السبت، 17 أكتوبر 2020

( الأعمال المنزلية وتهيئة المرأة للنبوغ العلمي )


 هل يمكن للأعمال المنزلية أن تكون مساعد وليس عائق في تميز المرأة العلمي ؟!!

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

لمدة قاربت نصف قرن من الزمن احتفظت عالمة الكيميائي البريطانية دورثي هودجكن بكونها آخر امرأة تحصل على جائزة نوبل في الكيمياء وهذا الانقطاع الطويل يشير إلى صعوبة الإنجاز الذي حققته هذه السيدة. الجدير بالذكر أن بعض وسائل الإعلام كان لها سابقا بعض النظرة السلبية وعدم التقدير الكامل للإنجازات العلمية التي تحققها النساء لدرجة أنه عندما فازت دورثي السابقة الذكر بجائزة نوبل عام 1964م نُشر الخبر في الصحف المحلية البريطانية كالتالي: (ربة منزل من أكسفورد تربح جائزة نوبل) أو (زوجة بريطانية تحصل على جائزة نوبل).

وبحكم أن دورثي كانت أول بريطانية على الإطلاق تحصل على أي من جوائز نوبل وبدلا من أن تصفها الصحافة البريطانية بالمكتشفة أو العالمة أو المخترعة أو العبقرية نجدها بكل برود يتم فقط وصفها بربة المنزل (وهي وإن كانت مهمة سامية) إلا أن التوصيف جاء في سياق التقليل والاستخفاف.

الغريب في الأمر أن النساء بالفعل اكتسبن العديد من المهارات المعيشية الهامة أثناء عملهن في منازلهن وانعكست هذه المهارات في تعزيز فرصهن بتحقيق إنجازات علمي مميزة. من أهم المهارات النفسية والسلوكية في حياة ربة المنزل هي الصبر وطولة البال وفي هذا السياق نفهم لماذا تحملت الزوجة البريطانية دورثي هودكن أن تظل لمد ثلاثين سنة وهي تجري التجارب المتواصلة لمعرفة التركيب الكيميائي لمركب الأنسولين الضخم والمعقد جدا.

الجميع يعرف التفوق الكبير للنساء في الأعمال والأشغال اليدوية الدقيقة مثل التطريز والحياكة والقص والتفصيل وبشكل أو آخر نجد أنه لاكتساب النساء الملكلة الفطرية لهذه المهارات عزز ذلك من فرصهن في التفوق العلمي في بعض المجالات. يوم الأربعاء الماضي السابع من شهر أكتوبر تم الإعلان عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل في الكيمياء لهذا العالم والتي منحت في مجال تعديل المورثات والجينات البشرية بواسطة تقنية (مقصات الجينات genes scissors). في واقع الأمر هذا النوع من الهندسة الوراثية وبالرغم من مساهمة العديد من الرجال في مجال تطوير تقنية مقصات الجينات الجزيئية مثل العالم الأسباني فرانسيسكو موخيكا (وهو من اكتشف هذه التقنية واقترح تسميتها بتقنية كريسبر CRISPR ) إلا أنه عند منح الجائزة كانت نسائية بالكامل. لأول مرة في التاريخ تمنح امرأتين جائزة نوبل بشكل مشترك في جوائز نوبل العلمية بدون مشاركة أي رجل. وإذا علمنا أن جوائز نوبل يجوز أن تمنح بشكل مشترك لثلاثة أشخاص لهذا ستظهر ولا شك علامات الاستفسار حول لغز استبعاد الرجال ومنح الجائزة فقط لعالمة الجينات الأمريكية جينفر داودنا والفرنسية إيمانويل شاربانتييه. في بداية ظهور تقنية تعديل الجينات الوراثية كانت تسمى هذه العملية (تصحيح وتنقيح الجينات DNA editing) ولكن يبدو مع دخول العنصر النسائي بشكل طاغي وكاسح في هذا المجال العلمي (الدقيق) أخذت تسمية (مقصات الجينات) بالانتشار أكثر وربما ذلك لارتباط هذه العملية بالقص والخياطة والشك والتطريز !!!.

الكيميائية الأمريكية ستيفاني كووليك لها سجل حافل في مجال الكيمياء حيث حصلت على جائزة القلادة الوطنية الأمريكية للتيكنولوجيا وكذلك حصلت على أعلى جائزة كيميائية تمنح في أمريكا وهي قلادة بيركن المقدمة من الجمعية الكيميائية الأمريكية. في أوائل شبابها ورثت ستيفاني محبة الأقمشة والخياطة من والدتها ولهذا لا غرابة أنها كانت ترغب أن تتخصص في مجال تصميم الموضة. ولكن بعد تخرجها من الجامعة في مجال الكيمياء حصلت على وظيفة في الشركة العملاقة في مجال الصناعات البتروكيميائية والبوليمرات شركة دو بونت وهي الشركة التي غيرت أزياء المرأة عندما أخترع علمائها مادة النايلون الحريرية الواسعة الاستخدام في الجوارب والملابس النسائية. في أجواء الأنسجة والخيوط والألياف الاصطناعية وباللمسة النسائية الخاصة للكيميائية ستيفاني استطاعت التوصل لاختراع نوع جديد من ألياف البوليمرات يدعى كيفلار Kevlar التي يمكن (غزلها) لإنتاج أنوع قماش فائقة القوة تستخدم في تصميم ملابس الجنود في ساحات القتال وفي صنع الصدريات الواقية من الرصاص. بشكل أو آخر كما استطاعت ستيفاني أن تمزج بين هوايتها في تصميم ملابس الموضة وفي صناعة الملابس الحربية الفائقة كذلك نجد أن الكيميائية والمخترعة الأمريكية روث بينريتو مزجت ونسجت خيوط تشابك بين العلم وافتتان النساء بالملابس والمظهر. بالإضافة لشهادة الدكتورة من جامعة شيكاغو كذلك كان لدى السيدة روث حوالي 55 براءة اختراع لإنتاج أقمشة قطنية مقاومة للأوساخ والتجاعيد ولا تحتاج للكي بعد الغسيل (wash and wear). هذه الاختراعات النافعة من هذه الكيميائية ليست فقط جلبت الراحة النسبية للسيدات وربات المنازل في التخفيف من أعباء غسيل وكوي الملابس بل أنها أنعشت وأنقذت قطاع صناعة القطن الذي شهد قديما تراجع اقتصادي بعد انتشار الألياف الصناعية.

الأشغال المنزلية في المطبخ من منظور علمي

على ذكر غسيل الملابس وهو من أكثر الأنشطة المنزلية التي تنزعج منها المرأة في الغالب ومع ذلك نجد أن عالم (الغسيل والصابون) كان سبب في التوصل لبعض الاكتشافات العلمية الهامة. في الوقت الحالي كما لاحظنا يعتبر المجال البحثي الخاص بالتعديل الوراثي بواسطة مقصات الجينات هو واحد من أهم وأحدث المجالات العلمية ولكن قبل حوالي مائة عام كان مجال كيمياء السطوح هو أحد أكثر المجالات العلمية الواعدة في مجال الأبحاث المتقدمة. في عام 1932م حصل رفينغ لانجمير على جائزة نوبل في الكيمياء كثاني عالم أمريكي يحصل على جائزة نوبل نظير أبحاثه المتعلقة بكيمياء السطوح والجدير بالذكر أن أبحاث لانجمير كانت امتداداً لأبحاث ودراسات الشابة الهاوية للعلوم أغنيس بوكلز. في قصة أشبه بالخيال كانت تلك الفتاة الألمانية تجري تجاربها الأولية عن ظاهرة التوتر السطحي وكيمياء السطوح في مطبخ منزلها وباستخدام صابون الغسيل وفي سن الثامن عشرة وبدون أن تكون قد درست بالجامعة تمكنت تلك الفتاة عام 1891م من قياس مقدار التوتر السطحي للماء ومن نشر أول بحث لها في مجلة الطبيعة Nature وهي المجلة التي كانت وما زالت أهم وأعرق مجلة علمية على الإطلاق. لإجراء تلك القياسات العلمية المذهلة اخترعت الآنسة بوكلز جهاز علمي يسمى الحوض المنزلق ولاحقا قام العالم الأمريكي لانجمير بتطوير ذلك الجهاز وأطلق عليه بكل بساطة اسم: حوض لانجمير.

مساق حديثنا وصل بنا إلى المطبخ المنزلي والصابون والمنظفات والحوض المائي ومع ذلك ينبغي ألا نغفل أن المرأة تعتبر المطبخ مملكتها الخاصة وتقوم فيه بواحدة من العمليات الكيميائية السحرية: الطبخ. تعتبر عالمة الكيمياء كاملا سوهوني من رواد العلم في الهند حيث كانت أول سيدة تحصل على درجة الدكتوراه وليس هذا وحسب بل حصلت عليها من جامعة كيمبردج البريطانية العريقة. كانت أبحاث السيدة سوهوني تتعلق باستخلاص الأنزيمات من المواد الغذائية والعينات النباتية وقد أجرت أبحاثها في مختبر الدكتور فريدريك هوبكنس مكتشف الفيتامينات والحاصل على جائزة نوبل في الطب. في الواقع الأمر حصلت السيدة كامالا على درجة الدكتوراه في وقت قياسي حيث انتهت منها في سنة ونصف فقط وكانت ينتظرها مستقبل علمي باهر لو أنها استمرت في الإقامة في بريطانيا. ولكنها عوضا عن ذلك فضلت تستجيب لنداء الواجب وأن تعود للهند لمساندة المهاتما غاندي في مساعيه السلمية لاستقلال الهند. الشعب الهندي كان وما يزال شعب فقير جدا ولهذا يحاول العديد من العلماء تحسين أوضاعه المعيشية ومن هنا دمجت السيدة كاملا سوهوني فطرتها الأنثوية في مهارات الطبخ مع خبرتها العلمية في مجال الكيمياء الحيوية للإنزيمات والفيتامينات المستخلصة من المواد الغذائية. وبتوجيه من أول رئيس هندي للدولة المستقلة الجديدة بدأت كامالا في البحث عن مواد نباتية غير شائعة الاستخدام ومحاولة معرفة قيمتها الغذائية وإرشاد الطبقات الفقيرة في المجتمع الهندي لإدخالها في منظومتها الغذائية ومن ذلك مثلا أفضل طرق طبخ واستخلاص نوع خاص من دبس النخيل.

وبعد أن طوّفنا مع المرأة من خلال أعمالها المنزلية من حياكة وتفصيل وغسيل الملابس وتنظيف بالصابون لأدوات المطبخ بعد إعداد الوجبات الغذائية نختم أخيرا بسيدة المنزل المتوددة والمتبعلة والمتزينة لزوجها. هذا المقال يدور بشكل عالم حول مجال علم الكيمياء وفي حين أننا لا نستطيع أن نحدد من هو أقدم كيميائي في التاريخ نجد أننا وبفضل ارتباط المرأة بالأعمال المنزلية نستطيع أن نحدد من هي أقدم (كيميائية) في تاريخ البشرية. من المهام المنزلية للمرأة القديمة تحضير العطور وأدوات الزينة ومن هنا عرفنا أن المرأة العراقية القديمة المسماة (تابوتي) هي أقدم شخصية بشرية تم توثيق توظيفها واستخدامها للكيمياء. عاشت هذه السيدة قبل حوالي 3200 سنة وعملت في البلاط الملكي في أرض الرافدين في مملكة بابل حيث كانت تحضر العطور من الزهور والزيت. في الألواح الفخارية والمنقوشة بالكتابة المسمارية ليس فقط نجد اسم السيدة تابوتي والموصوفة بأنها (بيلاتكاليم) أي المشرفة الملكية على شؤون قصر الملك البابلي ولكن أيضا نجد إشارات لاستخدامها لجهاز التقطير الكيميائي لفصل الروائح العطرية وهذه الإشارة لجهاز التقطير تعتبر أقدم نص وثائقي في تاريخ البشرية عن هذا الجهاز العلمي بالغ الأهمية.

لا تعارض على الإطلاق بين أنوثة المرأة ورعايتها لأسرتها المنزلية كما إن هذه الأدوار النسائية الاعتيادية قد تكون في نفس الوقت وسيلة لتحقيق المرأة لذاتها وشخصيتها بطريقة لا تخطر على البال حتى ولو في أعقد مجالات البحث العلمي المتقدم.

