الأديب على الطنطاوي بأسلوب شيق ومبدع في كتابه (قصص من التاريخ). وهي تلك القصة المعروفة عن فتح مدينة سمرقند وأن أهلها اشتكوا إلى قاضي عمر بن عبد العزير أن قتيبة بن مسلم احتل أرضهم دون أن يدعوهم إلى اعتناق الإسلام أو دفع الجزية ولهذا حكم القاضي بأن تخرج الجيوش الإسلامية من تلك المدينة لأنها خالفت السنة الشرعية في أدبيات القتال والجهاد. وقريبٌ من ذلك ما ذكره غوستاف لوبون من معاملة الصحابي الجليل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لأهل حمص (فقد ردَّ عليهم ما جباه منهم باسم الجزية عندما بلغته حشود الروم في اليرموك قائلاً: سكتنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم وغادر مدينتهم منسحباً بجيشه مما دعا أهل حمص للقول: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم، ولندفع جند هرقل عن مدينة حمص مع عاملكم). ونفس هذه الحادثة المفخرة ذكرها المؤرخ الإنجليزي البارز توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) وفيه نقل نص الرسالة التي كتبها أهل حمص من المسيحيين إلى العرب عندما قالوا: يا معشر المسلمين أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا وأنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا ولكنهم غلبونا على أمرنا ومنازلنا.

تعاون نصارى الشام مع الجيوش الإسلامية وقبولهم لحكم المسلمين طمعاً في عدلهم وبغضهم لظلم وتعسف الرومان تكرر كذلك مع الأقباط في أرض مصر. وربما هذا يفسر السهولة النسبية التي استطاع بها الجيش المسلم قليل العدد (4000 جندي) من فتح الأراضي المصرية والتي توجد بها العديد من الحاميات الرومانية المدججة بالسلاح. بل يقال إن اقتحام المسلمين لبعض القلاع المحصنة تم بسبب تعاون الأقباط معهم في تسهيل الدخول لها ومن ذلك أنه عندما حاصر عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية وعسكر بالجند حولها كان يصحبه بعض رؤساء الأقباط من المصريين. وينقل ساويرس بن المقفع الأسقف والمؤرخ القبطي الذي عاش في القرن الثالث الهجري في كتابه تاريخ بطاركة الكنيسة الإسكندرية القبطية أن البطريرك القبطي بنيامين الأول الملقب بابا الإسكندرية بعد فراره للصحراء متخفياً من الرومان لمدة 13 سنة وبعد تباشير الفتح الإسلامي لمصر كتب هذا البطريك لأتباعه يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة في مصر ويأمرهم بتلقي عمرو بن العاص والخضوع له. وفي الوقت المعاصر نجد أن المؤرخ المصري والقمص أنطونيوس الأنطوني الذي كتب عن تاريخ أقباط مصر كتب يقول (وبالجملة فإن القبط نالوا في أيام عمرو بن العاص راحةً لم يروها منذ زمان).

وكما استقبل الأقباط في مصر جنود الجيش الإسلامي كمحررين وبموافقة (دينية) مسيحية نجد أن كتائب الفتح الإسلامي عند دخولها لأرض الأندلس تم استقبالهم كمحررين بموافقة (سياسية) مسيحية هذه المرة. قبل الفتح الإسلامي للأندلس بسنة واحدة أي في سنة 91هـ حصل تغير كبير في المشهد السياسي في نظام الحكم الإسباني وذلك عندما قام حاكم قرطبة المدعو لذريق بالانقلاب على ملك القوط غيطشة واغتصب الحكم. وبعد مقتل الملك وفرار أبنائه إلى شمال المغرب حصل تحالف بينهم وبين موسى بن نصير على أن يسهلوا له احتلال الديار الإسبانية بشرط التخلص من الطاغية لذريق. وخلال أشهر قليلة تم فتح معظم مدن جنوب الأندلس والغريب أنه كان للإسبان بعض التعاضد في هذه الفتوحات فتعاونوا مع المسلمين في حصار مدينة إستجة بينما كانت قرمونة مدينة صعبة ليس في الأندلس أحصن منها ولذا اتفق موسى بن نصير مع جماعة من القوط أن يفروا من أمام الجيش الإسلامي ويتوجهون للاحتماء بحصن قرمونة فإذا أدخلهم أهل المدينة يأتي لاحقا موسي بن نصير بخيله ويفتح له هؤلاء المتعاونون أبواب الحصن.

