الأحد، 28 أبريل 2019

( التدرج في الانزلاق ... مشايخ الطرب نموذجاً )

ظاهرة اجتماعية محيرة .. من التشدد الديني إلى الانفتاح والرخاوة السلوكية

د/ أحمد بن حامد الغامدي

ظاهرة غريبة في تاريخ الغناء العربي الحديث تتمثل في أنه ولد من رحم التواشيح الدينية والهمهمات الصوفية وإنشاد قصائد المديح النبوية. المفارقة هنا أنك تصاب بالحيرة في الحكمة التي أطلقها أبو العتاهية في أرجوزته ذات الأمثال عندما قال (ما طاب فرعُ لا يطيب أصله) فهل السماع والإنشاد الديني طيب الأصل والأرومة أم أنه منحرف في أصله وعليه فثمرته المرة (الغناء) غير مستغربة. من المعروف عن المغنية الشهيرة أم كلثوم ليس فقط نشأتها في أجواء حفلات الذكر في المولاد والإنشاد الديني ولكن اكتشافها وتقديمها لساحات ومسارح الغناء تمت على يد عدد من رجال الدين وقراء القرآن الكريم من (مشايخ الطرب) مثل الشيخ أبو العلا والشيخ زكريا أحمد.
المجتمعات والبيئيات المحافظة بل وحتى المتحجرة فكريا هي عرضه لحصول التغير الاجتماعي والتحول السلوكي والتذبذب الفكري بسبب تأثير عوامل متداخله متعددة ونتيجة لتصارع مؤثرات داخلية وخارجية متنافرة. في الغالب موجة التغيير ودورة التبديل تحتاج لعقود متطاولة من الزمن لتنتج تأثيرها في حين قد يحصل التغير في غفلة من الزمن. وعلى ذكر مشايخ الطرب ومسيرة بعضهم المنزلقة في وهدة الانحدار لعل من الملائم الإشارة للحالة الغريبة للشيخ سيد الصفتي الذي كان برنامج حفلاته المسائية في السنوات الأولى من القرن العشرين  (يبدأ أمسياته بالقراءة المجودة للقرآن الكريم ثم ينتقل لإنشاد التواشيح الدينية ثم يختم مع ساعات الفجر الأولى بغناء الألحان العاطفية بمصاحبة العود). 
كنت أعلم مسبقا بارتباط بعض مشايخ الدين ببدايات الغناء في أرض مصر المحروسة من مثل الشيخ سلامة موسى والشيخ أبو العلا ولكن لم أكن أدرك أن تلك الظاهرة النشاز متعمقة لدرجة أنه قد شارك فيها بشكل أو آخر بعض شيوخ  الأزهر أو من تولى منصب مفتي الديار المصرية وكذلك عدد من قراء المشايخ ومؤذني المساجد. أطلعت قبل فترة على كتاب صادم يناقش ظاهرة ( مشايخ الطرب ) وهم رجال الدين في أرض مصر الذين كانوا ولا زالوا يتميزون باعتمار العمامة ولبس الجبة والقفطان ولهذا كان عنوان ذلك الكتاب (المُعمّمون في ساحة الغناء والطرب) من إصدارات دار الهلال المصرية وتأليف الناقد الفني والصحفي المصري خليل عبدالنور.
كما هو معلوم من بدايات التاريخ العربي وجدت الظاهرة الاجتماعية المتعلقة بحفلات الغناء ولكنها لم تكن منتشرة في جميع شرائح المجتمع حيث أنها كانت شبه محصورة في قصور الأمراء وكبار الأثرياء أو موجودة بالخفاء في أوساط الدهماء. الغريب في الأمر أن (التقاليد الاجتماعية والأصول المرعية) المتبعة في المجتمع المصري عند بداية انتشار ظاهرة (السماع العام) للاغاني في الأفراح والليالي الملاح كانت تمنع المرأة إذا أرادت الغناء من الظهور المباشر أمام الرجال. غناء المرأة من وراء الستار هو بداية تساهل المجتمع المصري في شيوع الطرب في المسارح والافراح وهذا ما حصل مع اشهر مغنية في الزمن البائد وهي (الست ألمظ) زوجة رائد الغناء العربي عبده الحامولي والذي بعد زواجه منها منعها بشكل تام من الغناء حتى ولومن وراء حجاب.