 


( عام ٢٠٢٠ / سنة الفيروس )

سنة 2020 ابتدأت بفيروس وأنتهت بفيروس !!

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

في التوصيف الشعبي العام يتم أحيانا إعطاء صفه أو وسم لسنه ما وفق حصول كارثة أو حدث جلل بها ولهذا نجد مثلا:

سنة الرحمة / الصخونة

سنة الغرقة / الهدام

سنة الجراد / الدبا

أما هذه السنة الفريدة فلا شك أن تستحق بجدارة لقب ( سنة الفيروس ).

 في مطلع عام ٢٠٢٠ تم كما هو معلوم تم الإعلان عن أن وباء الكورونا سببه نوع من الفيروسات التاجية ( كوفد ١٩ ). واليوم ومع قرب ختام هذه السنة يتم الإعلان عن جائزة نوبل في الطب وأنها منحت للعلماء الذين اكتشفوا ( فيروس ) مرض الكبد الوبائي.

في حالة ضعف البشرية يستشعر الناس الدور الكبير والحيوي للأشخاص الذين ساهموا في تقدم الإنسانية والمحافظة عليها ولهذا قد تكون الأجواء ملائمة أكثر لربط الاشياء المتماثلة. منح جائزة نوبل لموضوع الفيروس في سنة الفيروس ليس أمر واحد ومعزول ففي عام ٢٠٠٨ انتشر وبشكل مقلق طبيا واقتصاديا وباء ( إنفلونزا الطيور ) الذي يسببه نوع معين من الفيروسات ولهذا تم بتوافيق ربما مقصود أن تم في تلك السنة منح جائزة نوبل في الطب للعلماء الذين اكتشفوا فيروس مرض الايدز المرعب.

الغريب في الأمر أنه في حين حصل قديما العديد من العلماء والأطباء على جوائز نوبل في الطب نظير اكتشافهم أسباب بعض الأمراض ( الفيروسية ) إلا أن العالم الذي اكتشف الفيروسات وهو حدث علمي وطبي هائل لم يحصل على هذا التكريم. ربما قد يعود السبب إلا أن مكتشف الفيروسات قد يكون عالم مجهول نسبيا وهو عالم الأحياء الروسي ديمتري إيفانوفسكي. تجدر الإشارة إلى أن أحد أهم التقنيات العلمية المستخدمة بكثرة في الأبحاث الصيدلانية والطبية هي تقنية طرف الفصل الكروماتوجرافية ومرة أخرى نجد أن مكتشفها وهو الروسي مايكل تسيفت لم يحصل على تكريم علمي لائق بالرغم من إسهامه الهائل في تطوير علم الكيمياء وعلم النبات والطب.

 كلمة أخيرة عن سنة ( الفيروسات ) فمن غرائب الصدف أن أحد العلاجات التي اقترحت هذه السنة للقضاء على فيروس الكورونا هو استخدام لقاح تم استخلاصه من أوراق التبغ ( الدخان). بقي أن نعلم أن أحد أقدم الفيروسات التي أكتشف ودرست بشكل مكثف هو ( فيروس أوراق التبغ ). ومعالجة فيروس مرض ضيق التنفس الكوروني بعلاج مستخلص من أوراق التبغ ربما يعزز حكمة أبي نواس العتيقة:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ

              وداوني بالتي كانت هي الداءُ

 

( آلو .. ستوكهولم تصبح عليك !!! )


 أخبار وطرائف العلماء مع أهم اتصال في حياتهم

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في كل عام تعتبر الأيام العشر الأولى من شهر أكتوبر هي الفترة الأكثر قلقا وحماسا في نفس الوقت لصفوة العلماء لمن يتطلع منهم للحصول على جائزة نوبل المرموقة. جرت العادة بخصوص بروتكول الإعلان عن هذه الجائزة أنه مع ساعات الصباح الأولى يتم الاتصال الهاتفي بالشخص الفائز بجائزة الجوائز ودرة المفائز ثم بعد ذلك بحوالي الساعة يعقد مؤتمر صحفي للإعلان عن أسماء الفائزين. قبل سنوات أعترف الطبيب والكيميائي الدنماركي ينز سكو والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1997م أن بعض العلماء المميزين على المستوى العالم لا يستطيعون النوم في بداية شهر أكتوبر بسبب الأمل والحماس وهم ينتظرون الاتصال بهم من قبل لجنة جائزة نوبل بمدينة ستوكهولم عاصمة السويد. وبالفعل عند سؤال عام الاقتصاد البريطاني أنغوسديتون الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2015م هل كان نائما عندما تم الاتصال به من ستوكهولم لتهنئته بالخبر السعيد أعترف بكل صراحة أنه كان مستيقظا وفي انتظار الاتصال ويبدو أن هذا الأمر من المحتمل تكرر معه في أكثر من سنه حتى حصل أخيرا على جائزة نوبل.

يوما ما كتب أديبنا البارز عبد الرحمن منيف (أكبر العذاب انتظار من لن يأتي) وهذا وإن كان واقع ملموس في دنيا العشق والأدب فهو أمر محسوس كذلك في شتى مناحي الحياة. في مجال العلوم المتقدمة يشعر العديد من العلماء والباحثين ذوي السمعة الدولية الذائعة بالكثير من الضغط النفسي في حال أنهم لم يحصلوا على جائزة علمية مرموقة. ولهذا لا عجب أن تجد الواحد منهم في وضع تحفز وقلق عندما تحين أيام الإعلان عن جوائز نوبل. ولكي يكون بعض العلماء في حالة استعداد للحظة استقبال الاتصال الهاتفي (the Call) يمتنع تماما عن السفر في بداية شهر أكتوبر أو الارتباط بأمور تجعله خارج الصفاء الذهني والعاطفي لتلقي الخبر السعيد. المشكلة تكمن في حال كون ذلك العالم يتم ترشيحه لسنوات طويلة وبشكل متوالي دون أن يحصل على تلك الجائزة العلمية الكبرى وهنا تبدأ المشاكل النفسية والإحراج المتجدد. في الوقت الحالي يعتبر العالم البريطاني السير بول نرس أحد أشهر علماء الوراثة والجينات ولهذا قبل حصوله على جائزة نوبل في الطب لعام 2001م ظل لعدة سنوات يتلقى الاستفسارات من الصحفيين إن كان سوف يحصل أخيرا على جائزة نوبل. في العادة يتم تكريم أبرز العلماء البريطانيين بمنحهم رتبة فارس Knighthood بعد أن يحصل الواحد منهم على جائزة نوبل ولكن نظرا للتميز العلمي الكبير للدكتور بول نرس تم تكريمه من قبل ملكة بريطاني بمنحله لقب السير في عام 1999م وهذا ما تسبب في زيادة حماسة الصحافة البريطانية أنه على وشك الحصول على جائزة نوبل وبالتالي زاد ازعاجهم له ولهذا أعترف نرس لاحقا انه كان يكره هؤلاء الصحفيين الملاعين الذين نكدوا عليه حياته.

من الغريب أن التفوق والإبداع العلمي قد يسبب الإحراج وتنغيص الحياة من جانب غير متوقع فمثلا عالم الكيمياء الأمريكي مارتن تشالفي توصل لاكتشاف علمي مميز فيما يتعلق بتحضير نوع معين من البروتينات التي تشع ضوء فسفوري. ولهذا ظل لعدة سنوات وهو يشعر بالضيق من كثرة سؤال العلماء والأصدقاء والأهل له عن متى سوف يحصل على جائزة نوبل. وقد اعترف أنه في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر لعام 2008م شعر بالقلق ولم ينم بشكل جيد في ليلة إعلان جائزة نوبل في الكيمياء وإن كان من حسن حظه أنه نال الجائزة أخيرا وكذلك تخلص من إزعاج الناس له بالسؤال (هل ستحصل على جائزة نوبل هذه السنة ؟!).

لا شك أن الصبر فضيلة وكما يقول المثل الفرنسي كل الأشياء الحسنة تأتي لأولئك الذين ينتظرون وهذا الأمر متكرر بعض الشيء في الحصول على جوائز نوبل فمن المحتمل أن يكون للشخص شهرة علمية أو أدبية مدوية ومع ذلك يتأخر حصوله على لجائزة لعقود طويلة. في السنوات الأخيرة كثيرا ما يتم منح جائزة نوبل في الفيزياء في مجال الجسيمات الأولية للذرة ولهذا منذ سنوات طويلة يظهر اسم العالم الأسكتلندي بيتر هيغز كأحد أبرز المرشحين للجائزة. وبالرغم من أن هيغز توصل لاقتراح وجود جسيم أولي اشتهر باسم بوزون هيغز (أو جسيم الإله God particle) في منتصف الستينيات إلا أنه لم يمنح جائزة نوبل إلا عام 2013م أي بعد مرور نصف قرن كامل على اكتشافه المهم. وبعد أن بلغ بيتر هيغز من العمر عتيا وأصبح في سن 84 ربما فقد الأمل تماما في الحصول على جائزة نوبل ولذا لم يكن يكترث بأن يحمل هاتفه الجوال أو أن يستخدم الإنترنت للتواصل مع الآخرين عبر الإيميل. ولهذا وقع أعضاء لجنة جائزة نوبل في حرج كبير عندما تعثر الاتصال بهيغز وإخطاره بفوزه بالجائزة قبل الإعلان الرسمي عنها. في واقع الأمر أحدثت هذه القصة الطريفة جو من المرح في المجتمع العلمي حيث علّق بعضهم ساخرا: إذا كان الجسيم الأولي الذي اقترح وجوده هيغز كان من الصعب جدا إثبات اكتشافه ولم يتم ذلك إلا بعد سنوات طويلة من البحث العلمي الشاق فلماذا نستغرب من أن هيغز نفسه يمتلك شيء من خصائص جسيمة (بوزون هيغز) وأنه هو بدوره يصعب أحيانا تحديد أين يوجد أو كيف يتم الاتصال به.

الجدير بالذكر أن لجنة جائزة نوبل قد وقعت قبل ذلك التاريخ في مشكلة حقيقة عندما تعذر الاتصال بفائز آخر بجائزة نوبل ولكن السبب هذه المرة ليس لأن جواله مغلق ولكن لأنه كان قد توفي. هذا ما حصل في اليوم الثالث لشهر أكتوبر من عام 2011م عندما تم الإعلان الرسمي بأن العالم الكندي رالف ستاينمان قد حصل على جائزة نوبل في الطب ولكن عندما حاولت لجنة الجائزة الاتصال به لتهنئته بالخبر السعيد تبين أنه قد توفي قبل ذلك التاريخ بثلاثة أيام فقط بسبب إصابته بمرض سرطان البنكرياس وهو الأمر الذي لم تعلم به لجنة الجائزة مما أصابها بالحرج الشديد. المحزن في الأمر أن العام الكندي ستاينمان كان يمتلك شهرة علمية كبيرة وحصل على جوائز دولية مرموقة وكان يعلم أنه مشرح بجدارة لجائزة نوبل ولهذا تقول ابنته إن والدها وهو في مرض الموت كان يلاطف أسرته بقوله قبل أسبوع فقط من وفاته بأنه سوف يعيش حتى يتم الإعلان عن الجائزة: (يجب علي أن أقاوم الموت حتى يتم الإعلان عن الجائزة لأنها لا تمنح لشخص ميت إنهم لن يمنحونها لك إذا توفيت قبل هذا). ومن حسن حظ ستاينمان أن لجنة الجائزة بعد الربكة التي وقعت فيها قررت أخيرا أن تستمر في منح الجائزة له حتى وإن كان قد توفي وهي بذلك كسرت القاعدة العاملة التي تم المحافظة عليها لسنوات طويلة أن جائزة نوبل لا تمنح إلا لمن هو على قيد الحياة.

