الأحد، 10 ديسمبر 2023

( إذا الحاجة أم الاختراع فإن الحرب مرضعتها !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 ما يحدث هذه الأيام في أرض فلسطين محير ومتغير والغالب والله أعلم أننا ربما نشهد لحظة مشابهة لفكرة تحول أو ثورة البارادايم (النموذج الإرشادي) Paradigm Shift وهي فكرة فلسفية طرحها عام الفيزياء الأمريكي البارز توماس كون لتفسير تطور المعرفة العلمية وأنها في صلبها هي (حركة من خلال الصراع) تُنتج طفرة علمية هائلة في فترة محدودة نسبيا. الحركة من خلال الصراع هو بالضبط ما تحاول كتائب عز الدين القاسم في قطاع غزة أن تغير من خلاله الواقع السياسي البائس في منطقتنا العربية. ومع ذلك وبحكم أننا نخوض ونتحدث عن ظاهرة تاريخية وحدث سياسي فربما الأفضل لفهمه أن نستشير شيخ مشايخ تفسير التاريخ ألا وهو المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي صاحب نظرية التحدي والاستجابة لدراسة فلسفة التاريخ. التحدي عند توينبي هو نقطة البدء في عملية التحول الحضاري وطريقة ذلك أنه كلما ازداد التحدي تصاعدت قوة الاستجابة حتى تصل بأصحابها إلى ما يسميه بـالوسيلة الذهبية golden mean وهي الطريقة المثلى للاستجابة للتحدي.

في كتابة الموسوعي الضخم (دراسة للتاريخ) يناقش توينبي باستفاضة شواهد نظريته لتفسير ظهور وتكوين ونمو ومن ثم سقوط وتفكك الحضارات عبر التاريخ وما يهمنا هنا توظيف (قانون) أو نظرية التحدي والاستجابة لمحاولة فهم كيف استطاعت كتائب عز الدين القسام وغيرها من الكيانات والدول تطوير ترسانتها العسكرية بالرغم من الحصار والصعوبات والمعوقات. أمر آخر يقرره توينبي وهو أن الاستجابة للتحدي ليست فقط تتم من خلال الوسيلة الذهبية ولكن أيضا من ينفذ ذلك هم في الغالب قلة من الناس أي صفوة من المجتمع تتحدى المعوقات وتجابه الشدائد من أجل الارتقاء بأمتها. هذه الاستجابة للتحدي من خلال الوسائل الذهبية التي قصدها توينبي قد تكون نتيجة عمل عباقرة من الأفراد أو نتيجة لابتكارات مجموعة سماها (أقليات مبدعة creative minorities ).

وبالمثال يتضح المقال كما يقال وبما إننا في وارد الحديث عن التطور المذهل في ترسانة الأسلحة الموجودة لدى المجاهدين الفلسطينيين بالرغم من الحصار وشح الموارد لعل من الملائم استحضار العبقرية التي أبدعها أحد مشاهير العلوم في نصرة مدينته ضد الحصار الخطير والجيوش الغفيرة التي تحاول اقتحامها. وتلك هي قصة عالم الرياضيات الإغريقي الشهير أرخميدس وهو خير مثال لنظرية التحدي والاستجابة في جانبها العسكري على الأقل ففي عام 212 قبل الميلاد عندما حاصرت الأساطيل البحرية الرومانية مدينة سيراكيوز عاصمة جزيرة صقلية شكل ذلك تحديا عسكريا هائلا. أما الاستجابة التي قامت بها مدينة سيراكيوز حيال هذا التهديد/التحدي فتمثل من خلال الوسيلة الذهبية المتعلقة بالمقاومة التقنية واختراع وسائل الدفاع العلمية المتطورة التي أبدعتها عبقرية أرخميدس كما حصل عندما سلط (شعاع أرخميدس الحراري) وهي أشعة الشمس المنعكسة من عدد من المرايا الضخمة والتي أحرقت سفن العدو. ومن الاختراعات العسكرية التي طورها أرخميدس كاستجابة لتحدي الحصار والهجوم البحري على مدينته يقال إنه اخترع كذلك رافعة ضخمة تستطيع أن تقبض على سفن العدو بكماشة حديدة سميت مخلب أرخميدس ثم ترفعها وتقذف بها على الصخور ولا غرابة في ذلك فأرخميدس هو مطور أنظمة البركات الرافعة وهو صاحب مقولة (أعطني مكان لأقف فيه وسأحرك الأرض). ولمن تتاح له الفرصة لزيارة متحف أرخميدس في مدينة سيراكيوز الصقلية سوف يشاهد نماذج مصغرة من هذه المخترعات وغيرها من مثل آلات المنجنيق وقاذفات الأسهم والرماح الحديدة.

