الجمعة، 24 فبراير 2017

( مطر مطر مطر )

المطر في الشعر القديم كرم وفروسية .. وفي الشعر الحديث رومانسية وشهوة
 
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
الانسان ابن بيئته كما يقال في حين أن الشاعر (أسير) موروثه الشعري ولهذا تشكى قديما بعض شعراء العصر العباسي من سطوة الشعر الجاهلي وجمود مطالع القصيدة العربية القديمة من حيث ضرورة الاستهلال بالوقوف على الاطل. نفس هذه المشكلة وقع فيها شعراء العصر الأندلسي فبالرغم من أنهم كانوا يعيشون في (بيئة أوروبية) ماطرة وجنة غناء إلا أن الجينات الفطرية في شخصيتهم العربية كانت تحن إلى (هطول المطر) ولهذا لا عجب أن أشهر قصيدة في الأدب العربي هي موشح لسان الدين ابن الخطيب:
جادك الغيث إذا الغيث همى        يا زمان الوصل بالأندلسي
ما أريد أن أصل إليه بمناسبة هطول الامطار هذا الاسبوع أن غالبية الشعر العربي القديم المتعلق بالمطر والغيث حصر هذه الظاهرة الطبيعية الهامة في حياة البادية والصحراء في مفاهيم (جادة) وجامدة مثل الدلالة على الكرم والبعض الآخر ربما قام بتوظيف المطر والغيث أو السيل في توصيف الحرب والفروسية. من المحتمل أنه بسبب البيئة الصحراوية القاحلة (جفت) ونضبت القريحة الشعرية للرعيل الأول من شعراء العربية عن توظيف واستخدام (الاجواء المطيرة) في التعبير عن مشاعر الحب ورومانسية العاطفة.
هذا الأمر أختلف بشكل كامل وجذري في قصائد (شاعر الحب والمرأة) نزار قباني والذي ليس فقط نجد أن الامطار والقطرات تغرق قصائده العاشقة ولكن أيضا عدد لا بأس من قصائده يحمل عنوانها لفظة المطر مثل قصيدة (حزب المطر) وقصيدة (بيروت والحب والمطر) وقصيدة (عقدة المطر) وقصيدة (حبيبتي والمطر) وغيرها كثير.
بلا نزاع نزار قباني شاعر الشهوة المنحلة والمكشوفة ولهذا لا غرابة أن نجد أن نظرته (لأجواء المطر) الغائمة والباردة التي تثير (الرغبة في الجنس) تختلف عن نظرة الشعراء القدامى الذي نظروا للحالة نزول (الغيث) أنه لحظة حياة ونماء وبركة ولهذا ارتبط المطر في مخيلتهم الفطرية السليمة بالكرم والشجاعة. أما نزار قباني ففي عدد كبير من قصائده لا يذكره برد الشتاء ورطوبة الامطار إلا في الرغبة  الاثيمة كما في قصيدة (بيروت والحب والمطر) أو الاسوء من ذلك انقداح الشهوة الخاطئة في الشذوذ الجنسي كما في قصيدة (القصيدة الشريرة) والتي طرحت قضية اسرار العلاقة الجنسية بين النساء وشهوة التلصص عليهن.
على كل حال لعلنا أن نشير في الختام لبعض أشهر مقاطع القصائد الشعرية لنزار قباني التي كانت من (وحي المطر):
مطلع قصيدة (سبتمبر)
الشعر يأتي دائما
مع المط.
و وجهك الجميل يأتي دائماً
مع المطر.
و الحب لا يبدأ إلا عندما
تبدأ موسيقى المطر..
***
إذا أتى أيلول يا حبيبتي
أسأل عن عينيك كل غيمة
كأن حبي لك
مربوط بتوقيت المطر
 
قصيدة (عقدة المطر)
أخاف أن تمطر الدنيا ولست معي
فمنذ رحتِ وعندي عقدة المطر
كان الشتاء يغطيني بمعطفه
فلا أفكر في برد ولا ضجر
كانت الريح تعوي خلف نافذتي
فتهمسين تمسك هاهنا شعري
وألان اجلس والأمطار تجلدني
على ذراعي على وجهي على ظهري
فمن يدافع عني يا مسافرة
مثل اليمامة بين العين والبصر
كيف أمحوك من أوراق ذاكرتي
وأنت في القلب مثل النقش في الحجر
أنا أحبك يامن تسكنين دمي
إن كنتِ في الصين
أو إن كنتِ في القمر..
 
الجزء الأخير من قصيدة (رسالة حب):
عاد المطرُ ، يا حبيبةَ المطرْ..
كالمجنون أخرج إلى الشرفة لأستقبلَهْ
وكالمجنون ، أتركه يبلّل وجهي..
وثيابي..
ويحوّلني إلى إسفنجة بحريّة..
*
المطر..
يعني عودةَ الضباب ، والقراميد المبلّلة
والمواعيد المبلّلة..
يعني عودتَكِ .. وعودةَ الشعر.
أيلول .. يعني عودة يديْنا إلى الالتصاقْ
فطوال أشهر الصيف..
كانت يدُكِ مسافرة..
أيلول..
يعني عودةَ فمك، وشَعْرك
ومعاطفك، وقفّازاتك
وعطركِ الهنديّ الذي يخترقني كالسيفْ.
*
المطر.. يتساقط كأغنية متوحّشة
ومَطَركِ..
يتساقط في داخلي
كقرع الطبول الإفريقية
يتساقط ..
كسهام الهنود الحُمْرْ..
حبّي لكِ على صوت المطرْ..
يأخذ شكلاً آخر..
 
