الجمعة، 23 ديسمبر 2016

( من الله أكبر فتحت كابل .. إلى الله المستعان سقطت حلب )

بعد خراب مدينة الشهباء.. لك الله يا حلب
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
خمس وعشرون سنة في تاريخ الشعوب هي كلمح بالبصر أو هو أقرب ومع ذلك شهدت منطقتنا العربية والاسلامية تغيرات سياسية محيرة ومريعة ففي عام 1992 احتفلنا جميعا وعبر بلساننا الجمعي أحد الفضلاء عندما ألقى محاضرة رنانة بعنوان (الله أكبر فتحت كابل). وفي لحظتها كان الاتحاد السوفيتي قد تفتت وروسيا الاتحادية في وضع اقتصادي كارثي وبعد إعلان (النظام العالمي الجديد) وسياسية القطب الواحد الامريكي (لا شريك له) اسقطنا تماما من حساباتنا أي أهمية أو تأثير للملاعين الحمر شيوعي روسيا ولم ننتبه أن التاريخ ربما يعيد نفسه. صحيح أننا صعقنا بهمجية وبربرية الجيش الروسي الغاشم وهو يدك مدينة جروني الشيشانية على رؤوس سكانها المدنيين إلا أننا ظننا هذه المأساة والمصيبة هي في (أطراف العالم الاسلامي الشرقي) كما أن مصيبة سراييفو في نفس التوقيت تقريبا هي بعيدة عنا في (أطراف العالم الاسلامي الغربي) ولم نكن نعلم أن الاعداء الشيوعيين أو الصلبيين على حدا سواء يمكن أن يتغلغلوا في غفلة من الزمن إلى قلب ساحات العالم العربي في بغداد وحلب والموصل.
حلب والموصل .. قصة مدينتين
في فترات متعددة من التاريخ لطالما ارتبط واقع ومصير مدينتي حلب والموصل كما ارتبط كثيرا واقع ومصير مدينتي القاهرة ودمشق ونتيجة لهذا التوأمة المدنية كانت مآسي وأحزان أو نصر ورفعة إحدى المدينتين هي عنوان الحقيقية للمدينة الأخرى. إن الاهمية الاستراتيجية والحضارية للمدينتي حلب والموصل ليس تعود فقط لأنهما عمق التواجد العربي السني في المشرق لكن ايضا أنهما كثيرا ما كانتا (جدار الصد) وخطوط الدفاع الامامية للعالم العربي. في القرن الرابع الهجري تعرض العالم الاسلامي لاستفزازات وحملات عسكرية متوالية من قبل الامبراطورية المسيحية البيزنطية وكان جدار الصد لنا نحن العرب مملكة بني حمدان لسيف الدولة في حلب وأخية ناصر الدولة في الموصل وهي الحروب التي خلد بعضها المتنبي في قصائده التي كان يمدح فيها سيف الدولة أو شعر أبي فراس الهمداني في قصائده التي عرفت (بالروميات).  أما في القرن السادس الهجري فنجد أن الدولة الزنكية تبسط نفوذها على مدينتي حلب والموصل وهنا مرة ثانية كان لهاتين المدينتين دور بارز في تقليص نفوذ الصليبيين في العمق العربي وطردهم من العديد من المدن الاسلامية.
دروس التاريخ تخبرنا انه إذا كانت هاتين المدينتين في عز قوتها ومنعتها كنا محميين بفضل الله من شرور الشعوب الأخرى أما إذا أصابهما الضعف والترهل السياسي والتشظي كما في أواخر حكم الدولة الأيوبية فإن الموصل وحلب تصبحان في الغالب وللأسف الشديد ممر ومعبر سهل للغزاة والبرابرة كما حصل مع التتار في القرن السابع الهجري زمن هولاكو أو القرن الثامن الهجري زمن تيمورلنك.