منح جائزة نوبل بين الجد والهزل .. والجنون

جائزة نوبل كما هو معلوم تعرضت لسلسلة من الفضائح والمشاكل الكبرى ليس فقط في سوء اختيارها لبعض الفائزين (مثل مجرم الحرب الصهيوني مناحيم بيجن) ولكن أيضا الإحراج البالغ لهيئة الجائزة عندما يرفض بعض الفائزين تقبل جائزة نوبل مثل الأديب الإيرلندي جورج برنارد شو والكاتب الفرنسي جون بول سارتر. المشكلة تكمن أنه من القواعد الأساسية لبروتكول جائزة نوبل أنع لا يتم في البداية التنسيق مع الفائزين بها لمعرفة هل يقبلونها أم لا. ولهذا تقع بعض المشاكل المحرجة ومن هنا عندما قررت اللجنة الخاصة بجائزة نوبل في الاقتصاد منح الجائزة لعالم الرياضيات الأمريكي جون ناش حصل استثناء وحيد في التواصل مع الفائز قبل اعتماد منحه الجائزة. المشكلة أن جون ناش كان مصاباً باضطرابات نفسية تمثلت في معاناته مع مرض الفصام (الشيزوفرينيا) وخوفا من أن يتصرف جون ناش بشكل جنوني غير منضبط أثناء تسليم الجائزة. لذا تم تقيم حالته الذهنية من خلال التواصل مع زملائه في جامعة برنستون العريقة كما حصل تمرير خبر فوزه بالجائزة قبلها بيوم حتى عندما يتم الاتصال به يكون على إطلاع مسبق ولا يتفاجأ.

في الواقع فإن موضوع منح جائزة مرموقة جدا مثل جائزة نوبل أمر على درجة عالية من الجدّية والصرامة ومع ذلك أصبح (الاتصال) بالعلماء البارزين وإبلاغهم بفوزهم بالجائزة مجال واسع للسخرية وعمل المقالب. ولهذا ليس من المستغرب أن يتم تناقل الأخبار في المجتمع العلمي أن بعض مشاهير العلماء اتصل به شخص ما وجعله أضحكوه عندما زعم له أنه من لجنة جائزة نوبل وأنه يتصل به ليزف له الخبر السعيد بفوزه بالجائزة فيسارع ذلك المسكين بنشر الخبر المزيف وينطلي عليه الملعوب. وهذا النوع من المزاح المتعلق بجائزة نوبل أصبح له مصطلح شائع بين العلماء وهو (مقلب الاتصال الهاتفي prank call) ولهذا يعترف ستافان نورمارك الأمين العالم لأكاديمية العلوم السويدية الذي ظل لفترة طويلة هو من يتصل بالفائزين الجدد بالجائزة، فقد قال إن من مهامه أن يؤكد للفائزين عند الاتصال بهم أن هذا اتصال حقيقي وأن الأمر جاد وليس مزحة أو مقلب. في عام 2012م حصل علم الأحياء البريطاني جون غوردن على جائزة نوبل في الطب وذلك لأبحاثه عن الاستنساخ التي قام بها قبل ذلك بحوالي نصف قرن. ولهذا عندما تم الاتصال به من قبل لجنة الجائزة لأخباره بهذا الفوز توقع في بداية الأمر أن هذا الاتصال مزحة فقط فكيف تذكره القائمون على الجائزة بعد تلك العقود الزمنية. أما عالم الفلك الأسترالي بريان شميدت فيبدو أنه تعرض لأكثر من مرة لخدعة الاتصالات ولهذا عندما حصل أخيرا على الاتصال الحقيقي عام 2011م لأخباره بالفوز بجائزة نوبل في الفيزياء تعجب كثيرا كيف تمكن طلابه من حبك مقلب الاتصال هذه المرة بحيث أن المتحدث كان يتكلم بلكنة سويدية. ونختم ذكر مقالب جائزة نوبل بالقصة الطريفة التي حصلت لخليفة اينشتاين في مجال العبقرية في علم الفيزياء إلا وهو العالم الأمريكي ريتشارد فاينمان والذي عندما تلقى اتصالا هاتفيا بخصوص إخباره بفوزه بالجائزة أعتقد في البداية بأن الأمر مقلب من بعض طلابه ولهذا تكلم بشكل حاد مع المتصل. ولكن بعد الاتصال الثالث على التوالي بدأ فاينمان يقتنع أن الاتصال حقيقي وليس مزحة ولهذا اعتذر بشدة من الأشخاص الذين لم يكن مهذب في الرد عليهم.

كلمة أخيرة قبل أن نغادر (الاتصال) بكم عبر هذا المقال وبمناسبة الحديث عن جوائز نوبل لعل من المناسب ذكر الأديب الإيرلندي صموئيل بيكيت الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1969 حيث أنه ما زال حتى الآن هو مؤلف آخر أهم عمل مسرحي بارز إلا وهو مسرحية (في انتظار غودو). ما يهم في هذه المسرحية أنها من نوع الكوميديا السوداء وهي تدور عن رجلين ينتظران تحت شجرة جرداء شخص يدعى (غودو) والذي لا يصل أبداً. للأسف الشديد كما لن (يصل) غودو أبدا فكذلك في الغالب لن (يتصل) أحد من لجنة جائزة نوبل بأي من العلماء العرب المقيمين في البلدان العربية ولهذا ربما يُكتب يوما ما مسرحية هزلية بعنوان (في انتظار نوبل). صعوبة تحقيق الحلم العربي بالحصول على جائزة نوبل والعالم مقيم على أرض العرب لخصه الدكتور أحمد زويل عندما صرح لوسائل الإعلام لحظة الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1999م عندما قال (في صغري أبداً لم أتوقع على الإطلاق never ever أنني يوما ما سوف أتلقى اتصالاً هاتفياً من السويد). ومع ذلك ما زال الأمل موجود أنه سوف يحصل أن يتلقى أحد العلماء أو الأطباء ممن يقيم في الدول الغربية اتصالا هاتفيا يبدأ برقم (0046) وهو رمز الاتصال الهاتف الدولي للسويد. ولعنا قريبا بمشيئة الله نسمع هذا الخبر السعيد عن أستاذ الكيمياء بجامعة كاليفورنيا، بيركلي الدكتور عمر ياغي العالم الأمريكي البارز ذو الأصول الأردنية خصوصا بعد حصوله على أبرز وأرقى الجوائز العلمية ولم يتبقى له إلا جائزة نوبل ولعلها تكون قريبة المنال.

 

تنبيه: سوف يتم الإعلان عن جائزة نوبل في الطب يوم الإثنين القادم (الخامس من شهر أكتوبر) في حين يعلن يوم الثلاثاء عن جائزة نوبل الفيزيائية أما الإعلان عن الفائز بالجائزة في مجال الكيمياء فسوف يكون صباح يوم الأربعاء.. فكونوا على الموعد.


( تحت ظلال الزيزفون )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

انتهت قريبا من قراءة رواية قصيرة novella بعنون ( شهر تموز ) من تأليف الأديب السويسري ذو الأصول الألمانية هيرمان هيسه والحاصل على جائزة نوبل في الأدب. المدخل التمهيدي للقصة كان وصف أدبي رائق لحديقة عامة. وما لفت انتباهي ليس فقط كثرة ذكر أنواع أشجار الغابات المذكورة ولكن أيضا أسمائها الرنانة. وهذا قادني لحصر تلك الأسماء والتعجب من أن عملية تعريبها حافظت على رونقها اللغوي:
الصفصاف
الزيزفون
الليلك
الدردار
السنديان
البتولا
الحور
الزان
الكستناء
التوليب
صحيح أن بعض الأسماء الأصلية أو المعربة لأشجار  الغابات قبيحة مثل اسم الزعرور أو القيقب أو البلوط ولكن الغالبية العظمى من اسماء أشجار الغابات جميلة وأنيقة مثل الليلك والزيزفون.

في المقابل يصدم الواحد منا بأسماء الأشجار والشجيرات واسعة الانتشار في بيئتنا المحلية فالعرب منذ الجاهلية يحبذون الغرابة في الأسماء كما لاحظ ذلك فقية اللغة الكبير الزمخشري. لذا كان الله في عون أذن السامع على ثقل هذه الأسماء:
العوسج
العرفج
اللبخ
الكتم
الرمث
الاثل
الرقع
القرض
العتم
الارطى
العرعر
المصيبة فعلا لو الأمر كما يقال (( الإنسان ابن بيئته )) أو كما ينقل عن نبي الله عيسى عليه السلام قوله ( من ثمارهم تعرفونهم ) والتي هي بعبارة أخرى( من نباتاتهم تعرفونهم ). بيئتنا الصحراوية والجبلية قاسية وعدائية والله المستعان إذا كانا بالفعل نتطبع بطباعها.
يقال إن سيدنا عمر بن الخطاب سأل رجل عن اسمه واسم أبية فقال ( جمرة بن شهاب ) ولما سأله أين تقع داره فقال ( إن منزله في حرة النار وان اسم موقع سكنه ذات لظى ) فقال له عمر الفاروق صاحب الفراسة ( أدرك أهلك فقد احترقوا).
ديننا دين عظيم شذب وهذب جلافة الأعراب فينا واستل سخيمة البداوة منا ولكن الخوف من يؤول أمرنا لرقة الدين وضعف مروءة الرجولة واضمحلال نبل الفروسية. وصدق الشيخ محمد الغزالي عندما قال (إن العرب لا يصلحون إلا بدين .. ولا يقوم لهم ملك إلا بنبوءة). كلنا يفخر بأبي علم الاجتماع المفكر العربي الكبير ابن خلدون ولكن هل نعي أنه كان لديه فراسة مثل فراسة عمر الفاروق عندما وجه أسهم النقد الصارخ للعرب بقوله ( لمّا شيّد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة، وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا، وتتابع فيها الخلفاء عظُم حينئذ ملكهم، وقوي سلطانهم .. ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة، ورجعوا إلى قفرهم.. فتوحشوا كما كانوا ).

( أساطير الجبال والإغراء بالسفر )


 كم هي أوجهة الشببه في الشكل والأساطير بين جبال الداخل والخارج ؟

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

الجبال كما هي رمز الثبات والاستقرار هي كذلك رمز للسمو ولفت الأنظار ولذا هي بالمجاز وليس الحقيقة (عابره للحدود). بسبب الارتفاع الشاهق لبعض الجبال يمكن أن تشاهد من مسافة بعيدة أي من دولة أخرى وكذلك على نفس (المستوى) يمكن لمن يرتقي قمة جبل فارع أن يشاهد تخوم أراضي الدول المجاورة. الغريب في الأمر أنه كما أن الجبال قد تكون عابرة للحدود بشكل أو آخر فسوف نجد أن الأساطير المتعلقة بالجبال هي (عابرة للشعوب) والحضارات. في هذا اليوم الأربعاء تبدأ الإجازة القصيرة لليوم الوطني وهي آخر عطلة والعلم عند الله تمر بدون ألا يتمكن عشرات الألاف من السفر للخارج بسبب جائحة وباء كورونا. هذا المقال هو جولة تعريفية للمعالم السياحية والطبيعية الداخلية لمن قد يتحمس للسفر وهي في ذات الوقت خارطة طريقة لبعض الوجهات السياحية الخارجية المرتبطة بالداخل المحلي من خلال توظيف الأساطير المحكية عن السلاسل الجبلية كحبل وصل بين المنتزه القريب المنظور والمزار البعيد المحظور.

العديد منا يعلم الأسطورة الشعبية الشيقة التي تربط بين جبل طمية الشاهق شمال غرب القصيم وفوهة الوعبة الواسعة والسحيقة شمال شرق الطائف. وفق الأسطورة الخرافية سبب تشكل فوهة الوعبة أنه كان يوجد في ذلك المكان جبل أنثى تدعى مطية أحبت جبلا جميل المنظر يسمى قطن. ولهذا خالفت طمية العرف القبلي والقانون الجيولوجي عندما قفزت من موقعها وأقلعت متجهة للقاء محبوبها الصخري ولهذا تعرف تلك الفوهة الهائلة باسم (مقلع طمية). المثير في الأمر أن تفسير وجود فوهة كبيرة في الأرض من خلال نسج أسطورة لتكوّن معلم جيولوجي آخر نجده في أساطير بعض الشعوب الأخرى. بالقرب من الساحل الجنوبي لجزيرة مالطا في البحر الأبيض المتوسط توجد فوهة جيولوجية ضخمة تسمى المقلوبة. وبسبب شكلها المحير ظهرت العديد من الأساطير لمحاولة تفسير سبب تكونها ومما يقال إنها تكونت عندما قام عملاق (بقلعها) من الأرض ورميها بعيد في البحر مما تسبب في تكون جزيرة صغيرة تسمى جزيرة فلفلة تقع أمام الساحل المالطي.