قبل أن نغادر صحيح أن البعض قد قال أن (المرأة في شعر نزار قباني مطر يفيض في فيافي الروح) لكن لكل من لديه معرفة عامة بالشعر العربي الحديث يعلم علم اليقين أن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب هو الأحق والأجدر بأن يوصف بأنه خير من مزج الحب والغرام بالمطر والماء في أغلب قصائده الشعرية ولشهرة هذا الموضوع اكتفينا هنا باستعارة مطلع قصيدة (أنشودة المطر) البالغة الشهرة لبدر شاكر السياب لنجعله عنوان لمقالنا هذا (مطر مطر مطر).


السبت، 18 فبراير 2017

( الشعراء .. والثقافة السياسية )

الشعر السياسي العربي غالبا مصاب بمشكلة (الاغراق في المحليات)
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
جرت عادة شعراء العربية قديما وحديثا ان يفخروا بالإنجازات السياسية وبإنتصارات المعارك الحربية (أيام العرب) لشعوبهم ودولهم ولهذا طربنا مع شعر صناجة العرب الأعشى عندما تفاخر بانتصار العرب في يوم ذي قار أمام الفرس:
وجندُ كسرى غداة َ الحنوِ صبحهمْ
مِنّا كَتائبُ تُزْجي المَوْتَ فانصَرَفُوا
إذا أمَالُوا إلى النُّشّابِ أيْدِيَهُمْ،
مِلنا ببِيضٍ، فظَلّ الهَامُ يُختَطَفُ
لَوْ أنّ كُلّ مَعَدٍّ كانَ شارَكَنَا
في يومِ ذي قارَ ما أخطاهمُ الشّرفُ
 
إن للشاعر الجاهلي الكبير الأعشى كل الاحترام بالتفاخر (بأيام العرب) لأنها من صلب ثقافته التاريخية والسياسية التي يعيشها ولكن التقدير يكون أتم له إذا علمنا أن له نوع معرفة ثقافية (بأيام العجم) التي هي من نتائج بيئة حضارية مختلفة عن بيئة العربية وهنا تتجلى أبعاد (الثقافة السياسية) للشاعر العربي وأنه ليس أسير بيئته المحلية فقط. تذكر كتب الأدب أن الأعشى قال قصيدة عصماء في مدح ملك الحيره إياس الطائي وفي ثنايا هذه القصيدة عرج الأعشى بالإشادة بجهود إياس في نصرة الفرس ومساعدتهم في هزيمة الروم في موقعة (يوم ساتيدما) وهي معركة هامة وقعت جهة الموصل بالقرب من نهر صغير أو جبل يحمل اسم ساتيدما وحصل هذا القتال الشرس بين الفرس وبين الروم بقيادة هرقل عظيم الروم والذي بالرغم من شجاعته وخبرته القتالية إلا أنه انهزم امام الفرس مما تسبب في ضعف الروم لدرجة أنه تم لاحقا احتلال الفرس لمدينة القدس ولهذا استخدم الاعشى (ثقافته السياسية) بهذه المعركة (غير العربية) في بيان فضائل ممدوحة الذي ساهم في تشريد جيش هرقل حيث قال:
وَهِرَقْلاً، يَوْمَ سَاتِيدَمَا
من بني بُرْجانَ في البأسِ رَجَحْ
وَرِثَ السّؤدَدَ عَنْ آبَائِهِ
وغزا فيهمْ غلاماً ما نكحْ
صَبّحُوا فارِسَ في رَأدِ الضّحَى
بطحونٍ فخمة ٍ ذاتِ صبحْ
ثمّ ما كاؤوا، ولكنْ قدّموا
كَبْشَ غارَاتٍ، إذا لاقَى نَطَحْ
فَتَفَانَوْا بِضِرَابٍ صَائِبٍ
مَلأ الأرْضَ نَجِيعاً فَسَفَحْ
مثلَ ما لاقوا منَ الموتِ ضحىً
هَرَبَ الهَارِبُ مِنهُمْ وَامتضَحْ
 
في واقع الأمر يبدو أن الشعراء العرب الذين هم على شاكلة الاعشى في ثقافتهم السياسية خارج الأفق والإطار المحلي محدودي الوجود نسبيا وذلك لأن الأعشى كان في الأصل كثير الاسفار والاختلاط بالشعوب غير العربية حيث كان يفد على ملوك الفرس ويمدحهم كما إنه في المقابل كان يميل للنصرانية ولهذا كثرت الالفاظ والاخبار الاعجمية في شعره. وكنتيجة لانغلاق البيئة العربية القديمة ربما نحتاج لجهد جهيد لاستخراج أمثلة (للثقافة السياسية غير العربية) من شعر جرير أو الفرزدق في حين أننا من خلال شعر المتنبي قد يكون أقصى ما نعرفه أن لقب قائد الجيش البيزنطي هو (الدمستق) وان ملك الروم في زمنه هو (قسطنطين) لأن هؤلاء بكل بساطة كانوا أعداء سيف الدولة وخصومه في المعارك فثقافة المتنبي السياسية هنا تدور حول أمر له صلة وثيقة بالواقع المحلي العربي. وكذلك من قصيدة أبي تمام في فتح عمورية عرفنا اسم الملك البيزنطي توفيل بن ميخائيل (أو توفليس كما ورد في القصيدة البائية الخالدة) الذي أنهزم وهرب من أمام المعتصم ولكن هنا مرة أخرى كانت هذه المعلومة السياسية في سياق محلي بحت وليست كما حصل مع الاعشى عندما ذكر تفاصيل معركة (دولية) خارج النطاق العربي.
 