لذا بعد سقوط حلب والموصل في الطريق نقول ( ويلٌ للعرب من شر قد أقترب) ففي الحديث الشريف أنه في حال ضعف الأمة تتكالب عليها الاعداء وتتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها وهذا ما نشاهده رأي العين في واقعنا المعاصر فلعله لأول مرة في التاريخ يجتمع الشرق والغرب في حرب مشتركة علينا. فمدينة حلب تباد على يد الصفويين الرافضة بدعم وقصف روسي أثيم ومدينة الموصل تباد بنفس الايدي الخبيثة ولكن بدعم وقصف أمريكي أثيم وكأن حالنا كما قال المتنبي لسيف الدولة الحمداني صاحب حلب:
وسوى الرّوم خلف ظهرك رُومُ      فعلى أي جانبيك تميلُ
والعالم العربي والاسلامي كالجسد الواحد والداء والجائحة التي تصيب الاطراف تنتقل إلى أعماق الجسد كما قال الأول:
إذا مات بعضك فأبك بعضا         فإن البعض من بعض قريب
والله المستعان وعليه التكلان وما لنا إلا أن نقول كما كان يردد أهل سوريا من خمس سنوات (ما لنا غيرك يا ألله).


( تسمية عناصر الجدول الدوري .. تشريف أم تكليف )

نحن بالانتظار للحصول على صورة العالم الروسي أوغانيسيان وهو يشير للعنصر الجديد الذي يحمل أسمه
 
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
أُسدل الستار أخيراً في الاسبوع الماضي على (سباق التنافس اللغوي) والمتعلق بحدث رمزي بالغ الأهمية في تاريخ علم الكيمياء في العصر الحديث إلا وهو اكتمال تسمية جميع العناصر 118 للجدول الدوري الكيميائي حيث أعلن بشكل رسمي من قبل الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية IUPAC تسمية آخر أربعة عناصر كيميائية. أشتهر عن عالم الفلك الامريكي البارز كارل ساجان قولة أنه لو حصل دمار شامل لكوكب الارض وطلب منه قبل أن يغادر الارض لكوكب جديد أن يأخذ معه معلومة أو نظرية علمية واحدة فقط لينشأ بها حضارة جديدة لكانت تلك معلومة هي (الجدول الدوري للعناصر الكيميائية). وبحكم مركزية مفهوم ترتيب العناصر الكيميائية على شكل جدول دوري وأثرها البارز في تطور العلم والتقنية الحديثة لذا تناقلت جميع وسائل الاعلام والصحافة الدولية هذا الخبر بمزيد من الاهتمام والحماسة. وفيما يخصنا نحن المتطفلين على ميادين أبحاث التطور العلمي يكفي أننا تخلصنا أخيرا من إحراج النطق بالأسماء السخيفة والشنيعة المؤقتة لعناصر الجدول الدوري المكتشفة (أو المصنعة في الحقيقة) في الازمنة الاخيرة من مثل الاسم البشع للعنصر رقم 113 (أن أن ترايوم ununtrium) أو اسم العنصر رقم 117 (أن أن سبتيوم ununseptium). وقبل عدة سنوات قمت بنشر مقال حمل عنوان (تسمية عناصر الجدول الدوري .. بين اللغة والتاريخ) استعرضت فيه المراحل الزمنية المختلفة (المجهولة والتقليدية والادبية الجمالية والتكريمية) لطرق واسباب تسمية العناصر الكيميائية وناقشت في نهاية المقال مشكلة الاسماء المؤقتة المستنكرة  للعناصر المتبقية ولعل غالبية العلماء  تنفست الصعداء بعد هذا العناء في نطق تلك الاسماء الثقيلة.