الجدير بالذكر أن في بعض التفاصيل الأخرى لأسطورة العشق لجبل طمية ما يشابهها بشكل أو آخر في أساطير وخرافات الشعوب الأخرى. من ذلك مثلا حالة التنافس والصراع بين الجبال على العشق والزواج من الجبل الأنثوي المحبوب فكما نجد أن جبل عكاش (جنوب مدينة عقلة الصقور) كان ينافس جبل قطن (شمال عقلة الصقور) على أي منهما يضفر بالزواج من جبل طمية (غرب عقلة الصقور) السالفة الذكر نجد في أساطير الشعوب النيوزلندية القديمة قصة مشابهة. في أساطير شعب الماوري وهم السكان الأصليون للجزر النيوزلندية نجد ثلاثة جبال بركانية ضخمة متقاربة نسبيا كما هول الحال مع الجبال الثلاثة حول مدينة عقلة الصقور وما يهمنا هنا أن الجبل تونجاريرو كان يتنافس مع الجبل تاراناكي على الفوز بقلب الجبل الأنثى بيهانغا. وبعد أن نشب صراع ناري بين تلك الجبال البركانية انتصر الجبل تونجاريور بالزواج من الفاتنة البركانية بيهانغا وحتى ينعما بحياة مستقرة أجبر الجبل المهزوم تاراناكي أن (ينقلع) من مكانه ويتجه نحو الغرب. الجدير بالذكر أن هذا الجبل المهزوم عندما أجبر عن الفراق عن محبوبته أصبح كما تقول الأسطورة جبل (حزين) ومنكوب وهنا لا يسعنا إلا أن نذكر أسطورة محكية في منطقة الباحة أن جبل شدا وجبل حزنه كانا قديما متقاربين في أعلى السراة وعندما انفصلا وارتحل جبل شدا إلى سهول تهامة حزن على فراقه جبل حزنه ومن هنا جاءت تلك التسمية.

أمر آخر في خرافة جبل طمية يستحق وقفة إضافية ويتعلق بالجزء من الأسطورة الذي يقول إن طمية عندما أقلعت نحو جبل قطن اعترض طريقها جبل عكاش وأطلق عليها سهما مما تسبب في سقوطها وكسر ساقها. يذكر في الأساطير الإسكندنافية القديمة أن الجبل الأنثوي ليكامويا الواقع في جزيرة صغيرة شمال النرويج كان يهرب من صخر يحاول أن يصيده وعندما أطلق عليه سهم انحرف ذلك السهم وتسبب في إحداث ثقب في جبل يدعى تورغاتيان موجود على جزيرة أخرى. لا شك أن التشابه النسبي بين هذه الأساطير من بدو جزيرة العرب إلى الشعب البولينيزي النيوزلندي في المحيط الهادي أو الشعوب النوردية في الجزر الاسكندنافية أمر محير وغريب ولكن يمكن أن نفهم ذلك من خلال الظاهرة التي تسمى (أنسنه الطبيعة). الشعوب البدائية أو الشعوب غير المتحضرة عندما تواجهها حادثة طبيعية غريبة ومحيرة تحاول أن تفسرها من خلال إسباغ صفات وطبائع إنسانية على تلك الظاهرة فمثلا حدوث زلازل بمنطقة مزدحمة بالجبال يمكن تفسيره بأن هذه الجبال (تتصارع) فيما بينها كما إن وجود جلاميد صخرية طويلة يمكن أن تفسر أنها جنود لحماية موقع ما. وليس شرطا أن الخرافة أو الأسطورة التي يختلقها العقل البشري يصدقها بحذافيرها ولكن هي كنوع من (التسلية الذهنية) لتفسير العالم من حولنا.

بالرجوع لأسطورة جبل طمية وجيرانه من الجبال (قطن وعكاش) واضح جدا أن جبل طمية يختلف عنهم بأن الناظر إليه من جهة الغرب (القادم من جهة المدينة المنورة) سوف يلاحظ بأن أعلى الجبل أشبه بالسطح المستوي تماما. وبحكم أن أغلب الجبال مخروطية الشكل فإذا خلف هذا الجبل قصة وحكاية يمكن تفسيرها بأنه (جبل مقلوب) انتزع من مكان ما وأصبحت قاعدته المستوية هي قمته الجديدة. بالمناسبة منظر جبل طمية للقادم من الغرب يشبه الطاولة ولهذا هو إلى حدا ما يشبه (جبل الطاولة Table Mountain) المشرف على مدينة كيب تاون في دولة جنوب أفريقيا. وبحكم أن جبل الطاولة المطل على المحيط الأطلسي والقريب من نقطة الالتقاء بالمحيط الهندي ولهذا نجد مره أخرى أنه لتفسير منظره الغريب وموقعه المميز يلجأ الإنسان البسيط إلى اختلاق الخرافة كما هو حال أساطير شعب الكوسا في جنوب أفريقيا عن جبل الطاولة.

 

الجبال .. مسرح للرومانسية والدراما

للجبال ثقل وحضور ومركزية في حياة الشعوب ولهذا بعيدا عن الخرافات التي تجسد الجبال في شكل إنساني نجد العديد من الموروث المحكي المتناقل للشعوب والحضارات يرتبط بالجبال وقصص الناس معها. ومرة أخرى نجد أن الأشكال الغريبة لبعض الجبال تغري بنسج أساطير خيالية حولها وفي واقعنا المحلي نجد أنه بالقرب من مدينة شقصان وفي طريق الجنوب المتجه لمدينة الطائف يوجد جبل له ثلاثة قمم. لسبب غير مفهوم تماما يطلق على هذا الجبل المثلث (الغامديات الثلاثة) بالرغم من بعد هذا الجبل عن بلاد غامد بحوالي 150 كيلومتر وبحكم أن هذه المنطقة بالذات منطقة تماس لبعض القبائل المتناحرة في القديم يبدو أنه حصل حول هذه الجبل عدد من النزاع والقتال بين تلك القبائل. يقال إنه عندما استعان طرف من قبيلة عتيبة بطرف من قبيلة من غامد ضد عدو مشترك واعتلى فرسان غامد قمم ذلك الجبل ونصبوا بيارقهم فوقه نشأت تلك التسمية الغريبة. صراع قبلي آخر في أقصى الأرض أنتج تسمية مشابهة حيث نجد في أقصى الجنوب الشرقي من أستراليا سلسلة جبلية شاهقة (الجبال الزرقاء) وفي طرفها تقع ثلاث قمم متقاربة تسمى (الأخوات الثلاث). حسب أساطير الأبورجينيز السكان الأصليين لأستراليا سبب هذه التسمية أنه حصل في القديم نزاع وقتال بين قبيلة كاتومبا وقبيلة نيبين عندما أراد ثلاث شبان من القبيلة الثانية الزواج بثلاث أخوات من القبيلة الأولى.

وفي موقع آخر نجد جبل أخر ذو منظر غريب يستدعي ويستجلب الأسطورة والخرافة إلا وهو جبل حَرفة بصخرته الضخمة التي تأسر الأنظار للمسافر على طريق الجنوب. يقع هذه الجبل شمال محافظة النماص ومما يشاع حول ذلك الجبل أن قمته الصخرية مسكونة بالجن وتسمع فيه الأصوات الصاخبة وأن من يستطيع النوم فيه ولو لليلة واحدة فهو إما أن يصبح شاعراً فحلاً أو يصاب بالجنون. ونفس هذه القصة الخرافية حذو القذة بالقذة نجدها في أساطير أهل إقليم ويلز في غرب بريطانيا حيث يتناقلون أنه بالقرب من جبل سنودونيا الشاهق توجد عدد من القمم والجبال منها جبل الحكيم إدريس ووفق الأساطير الولزية أن من ينام على سفوح هذا الجبل لليلة واحدة إما أن يصبح شاعراً أو يصاب بالجنون.

من الغريب أن صعود قمم الجبال إما أن يجعلك أديباً وشاعراً أو مجنوناً أو يتسبب في إتلاف حياتك خصوصا إذا كنت عاشق متيم بالحب. في الموروث الشعبي لقبيلة جهينة يتردد خبر شخص يدعى مسلم الوليعي عشق فتاه كان يرعى معها الإبل وعندما رفض أهلها أن يزوجونه منها قام بالانتحار بالسقوط من أعلى جبل رضوى المشهور والقريب من مدينة ينبع. تقول العرب منذ القدم (أي شيءٌ أثقل من جبل رضوى) ولهذا كبار شعراء العربية استعاروا ثقل رضوى في قصائدهم ولكن يبدو أنه فاتهم جميعا أن الشيء الذي ربما يكون أثقل من رضوى هو العشق والهيام ولهذا ينتحر المحب ليتخلص من حمله الثقيل والكثيف. ما ينبغي قوله هنا أن

هذه الدراما الرومانسية نجد لها قصص مشابها في مناطق مختلفة من العالم مع تباينات طفيفة. فمثلا بدلاً من انتحار الشاب نجد في الأساطير القديمة المتداولة في شمال منطقة الأناضول في تركيا أن قصة الحب بين الشاب فرهاد والشابة شيرين (هل هي امتداد لأسطورة خسرو وشيرين الفارسية .. ربما !!) انتهت بكارثة تراجيدية عندما انتحرت الفتاة بالقفز من فوق قمة صخرية في مدينة أماصيا عندما ظنت أن محبوبها قد قتل. بالمناسبة على ذكر القتل كما هو متوقع فإن الجريمة ليست ببعيدة عن عالم العشق والغرام وذلك لأنه على العكس من حالة السعادة بين المحبين في العادة نجد المجتمع وبالذات أسرة المرأة دائما في حالة غضب قاتل. وهذا يقودنا إلى أشهر الجبال في بلادنا إلا وهما جبلي أجا وسلمى في منطقة حائل والتي تقول الأسطورة الغارقة في القدم بأن سبب تسميتها بهذين الاسمين أن قصة عشق وغرام نشبت بين رجل يدعى أجا وفتاة تدعى سلمى. وكعادة العرب في عدم السماح بالزواج بين المحبين إذا انتشر ذكر غرامهما لهذا رفض أهل الفتاة أن يتزوج أجا منها. ثم حصلت الفضيحة بأن تهور أجا بالهرب مع محبوبته سلمى وعندما طاردهم إخوة الفتاة الخمسة وتمكنوا من القبض عليهما قاموا بقتلهم وصلبوا كلا واحدا منهما على جبل منفصل. بقي أن نقول إن قصة مشابهة يمكن أن نجدها تحكى بين سكان جنوب إسبانيا حيث يوجد بالقرب من مدينة ملقا جبل يحمل اسم صخرة المحبين وسبب التسمية أن رجل وفتاة من قبيلتين مختلفتين وقعا في الحب وعندما علم أهل الفتاة بذلك قام والدها وأقاربه بمطاردة هذين العاشقين في قمة ذلك الجبل وعندما أوشكوا أن يقبضوا عليهما قفزا من أعلى الصخرة.

على كل حال ليس كل قصص الغرام المرتبطة بالجبال والصخور تنتهي بالانتحار أو القتل فهذا الشاعر المجنون قيس بن الملوح كانت مواعيد غرامه مع محبوبته ليلى العامرية تتم على سفح جبل التوباد الذي يقع شمال غرب مدينة الأفلاج في حين أن الشاعر العربي الفارس عنترة كثيرا ما كان يجتمع بمحبوبته عبلة عند صخرة عيون الجواء.

وفي الختام أعلم أيه القارئ العزيز أنني شرقت وغربت بك في جميع الأرجاء الجغرافية والأبعاد الزمانية وكان المقصود من ذلك إعطاء شحنة إضافية للإغراء بالسفر في (ربوع بلادي) مع التشويق للانطلاق الخارجي لمشاهدة حضارات وثقافات أخرى ومعرفة قصص وأساطير شعوب وأمم شتى.

 

 


( حب الرمان .. المعنى والمبنى )

لماذا حير حب الرمان الشعراء والعلماء ؟!!!