إن أوضح مثال على قضية (الثقافة السياسية) في الشعر العربي القديم هي القصيدة السينية الفريدة للشاعر العباسي البحتري والتي تسمى (قصيدة وصف إيوان كسرى) وهى على العكس من أبيات الاعشى المحدودة نجدها هنا قصيدة كاملة خصص منها حوالي أربعين بيتا لمناقشة وعرض موضوع سياسي وحضاري (غير عربي) حيث انها تدور حول وصف أطلال وأثار هيبة وعظمة الامبراطورية الفارسية ممثلة في توصيف إيوان وعرش كسرى أنو شروان في عاصمة بلادة مدينة المدائن. في واقع الأمر لا بد أن نعترف أن مقصود الشاعر في الأساس كان أن يسلي ويواسي نفسه بالتفكر بمصير من قبله لعل هذا الامر يخفف عنه شدة الوحشة والجفاء الذي حصل بينه وبين الخليفة المنتصر بالله. وبغض النظر عن سبب المحرك العاطفي لمشاعر الشاعر المثقف ما يهمنا في الواقع أن نذكر وصف البحتري لمعركة أنطاكية التاريخية التي حصلت عام 613 ميلادي بين الروم والفرس وهي المعركة التي ورد ذكرها في القران الكريم في سورة الروم والتي فيها الاشارة لهزيمة جيش الروم (الم * غُلبت الروم * في أدنى الأرض). وفي حين أن أبيات الأعشى السالفة كانت تركز على شخصية هرقل نجد أن أبيات البحتري محورها شخصية كسرى أنو شروان:
 وإذا ما رَأيْتَ صُورَةَ أنْطَاكيَةَ
 ارْتَعْتَ بَينَ رُومٍ وَفُرْسِ
والمَنَايَا مَوَاثِلٌ، وأنُو شَرْوانَ
  يُزْجي الصّفوفَ تحتَ الدِّرَفْسِ
في اخضِرَارٍ منَ اللّباسِ على أصْـفَرَ
  يَختالُ في صَبيغَةِ وَرْسِ
وَعِرَاكُ الرّجَالِ بَينَ يَدَيْهِ
  في خُفوتٍ منهمْ وإغماضِ جَرْسِ
منْ مُشيحٍ يُهوي بعاملِ رُمْحٍ
  وَمُليحٍ من السّنانِ بتُرْسِ
تَصِفُ العَينُ أنّهُمْ جِدُّ أحيَاءَ
  لَهُمْ بَينَهُمْ إشارَةُ خُرْسِ
يَغتَلي فيهمُ ارْتِيابيَ، حَتّى
 تَتقَرّاهُمُ يَدايَ بلَمْسِ
 
وبما أننا ما زلنا في سياق ذكر إيوان كسرى في الشعر العربي وحال وأخبار مملكة ساسان الفارسية وأباطرتها الكبار مثل دارا (داريوس الثالث والذي قتله الإسكندر المقدوني) فلا بأس من التذكير بالأبيات الشعرية الشهيرة في رثاء الاندلس للشاعر العربي الاصيل أبو البقاء الرندي والذي نجده كحال البحتري عندما أراد أن يواسي ويسلي نفسه من مصيبة فقد الاندلس أخذ يتذكر حال الأمم والشعوب من قبلنا التي جار عليها صرف الزمان:
 
أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ
وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ  
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ
وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ  
أتى على الكُل أمر لا مَرد له
حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلك ومن مَلِك
كما حكى عن خيال الطّيفِ وسْنانُ
دارَ الزّمانُ على (دارا) وقاتِلِه
وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
 
زخم الثقافة السياسية في الشعر المعاصر
بالجملة لقد كانت الثقافة السياسية للشعراء العرب الأقدمين شبه مقتصرة على الواقع والاجواء المحلية العربية وإن جاوزته فهي لا تبتعد أبعد من الاقاليم الاسلامية التركية والفارسية والهندية. هذا النقص في عالمية الشعر السياسي العربي ازداد سوءاً في عصور الانحطاط العربية وعصور الجمود الادبية التي امتدت منذ عصر المماليك وحتى مطلع القرن العشرين، ولذا لم يكن للشعراء العرب أي اهتمام لتسجيل الاحداث السياسية والتاريخية الكبرى غير الاسلامية في اشعارهم فلا انعكاس للثورة الفرنسية أو اكتشاف الأمريكيتين أو الحروب الاوروبية بين الكاثوليك والبروتستانت على الانتاج الادبي لتلك الحقبة. لكن كل هذا التجاهل الادبي للعالم السياسي من حولنا سرعان ما سوف يتلاشى بعد أن تصبح بلاد العرب هي قطب رحى ظاهرة الاستعمار الاوروبي وساحة المعركة الخلفية للقوي الغربية المتصارعة.
 