الجدير بالذكر أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر بدأ العلماء يستخدمون أسلوب جديد تماما في طريقة  تسمية العناصر الكيميائية المكتشفة حديثا (وهي ما سميتها المرحلة التكريمية) حيث اخذ العلماء والمكتشفون يكرمون بلدانهم أو عواصمهم أو جامعاتهم بإطلاق اسمائها على تلك العناصر الجديدة. ولكن في واقع الأمر تقريبا لم تتم بداية (تشريف وتكريم) بعض العلماء بإطلاق اسمائهم على العناصر الكيميائية الجديدة إلا في عام 1945م وكان ذلك من نصيب العالمة الشهيرة مدام كوري صاحبة عنصر الكوريوم رقم 96 ولم ينال هذا (التشريف العلمي البالغ) غيرها إلا ثلاثة عشر شخص فقط. بالرغم من أن الجدول الدوري للعناصر (الكيميائية) هو في الأصل بيت الكيميائيين وميدان أبحاثهم إلا أنهم أصابهم الغبن والحيف نتيجة أن غالبية العلماء الذين تم تشريفهم بالإطلاق أسمائهم على بعض العناصر الكيميائية كانوا من الفيزيائيين في حين كان عدد الكيميائيين المكرمين أربعة فقط وربما هذا بسبب سطوة ومكانة علم الفيزياء بعد الحرب العالمية الثانية أو كما قال عالم الفيزياء البريطاني الشهير رذرفورد (العلم هو الفيزياء والباقي جمع طوابع).  ومن حسن الطالع أنه كان من الملائم أن يكون أول كيميائي يتم تشريفه وتكريمه بإطلاق اسمه على عنصر كيميائي هو عالم الكيمياء الروسي البارز ديمتري مندلييف الذي يلقب بأنه (أبو الجدول الدوري للعناصر) حيث أنه كان من أوائل من طرح فكرة التوزيع (الدوري) للعناصر الكيميائية.
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
صحيح أن مندلييف تم تشريفه بعد وفاته بحوالي نصف قرن بإطلاق اسمه على العنصر رقم 101 مندلييفيوم Md وذلك في عام 1955 إلا أن كل منصف يشعر أن هذا التكريم المستحق لمندلييف جاء متأخر بشكل غير مقبول على الاطلاق. لا شك أن تشريف أي عالم بإطلاق أسمه على عنصر من عناصر الجدول الدوري يعني بالضرورة تميزه الفائق والبيّن في مجال الابحاث العلمية وهذا بدوره يتطلب (تكليف) المجتمع والدوائر العلمية بتكريمه بمنحة الجوائز العلمية المرموقة. كما هو معلوم فإن أعرق وأهم جائزة علمية على الاطلاق هي (جائزة نوبل) والتي فاز بها ونالها حتى الان عدد 379 باحث من علماء الفيزياء والكيمياء (و 211 في الطب) وبحكم أن عدد العلماء الذين استحقوا وضع اسمائهم في الجدول الدوري محدود جدا (14 عالم فقط) فهذا يشير بدلالة قاطعة أن جودة وأهمية أبحاث هؤلاء العلماء الاربعة عشر تؤهلهم للفوز بجائزة نوبل ولكن للأسف لم يكن هذا هو الحال.  بعد مرور أكثر من قرن على بداية طرح جائزة نوبل وعبر العقود الماضية بدأت تتجمع شواهد وأخبار متوالية أن اللجان المشرفة على منح هذه الجائزة تقع أحيانا في أخطاء كارثية في اختيار (أو تجاهل اختيار) العلماء الجديرين بالفوز بهذه الجائزة في المجالات العلمية حيث أن مشاكل وفضائح هذه الجائزة في شق الفائزين بها في مجال السلام أو الادب معروفة للقاصي والداني.
أوضح مثال صارخ لإخفاق جائزة نوبل في اختيار العلماء المؤثرين في مسيرة تاريخ العلم أن هذه الجائزة لم تمنح للكيميائي الروسي ديمتري مندلييف السابق الذكر والذي كما اشرنا ربما تعتبر فكرته العلمية أهم فكرة علمية يمكن المحافظة عليها ونقلها لكوكب آخر. لقد كانت أول سنة يتم فيها طرح جائزة نوبل هي عام 1901م وبعد ذلك بسنة أوسنتين ظلت أكاديمية العلوم الروسية تقوم سنويا بترشيح مندلييف للفوز بجائزة نوبل في الكيمياء بدون أن يلقى هذا (الطلب المنطقي) آذان صاغية من القائمين على جائزة نوبل. في واقع الحال وقع ناقش حاد في عام 1906 حول الاشخاص المرشحين لجائزة نوبل في الكيمياء وبالرغم من حماس بعض العلماء لمنحها هذه المرة لمندلييف  إلا أنه استقر قرار لجنة جائزة نوبل بمنحها لكيميائي اقل بكثير في أهمية اثره العلمي من مندلييف حيث منحت الجائزة للكيميائي الفرنسي هنري مواسان نظيرا نجاحه في استخلص عنصر الفلور من مركباته بينما الكيميائي الاسطورة الذي نجح قبل ذلك بعقود من الزمن في التوصل لاكتشاف هام لجميع عناصر الجدول الدوري لم ينل اعجاب هيئة الجائزة. الجدير بالذكر أن مندلييف توفي عام 1907 بعد عدة اشهر فقط من فرصته الاخيرة لنيل جائزة نوبل وهو في سن الثالثة والسبعين ولا يعلم أن كان لهذه الحادثة المؤسفة أي أثر في اضعاف روحة المعنوية حيث أن سبب وفاة المعلن هو فقط أصابته بالأنفلونزا.