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

في السنوات الأولى لدراستي في بريطانيا وبحكم ندرة وجود ثمار الرمان في تلك الديار توافق في أحد الأيام أنني كنت أنتقي الجيد والمغري من تلك الثمار المعروضة في السوبرماركت وهنا اقتربت سيدة عجوز رأت اهتمامي بهذه الفاكهة ولأنها غير شائعة عندهم سألتني باللغة الإنجليزية عن اسمها. بكل الصدق منذ تلك الحادثة وحتى الآن يصعب على ضبط حفظ اسم الرمان باللغة الإنجليزية وبعد سؤال العجوز الانجليزية المحرج رجعت للمنزل وبحثت عن الاسم فوجدت أنه pomegranate وهو اسم على خلاف الأسماء الإنجليزية للفواكه والخضروات هو اسم معقد نسبيا وغير مفهوم. في الواقع هذا الاسم المٌلكّع مشتق من كلمتين باللغة اللاتينية هما pomum بمعنى تفاح وكلمة granatus بمعنى حبوب أو بذور. وبهذا يكون معنى اسم الرمان باللغة الإنجليزية (التفاح ذو الحبوب) وسبب هذه التسمية غير مفهوم ومحير فما الرابط بين التفاح والرمان إلا إذا كان الأمر نشأ من أن بعض علماء اليهودية يعتقد أن الثمرة المحرمة التي أخرجت آدم عليه السلام من الجنة هي الرمان وليس ثمرة التفاح كما هو شائع. ولا أدري لماذا أصبح اسم هذه الثمرة المحببة في اللغات الأجنبية مرتبط بالمصائب والكوارث فبعد الربط المتوهم بالحرمان من الفردوس نجد أن اسم هذه الثمرة باللغة الفرنسية (ومظهرها) جعل بعض الحمقاء يربطها بالقنبلة اليدوية فكلاهما (الرمان والقنبلة) ينطق (grenade).

سنعرف لاحقا أن العديد من الشعوب ركزت اهتمامها وبنت أساطيرها على حب وبذور الرمان أكثر من مظهراها الخارجي بينما نحن العرب استهوتنا القشور وتعلقنا بالمظاهر لدرجة أننا لم نحسن الاستفادة من الفوائد الطبية لهذه الثمرة إلا فيما يتعلق بالوصفات الشعبية لقشر الرمان. بينما توصل فريق من الباحثين في سويسرا لإثبات ارتباط حب الرمان في مقاومة الشيخوخة وقاموا بنشر نتائج بحثهم الشيق في مجلة نيتشر المرموقة عندما أثبتوا أن بعض المواد الكيميائية في الرمان تتحول في الأمعاء بواسطة بعض البكتيريا إلى مواد تساعد خلايا الجسم في الاستمرار في النمو والتجدد وإطالة العمر. وهذا يذكرنا بما ورد في الأثر الشريف عن العابد ممن كان قبلنا الذي ظل لمدة خمسمائة سنة وليس له طعام إلا رمانة واحدة طازجة كل يوم (بالمناسبة هل حصل لبس آخر بين التفاح والرمان ولهذا قيل بدون مستند طبيب ملموس: تفاحة كل يوم تغنيك عن الطبيب).

في الأدب كما في الطب لم يلفت اهتمامنا في الرمان إلا القشور والمظهر العام فبحكم أن ثمرة الرمان من بين جميع الفاكهة هي الوحيدة المكتملة الاستدارة وفي نفس الوقت لها تاج صغير بارز ولهذا لم تبتعد مخيلة شعراء العربية بعيد في التشبيه الساذج لنهد وحلمة المرأة بثمرة الرمان. وهذا التشبيه شائع في الشعر العربي منذ زمن الجاهلية كما في نجده في شعر النابغة الذبياني ومرورا بالعصر العباسي وشعر ابن المعتز ووصولا للزمن المعاصر وشعر نزار قباني فكلهم استعار شكل ثمرة الرمان لتوصيف صدر ونهد المعشوقة.

بينما في المقابل نجد شعراء الحكمة والعمق الوجداني يثير اهتمامهم عجائب باطن ثمر الرمان أكثر من المظهر العالم لجمال الرمان وجمال غصن وزهر الرمان. صنعة الخالق البديع في ترتيب ونظم حب الرمان داخل الثمرة بصورة إعجازية لفتت اهتمام الشاعر جلال الدين الرومي الذي اشتهر بعمق الفكر وابتكار الصور الأدبية ولهذا كان من حكمة ذائعة الصيت قوله (القوة التي تضع حبات الرمان واحدة واحدة داخل قشرتها، تعلم في أي قلب تضعك، فلا تقلق). بالمناسبة للشاعر (مولانا الرومي) حضور كبير وإعجاب منقطع النظير في الغرب وربما لا ينافسه في ذلك إلا سلفه عمر الخيام وبمناسبة الرابط بين جلال الدين الرومي وحب الرمان تجدر الإشارة إلى أنه صدر كتاب صغير عن أشهر الاقتباسات الشعرية التي أبدعها الرومي. ذلك الكتاب ليس فقط حمل عنوان (بذور الرومي Rumi’s Seeds) بل كذلك غلاف الكتاب يحمل صورة لثمرة وحب الرمان ويقول الكاتب غلين سالازار أنه كما يتفجر حب الرمان الأحمر بالحياة والجمال في ضوء الشمس فكذلك تتفجر وتشع أشعار الرومي بالحكمة عندما تقرأ في ضوء القمر.

وبالعودة لبديع صنع الله في ترتيب ونظم حب الرمان داخل قشرتها الذي أثار حيرة مولانا الرومي فهذا يقودنا لذكر خبر لطيف في دنيا العلوم بطله عالم الفلك والرياضي الألماني البارز يوهانس كيبلر الذي لو لم يكتشف قوانينه الثلاثة لحركة الكواكب حول الشمس ربما لم يتمكن نيوتن من اكتشاف الجاذبية نتيجة لسقوط ثمرة تفاح (أو هي ثمرة رمان .. لست أدري !!). تقول القصة إنه عندما كان كيبلر يمشي عبر أحد جسور مدينة براغ تجمعت بعض ندف الثلج على معطفه وعندما فكر في دراستها تحت العدسة المكبرة وجد كيبلر أن بلورات الثلج وبالرغم من اختلافها عن بعضها البعض إلا أن لها شكل سداسي الأضلاع. وبعد تفكير وتمعن استنتج كيبلر بشكل سليم أن الشكل السداسي هو أفضل شكل هندسي يضمن الاستفادة القصوى من أي حيز فراغي مع مراعاة القوة والإحكام للشكل المتكون. وفي خطوة تاليه توجه اهتمام كيبلر من بلورات الثلج إلى فحص أقراص الشمع ولأنها ثنائية الأبعاد (مسطحة الشكل) فلهذا أفضل شكل لاستغلال المساحة وضمان الثابتية يجب أن تكون خلايا شمع العسل سداسية (hexagonal). أما إذا أردنا صف وترتيب أشياء بشكل محكم في شكل ثلاثي الأبعاد فأنه لازم أن تتحول الأضلاع إلى سطوح وبهذا يتغير الشكل من السداسي إلى الشكل الهندسي المسمى متعدد السطوح الاثنا عشري (dodecahedron). وحتى يثبت كيبلر صحة استنتاجاته الفراغية وحساباته الرياضية وجد ضالته العلمية ودليله من الأشياء الطبيعية في (حب الرمان) حيث بالدراسة الدقيقة له وجد أن كل حبة رمان مفردة هي في الواقع عبارة عن شكل هندسي متعدد الأوجه والسطوح يبلغ عددها اثنا عشر سطحا. وبهذا توصل كيبلر أنه لتحقيق أفضل طريقة لتعبئة حب الرمان بصورة فعالة للاستغلال المساحات الفراغية مع وضع أكبر عدد من البذور داخل قشرة الثمرة يجب أن يكون شكل حب الرمان على هيئة متعدد السطوح الاثنا عشري.

 أعلم مسبقا أيها القارئ العزيز بأنك سوف تحتار وتتعجب هل فعلا لكل حبة رمان اثنا عشر وجه وسطح والحل بسيط لأن هذا المقال يتم تسطيره بمناسبة انطلاق فعاليات مهرجان الرمان الوطني بمنطقة الباحة ولهذا كتسويق لهذه الفاكهة اللذيذة عليك في المرة القادمة وانت تتناول حب الرمان أن تحاول أن تحصي عدد الأسطح لكل حبة. على كل حال ينبغي التنبيه أن محاولة رصد السطوح الاثنا عشر لأي حبة رمان قد تصيب بعضنا بالإرباك والحيرة ولكن حيرتنا في العدّ الهندسي والتدقيق الفراغي ربما تكون أسهل من حيرة بني إسرائيل الذين يشيع بينهم مقولة أن (في كل رمانه 613 حبة وهي بعدد وصايا الرب الواردة في التوراة). ولهذا ينتشر بين أطفال اليهود في مناسباتهم الدينية أن يحاول كلا منهم عدّ وإحصاء عدد حب الرمان الموجودة في الثمار التي يتناولونها. وفيما يخص بالحساب المتعلق بحب الرمان فإننا قطعا سوف نتفوق على بني إسرائيل فكل حبة رمان لها 12 سطحا بينما بالقطع ليس كل ثمرة رمان فيها 613 حبة رمان فحسب الإحصاءات الزراعية متوسط عدد حب الرمان في الثمار يتفاوت ما بين 200 حبة و1400 حبة رمان.

وختاما لكل من عشق تناول (فرط الرمان) ننصحه بالاستمتاع بالتقاط والتهام تلك الحبوب الحمراء المذهلة وألا يشغل نفسه بحصر وحساب عددها ففي لحظة اللذة استمتع بها ودعك من القلق مما يلي بعد ذلك. ومع ذلك قد نجد في دنيا الأساطير أن عدم الاهتمام بعدد حبات الرمان التي تتناولها قد يوقعك في الكوارث كما هو حال بيرسيفوني ربة وإلهة الزراعة والحبوب عند الإغريق. وفق الأساطير الإغريقية القديمة استطاع هاديس إله العالم السفلي من اختطاف بيرسيفوني الفائقة الجمال واحتال عليها حتى يبقيها معه في عالم الموتى بأن تصبح زوجته وملكة معه على العالم السفلي. تم ذلك من خلال تجويع بيرسيفوني لفترة طويلة ثم إعطائها عدد من حب الرمان والتي لو أكلتها فإنها حسب قوانين العالم السفلي عندما يأكل أي شخص من طعام الموتى يجب أن يقيم بينهم إلى الأبد في مملكة الموتى. وبزعمهم بعد تدخل آلهة الأولمب وكبيرهم زيوس تم التوصل لاتفاق أنه نظرا لأن بيرسيفوني تناولت فقط أربع حبات من فرط الرمان فلذا يتوجب عليها أن تقيم كل سنة أربعة أشهر في مملكة الموتى ومن ثم تغادر العالم السفلي مع مطلع الربيع لتعود مرة أخرى مع بداية فصل الشتاء.

 كلمة أخيرة، لعقود طويلة تفردت مدينة الطائف بلقب (مدينة الرمان) ويبدو أن هذا اللقب بدأ في الانتقال إلى منطقة الباحة بل وحتى منطقة القصيم فكلا منهما تنشط فيها نهضة زراعية واعدة. صحيح أن المقال الحالي جاء بالتزامن مع مهرجان الباحة للرمان لكن شفيعي عند مدينتي الحبيبة الطائف المأنوس أنها تشتهر الآن أكثر بلقب (مدينة الورد) ولهذا العام الماضي وفي عز موسم الطائف الصيفي كتبت لها مقالة (مدينة الطائف وكيمياء الورود). 