في اعتقادي الشخصي أنه لم يوجد في قديم الشعر العربي ولا حديثة شاعر أكثر ثقافة سياسية من أمير الشعراء ومستشار الامراء أحمد شوقي والذي نجد له عشرات القصائد الطوال في مواضيع سياسية وتاريخية وفكرية غير معتادة الطرق في البيئة العربية التقليدية. المتصفح لديوان أحمد شوقي يستطيع ان يتعثر ويتكعبل في كل صفحه منه باسم شخصية سياسية أو تاريخية كبرى سواء كانت عربية أو جاهلية أو فرعونية أو تركية أو يونانية أو أوروبية. فمثلا في أي قصيدة عن أبو الهول أو مومياء توت عنخ أمون يمكن أن يصادفنا كم غفير من اسماء آلهة وملوك الفراعنة مثل آمون ورع وسيتي وإيزيس وخوفو ورمسيس ومينا. أما الثقافة السياسية لأحمد شوقي وسعة اطلاعه بالحضارات وتاريخ الامم غير العربية فيمكن استجلائه من أنه كتب قصائد طويلة عن شخصيات سياسية أجنبية قديمة وحديثة مثل قصيدة (مصرع كيلوبترا) وقصيدة (على قبر نابليون) كما له قصيدة أخرى مخصصة لمناسبة تتويج الملك الانجليزي إدوارد السابع. الجدير بالذكر أن الرئيس الامريكي ثيودور روزلفت هو محور قصيدة لأحمد شوقي حملت عنوان (أنس الوجود) وهو معبد فرعوني في مدينة أسوان زاره الرئيس الامريكي في  عام 1910 وثارت ضجة دبلوماسية في حينه لأن روزفلت تهجم على الاسلام ودعم في كلمه له الاستعمار البريطاني لمصر ومن غرائب الأمور أن هذه القصيدة بالذات (أيها المنتحي بأسوان دارا) هي نفس القصيدة التي أثارت زوبعة محلية عندما اتهم البعض وزير الاعلام قبل سنه أنه سرقها وحورها لقصيدة (أيها المنتحي بمكة دارا).
ولإعطاء (شواهد شعرية) اكثر دلالة على الثقافة السياسية العالية والفريدة لأحمد شوقي يكفي أن نشير إلى أنه نظم حوالي اربع قصائد متنوعة تدور بشكل ما عن الملك الفرعوني الشاب الشهير (توت عنخ آمون) وما يهمنا هنا أن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون وقعت في بداية شهر نوفمبر من عام 1922م وبعد ذلك بأقل من أسبوعين بدأت مفاوضات مؤتمر لوزان في سويسرا بين الدولة التركية وبين بريطانيا بخصوص شروط استقلال تركيا من الاحتلال الانجليزي مقابل اعلان الغاء الخلافة والسلطنة التركية. وبحكم ثقافة أحمد شوقي التاريخية والسياسية قام بدهاء وحنكة أدبية بتوظيف هاتين الحادثتين (اكتشاف المقبرة ومعاهدة لوزان)
للقدح والاعتراض على موقف الانجليز من قاضينا المصيرية حيث يشتكى شوقي إلى توت عنخ آمون من أن القوم سوف تشغلهم الدهشة بمقبرته وتصرفهم عن اعطاء حقوق العرب والمسلمين التي يقسمها كما يشاء وزير خارجية بريطانيا في ذلك الوقت اللورد كيرزون:
وَأُقسِمُ كُنتَ في (لَوزانَ) شُغلاً    وَكُنتَ عَجيبَةَ المُتَفاوِضينا
أَتَعلَمُ أَنَّهُم صَلِفوا وَتاهوا        وَصَدّوا البابَ عَنّا موصِدينا
وَلَو كُنّا نَجُرُّ هُناكَ سَيفاً         وَجَدنا عِندَهُم عَطفاً وَلينا
سَيَقضي (كِرزُنٌ) بِالأَمرِ عَنّا     وَحاجاتُ الكِنانَةِ ما قُضينا
 
مفاوضات سياسية ومعاهدة استقلال أخرى غير عربية وظفها أحمد شوقي في شعره السياسي وهو ما نجده في قصيدته التي خصصها للسياسي الهندي البارز المهاتما غاندي. وكما توجس شوقي القلق من مفاوضات تركيا مع الاحتلال الانجليزي نجده كذلك يتوجس من تبعات مؤتمر (الدائرة المستديرة) بلندن عام 1931 المتعلق بمفاوضات استقلال الهند عن التاج البريطاني. ولهذا نجد أحمد شوقي يكتب قصيدة لتحية الزعيم غاندي عندم مر بمصر في طريقة إلى بريطانيا وفي ختامها يحذر شوقي الزعيم غاندي من ألاعيب الانجليز حيث شبه مفاوضات (الدائرة المستديرة) بدائرة لعبة القامر (لعبة البريدج) التي تستخدم أوراق الباصرة وأنه لضمان نجاح مستقبل الهند من هذه المقامرة السياسية لابد أن يكون غاندي على مستوى المهارة الازمة (لكشف ورق كوتشينة) الساسة الانجليز من السادة واللوردات:
من المائدة الخضراء       خذ حذرك يا غاندي
ولاحظ ورق السير         وما في ورق اللوردِ
وكن ابرع من يلعب           بالشطرنج والنردِ
ولاق العبقريين               لقـــاء النـــد للنــــدِ
وقل هاتوا افاعيكم        أتى الحاوي من الهندِ
 