كيميائي آخر (أو كيميائية بالأحرى) لاقى الاهمال والصدود من جائزة نوبل ثم احتضنته العناصر الكيميائية في بيتها الدوري تلك هي عالمة الكيمياء النمساوية ليز مايتنر مكتشفة ظاهرة الانشطار النووي (لذا تلقب بأم القنبلة النووية !!) فغالبا بسبب التمييز الجنسي ضد النساء استبعدتها لجنة جائزة نوبل من الفوز بالجائزة في الكيمياء لعام 1944 بينما منحت الجائزة فقط لزملائها من الرجال مثل عالم الكيمياء الالماني أوتو هان. وفي عام 1997 وبعد حوالي عشرين سنة من وفاة ليز ماينتر وربما كوسيلة من المجتمع العلمي للتكفير عن الظلم والضيم البالغ والتحيز ضد تلك العلمة تم تشريفها وتكريمها بأن أطلق اسمها على العنصر الكيميائي رقم 109 والذي اصبح يعرف باسم مايتنريوم Mt وهي بهذا ثاني وآخر امرأة بعد السيدة كوري تكرم بإطلاق اسمها على أحد عناصر الجدول الدوري.  للأسف الشديد ولأمور وتعقيدات سياسية وعلمية بل وحتى دينية تجاهلت لجان جائزة نوبل منح هذه الجائزة لعدد من أهم وابرز مشاهير العلوم من مثل عالم الفيزياء البريطاني اللورد كالفن وعالم الفيزياء الامريكي جيبس وكلاهما من رواد وأعمدة علم الثيرموديناميك وكذلك تم تجاهل عالم الكيمياء الامريكي لويس (صاحب أشكال لويس التي يستخدمها جميع طلاب الثانوية) وذلك بالضافة لإهمال عالم الفلك الامريكي البارز إدوارد هابل وكذلك اسطورة العلم المعاصر الفيزيائي البريطاني ستيف هاوكنغ. وكل هذه الامثلة وغيرها كثير تشي بأنه توجد أحيانا بعض صور ومناحي الخلل في آلية عمل لجان جوائز جائزة نوبل حتى في المجالات العلمية والطبية وفي المقابل تم منح هذه الجائزة المرموقة لشخصيات علمية دون المستوى ولولا خشية الاطالة لم استعراض بعض هذه الفضائح العلمية وردود الافعال حيال الاختيار الغريب والضعيف لبعض الفائزين بهذه الجائزة.