الإسبان وتدمير الحضارات الثلاث

وبالجملة بعد اكتمال الفتح الإسلامي للأندلس ضمن المسلمون لأهل البلاد الأصلية في إسبانيا حرية العبادة والتملك بل وتولي أعلى المناصب في المجتمع وهو ما سبق أن تمتع به نصارى الشام وأقباط مصر ولهذا أطلق الغربيون قبل العرب على الأندلس بأنها (واحة التسامح في أوروبا) وزمن حكم العرب لها بأنه العصر الذهبي لتعايش الأديان. للأسف كل ذاك البريق الأندلسي تبدّل وكان منطلق التغير من مدينة برشلونة التي تبين لي أثناء زيارتي لها أنه لا أثر على الإطلاق للوجود العربي بها. وبعد أن كانت برشلونة القاعدة المؤقتة للجيوش الإسلامية في القرن الثاني الهجري لمحاولة غزو وفتح فرنسا وإذا بها بعد عودتها للهيمنة المسيحية لتصبح عاصمة مملكة أرغون ومن ثمّ باتت هي قاعدة حروب القشتاليين لاسترداد Reconquista المدن والممالك العربية الواحدة بعد الأخرى.

أخلاق الفاتحين العرب سمحت ببقاء نصارى الشام وأقباط مصر ويهود فلسطين واليمن والمغرب منذ فجر الفتوحات الإسلامية وحتى الآن بينما شناعة التعصب الديني والعرقي لنصارى إسبانيا أفرزت المحو التام للوجود العربي والإسلامي في الأندلس من خلال محاكم التفتيش الشنيعة وكذلك بواسطة التنصير الإجباري للموريسكيين وأخيرا طردهم إلى خارج إسبانيا. وفي حين كانت مدينة غرناطة آخر معاقل الإسلام في الأندلس تسقط في الثاني من شهر يناير لعام 1492م تحت حكم فرديناند وإيزابيلا نجد هذا الملك والملكة يوفران الأموال والسفن للمغامر الإيطالي كولومبوس لكي يبحر في الثالث من شهر أغسطس من تلك السنة (1492م) لاكتشاف العالم الجديد في القارة الأمريكية. بالمناسبة صحيح أنه قبل حوالي ثلاث سنوات انتشرت موجه إسقاط تماثيل كولومبس التكريمية من عدد كبير من ساحات وحدائق المدن العالمية وإيقاف الاحتفال بما يسمى (يوم كولومبوس) وذلك نتيجة للمحاكمة التاريخية المتأخرة للجرائم التي قام بها كولومبوس والجنود الإسبان ضد السكان الأصليين في جزر أمريكا الوسطى. لكن شناعة التاريخ الأسود لكولومبوس في إبادة واسترقاق أهل الجزر الكاريبية لا تقارن على الإطلاق بالجرائم والفظائع التي اقترفها جنود الإسبان عند غزوهم للأراضي المكسيكية.