 

( آباؤنا في الخارج )

مدينة أسمرا (روما الصغيرة) كيف شاهدها الأجداد

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

 الشاعر العباسي أشجع السلمي ولد في أرض الغربة بعيدا عن العراق ولهذا ربما رضع الحنين للأوطان مع حليب أمه ومن هنا قال لاحقا عندما شب وشاب:

لابد للمشتاق من ذكر الوطن       واليأس والسلوة من بعد الحزن

 وبحكم إن الشعر هو ومضات ودفقات فهو بذا يعطي فقط لمحات خافتة وإضاءات خاطفة لحال المهاجر في غربته ولهذا كان المجال أوسع للرواية الأدبية لوصف حال الدراما النفسية والخفايا البشرية لمن عاش تجربة الارتحال خارج الوطن. قديما حذر الإمام زين العابدين في قصيدته المشهورة من التعرض للغريب بالمضايقة فيكفيه ما هو فيه من أن الغريب (الدهر ينهره بالذل والمحن) فالمقيم خارج الوطن معرض للغصص والنكبات وهذه مادة الحبكة الدرامية لإنتاج أعمق الأعمال الأدبية. ليس من باب المصادفة أن الرواية الأدبية التي حققت الشهرة العالمية للأديب الإنجليزي روديارد كبلينغ ليحصل على جائزة نوبل في الأدب هي رواية (كيم) والتي تتعلق بطفل إيرلندي يتيم مغترب كان يعيش في مدينة لاهور. وبدرجة أقل الروائي الإنجليزي إدورد فورستر رشح 16 مرة في سنوات مختلفة للحصول على جائزة نوبل في الأدب بعد شهرته المدوية بسبب روايته (الطريق إلى الهند) والتي في جزء منها تناقش تعقيدات الجالية الإنجليزية الحاكمة المقيمة في الهند. وهذه رواية بول وفرجيني (التي عربها المنفلوطي تحت عنوان: الفضيلة) للأديب الفرنسي دي سان بيير لاقت إعجاب الجميع في فرنسا من الملك لويس السادس عشر وحتى نابليون لأنها لامست شغاف القلوب الحزينة لحال أبطال الرواية الفرنسيين المهاجرين إلى مستعمرة موريشيوس في المحيط الهندي.

وفي محيطنا العربي أجمل رواية عن (الجاليات المهاجرة) هي تلك التي أبدعها الروائي اللبناني ربيع جابر عن عذابات المهاجرين من لبنان والمقيمين في نيويورك في بدايات القرن العشرين وحملت تلك الرواية عنوان (أمريكا). بينما في نهاية القرن العشرين نتعرف على ألام وأحلام الجالية المصرية في نيويورك في الرواية الحابسة للأنفاس (عناق عند جسر بروكلين) للدبلوماسي والكاتب المصري عز الدين فشير وكذلك لا يصح أن ننسى ذكر الرواية (شيكاغو) للأديب المصري علاء الأسواني الذي تعمق في ذكر أغوار الجالية المصرية في تلك المدينة المتناقضة. المغترب العربي حائر ومقهور تحت سماء الغربة ونظرا لكثرة المهاجرين العرب نشير إلى أن رواية (تحت سماء كوبنهاغن) للروائية العراقية حوراء الندوي تتعلق بحال الجالية العراقية المهجرة إلى الدنمارك في حين نجد الرواية المقاربة في العنوان (السماء تحت أقدامنا) تتعلق بقضايا الجالية المغربية المقيمة في فرنسا وتلك الرواية من تأليف الكاتبة المغربية ليلى باحساين.

قبل حوالي أربعة قرون هاجرت بعض قبائل نجد إلى منطقة الزبير في جنوب العراق وبعد تجربة ثرية من تبادل الثقافات والخبرات عاد فئام من هؤلاء الكرام إلى أرض الوطن. وكان من ضمنهم الأستاذ عبد الرزاق المانع الذي كتب رواية أدبية حملت عنوان (صخب الحياة) تستعرض حياة الشتات للمغتربين من أهل نجد في تلك الديار مع التركيز على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية التي شكلت معالم حياتهم. ومن العراق إلى الكويت والبحرين يمكن استعراض شخصيات نجدية مهاجرة عاشت في أقاليم متنوعة وكان لكل منها ثرائه الإنساني المختلف الذي أستحق أن يخلد في أعمال أدبية وكتابات وثائقية. فهذا السيد علي ناصر النجدي وهو شخصية حقيقة كانت تعمل في مجال الغوص بالكويت تصبح محور رواية (النجدي) للأديب الكويتي طالب الرفاعي بينما الروائي البحريني خالد البسام يقدم في عمله الأدبي (النجدي الطيب) سيرة سليمان الحمد البسام أحد أشهر تجار البحرين والقادم من مدينة عنيزة.

 صبيان غامد وراء الحدود

الانقطاع الطوعي أو القسري عن الأوطان له طعم مُر وغصة تنشب ولا تمر ولهذا مع تعليق السفر الخارجي بسبب تداعيات وباء الكورونا تتجدد الذكريات وتتصاعد الزفرات عمن سافر ولم يعد وغادر ولم يأب من الأجيال القديمة من الأجداد والأسلاف فبعضهم بهجرته الدائمة يكذب ويناقض مقولة الشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص (وكل ذي غَيبة يؤوبُ). من البرامج التلفزيونية المميزة التي قدمها المذيع المحبوب والموهوب ماجد الشبل رحمه الله برنامج (أبناؤنا في الخارج) والذي تدور فكرته عن إجراء لقاءات تلفزيونه مع الطلبة المبتعثين للدراسة في خارج المملكة. فكرة تلمس أحوال سفراء البلد و (أمل المستقبل) فكرة جميلة ومنطقية ولكن ماذا عن تلمس أحوال وتقصي أخبار أجراء المهجر (ذخيرة الماضي) من الأجداد الذين عاشوا تجربة الهجرة وكربة الشتات وراء طلب لقمة العيش.

لقرون طويلة ساد الشعر في عالم العرب أما الآن فكما يقول وزير الثقافة المصري جابر عصفور فهو (زمن الرواية) وهو في الأصل يردد المقالة التي تجرأ ونطق بها القصاص الشاب (في ذلك الحين) نجيب محفوظ أمام العملاق عباس العقاد. يقال إن القراءة تقود للغواية بارتكاب فعل الكتابة وبعد عقود طويلة من مطالعة مئات الروايات الأدبية لا عجب أن فتنة الإغراء بتأليف رواية أدبية قد خطرت ببالي ولو حصل وغامرت بكشف المستور عن الركاكة الأدبية التي أمتلكها فماذا سوف يكون محور ومدار تلك الرواية الموعودة. لشخص جرب الغربة لعدة سنوات وعرف عذوبة وعذاب السفر والارتحال أشعر أن تأليف رواية عن حياة وتجربة ومعاناة الأجداد في أرض الشتات وديار الاغتراب ربما توفر أحداث روائية واعدة لإنتاج عقدة فنية وحبكة أدبية جديرة بالتأليف والقراءة. من دون جهد كبير عشرات القصص يمكن تخيلها ونسجها عن يوميات رجال العقيلات وهم ينطلقون للتجارة من بريدة حتى يحطوا رحالهم للإقامة في بلاد الشام وأرض فلسطين أو مجريات أحداث حياة بعض رعاة الإبل من أفراد قبيلة الرشايدة الذين نزحوا من الحجاز واستوطنوا مدينة كسلا في غرب السودان.

قبل حوالي ثمانين سنه أصابت جنوب المملكة مجاعة مهلكة وقحط مجدب ولهذا هاجر في طلب الرزق الآلاف من شباب القرى من مختلف القبائل وكان من ضمنهم المئات من (صبيان غامد وزهران). من قريتي الصغيرة سافر إلى أرض الحبشة نفر يسير دون العشرة كان من ضمنهم جدي (صالح آل عبية) رحمه الله وجميع موتى المسلمين ارتحلوا عبر ميناء القحمة بساحل عسير. وبعد عبور البحر الأحمر وصلوا لميناء مدينة مصوع ثم كان مقر إقامتهم النهائية في مدينة أسمرة عاصمة أرتيريا حاليا والتي كانت في ذلك الوقت مستعمرة إيطالية على درجة عالية من التقدم والازدهار لدرجة أنها وقت وصول الأجداد لها في ثلاثينيات القرن العشرين كانت تلقب بمدينة (روما الصغيرة). ماذا كان شعور جدي و (رفاقته) من ركوب البحر وهل حصل لهم صدمة حضارية بمشاهدة أناقة العمران الإيطالي وهل أصابتهم الحيرة من سحر التقنية الحديثة كالهاتف والراديو والكهرباء والقطار فضلا عن الطائرة وما هي طبيعة الأعمال التجارية التي انخرطوا فيها وكيف كانت مجريات معيشتهم في أرض الغربة؟. لو كنت أمتلك المهارة الأدبية الكافية والجرأة الإعلامية الدافعة لربما حاولت أن أسطر ذكراهم في أقصوصة فنية خجولة.

بكل الصدق أقول إن حياة البعض من أبناء المنطقة الذين هاجروا للخارج قديما كانت ثرية وحاشدة بالأحداث الشيقة التي تستحق التسطير في أعمال فنية فمثلا يذكر أن العم عطية الخرش من قرى بلجرشي كان يلقب في الحبشة بأبو المساكين ولشهرته ومحبة الناس له عندما توفي في مدينة أسمره أعلن عن وفاته في التلفزيون. وهذا العم محمد بن علي حناس من قرية الدارين بمحافظة بني حسن عندما بدأ الأثيوبيون يضيقون على التجار العرب الموجودين في مدينة أديس بابا قام ذلك الفتى الزهراني بقيادة مظاهرة سلمية أمام قصر الإمبراطور هيلا سيلاسي ولاحقا سمح له بمقابلة الإمبراطور والتحدث معه باللغة الإثيوبية للالتماس لرفع الظلم والحيف الذي وقع بهم. بينما العم عبد الرحمن بن سفر الغامدي من قرية القريع ببلجرشي الذي هاجر هو وأخيه إبراهيم قديما إلى إندونيسيا أصبح من أهل البلد ومن الأثرياء منهم وحصل على عضوية البرلمان الإندونيسي بل يقال إنه يوجد شارع باسمه في مدينة جاكرتا. ومرة أخرى مع رجال قرى مدينة بلجرشي حيث نجد أن الشاعر أحمد بن عطية الغامدي من قرية الركبة كان يوصف بأنه شاعر البلاط الهاشمي. وكان مقرب من الشريف حسين بن علي لدرجة أنه عندما غادر الأشراف الحجاز إلى الأردن ارتحل معهم أحمد بن عطية وقد أمر الشريف بطباعة ديوان شعره وتوفي في مدينة عمان بعد أن شارك في حرب فلسطين عام 1948ميلادي. وبالمناسبة العديد من أبناء منطقة الباحة شارك في الأحداث الكبرى مثل حرب فلسطين بل وحتى في إنشاء قناة السويس في مصر قبل حوالي قرن ونصف من الزمن.

ونختم هذا التطواف والتجوال في ذكرى الأسلاف المرتحلين بأن نشير إلى أن هجرة البعض منهم تخطت حتى البلاد العربية والدول الإسلامية والغريب أن هذا قد حصل في وقت مبكر نسبياً. فمثلا نجد أن التاجر القصيمي و (الممثل) خليل الرواف ينتقل من مدينة بريدة قبل حوالي تسعين سنة ليصل إلى مدينة نيويورك ومنها يعبر عن طريق البر الولايات الأمريكية المتتالية حتى يصل إلى مدينة لوس أنجلس ليصبح بعدها أول شخص عربي يمثل في أفلام هوليوود. ولتصبح قصة حياته جديرة بأن ينتج منها فلم سينمائي شيّق خصوصا الجانب الدرامي في قصة انفصاله عن ابنه الأمريكي نواف وبحثه عنه في آواخر عمره. أما من أبناء منطقة الباحة الذين هاجروا قديما لديار الغرب فهذا العم محمد بن علي حناس السالف الذكر سافر في فترة الخمسينيات من القرن العشرين إلى إيطاليا وزار العديد من الدول الأوروبية. وذكر أنه التقى أثناء زيارته لمدينة مرسيليا بالعم غرم الله بن زنان الزهراني الذي كان يقيم في فرنسا لفترة طويلة فقد أستوطن بها من قبل الحرب العالمية الثانية وكان يمارس التجارة وتزوج من سيدة عربية ذات أصول سورية.

كلمة أخيرة هذا المقال لاستعادة الزمن المنسي واستكشاف المجهول ونبش المسكوت عنه من رحلات الرواد وهجرات الأجداد رحمهم الله جميعا وجعل قبورهم روضة من رياض الجنة.