من التكريم الاكبر إلى التكريم الاصغر
للعنصر الكيميائي رقم 118 مكانة مميزة وفريدة في دنيا العلم فهو حاليا آخر عنصر مكتشف/ مُصنَع من عناصر الجدول الدوري كما  أن له حادثة نادرة حصلت الاسبوع الماضي فبعد تسمية هذا العنصر باسم أوغانيسون Oganesson (Og 118) وذلك على أسم عالم الفيزياء النووية الروسي يوري أوغانيسيان وبذلك يكون هو العنصر الوحيد الذي اجتمع فيه ميزتين: سمي على شخص ما زال على قيد الحياة وهذا الشخص ويا للعجب لم يحصل على جائزة نوبل. ينبغي ان نقول بهذه المناسبة أن الشخصية العلمية التي نالت شرف أنها كانت أول انسان في التاريخ يحمل أسم عنصر كيميائي وهو على قيد الحياة كانت في واقع الأمر عالم الكيمياء الامريكي غلين سيبورج والذي تم تكريمه عام 1997 بإطلاق اسمه على العنصر الكيميائي رقم 106 والذي أصبح يعرف باسم سيبورجيوم  Sg 106 وبهذا خُلد في تاريخ العلم تلك الصورة الشهيرة لسيبورج وهو يشير بإصبعه للعنصر المسمى باسمه في الجدول الدوري. صحيح أن سيبورج حصل على هذا التشريف الاسطوري وهو في أواخر خريف العمر حيث توفي بعد سنتين فقط من هذا التكريم إلا أن غلين سيبورج قد تم تكريمه بالطريقة التقليدية منذ وقت مبكر جدا بحصوله على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1951 نظيرا اسهامه في تصنيع عشرة من عناصر الجدول الدوري كان أخطرها عنصر البولتونيوم المستخدم في تصنيع القنبلة الذرية. لا شك أن قيام غلين سيبورج وفريقة العلمي بإنتاج عشرة من العناصر الكيميائية هو إنجاز علمي يستحق عليه جائزة نوبل ولكن السؤال المهم هل سوف تجد لجنة جائزة نوبل نفسها وهي مضطرة (تكليفاً وليس اختياراً) أن لا تستمر في تجاهل العلماء الرووس المميزين بعدم منحهم جائزة نوبل التي يستحقونها. كمثل نظيره الامريكي أستطاع العالم الروسي يوري أوغانيسيان من تصنيع ثلاثة من عناصر الجدول الدوري (114 و 115 و 118)  تعرف بالعناصر الفائقة الثقل super heavy elements  كما إن لأبحاثه النظرية أهمية كبيرة في إثبات مفهوم العناصر الكيميائية الضخمة المستقرة (فيما يعرف بنظرية جزر الثابتية). من هذا وذلك أعتقد أنه بعد التشريف للعالم يوري أوغانيسيان  بإطلاق اسمه على  آخر عنصر كيميائي (التكريم الأكبر) ربما يتوجب تكليف لجنة جائزة نوبل أن تمنحه الجائزة (التكريم الأصغر) فليس من المقبول أو المستساغ أن يحصل عالم على أهم تشريف وتكريم علمي ممكن يحلم به أي عالم بوضع اسمه على الجدول الدوري ثم يزعم بعد ذلك أن اكتشافه العلمي تقليدي لا يؤهله أن ينال جائزة نوبل.


الجمعة، 9 ديسمبر 2016

( رُبَ كلمةٍ قالت لشاعرها دعني !! )

الشعراء ومزالق اللسان .. رب كلمة قالت لصاحبها دعني
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
قد تكون قدراتك الشعرية مميزة ومع ذلك (فلا تحزن) إذا قال لك أحد نقاد الادب أن أبياتك الشعرية ركيكة فهذا عباس العقاد كان ينكر أن يكون أمير الشعراء أحمد شوقي شاعرا وكان يقول عنه أنه فقط مجرد ( نظّام )، وتوصيفه بأنه ( ينظم الشعر) دلالة على أنه شاعر مبتدئ. وإذا كان لك ملكه إبداعية في قول الشعر ووجدت من القراء من يستفزك بقوله إن أشعارك غامضة فلا تبتأس فقديما قيل لشاعر العربية الفحل أبي تمام (لما لا تقول ما يُفهم) كما أن الفرزدق جاء من يصفه بأنه (ينحت من صخر) دلالة على وحشي عباراته وصعوبتها. أما إذا تم تفضيل أحد أقرانك من الشعراء عليك وهو اقل منك شهرة شعرية فلك في المتنبي أسوةٌ حسنة فقد حكم عليه أبو العلاء المعري أنه (أقل شاعرية) من البحتري بينما الاديب المعاصر الدكتور راشد المبارك رحمة الله كتب مقال مثير للجدل كان عنوانه بكل جرئه: (المتنبي ليس شاعرا). من هذا وذلك فيا أيها الشاعر المرخي عمامته وطن نفسك لتلقي سهام النقد ومقصات التشريح والتجرح.