(استجابة) العبقري أرخميدس (لتحدي) الغزو البحري الروماني لجزيرة صقلية هو تجسيد للمقولة الذائعة (الحاجة أم الاختراع) فتلك الاختراعات الحربية لم تكن لتظهر لولا الحاجة المُلحة لمقاومة الغزو ومن هنا حصلت (ولادة) تلك الاختراعات. في حين أن الدافع العسكري لتحسين جودة تلك الأسلحة قاد إلى تطويرها وبهذا كانت الحرب وكأنها (مرضعة) تقوم بتغذية الاختراعات العسكرية وتُنميها وترعاها. استجابة مشابهة لتحدي مشابه يمكن أن نستخلصها من قصة مقاومة المجاهدين في أرض فلسطين لحصار وغزو الصهاينة الإسرائيليين وعلى قاعدة (الحاجة أم الاختراع) نجد كذلك أن المقاومة الفلسطينية الباسلة اخترعت (من خلال الأقلية المبدعة التي ذكرها توينبي) عددا كبيرا من أسلحة وترسانة المقاومة العسكرية. وفي خلال سنوات قليلة انتقل الفدائيون في فلسطين من النضال بمجرد قذف الحجارة والمقاومة ببعض المسدسات والبواريد العتيقة إلى استخدام الصواريخ والطائرات المسيرة بل وحتى الطوربيدات البحرية والسلاح السيبراني!!. فمثلا الجيل الجديد من صواريخ القسام من نوع (عياش 250) يصل مداه إلى حوالي 250 كيلومتر في حين أنه عندما ظهر أول صاروخ للمقاومة (قسام 1) كان مداه فقط ثلاثة كيلومتر. علما بأن المقاومة تملك صواريخ أسمها (فاتح 110) تتميز بأنها تحمل رؤوس حربية قد يصل وزنها إلى 500 كجم من المتفجرات والمثير للاهتمام حقا أنه يتوقع بأن ترسانة أسلحة الصواريخ القسامية يمكن تصل إلى حوال 30 ألف صاروخ !!.

لقد أرضعت حرب الجهاد مواليدها من أسلحة القتال ونمّتها مع الزمن من مجرد قذف الدبابات بالحجارة إلى استخدام الصواريخ والمقذوفات المضادة للدروع مثل قذائف (الياسين 105) التي بفضل الله تستطيع تعطيل وإعطاب دبابات الميركافا فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية بزعمهم. وكما على البر فكذلك في الجو والبحر وعبر الأثير استطاعت المقاومة أن تطور طائرات مسيرة مثل طائرات الدرون المسماة (أبابيل) التي تستطيع التحليق والتحويم واسقاط متفجرات وقنابل يدوية. وبالإضافة لذلك يمكن استخدام طائرات (شهاب) أو مسيرات (الزواري) الانتحارية التي تحمل رؤوس متفجرة مصغرة. أما الحرب البحرية فقد طورت المقاومة طروبيد محلي الصنع حمل اسم (العاصف) وهو نوع من الغواصات المسيرة تحت الماء تم استخدامه بالفعل أثناء عملية طوفان الأقصى. وبمناسبة ذكر طوفان الأقصى حصل أثناء الهجوم المفاجئ تشويش على بعض أنظمة المراقبة والرصد الصهيونية ولهذا من المحتمل أن المقاومة الفلسطينية ومن خلال وحدة (جيش القدس الإلكتروني) استخدمت أسلحة (سيبرانية) متقدمة لشن حرب تشويش لشل التحصينات الدفاعية للعدو. علما بأنه سبق في سنوات سابقة استطاعت كتائب عز الدين القاسم شن هجوم سيبراني تسبب في تعطيل أنظمة التحكم في عدد من المؤسسات الأمنية والقواعد العسكرية الصهيونية واختراق كاميرات المراقبة الأمنية الإسرائيلية وكذلك اختراق ترددات أجهزة الاتصال اللاسلكي لوحدات الجيش الصهيوني.

 معجزة عسكرية أم ردة فعل مبالغ فيها

ولعلنا نختم العلاقة بين التحدي العسكري والاستجابة التقنية بالحالة الغريبة والشاذة نسبيا لدولة كوريا الشمالية فمن المعلوم أنه بعد الحرب الكورية التي نشبت في عام 1950م واستمرت لمدة ثلاث سنوات تدهور الوضع الاقتصادي بشكل مريع في شبه الجزيرة الكورية لدرجة أن جمهورية كوريا الجنوبية وحتى عام 1960 كانت من أفقر دول العالم وتقارن في اقتصادها بدولة غانا الإفريقية. صحيح أن (المعجزة) الاقتصادية الكورية جعلت تلك الدولة ليس فقط من أقوى النمور الاقتصادية الآسيوية، ولكن من أقوى الاقتصادات الدولية المعاصرة ومع ذلك ينبغي ألا نغفل أن قصة نجاح الاقتصاد الكوري الجنوبي كانت في بدايتها تعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية خصوصا من أمريكا من خلال (برنامج الإنعاش الآسيوي) المشابهة لمشروع مارشال لدعم الاقتصاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية أو من خلال الدعم الدولي لكوريا الجنوبية من خلال وكالة الأمم المتحدة لإعادة إعمار كوريا.