كما هو معلوم لا يذكر أحمد شوقي في مناسبه ما إلا ويكون قرينه شاعر النيل حافظ إبراهيم لكن شتان ما بين الشاعرين في سعة الاطلاع السياسي ونفاذ البصيرة في الحكم على مظاهر الاشياء ومخابرها. فبينما نجد أحمد شوقي يدبج قصيدة ساخنة ضد زيارة الرئيس الامريكي روزفلت لمصر نجد أن حافظ إبراهيم في المقابل يكتب قصيدة بعنوان (أي رجال الدنيا الجديدة مُدوا) يخاطب فيها أمريكا (أرض كولمب) ويطلب منها مد اليد لرفعة الشرق (الدنيا القديمة) كما أنه يمدح أمريكا ويرتجي منها أن تكون داعمة للسلام !! :
أَرضُ كولُمبَ أَيُّ نَبتَيكِ أَغلى            قيمَةً في المَلا وَأَبقى مَتاعا
أَرِجالٌ بِهِم مَلَكتِ المَعالي                 أَم نُضارٌ بِهِ مَلَكتِ البِقاعا
لا عَداكِ السَماءُ وَالخِصبُ وَالأَمـ       ـنُ وَلا زِلتِ لِلسَلامِ رِباعا
طالِعي الكَونَ وَاُنظُري ما دَهاهُ          إِنَّ رُكنَ السَلامِ فيهِ تَداعى
 
وختماً إن الكلام عن أبعاد الشعر السياسي والاتجاهات الوطنية في الأدب العربي أمر واسع فقد تم نظم وتدبيج الاف القصائد التي تدور حول مقاومة المحتل أو للتفجع على مصائب الأمه ومن الشعراء من نظم قصائد المعارضة السياسية والبعض ربما غامر بهجاء الخلفاء مثل الأعشى الهمداني وهو غير أعشى قيس السابق الذكر. ولكن ما لاحظناه بصورة عامة أن الاهتمامات السياسية غير العربية أو الإقليمية ضعيفة جدا عند المتخصصين بالشعر السياسي من الشعراء العرب حتى المعاصرين منهم مثل نزار قباني أو الجواهري أو أحمد مطر أو مظفر النواب. والأغرب من ذلك أننا ربما نكاد نجد القصائد المعروفة (لشعراء المهجر) الذي أصلا عاشوا في مجتمعات غربية وغير مسلمة مثل الأمريكيتين الشمالية والجنوبية يندر نسبيا فيها الشعر السياسي غير العربي ولهذا ربما نجد قصائد جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وهم في المهجر تعاني من مشكلة (الإغراق في المحليات) العربية. في زمن العولمة و(القرية الكونية) التي نعيش فيها أعتقد لا بد أن يكون للأدباء والشعراء اهتمام أكبر بأن تعكس قصائدهم واشعارهم مشاكل ومآسي الشعوب الاخرى سواء كانت كوارث طبيعية أو جرائم سياسية أو فقر اقتصادي أو تفكك أسري وأخلاقي.
 


الاثنين، 6 فبراير 2017

( رواد الآفاق .. مع الرعيل الأول للرحالة العرب )

رواد الرحالة العرب .. خطوات كتبت التاريخ
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
إدمان السفر ظاهرة نفسية واجتماعية هي في واقع الأمر ليست جديدة تماما في واقعنا المحلي ويبدو أن لها جذور وراثية فكل الصيد في جوف فرا الجينات (all in  the genes) كما يقال ومنذ أزل الواقع العربي كم تشكى المتشكون من كثرة سفر الحبيب الذي لا يضع عصا الترحال عن عاتقه:
ما آب من سفرٍ إلا وأزعجه       رأيُ إلى سفرٍ بالعزم يزمعهُ
كأنما هو في حِلِّ ومرتحلٍ         موكلٍ بفضاء الله يذرعهُ
 
يقال أن عدد السياح السعوديين المغادرين للخارج يقارب العشرين مليون مسافر سنويا (حيث ان البعض قد يسافر أكثر من مره في السنة) فهل من أسباب ومسوغات هذه الاحصائية الغريبة أن الشعب العربي تجري في دمائه مورثات وجينات الترحال وكأننا بكل بساطة نسير على خطى وخط سير أجيال واجيال العرب الرحل منذ زمن فينيقي لبنان وتجار قريش وحضارمة اليمن
ورشايدة السودان وبني هلال المغرب وعقيلات القصيم. ربما غالبية العرب اليوم هم من نسل العرب العاربة حيث أن أصل العرب من اليمن وبعد انهيار سد مأرب رحل أهل اليمن و(سافروا) قاصدين الشمال إلى القرى المباركة ومن عجيب أمرهم أنهم ذاقوا حلاوة السفر ومشاقه ورغبوا في أن يطول زمن سفرهم ولهذا دعوا المولى عز وجل (ربنا باعد بين أسفارنا) فكأنهم طلبوا النصب والتعب ربما بسبب عشقهم لنوع المغامرة المصاحبة لقطع المسافات الطويلة. وبالعودة لوراثة إدمان السفر من الرعيل الأول فهل جيناتنا الوراثية ما زالت تحمل في كروموسوماتها بقايا مثل هذه الطفرات الغريبة والعاشقة للسفر. 
 