إن طريق الشعراء أحيانا يكون كدرب الزلق ولذا أهون ما يمر به المرء الوحول كما قال طيب الذكر أبو الطيب ولكن ليحذر الشاعر من (زلة اللسان) فقد تكون أخطر من زلة القدم وهي قد تزلزل مكانتك الادبية بشكل مؤلم. زلة اللسان الشعرية قد تكون أحيانا بمجرد ورود كلمة شاذه غير مألوفة أو كلمة نابية مستقبحة ولهذا تصبح هذه الكلمة مصدر تشنيع وسبب سخرية واستنقاص من الشاعر حتى ولو ارتفعت مرتبته.  يقال انه كان للأديب الكبير عباس العقاد كلب يعزه كثيرا وعندما مات رثاه بأبيات شعرية جاء فيها (مرحاضه أعز أثوابنا) إشارة إلى أنه كان كلب مدلل كثيرا ما يحمل ولذا كان يتبول على ثياب العقاد وقيل أنه هذه الابيات قيلت في طفل صغير كان العقاد خاله. على كل حال لا شك ان هذه التشبيه الشعري مستهجن جدا كما أن ورود كلمة (مرحاض) في قصيدة أدبية حماقة شعرية لا تغتفر ولهذا أخذ الاديب الكبير مصطفى صادق الرفاعي (العدو اللدود للعقاد) يسخر ويشنع على العقاد لدرجة أنه كان يسميه (الشاعر المراحيضي). والجدير بالذكر أن الهمز واللمز من الشاعر عن طريق تسميه وتلقيبه بكلمة غريبة أو شاذه في شعره أمر مشهور وواسع الانتشار بشكل ملحوظ في الادب العربي القديم ومن الشعراء الذين قالوا بيتا من الشعر فتم تسميتهم وتلقيبهم بكلمة منه نجد بعض فحول ومشاهير الشعراء مثل: المرقش الأكبر والمتلمس والمثقب البعدي والبعيث والشريد وذو الرمة  والحطيم والقطامي وصريع الغواني وغيرهم كثير سموا بهذه الاسماء والالقاب الغريبة بسبب ورود عبارة أو كلمة في أشعارهم وكما قيل (رُبَ كلمةٍ قالت لصاحبها دعني). بعض الشعراء قد تورثه قصيدته لقب وأسم سخيف ومستهجن لكن في المقابل البعض الاخر قد تورده بعض كلمات قصائده موارد الهلاك حيث تتسبب في مقتله وكم وكم من شعراء العربية كانت ابياتهم الشعرية سبب أساسي في قتلهم وسفك دمائهم من أشهرهم المتنبي وطرفة بن العبد وبشار بن برد وعبيد بن الابرص و الاعشى الهمداني ولسان الدين ابن الخطيب والقائمة تطول وتطول.
آداب السلوك في مخاطبة الملوك
لطالما كان الأعم الغالب من شعراء العربية من المرتزقة والمتزلفين ولا يمكن تصور استمرار الشعر العربي لولا الطمع والفزع من ذهب المعز وسيفه وقد أعلنها الحطيئة صريحة ومدوية عنما أجاب عن سؤال وجه له: (أشعر العرب النابغة إذا رَهب وزُهير إذا رَغب). ولهذا نتفهم حالة الاستنفار والترقب التي دفعت فحول شعراء العربية الكبار للتجمع عند باب الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز بعد توليه الخلافة مباشرة لكي يستشفوا حالهم عنده ولكي يمدحوه وينافقوه. وكما هو معلوم من القصة الشهيرة ان الخليفة عمر بن عبدالعزيز تجاهل كبار الشعراء هؤلاء الذين منهم جرير والفرزدق والاخطل وعمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر وكثير عزه والاحوص الانصاري وبعد أن تجاهلهم الخليفة لزمن طويل واصابهم الاجهاد والانقطاع عن أهاليهم واشغالهم توسطوا ببعض الاعيان أن يدخلهم على الخلفية فلم يسمح إلا بدخول جرير وعندما أسمعه قصيدته في مدحة منحه الخليفة العادل بعد تمنع  وتردد عشرة دنانير فقط. الموقف الرمزي من القصة أنه عندما خرج جرير من عند الخليفة عمر بن عبدالعزيز سأله بقية الشعراء المهمشين (ما وراءك يا جرير) أي ماذا حصل لك مع الخليفة فقال: ورائي ما يسوءكم خرجت من عند امير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء. إن الناس على دين ملوكهم كما يقال ولذا إذا أتبع بقية الوزراء والامراء والوجهاء سيرة الخليفة المجافية للشعراء والادباء بارت تجارتهم الصوتية وخسروا مكانتهم الاجتماعية.