 

( في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي .. هل البقاء للأضعف ؟!! )


 القوة المادية والعسكرية ليست المقياس الوحيد للنصر

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

يُشتهر عن الأرض المباركة في أكناف بيت المقدس وأرض الشام أنها تسمى (أرض المحشر) والتسمية هي توصيف لدور هذه البقاع في آخر الزمان ولكن من جانب آخر نجد هذه الأماكن التاريخية هي المواقع ذاتها التي (تجمع وحشر فيها) في أول الزمان أكبر وأهم جيوش التاريخ البشري. مرة أخرى سوف نستعير وصف (أرض الملاحم والمعارك) في وصف أرض فلسطين وأرض الشام ليس لدورها المستقبلي ولكن لدورها في القديم عندما كانت ممر ومقبرة الغزاة من كل جنس ولون على اختلاف الدهور من الفراعنة إلى الفرس والمقدونيين والرومان والصليبيين والتتار والإنجليز والفرنسيين.

من كل أولئك الأعداء الألداء ما يهمنا الآن هو التركيز على الصراع الذي نشب قديما وسوف يحدث مستقبلا على هذه البقعة بين العرب واليهود وهو صراع يبدأ في الغالب بانتصار مفاجئ لليهود ثم ينتهي بهزيمة ماحقة تجتثهم. للأسف الحروب المحورية بين أولاد العم الكنعانيون والعرب واليهود غير موثقة بشكل تاريخي سليم لأنها إما وقعت منذ غابر الأزمان أو هي ستقع في مستقبل الأيام ولهذا سوف نعتمد على وصف التوراة لأول حرب وآخر قتال بين الفلسطينيين واليهود.

قبل حوالي 3500 سنة وبعد خروج اليهود من أرض مصر رفض الجيل الأول أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم ولهذا عاقبهم الله بالتيه في البرية لمدة أربعين سنة. ثم لما كتب الله لهم الخروج من التيه قاد نبي الله يوشع بن نون شعب بني إسرائيل عبر نهر الأردن وخاض بهم معارك دموية لاحتلال الأرض وطرد سكانها الأصليين من الكنعانيين والأموريين واليبوسيين. وبالرغم من أني بني إسرائيل أثناء زمن التيه تعرضوا لبعض الحروب والمناوشات الطفيفة إلا أن خبرتهم العسكرية كانت محدودة وأسلحتهم بدائية ولهذا يذكر في التوراة أن أول نصر لبني إسرائيل في قديم الزمن كان نصرا بلا قتال حقيقي. وذلك عندما سقطت جدران مدينة أريحا كمعجزة لنبي الله يوشع عندما تقوضت وتهاوت الحصون من صوت الأبواق ولهذا ورد في التوراة في سفر القضاة امتنان الله على شعب بني إسرائيل في تلك المعركة بالذات (فلم تكن سيوفكم ولا سهامكم هي التي نصرتكم).

تشير كتب التاريخ إلى أن أول معركة حربية كبرى حصلت بين بني إسرائيل وأهل فلسطين هي تلك التي وقعت في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد واشتهرت باسم (معركة جبل طابور) والتي وقعت بالقرب من مدينة الناصرة.  كانت المعركة بين مملكة الكنعانيين في شمال فلسطين وعاصمتها مدينة حاصور وبين قبائل بني إسرائيل بقيادة الحاكم والمقاتل بارك بن أبينوعام. منذ البداية كانت كفة الجاهزية الحربية تميل بشدة لصالح الكنعانيين ليس فقط لأن عددهم أضعاف عدد بني إسرائيل ولكن لحيازة الجيش الكنعاني سلاح فائق التطور في ذلك الزمن إلا وهو (عربة القتال). في العصور القديمة كان العربة الحديدية Chariot هي بمثابة دبابة الأبرامز الأمريكية المنيعة في وقتنا الحاضر وقد كان جيش الكنعانيين يمتلك حوالي 900 عربة قتالية تكفي لإبادة إي جيش تقليدي. وبمثل هذه الكفاءة القتالية الساحقة للعربة ذات العجلات المبطنة بالحديد لا غرابة أن نجد أن كبار قادة الجيوش في العالم القديم تفاخروا بالقتال على ظهرها. فهذه جدران معبد أبو سنبل الفرعوني في أسوان تؤرخ المنحوتات المنقوشة عليه الانتصارات العسكرية للفرعون رمسيس الثاني وهو يطارد بعربته الحربية الجنود الفارين من أعدائه الحيثيون بعد انتصاره (المزعوم) عليهم في معركة قادش على أرض سوريا. وفي المتحف البريطاني بلندن يتحلق الزوار بذهول حول المنحوتة الجدارية المسروقة من أطلال قصور مدينة نينوى بشمال العراق والتي تعرض الصورة الشهيرة لملك الآشوريين وهو يطلق السهام وجنوده الذين معه على العجلة يصيدون الأسود بالرماح. كما إن العربة اعتبرت أهم وسيلة دفاع أمام أخطار ما بعد الموت ولهذا نجد أن قدماء المصريين دفنوها في مقبرة الفرعون توت عنخ آمون وكذلك كانت العربة الحربية هي في قلب الجيش الطيني الشهير terracotta army المدفون للدفاع بعد الموت عن أول إمبراطور للصين.

والمقصود أن هزيمة بني إسرائيل بأسلحتهم البدائية أمام جيش العربات الحربية العرمرم كانت شبه مؤكدة لكن القوة العسكرية ليست كل شيء في دنيا القتال. بسبب الهزائم المتوالية للأمة العربية في العصور الحديثة أصبح يستهوين جمع الكتب التي تناقش أسباب الهزائم العسكرية في التاريخ البشري بدلا من الاستمتاع بتخدير النفس باجترار قراءة الانتصارات في معاركنا الخالدة في الوجدان والبائدة على أرض الواقع. في مقال سابق حمل عنوان (فن صناعة الهزيمة) نشر قبل عدة سنوات بمناسبة مرور ذكرى هزيمة حرب 67 المذلة أمام اليهود، ذكرت في ذلك المقال بعض أسباب وعوامل الهزيمة في المعارك الحربية. ومن ذلك مثلا ضعف كفاءة القائد العسكري أو سوء الأحوال الجوية أو خطأ اختيار موقع المعركة أو ضعف الخطة العسكرية أو عدم كفاءة الأسلحة أو تأخر الإمدادات أو ما شابه ذلك من تفاصيل فنون القتال. في واقعنا المعاصر تم تفسير هزيمة العرب الشنيعة في زمننا الحالي وفق المقولة القديمة للجنرال الأمريكي دوغلاس ماكارثر (أنه لأمر فادح أن تدخل الحرب وأنت لا تنوي النصر فيها). من المحزن أن أهل فلسطين والعرب يكررون نفس الأخطاء في القديم والحديث فبالعودة لمعركة جبل طابور نجد أن الخطأ العسكري الفادح الذي وقع فيه سيسرا قائد الجيش الكنعاني أنه تراخى كثيرا في أخذ زمام المبادرة. ونتيجة لغروره بقوته العسكرية وتقليله من شأن خطورة عدوه لم يكن الكنعاني سيسرا في عجلة من أمره لإنهاء المعركة. في بداية الأمر حاصر الكنعانيون لفترة طويلة من الزمن عدوهم الإسرائيلي المخيم في أعلى الجبل ولم يحاولوا حسم المعركة بسرعة على أمل أن تضعف الروح المعنوية لعدوهم وتنفذ ذخيرته ومؤونته. الكارثة حلت عندما بدأت المعركة الفعلية في التوقيت الخاطئ والقاتل للجيش الكنعاني وذلك بعدما هطل مطر شديد على أرض المعركة وبالتالي لم تعد تستطيع العربات الحربية الثقيلة الحركة بعد أن علقت في الطين. يقال إنه حتى في الحروب الحديثة قد يكون من أسباب الهزيمة الاعتماد الزائد على التقنية والقوة العسكرية البحتة.

وبهذا في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي انتصر الطرف الأضعف في (أول) معركة كبرى بينهما ويبدو أن الطرف الأضعف منهما هو من سوف ينتصر في (آخر) معركة كبرى بينهما وذلك وفق وصف التوراة نفسها. في مطلع التاريخ أعتمد الكنعانيون على القوة فقط فانتصر الطرف الأضعف (بني إسرائيل) لأنه كان لديهم سلاح الإيمان بعد تنقية الصف الداخلي لهم بغربال سنوات التيه. وفي مختتم التاريخ ستنعكس الأمور ويعتمد بني إسرائيل على قوتهم وسيطرتهم لفترة من الزمن حتى يصيبهم الغرور كما ورد في سفر عاموس من التوراة عما سيحدث لهم في آخر الزمان (أنتم الفرحون بالبطل، القائلون أليس بقوتنا اتخذنا لأنفسنا قرونا). ثم يحصل القضاء العدل ففي أول حرب كان بني إسرائيل هم أهل الحق ولهذا نصرهم الله كما سبق وأن ذكرنا القول الوارد في العهد القديم (فلم تكن سيوفكم ولا سهامكم هي التي نصرتكم) بينما في الحرب الأخيرة يقول الرب محذرا لهم (هأنذا أقيم عليكم يا بيت إسرائيل أمة يضايقونكم). وحتى وإن كان عدونا الصهيوني أقوى منا بالعتاد فإن سلاحنا الحقيقي في المعركة الأخيرة هو الإيمان ولهذا كثيرا ما تصف التوراة الاندفاع الحماسي والكثيف لأعداء أورشليم الآثمة وأنه إذا وقع يوم غضب الرب فإن الأبطال الذين يناكفونها ويضايقونها لا يملكون الأسلحة المتطورة والذكية. وإنما بقدراتهم البسيطة والمحدودة يحققون النصر فهم كما ينصح ويحمس بعضهم بعضا (اطرقوا محاريثكم سيوفا ومناجلكم رماحا) فلا سلاح لهم إلا حديد أدواتهم الزراعية واي سلاح هذا. حقا وصدقا محك الأمر في أسباب النصر على الأعداء كما قالها الفاروق عمر وهو المحدث الملهم (إنكم لا تُنصرون على عدوكم بقوة العدة والعتاد، إنما تنصرون عليه بطاعتكم لربكم ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية، كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد).


( الأندلس .. من الفردوس المفقود إلى أرض الأوهام )

العلوم العربية الأندلسية .. بين الحقيقة والخيال

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

أرض اليقين في الغالب مليئة بالعوائق والعلائق وللسير فيها يتكئ بعضنا على عصا الأوهام وهذه حيلة العاجز والكسيح ولذا نستحق استهزاء الكتاب الإيرلندي الساخر جورج برنارد شو عندما قال (نحن البشر كثيرا ما نحاول ابتلاع مرارة حياتنا بالأوهام). قبل أكثر من أسبوع استغربت انتشار كثيف في وسائل التواصل الاجتماعي لمقولة مفبركة عن العالم الفرنسي بيير كوري تنص كالتالي (تمكنا من تقسيم الذرة بالاستعانة ب 30 كتاب بقيت لنا من الحضارة الأندلسية ولو لم تحرق كتب المسلمين لكنا اليوم نتجول بين النجوم). هذه المقولة المزعومة مدغدغة للمشاعر بالرغم من ركاكتها العلمية وفجاجتها التاريخية وللأسف بسبب قيود الأوهام انقادت عقولنا المأسورة لتصديق هذه الخرافة والتزوير.

الحضارة العربية في الأندلس كانت إحدى أهم وأجمل ما قدمته الأمة الأسلامية للبشرية وقد قمت قبل حوالي سنة بكتابة مقال (ماذا خسر العرب من فتح الأندلس) لبيان أهميتها في نسيج حضارتنا ومسيرة تاريخنا. ومع ذلك لا ينبغي تحويل الأندلس من أرض اليقين إلى أرض الأوهام وخلق الأساطير والخرافات حولها وتصديق أنها كانت تحتوي اكتشافات علمية ساعدت الأوروبيين لاحقا على تقسيم الذرة وربما غزو الفضاء. الغريب في الأمر أن مضيق جبل طارق في الطرف الجنوبي للأندلس هو نفسه الموقع الخرافي المسمى (أعمدة هرقل) ومن هنالك يمكن العبور إلى المحيط الأطلسي للوصول إلى الفردوس المفقود (الأوروبي وليس العربي) أي جزيرة أو قارة أطلانطس الأسطورية. ومن غرائب الصدف أنه اشتهر قديما عن هذه (الأرض المفقودة) أنها كانت على درجة عالية من التقدم العلمي والتكنولوجي لدرجة أن البعض مقتنع أنها دمرت وغرقت في المحيط نتيجة حصول انفجار نووي بها وأن بعض سكانها قد هربوا بالسفر عبر الفضاء وبين النجوم.