وكما أن للسفر والهجرة جذورها الوراثية فلها كذلك أبعادها الدينية والتشريعية فبصورة ما حث الاسلام على السفر فحين تنص القاعدة الفقهية الصريحة بأن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فوسيلة الحج والجهاد وطلب العلم هي ولا شك السفر وبهذا يتغير التكييف الشرعي للسفر. وفي السيرة النبوية الشريفة كانت ابرز المحطات في حياة الرسول الأعظم وثيقة العلاقة بالسفر متمثلة في معجزة الاسراء والمعراج والهجرة النبوية للمدينة المنورة والسياحة الشرعية (أي الجهاد كما يفسر العلماء هذا اللفظ إذا ورد في القرآن) لقتال الاعداء فيما عرف بالغزوات النبوية. كما إن المولى يُذّكر كفار قريش بنعمه وآلائه عليهم والتي منها أ يسر لهم السفر والانتقال في أمن وأمان في رحلتي الشتاء والصيف ولا يتصور عاقل أن المولى عز وجل يمتن على عباده إلا بما هو حلال ومباح. بقي أن نقول أن السفر كغيره من الاشياء حسنه حسن وقبيحة قبيح أو بالصيني الفصيح يقول المثل (السفر يجعل الانسان العاقل أفضل والأحمق أسوأ).
 
مع الرعيل الأول للسياح العرب
اللغة العربية الفصيحة للعرب الاقحاح تسمي السرج الموضوع على الدابة كالجمل والحصان (الرَحَلَ) ولا شك أن المبنى اللغوي يدل على المعنى المعرفي بمعنى أنه لكثرة سفر وتنقل ورحيل رجل الصحراء والبادية سمي مجلسه ومتكئه رَحَلَ. ويمكن أن نستشف من ذلك (شغف وولع) الشعوب العربية منذ الأزل بالسفر والانتقال و (السياحة). من هذا وذاك نفهم لماذا منذ العقود الاولى للحضارة الاسلامية انتشر العرب والمسلمون في شتى بقاع الارض وإن كان تسوقهم دوافع مختلفة ومتنوعة جهادية أو تجارية أو دعوية أو معرفية. ولهذا لا عجب أن بعض المصادر التاريخية والجغرافية العربية تشير إلى أن الرحالة العرب منذ القرن الأول الهجري ليس فقط قد وصلوا إلى الصين في أقصى الارض الشرقي بل أنهم استوطنوها وأقاموا فيها جالية اسلامية كبيرة في مدينة خانفو (كنتون الصينية) وكان لهم بها وبغيرها مساجد ومشايخ وقضاة. أما في أقصى الارض الغربي فيقال بأن أول عربي يعرف عنه في المراجع التاريخية أنه أول من وطئ الاراضي الأوروبية كان طريف المعافري الذي قام في نهاية القرن الهجري الأول بمهمة استطلاعية على سواحل اسبانيا الجنوبية.
 
ما سبق ذكره كان (البعد الزماني) لعراقة رحلات الرعيل الأول للسياح العرب أما (البعد المكاني) العجيب والفريد الذي وصله الرحالة والتجار العرب فليس فقط وصلوا إلى الصين وشبة الجزيرة الكورية (كما ذكر ذلك خرداذبة صاحب كتاب المسالك والممالك) وروسيا والدول الأوروبية والجزر الإندونيسية والادغال الافريقية بل من المحتمل أنهم وصلوا حتى اراضي القارة الامريكية !!. وهذا ما ذكره المؤرخ العربي المشهور المسعودي في كتابه مروج الذهب حيث اشار بأن الرحالة العربي خُشاش بن سعيد قام في حدود نهاية القرن الثالث الهجري بجمع عدد من فتيان مدينة قرطبة الاندلسية وركب بهم بحر أوقيانوس (المحيط الاطلسي) وغاب في المحيط مده من الزمن ثم انثنى وعاد بغنائم واسعه (كما حصل لاحقا مع كولومبوس بعد حوالي خمسة قرون من هذه الحادثة). وبالرغم من أنه هذه القصة مشهورة في كتب التاريخ برحلة (الفتية المُغَررين) حيث قد ذكرها كذلك الشريف الادريسي في كتابه نزهة المشتاق إلا إن بعض المؤرخين يرجح أنهم لم يصلوا إلى القارة الامريكية نفسها وإنما وصلوا فقط لجزر الانتيل في الطرف الشرقي لأمريكا الوسطى.
 