في القديم والحديث كان الملوك والحكام والامراء هم رأس المال الحقيقي للشعراء والادباء ولذا حرصوا بشتى الوسائل والسبل ليس فقط أن يتقربوا إليهم بالمديح والثناء ولكن ايضا ببذل الجهد والحرص على اتباع قواعد الاتيكيت واللباقة في (فن التعامل) مع أصحاب المقام العالي. لهذا لا عجب أن الادباء والشعراء تبع لهم أهتموا بشكل بالغ بما يسمى (أدب السلاطين أو أدب الملوك) وتم تأليف العديد من الكتب في مجال (المنادمة والنديم) لعل أشهرها وأهمها كتاب الجاحظ (التاج في أخلاق الملوك) والذي يقصد به أخلاق (التعامل) مع الملوك كما إن في ثنايا كتاب العقد الفريد لأبن ربه العديد من الفصول حول هذا الامر أهمها فصل (المرجانة في مخاطبة الملوك). ومع كل هذا الاعتناء (التنظيري) لفنون الالقاء والمخاطبة للملوك والحاكم إلا إن بعض كبار الشعراء وقعوا في أخطاء فادحة وقادحة. من ذلك مثلا يقال أن أول قصيدة ألقها الشاعر جرير بين يدي الخليفة عبدالملك بن مروان كان قد سبقها حالة فتور لأن جرير كان يميل مع عبدالله بن الزبير الذي ثار على الحكم الاموي. ولهذا ربما ساد جو من الترقب والتحفز لأول قصيدة لجرير امام الخليفة وقد كانت قصيدته الخالدة التي مطلعها (أتصحوا أم فؤادك غير صاحِ) وهو من أقبح الاستهلال أن تخاطب حاكم كان يعتبرك من أعدائه بأن توجه له خطاب يفهم منه أنك تقوله (هل انت صاحي أم ما زلت سادر في غفلتك) ولهذا لا عجب أن تكون ردة فعل الخليفة أنه غضب وسب جرير وقال له محتدا (بل فؤادك .. يا كذا وكذا). بقي أن نقول أن خطأ جرير كان اقل شناعة من سطحية وسذاجة الشاعر العباسي على بن الجهم في التعامل مع الملوك والحكام فكيف يعقل أن يوجد شخص يقول لخليفة المسلمين (أنت كالكلب). وهذه القصة الشعرية المشهورة تعتبر من نوادر وعجائب الادب العربي وكما هو معلوم أن الشاعر البدوي الطباع والتطبع على بن الجهم ضاقت به الحال فقصد الخليفة العباسي المتوكل لكي بمدحه بقصيدته التي مطلعها:
أنت كالكلب في حِفاظِكَ للود        وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِ
أنت كالدلوِ لا عدمناك دولا          من كبار الدلا كثير الذنوبِ


ومن جانب آخر نجد أن من الأخطاء الشنيعة المستنكرة أمام الملوك التي وقع فيها أحد رموز الرعيل الاول من الشعراء أن يتبسط ويتساهل الشاعر في التغزل والوصف الصريح لمحارم وحليلة الحاكم. وهذا ما حصل مع الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني فبالرغم من لقبه الذي قد نترجمه في عصرنا على أنه يعني (عبقري) إلا أنه كان في قمة السذاجة أن وافق على طلب الملك النعمان بن المنذر أن يصف له زوجته الملقبة بالمتجردة في قصيدة شعرية تخلد ذكرها. العبقرينو الاحمق الملقب (بالنابغة) ليس فقط (أخذ راحته) في قصيدة (سقط النصيف ولم ترد اسقاطه) في وصف أخص خصوصيات المرأة بل انتقل لوصف (مشاعر الالتحام العاطفي) في ابيات تؤكد صدق الكاتب العراقي على الوردي في كتابه الذائع الصيت (اسطورة الأدب الرفيع). لقد كان للملك النعمان شاعر من ندمائهم أسمه المنخّل اليشكري وقد كان يتهم بأن على علاقة غير اخلاقية مع المتجردة ولهذا عندما سمع قصيدة النابغة المتجردة من الاخلاق تلك وجدها فرصة أن يلفت الانظار بعيدا عنه فقال للنعمان: ما يستطيع أن يقول مثل هذا الشعر إلا من قد جرّب، فوقر ذلك في نفس النعمان وعندما بلغ ذلك النابغة هرب من الحيرة للنجاة بحياته ولهذا اشتهر لاحقا بقصائده واعتذارياته للنعمان.