لا أريد أن أحلق وأبتعد كثيرا عن الموضوع الأساسي للمقال وهو بيان عدم صحة تلك المقالة المزعومة للعالم الفرنسي بيير كوري وبيان ركاكتها العلمية والتاريخية في ثلاثة محاور أساسية (صاحب المقولة وفيمن قيلت وفحوى القول).

أما صاحب المقولة المزعومة فهو عالم الفيزيائي الفرنسي بيير كوري وهو من وجهة نظري اختيار فاشل لأنه صلته بمجال علم الانشطار الذري شبه معدومة. ينبغي التنبيه أنه حتى أواخر القرن التاسع عشر ما زال بعض العلماء غير مقتنعين تماما بوجود حقيقي للذرات وفيما يخص العالم الفيزيائي بيير كوري كانت خبرته العلمية في البداية ترتكز على مجال الدراسات المغناطيسية ولم يتجه إلى عالم الذرات إلا عندما أصبح (زوج الست) مدام ماري كوري فائقة الشهرة. في بحثها للدكتوراه تحت إشراف هنري بيكريل العالم الفرنسي الذي اكتشف ظاهرة النشاط الإشعاعي بدأت طالبة الدكتوراه ماري كوري تتعرف على مفهوم الذرات وهنا فقط غير بيير كوري مجال أبحاثه ليشترك مع زوجته ومشرفها الأكاديمي في الحصول على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1903م نظير لعزلهم واكتشافهم لبعض العناصر الذرية المشعة. المقولة المفبركة على لسان بيير كوري تزعم أن كتب الأندلس ساعدت علماء الغرب على تقسيم الذرة بينما ينبغي التنويه أن بيير كوري نفسه قد لاقى مصرعه تحت عجلات عربة أحصنة عام 1905م أي قبل حوالي ثلاثين سنة من توصل المجتمع العلمي لمفهم (انشطار الذرة). الغريب في الأمر أن عالم الفيزياء النيوزلندي الأصل أرنست رذرفورد صاحب نموذج تركيب الذرة الشهير والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1908م نجده في عام 1933م أي قبل وفاته بأربع سنوات ينفي في حزم إمكانية حصول تقسم الذرات وجعلها مصدر للطاقة وأن من يقول ذلك فهو يتحدث بالهراء.

ولعل المحور الأول من تفنيد صحة تلك المقولة تحقق من خلال بيان أن بيير كوري نفسه لم يكن يعلم عن (تقسيم الذرة) فضلا عن أن ينسبه لأمه وحضارة أخرى وننتقل الآن لبيان خطأ اختيار الأندلس وكأنها تمثل قمة التقدم العلمي في التاريخ الإسلامي. في تاريخ العلوم العربية اشتهرت الأندلس بتقدم وتطور الطب وخصوصا علم الجراحة على يد الطبيب الأندلسي الزهراوي أما في مجال علم الكيمياء (أقرب علم قديم لمجال الذرات) فلم تشهد الأندلس علماء بارزين لدرجة أن أشهر خيميائي أندلسي وهو مسلمة المجريطي (نسبة إلى مجريط/مدريد) هو أقرب لعلم الرياضيات من علم الكيمياء. من الناحية التاريخية أول من نشر إثبات علمي على مفهوم الذرات كان العالم البريطاني جون دالتون في مطلع القرن التاسع عشر والخطوة العلمية التالية المهمة كانت إثبات أن هذه الذرات تتحد بنسب ثابتة في أي مركب كيميائي وهو ما يعرف بقانون النسب الثابتة للعالم الفيزيائي جوزيف بروست. ما يهمنا هنا أن الكاتب الأمريكي بيرنارد جيف قد قرر في كتابه الشيق (البواتق: قصة الكيمياء) أن العالم المسلم عز الدين الجلدكي المقيم في القاهرة كان قد توصل لهذا الاكتشاف قبل الفرنسي بروست بأكثر من أربعة قرون من الزمن. وعليه كان من الحكمة أكثر لو أن تلك المقولة المزعومة نسبت فضل التقدم العلمي الأوروبي إلى حواضر إسلامية أخرى غير الأندلس مثل بغداد حاضنة بيت الحكمة العباسية أو القاهرة مقر دار الحكمة الفاطمية.

 

مصير الكتب العلمية في الأندلس .. الإحراق أم الإغراق أم الإشراق

ونصل الآن إلى المحور الثالث والأكثر إثارة للجدل والنقاش وهو هل فعلا تم فقدان وضياع جزء من الموروث العلمي والتقني والطبي العربي بعد سقوط الأندلس (بالإحراق) على يد مغول الغرب الفرنجة كما حصل بإتلاف الكتب (بالإغراق) على مغول الشرق عند حادثة سقوط بغداد الرهيبة. المشكلة إن علقنا الجمعي في العالم العربي كما قد يتأثر بسهولة بالأوهام هو كذلك يتأثر بظاهرة الاختزال والتبسيط. فمثلا الحدث الكبير الذي حدث لبلاد الأندلس مما يسمى حروب الاسترداد من قبل الجيوش المسيحية والذي استمر لعدة قرون نجد أننا نختزله في نقطة ومرحلة ما من الزمن نسميها (سقوط الأندلس) ونختزلها في حادثة سقوط مملكة غرناطة التي حدثت عام 1492 ميلادي. في الواقع بداية مشوار الانحدار والزوال العربي في الأندلس حصل قبل ذلك بحوالي أربعة قرون عندما كانت مدينة طليطلة هي أول دويلة من دويلات الطوائف تقع في عام 1085م تحت حكم النصارى ملوك قشتالة. وفي الواقع ما يهمنا هو مصير الكتب العلمية العربية بعد الاجتياح المسيحي وهل كان مصيرها الإحراق أو الإغراق كما حصل بعد سقوط بغداد. من الثوابت التاريخية المؤكدة الآن أن مدينة طليطلة بالذات بعد سقوطها في يد النصارى أصبحت أهم جسر ومعبر تم فيه نقل العلوم العربية إلى أوروبا (بالإضافة لجزيرة صقلية). وعندما أصبحت طليلطة هي العاصمة الجديدة لمملكة قشتالة وليون حرص حاكمها الجديد ألفونسو السادس إن يجعلها قبلة العلماء والرحالة من جميع أقطار أوروبا وكانت وسيلة جذبهم ليس بريق الذهب ولكن إشراق صفحات المخطوطات العربية. في نهاية القرن الحادي عشر عند سقوط طليلطة لم يكن مصير الكتب العلمية العربية الإحراق أو الإغراق بل مزيد من الإشراق عندما تم ترجمتها من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية وبهذا كانت تلك الكتب وتلك المدينة هي منارة النور التي أضاءت للأمم الأوروبية دروب الخروج من ظلام العصور الوسطى. كتب التاريخ الغربية تذكر أسماء عشرات العلماء والمترجمين الذين أقاموا في مدينة طليطلة وقاموا بحركة الترجمة ويكفي للإشارة لتفنيد زعم أن الكتب العلمية العربية قد ضاعت عند سقوط الأندلس أن نشير بأن المترجم الإيطالي جيرارد الكريموني الذي عاش في طليلطة قام لوحده بترجمة 87 كتاب من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية. أما الكتب العلمية التي ترجمها جيرارد فهي لأبرز علماء الإسلام من مثل الرازي وابن سينا والخوارزمي وابن الهيثم وجابر بن حيان والفارابي والكندي وثابت بن قره في حين أن ترجمته شملت أمهات الكتب العربية الكبرى حيث ترجم 24 كتاب في الطب و 17 كتاب في الهندسة والرياضيات والبصريات و12 كتاب في الفلك و 7 كتب في الكيمياء. الكتب المترجمة باللغة اللاتينية لهذه المراجع العلمية العربية ما زالت معروضة حتى اليوم في مكتبة طليطلة بينما المخطوطات العربية الأصلية يمكن العثور عليها في العديد من المكتبات الكبرى في إسبانيا. ونخص بالذكر مكتبة الإسكوريال الشهيرة والواقعة في ضواحي مدينة مدريد والتي تحتوي على عدة آلف من المخطوطات العربية لدرجة أنه صدر كتاب من ثلاثة أجزاء لإعطاء قائمة وفهرسة لهذه المخطوطات العربية الوفيرة.

أمر آخر بالغ الأهمية الإشارة إليه وهو أن قمة ما يسمى (العصر الذهبي للعلوم العربية) كان خلال القرن الثالث والرابع الهجري وفيه ظهر أغلب العلماء والأطباء الكبار في تاريخ الإسلام ومن حسن الحظ أن أغلب الكتب العلمية العربية معروفة ومخطوطاتها محفوظة ولم يضع منها شي مهم. قبل قرن من سقوط مدينة طليطلة وقبل حوالي ثلاثة قرون من سقوط بغداد ظهر كتاب الفهرست لابن النديم وذلك عام 377 هجري وفي هذا الكتاب أحصى ابن النديم أسماء أكثر من ثمانية آلاف كتاب لأكثر من ألفين مؤلف المئات منهم من مشاهير علماء الإسلام وباستعراض كتاب ابن النديم ربما لا نجد كتب عربية مهمة ومحورية ضاعت وتلاشت بسبب أعداء الإسلام.

 

وفي الختام لا بد من أن نعرج لحادثة اضطهاد المسلمين و (حرق الكتب) العربية بعد (السقوط النهائي) لآخر معقل عربي في الأندلس. في الواقع استمرت حروب الاسترداد المسيحية أكثر من أربعة قرون وبالرغم من سقوط الممالك والدويلات العربية المتوالية إلا أن العرب لم يتم اضطهادهم بشكل ممنهج لدرجة أن العديد منهم عاشوا كرعايا تحت حكم النصارى. وكان بعض الشعراء يمدح ملوك النصارى والبعض الآخر يعمل في خدمتهم وبالذات في بناء القصور لهم على الطراز الأندلسي لدرجة أن قصر المورق البالغ الجمال في إشبيلية هو في الواقع أعاد بنائه ملك قشتالة وليس هو القصر الأصلي للمعتمد بن عباد. على كل حال تغير الأمر بعد سقوط مملكة غرناطة سنة 1492م وبعد أن استمر العمل بشروط تسليم غرناطة (تأمين حياة المسلمين والسماح بفتح المساجد وإقامة الشريعة الإسلامية بينهم وألا يولى على المسلمين إلا منهم) لعدد من السنوات. ثم بدأ عصر الاضطهاد ونقض ميثاق التسليم عندما أصدر الملك فرديناند في عام 1499م قرارا بحظر الشرائع الإسلامية ويأمر بغلق المساجد ثم بعد ذلك بثلاثين سنة صدر قانون أثيم يحرم على المسلمين التحدث باللغة العربية وقراءة القرآن وكذلك صدر حظر ومنع ارتداء اللباس والزي العربي. ومع مطلع القرن السادس عشر تم إنشاء محاكم التفتيش الإسبانية الشنيعة السمعة والتي بدأت منذ عام 1502م تضطهد المسلمين واليهود في إسبانيا وتخيرهم بين اعتناق المسيحية أو مغادرة البلاد. ويبدو أنه في هذه الفترة ظهرت محاولة طمس الوجود العربي والإسلامي في الأندلس السليب وكان من صور ذلك حرق الكتب والمخطوطات العربية والتي هي في الغالب الكتب الدينية والشرعية وكتب الموروث الأدبي والفكري العربي. في حين أن الكتب العربية العلمية حتى وإن أحرق بعضها خلال هذه الفترة إلا أنه كما ذكرنا كان قد سبق ترجمتها إلى اللغة اللاتينية قبل أربعة قرون مما ضمن لها البقاء والخلود من خلال استخدامها كقاعدة بناء تم عليها تشييد العلوم الأوروبية خصوصا في مجال الطب والفلك والرياضيات.