الشيخ سلامة حجازي ذاع صيته في بداية شبابه كمقرئ مجود للقرآن الكريم ومؤذن ومنشد جميل الصوت ولاحقا أصبح من مشايخ الصوفية لدرجة أنه تولى مشيخة الطريقة الصوفية المسماة بالراسية. ولكن في أواخر عمره انتهى به الحال ان يعمل كمطرب وممثل علي خشبة مسارح القاهرة والاسكندرية لدرجة انه أصيب بالشلل وسقط علي خشبة المسرح وهو يؤدي أحد ادواره الغنائية علماً بأنه في اوائل شبابه رفض التمثيل وقال (أنا شيخ طريقة صوفية ولا يصح أن انزل إلي مستوى المشخصاتية). وعلى نفس النسق كان المغنى والملحن المصري ( الشيخ أبو العلا ) في الاصل من أشهر القراء في القاهرة إلى أن احترف في مجال انشاد قصائد المديح النبوي والتواشيح الدينية المصحوبة بما يسمى فرقة ( التخت الشرقي ) والتي في وقتها لم تكن تتجاوز وجود عازف على الربابة وآخر يعزف على الناي. ولاحقا أصبح هذا الشيخ المعمم هو من أكتشف أم كلثوم وصقل موهبتها كما يقال ولحن لها أشهر أغانيها العاطفية القديمة والتي كان منها قصيدة غزلية قديمة لشيخ الأزهر الفقيه والأديب الشيخ عبدالله الشبراوي الذي لو كان حياً لمنع مهزلة أن تغنى قصائده.
الشيخ المعمم زكريا أحمد يعتبر ثاني أهم شخصية أثرت في مستقبل أم كلثوم ولكن بحكم كونه حافظاً للقرآن الكريم بالقراءات السبع ومن مشاهير القراء الشباب في القاهرة لهذا عندما بدأ شغفه بالموسيقى والطرب يسوقه للجلوس على بعض مقاهي القاهرة للاستماع للألحان والأغاني أُستهجن هذا الفعل منه ولهذا  تم إحالة الشيخ زكريا أحمد إلى مجلس تأديبي أصدر قراراً بحرمانه من دخول الأزهر وايقاف صرف المكافآت المالية له. أما أهم ملحن أغاني في مشوار أم كلثوم وهو (الشيخ) محمد القصبجي الذي لحّن لها حوالي 120 أغنية فلا عجب أن نعلم بعد ما سبق ذكره أنه في صباه قد أتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن التاسعة ثم ألتحق بعد ذلك بالدراسة في الجامع الأزهر وحمل لقب الشيخ عندما كان يرتدي زي الازهريين المميز.
بقي أن نقول أنه لا أدل على صلة القرابة بين موجة الغناء العربي الحديث وبين الجذور الدينية ذات الطابع المحافظ من الاشارة إلى أن أساطين وسلاطين الطرب العربي ولدوا في بيوت وأسر متدينة. فهذه سيدة الغناء العربي كما توصف أم كلثوم والدها الشيخ أبراهيم البلتاجي هو امام جامع قرية طماي القريبة من السنبلاوين بينما الموسيقار محمد عبدالوهاب نجده هو الآخر أبن أمام جامع الشيخ الشعراني العريق بل وصل الأمر أن محمد عبدالوهاب في صباه ربما قام برفع صوت الآذان من فوق مأذنة جامع الشعراني بحي  باب الشعرية في قلب القاهرة الفاطمية. أم رائد الغناء العربي الحديث سيد درويش فقد ظل فترة من الزمن في أوائل حياته وهو يعرف باسم (الشيخ سيد) وذلك عندما كان طالب علم في الجامع الأزهر وكان يرتدي الجبة والقفطان ويعتمر العمامة الازهرية.