وبما أننا في سياق الحديث عن الريادة الجغرافية للرحالة العرب منذ قرون الاسلام الأولى فلعل من الملائم التذكير الخاطف برعيل الجيل الأول من المسافرين العرب الذين اخترقوا الافاق واجتازوا المفاوز فالرحالة الشهير أحمد بن فضلان في مطلع القرن الرابع الهجري وصل إلى بلاد الخزر والصقالبة وحتى الدول الاسكندنافية (أرض الفايكنج) وكان في الاصل بدأ رحلته كمبعوث رسمي من قبل الخليفة العباسي المقتدر إلى ملك البلغار (دولة تترستان حاليا في روسيا) بعد أن اسلم وطلب من الخليفة أن يرسل له وفد يعلمهم شرائع دين الاسلام. وأما اسطورة المسافرين العرب ابن بطوطة فقد جاب الافاق وكان على وشك أن تصل به اسفاره المتواصلة إلى سيبيريا فبعد أن وصل إلى شبه جزيرة القرم ونهر الفولجا أراد أن يسافر إلى سيبيريا وهي التي يسميها أرض الظلمة لكنه غير رأيه في الاخير وقال (.. أضربت عن ذلك لعظم المؤونة وقلة الجدوى والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار فإن تلك المفازة فيها الجليد ولا تثبت قدما الادمي ولا حافر الدابة فيها). وكذلك الجغرافي والمؤرخ المسعودي جاب الافاق والاقاليم المختلفة ومن أبرزها وصوله إلى أرمينيا في حين يقال أن الجغرافي الكبير الشريف الادريسي وصل إلى سواحل فرنسا وبريطانيا أما الرحالة والتاجر العربي أبن حوقل فقد استغرقت رحلاته ثلاثين سنة في منتصف القرن الرابع الهجري انتقل خلالها من أقصى نقطة معروفة في جنوب الارض في زمنه (20 درجة جنوب خط الاستواء) على الساحل الشرقي لإفريقيا إلى إحدى اقصى المناطق المأهولة شمالا وهي مدينة كييف عاصمة أوكرانيا.
 
والجدير بالذكر أن كتب التاريخ خلدت كذلك ذكر بعض الرحالة العرب من غير المسلمين مثل الرحالة اليهودي ابراهيم الطرطوشي الاندلسي الذي وصل إلى بولندا والتشيك أما الرحالة والقسيس الكاثوليكي إلياس الموصلي الذي نجده في القرن السابع عشر الميلادي يهاجر من العراق إلى ايطاليا واسبانيا ثم يعبر المحيط الاطلسي ليصل إلى أمريكا الجنوبية فيزور فنزويلا والارجنتين وتشيلي والبيرو قبل أن يمم شطره نحو المكسيك. أما امريكا الشمالية فوصلها في بداية القرن السادس عشر الميلادي المغربي مصطفى الأزموري الذي وصل كعبد رقيق إلى ولاية فلوريدا الامريكية ومات هنالك بعد أن اعتنق المسيحية وتحول اسمه إلى استيفانيكو.
 
الطيور العربية المهاجرة واستيطان الغربة
صحيح أن شاعر العربية الأوحد المتنبي عبر عن غربة و فرادة العربي في أرض المهجر بقوله الخالد و الفخيم:
ولكن الفتى العربي فيها             غريب الوجه و اليد و اللسانِ
ويغلب على الظن والله أعلم أن المتنبي غلبته روح التقمص الشعرية المعروفة لدى الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون فهو في واقع الأمر لم يمكث كثيرا في أرض الغربة الحقيقية ليذوق مرارتها حتى وإن قال (بما التعلل لا أهلٌ ولا وطنُ) فهو لم يغادر ديار العرب إلا لشهور قصيرة عندما زار مدينة شيراز في بلاد فارس لكي يمدح عضد الدولة. ومع ذلك تشهد كتب التاريخ أن عدد من العلماء والادباء والمفكرين العرب عاشوا بالفعل حياة الهجرة واستوطنوا بلاد الغربة وبعضهم توفي فيها.
تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن وجود العرب كجالية مقيمة في الغرب يعود لفترة طويلة نسبيا حيث هاجر عدد من العرب في منذ القرن التاسع عشر إلى أوروبا والأمريكيتين الشمالية و الجنوبية. كلنا نعلم أنه في علم الأنساب للقبائل العربية نجد التقسيمات الشهيرة بأن العرب تنقسم إلى عرب بائدة (قبائل عاد و ثمود) و عرب عاربة (القبائل القحطانية) و عرب مستعربة (القبائل العدنانية)، و لكن بحكم أن حياة الشعوب في تطور مستمر و تجدد، لهذا لا غرابة و لا مشاحّة أن نطلق على فئام من عشائر العرب المعاصرين بأنهم (عرب مستغربة) أي بمعنى أنهم عرب يعيشون في الغرب. و تجدر الإشارة إلى أن أعداد بني يعرب المستوطنين للديار الغربية كبيرة جداً لدرجة أن بعض الإحصائيات تتوقع أن عدد العرب المقيمين في أمريكا وحدها يبلغ حوالي مليون و نصف عربي بينما نجد أن عدد العرب التقديري في أوروبا قد يصل إلى سبعة مليون فرد عربي. وبحكم اننا نتحدث هنا رواد الرحالة العرب فربما نحتاج لتسليط ومضات كاشفة ولمحات سريعة إلى (رواد المغتربين العرب).
من ذلك مثلا أن عالم الجغرافيا العربي الكبير الشريف الإدريسي يوصف أحيانا باسم (أبن إدريس الصقلي) لأنه عاش أغلب عمره وتوفي في منتصف القرن السادس الهجري في جزيرة صقلية (المسيحية)  وهو يعيش بكنف ورعاية الملك الصقلي روجر الثاني وكتابه المشهور (نزهة المشتاق في اختراق الافاق) تم تأليفه خصيصا لهذا الملك ولهذا يعرف أحيانا (بكتاب روجر). ومرة اخرى لا أعلم هل كان الشريف الإدريسي صادق العاطفة عندما قال بيته الشهير التالي أم أنه هو الآخر اجتالته روح التقمص الشعرية كما حصل مع المتنبي:
ليتَ شعري أين قبري          ضاع في الغُربة عُمري
أما الطبيب العربي الحسن الوزان المعروف باسم قسطنطين الإفريقي يقال بل أنه تم أسره عندما كان مسافرا في رحلة بحرية من تونس و من ثم اقتيد في بداية القرن العاشر الهجري إلى روما كهدية للبابا ليون العاشر الذي أجبره على اعتناق المسيحية و البقاء لسنوات طويلة في ايطاليا لتدريس اللغة العربية و ترجمة و تأليف النصوص الطبية و اللغوية و الجغرافية من العربية إلى اللاتينية. و أحداث هذه القصة الفريدة للحسن الوزان تم روايتها و صياغتها بأسلوب أدبي رفيع في رواية (ليون الإفريقي) للروائي اللبناني الشهير أمين معلوف.
 