(جانب السلطان وأحذر بطشه) كان حكمة تمثلها وطبقها العديد من الفقهاء والادباء عبر التاريخ فالجمع الغفير منهم كان يستنكف أن يكون من ندماء الحاكم وحاشية السلطان ولهذا عندما استفسر الخليفة هشام بن عبدالملك من أحد الفضلاء: ما يمنعك يا أبا حزام أن تأتينا؟ فقال: وما أصنع بإيتيانكم يا أمير المؤمنين إن أدنيتني فتنتني وإن أقصيتني أخزيتني. وكما لاحظنا أن النابغة الذبياني كاد ان يفقد حياته جراء تحقيق مطلب غريب من الحاكم أن يصف زوجته نجد أن الشاعر الكبير ابن  الرومي قد خسر حياته بالفعل من جراء طلب ونزوة أكثر غرابة من الخليفة المعتصم أن يهجوه. في حدثة يطول  سمع الخليفة أن ابن الرومي قد هجا وزيره القاسم بن عبيدالله لمداعبة حصلت بينهما ولذا دعا الخليفة ابن الرومي وقال له أهجني، فقال: الله الله من ذلك يا أمير المؤمنين كيف أهجو من مدحة الله ورسوله؟ فقال له المعتصم  هذا على سبيل المداعبة لأجل خاطر الوزير لا يغتاظ فامتنع من ذلك فألح عليه المعتصم. الحماقة التي وقع فيها ابن الرومي كما وقع فيها النابغة من قبله أنه (أخذ راحته) في الهجاء كما أخذ صاحبه من قبله راحته في الوصف ولهذا ذهل الخليفة وندمائه عندما سمعوا ابن الرومي يهجو الخليفة هجاء مقذع بقولة:
ملوك بني العباس في الأرض سبعة            ولم تأتينا عن ثامن لهم كتبُ
كذلك أهل الكهف سبعة                          كرام إذا عدوا وثامنهم كلبُ
فضحك المعتصم وأسرها في نفسه أن ينتقم منه لأنه شبهه بكلب أهل الكهف ولهذا يقال أن ابن الروم لم يغادر مجلس الخليفة تلك الليلة إلا وقد تم تصفيته بالسم الذي دس له في الطعام.
وفي الختام يصعب أن نغادر قبل أن نشير إلى الحماقات المتكررة من قبل شاعر العربية الأوحد أبي الطيب المتنبي في كسر قواعد وآداب السلوك في مخاطبة الملوك حيث تسول له طبيعة (الكبرياء والهوى) في شخصيته المغرورة إلا أن يمدح نفسه في كل قصيدة يلقيها أمام الملوك والامراء. ربما تعتبر قصيدة (واحر قلباه ممن قلبه شَبِمُ) إحدى أشهر قصائد المتنبي الرنانة وهي التي يذكر فيها أن الخيل والليل والبيداء تعرفه وأنه هو من نظر الأعمى إلى أدبه ولم تكفيه هذه المبالغة في مدح نفسه أكثر من مديح سيف الدولة حتى ألقى بيت القنبلة الصاعقة إذ يخاطب سيف الدولة وعلية القوم من رواد بلاطه بقوله الأخرق:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا       بأنني خير من تسعى به قدمُ
ولهذا لا عجب ولا غرابة أنه أثناء ما كان المتنبي يلقي قصيدته تلك كان منافسه الشاعر ابو فراس الحمداني يشوش عليه وهنا ضجر الأمير سيف الدولة من كثرة المناقشات بين المتنبي وأبن عمه أبي فراس الحمداني فما كان منه إلا أن قذف المتنبي بقارورة الحبر التي كانت امامه وشج راسه ليجعله عبره لمن يتعدى حدوده ويخرج عن الدور المفصل له بأن يكون نديم الملك وفرد حاشية السلطان.