ماذا حدث للمصريين !!؟
سؤال محير ومربك يطرح نفسه (كيف تنزلق المجتمعات المحافظة والمتدينة إلى بيئات رخوة أخلاقياً ومتذبذبة فكرياً) ولمحاولة تلمس الاجابة عن هذا التساؤل عما حدث للمصريين ومن في حكمهم لعلنا نستلهم (جزء من الجواب) من أهم دراسة على الاطلاق عن المجتمع المصري وهو كتاب (شخصية مصر) للكاتب والمفكر المصري الكبير جمال حمدان. يوافق جمال حمدان بشيء من التحفظ على وجهة نظر عدد من المؤرخين والمستشرقين بأن الشخصية المصرية (معزولة) وأنها بصورة أو بأخرى عالم كامل وحده قائم ومكتفي بذاته. وهنا تكمن المشكلة أن المجتمعات المعزولة (عزلة حماية) والمستقلة بذاتها عندما تتعرض لمرحلة احتكاك حضاري مع قوى أكثر تطوراً وتقدماَ (في حالة مصر الغزو الفرنسي زمن نابليون والنفوذ التركي زمن حكم الاسرة الخديوية والاحتلال البريطاني الطويل) يكون من توابع ذلك تعرض الأمة إلى حالة سيولة حضارية واستلاب ثقافي. يصف الدكتور جمال حمدان هذه المرحلة بأنها مرحلة الانبهار الحضاري والانهيار النفسي مما يجعل فئام من الشخصية المصرية في القديم تفقد الثقة في تاريخها وتراثها وتتهافت إلى النقل والتقليد للأفكار والاخلاق الغربية المتفرنجة. هل هذا يفسر تقبل المجتمع المصري اثناء بداية الاحتلال الانجليزي تحوله من مجتمع محافظ ينتشر فيه الحجاب ويمنع فيه الاختلاط إلى تقبل فتح أوكار الدعارة المرخصة رسمياً في حي الأزبكية السيء السمعة وافتتاح المسارح والكبريهات والخمرات في شارع الهرم وشارع عماد الدين.
بعد مرحلة الانبهار والانهيار السالفة الذكر يرصد الدكتور جمال حمدان مرحلة تالية في المجتمع المصري يصفها بأنها مرحلة جاءت في الاصل كردة فعل عكسي لمرحلة الاستلاب الحضاري وهي مرحلة رافضة للغرب والتفرنج وتجنح إلى العودة للماضي واشتداد الحركات السلفية. اللافت في الأمر أن جمال حمدان ينتقد هذه المرحلة العكسية ويعتبر أن المجتمع أنقلب من مشكلة (مركب النقص) إلى ضدها وهي (مركب العظمة). الغريب في الأمر أنه توقع بأن المجتمع المصري في منتصف القرن العشرين سوف يجنح إلى ما سماه (مرحلة الاعتدال) وبالتالي توقع أن تتعدل مسيرة الحراك الاجتماعي في الشعب المصري ولكن ما حصل هو عكس ذلك تماما لدرجة أن الكاتب والمفكر المصري المعاصر جلال أمين حاول أن يرصد التغيرات الكارثية الهائلة التي حصلت في المجتمع المصري وعلية نشر كتابه ذائع الصيت وواسع الانتشار (ماذا حدث للمصريين). لقد نشر هذا الكتاب في السنوات الاخيرة من القرن العشرين وكان هدفه أن يرصد بالدرجة الاولى التغييرات الاجتماعية (السلبية) التي حصلت في المجتمع خلال نصف القرن الأخير وكأنه بطريقة غير مباشرة يحاكم حكم العسكر وتأثيره الشنيع على المجتمع المصري.
بالمناسبة كتاب (ماذا حدث للمصريين) كتاب جيد من ناحية محاولة تفسير أسباب الحراك المجتمعي والمؤثرات المفصلية فيه بينما نجد الكتاب المحلي المقلد له (ماذا حدث للسعوديين) وإن كان ليس فقط استعار عنوان كتاب جلال أمين بل وحتى صورة غلافة إلا أنه كأي عمل مقلد كان أضعف منه بكثير بالإضافة لأنه أصابه الشطط في التركيز على نقد تشدد وانغلاق المجتمع في مقابل التنظير والتعزيز لظاهرة الانفتاح الفكري والسيولة السلوكية. للأسف الشديد في حين نجد بعض الشعوب العربية الشقيقة ينبري من أبنائها من يحاول وضع نظريات وافكار تقدمية في تطوير مجتمعها المحلي بالانطلاق من ثوابتها الدينية والقومية كما في كتب المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي مثل كتاب (من أجل التغيير)  وكتاب (ميلاد مجتمع) نجد بعض الكتب والدراسات الاجتماعية عندنا تركز على التنظير للتحديث والتطوير في منظور مصادم للأصالة والتراث كما نجد ذلك في كتاب مي يماني (هويات متغيرة .. تحدي الجيل الجديد في السعودية) وكتاب جهاد الخنيزي (الاصلاح والممانعة في المجتمع السعودي) وكتاب (السعودية البديلة) لأحمد عدنان.