حصل ذلك بحوال ثلاثة عقود من سقوط غرناطة عندما نزل المغامر الإسباني (الكونكيستدور) هرنان كورتيس بيزارو على ساحل يوكاتان المكسيكي عام 1519م وفي واحدة من أغرب الأحداث في التاريخ حيث توجه ذلك المغامر الشاب برفقة 630 جنديا فقط وبعض الخيول لغزو عاصمة إمبراطورية الأزتيك أعظم وأضخم دولة في تاريخ القارة الأمريكية. في بداية الأمر لم يقابل الشعب المكسيكي الجنود الإسبان بالعداء لأنهم ظنوا أن بيزارو ذو الجلد الأبيض المختلف عنهم إنما هو تجسيد لأحد آلهة الأزتيك. وبسبب عدم معرفة أهل المكسيك لحيوان الحصان والعجلات والبنادق والمدافع استطاع ذلك العدد القليل من جنود الإسبان ليس فقط اقتحام عاصمة الأزتيك بل وكذلك أسر الإمبراطور المكسيكي مونتيزوما وقتله لاحقا ونهب وسرق ثروات مملكته. كان أحد الجنود الذين رافقوا بيزارو في غزو المكسيك هو الكونكيستدور برنال كاستيلو الذي زعم أنه شارك في 119 معركة ونشر شهادته في كتابا خاصا أصبح أحد أهم المراجع لوقائع جرائم الإسبان ضد شعب المكسيك. ومن ثنايا كتاب برنال كاستيلو وكذلك من شهادة الراهب الدومينيكي دي لاس كاساس الذي عاصر غزو المكسيك وألّف كتاب عن (تدمير جزر الهند) وأرسله للملك الإسباني فيليب الثاني، نعلم بعض أسرار الجرائم التي ارتكبها جنود الإسبان ضد السكان الأصليين. في الوقت الحالي تعتبر شخصية كورتيس بيزارو من الشخصيات الممقوتة جدا لدى الشعب المكسيك وقبل عقود طويلة تم منع إقامة تمثال له في إحدى المدن المكسيكية كما يحصل الآن من إزالة تماثيل كولومبوس.

وفي الختام نقول إنه كما أزال الإسبان أي أثر للدين الإسلامي واللغة العربية في الأندلس نجد أن القوة الغاشمة للجنود الإسبان تسببت في سنوات قليلة في تدمير عاصمة إمبراطورية الأزتيك والزوال النهائي والكامل من وجهة التاريخ لهذه الأمة العريقة في تاريخ الحضارات البشرية. تشير التقديرات التاريخية إلى أن عدد سكان حضارة الأزتيك عندما وصل لها الإسبان كان حوالي 15 مليون شخص كما أن عاصمتهم المسماة تينوتشتيتلان ربما كانت أكبر من أي مدينة أوروبية في ذلك التوقيت ومع ذلك تلاشت تلك الحضارة بسبب عنف وبربرية الجنود الإسبان المخربين.  لقد زرت أطلال أهرامات حضارة الأزتك في منطقة تيوتيهواكان التي تبعد حوالي 50 كيلومترا شمال شرق العاصمة مكسيكو ستي وبالرغم من أن تلك المنطقة قد تضررت واندثرت بالفعل قبل وصول الإسبان إلا أنني أجزم أنها لم تكن لتصبح أرض خراب بالكامل لولا تأثير الإسبان المدمر. الجدير بالذكر أن جنود الإسبان بعد وصولهم بسنوات قليلة عام 1519م إلى المكسيك ووصلوا كذلك عام 1528م إلى البيرو وتسببوا في الانهيار السريع والتام لحضارة شعب الإنكا المنتشرة في ذلك الزمن في البيرو والإكوادور وبوليفيا. صحيح أن حضارة شعب المايا أصابها الوهن والتدهور قبل وصول الإسبان إلى أراضي أمريكا الوسطى، ولكن في ضوء ما سبق ذكره ليس من المستغرب أن حضارة المايا تلاشت بالكامل بعد وصل الإسبان. والغريب أنه في نفس تلك الفترة تقريبا وبالتحديد في عام 1521م اجتاحت الجيوش الإسبانية جزر الفلبين وحولتها بالبطش والقتل من جزر ينتشر فيها الإسلام (اسم العاصمة مانيلا يقال إنه تحريف لعبارة: في أمان الله) إلى كيان مسيحي متعصب وتحول اسم البلاد إلى (الفلبين) نسبة إلى اسم ملك الإسبان فيليب الثاني.

من هذا وذاك من الأحق بالوصف أنه نشر دينه وحضارته ولغته بالسيف والقتل والتدمير !!