في القديم كما في واقعنا المعاصر وجد من مشاهير العرب من أقام في ديار الغربة لأطماع دنيوية بحته (مثل الادريسي) أو بسبب الاقامة الجبرية والاعتقال ( الحسن الوزارن والازموري نموذجا) أو بهدف الدراسة وتحصيل المعرفة (كحال عالم النبات العربي ابن البيطار الذي عاش لعدة سنوات في اليونان وطاف إلى أقصى بلاد الروم) فكذلك بعضهم قد يقيم في أرض الغربة كلاجئ سياسي. وهذا ما حصل مع الأمير فخر الدين المُعنى أحد أمراء لبنان عندما حاول في مطلع القرن السادس عشر الميلادي أن يمد إمارته لتشمل سوريا الكبرى وبالتالي يستقل عن سيطرة الحكم العثماني في اسطنبول. وبعد أن تعرض فخر الدين المُعني لحملة عسكرية ساحقة أرسلها السلطان العثماني مراد الرابع فر إلى حلفائه وداعميه الاوروبيين فوصل في عام 1613 إلى مدينة فلورنسا عاصمة اقليم توسكانا الايطالي حيث عاش لعدة سنوات كلاجئ سياسي في حماية عائلة مديتشي ذات الاثر الكبير في عصر النهضة الأوروبي.
بقي ان نقول أنه في القرون الثلاثة الأخيرة ظهر نوع جديد من أسباب الاقامة الدائمة للمهاجرين العرب في أرض المهجر واستيطان الغربة ولكن لأهداف دبلوماسية وأبعاد سياسية، حيث اقام المئات من أبرز الكفاءات العربية في بلدان أجنبية على هيئة سفراء أو قناصل لدولهم وحكوماتهم. لا شك ان تاريخ الدبلوماسية الاسلامية والعربية عريقاُ جدا منذ زمن المبعوثين الذين ارسلهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كسفراء له إلى الملوك والاباطرة والحكام. وكتب التاريخ زاخرة بقصص وأخبار سفراء خلفاء الاسلام مثل الامام الشعبي سفير الخليفة عبدالملك بن مروان إلى امبراطور الروم أو نصير بن الأزهر سفير الخليفة العباسي المتوكل إلى القسطنطينية أو تبادل السفراء والهدايا بين الخليفة هارون الرشيد وملك الفرنجة شارلمان. لكن هذا النوع من التواصل الدبلوماسي كان مؤقت حيث أن السفير أو مندوب الملك يسافر لفترة قصيرة ولهدف محدد للتفاوض باسم الخليفة أو عقد معاهدة أو فك وتخليص أسرى أو حتى لتقديم واجب التهنئة بتولي عرش أو مناسبه زفاف.  أما أغرب المهام التي أوكلت لسفراء ومبعوثي خلفاء الاسلام فهي من مثل حادثة أرسال الخليفة العباسي الواثق بالله لمبعوثه سلام الترجمان إلى شرق اسيا لمحاولة تحديد موقع سد ذو القرنين وكذلك ارسل نفس هذا الخليفة وفد من المبعوثين إلي اسيا الصغرى (غرب تركيا اليوم) لتزور وتصف كهف أصحاب الكهف.
وختاما من الصعب جدا أن نحدد متى بدأت ظاهرة الاقامة الدائمة للسفير أو اعضاء السلك الدبلوماسي العربي في أرض الغربة لفترة طويلة من الزمن لكن توجد اشارات إلى أن أحد اقدم السفراء العرب الدائمين في القارة الاوروبية كان السفير المغربي محمد بن علي أبجالي سفير ملك المغرب في لندن منذ عام 1725 أما عميد السفراء العرب في القارة الامريكية فمن المحتمل أنه كان سفير السلطاني العماني أحمد النعمان الكعبي الذي وصل إلى أمريكا عام 1840 في زمن الرئيس أندرو جاكسون.