ما أود الوصول له أنه وفق استراتيجية الاحتواء التي اتبعتها الولايات المتحدة وحلفائها أثناء الحرب الباردة بهدف منع انتشار الشيوعية لذا حرصت أمريكا على مد يد المساعدة المالية والعسكرية والإدارية للنظام الحاكم في جمهورية كوريا الجنوبية لكي يجابه ويمنع تقدم الشيوعيين من الجار الشمالي أي من كوريا الشمالية. ومع الزمن سوف تحصل (المعجزة) العسكرية في كوريا الشمالية في مقابل المعجزة الاقتصادية في كوريا الجنوبية وذلك أنه وفق (قانون) التحدي والاستجابة السالف الذكر، هنا سوف يجد نظام الحكم في بيونغ يانغ عاصمة كوريا الشمالية أنه يجب أن (يتصدى) ويستجيب للتحدي (الوجودي) الذي يتهدده من أمريكا وحلفائها القاصي والداني. في الواقع وطوال التاريخ المعاصر لطالما وصفت كوريا الشمالية بأنها الدولة المعزولة بسبب رعونتها الشديدة لدرجة أنها قبل شهرين فقط أعلنت بأنها ستغلق سفاراتها في العديد من الدول علما بأن علاقتها بجيرانها عدائية وبحلفائها مثل الصين وروسيا متذبذبة. وبمختصر الكلام كوريا الشمالية دولة شبه معزولة ومحاصرة بدول في حالة عداء معها وعلى علاقة متوترة جدا مع العالم الغربي ومع هذا التحدي السياسي والمقاطعة العسكرية (لدرجة أن الصين صوتت مع قرار الأمم المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية عليها) والعداء العسكري إلا أن كوريا الشمالية استطاعت وبشكل شبه منفرد في تحقيق معجزة عسكرية مدهشة. لقد أذهلت كوريا الشمالية العالم بقدراتها الخارقة في الصناعات العسكرية فهي ليس فقط استطاعت تصنيع قنبلة ذرية بل إنها تمكنت كذلك من إجراء تجارب أولية لتصنيع القنبلة الهيدروجينية الأكثر تعقيدا وتدميرا. ومن جانب آخر تمكنت التقنية العلمية المتقدمة في كوريا الشمالية ليس فقط في تصنيع وتطوير صواريخ حربية بالستية عابرة للقارات وصواريخ كروز متقدمة بل إنها توصلت كذلك لتصنيع صواريخ فضاء قادرة لإرسال الأقمار الاصطناعية التجسسية الكورية إلى الفضاء الخارجي. والغريب أنه في السنوات الأخير اخترعت كوريا الشمالية أسلوبا جديدا في منظومة الردع والتهديد العسكري وذلك بمحاولة تصغير القنابل الذرية لدرجة تحميلها على طائرات مسيرة مصغرة.

وواضح جدا مما سبق وصفه أن تطوير الصناعات العسكرية وتوسيع ترسانة إنتاج الأسلحة الحربية في كوريا الشمالية يستنزف نسبة كبير من اقتصاد تلك الدولة المعزولة والمشاغبة. وعليه في الختام سوف نقع في حيرة في التنبؤ في مستقبل هذا الكيان الشاذ والغريب فمن جهة ووفق نظرية التحدي والاستجابة يتنبأ توينبي بأن التحدي المفرط سوف يسحق الحضارة (ويمكن أن نقول الدولة) بينما التحدي القليل جدا سوف يؤدي إلى ركودها ولكن الدورة المستمرة من التحدي والاستجابة سوف تساهم في تطور ونمو واستمرارية تلك الكيانات. وعليه (الأقلية المبدعة) في كوريا الشمالية بجهودها المتواصلة في إيجاد حلول مبتكرة للتحديات التي يواجها النظام الكوري بالفعل قد تساهم في بقائه وصموده. ومن جانب آخر مختلف تماما نجد أنه وفق نظرية المؤرخ الأمريكي المعاصر بول كينيدي حول صعود وسقوط القوى العظمى وبعد استقراء التاريخ (كما فعل أرنولد توينبي) يقرر أن التوسع العسكري المفرط والضاغط على الاقتصاد يقود في نهاية المطاف إلى أفول سيطرة الدول الكبرى وفقدانها للقوة والنفوذ.

 كلمة أخيرة، بلا شك التاريخ حمال أوجه ويمكن تفسيرها بطرق مختلفة ووضع النظريات والقوانين المتعددة والمتوهمة في محاولة تحليل ماضيه واستشراف مستقبله ومع ذلك لعلنا فيما يتعلق بواقعنا العربي على الأقل نركن إلى السنن الإلهية التي تعد بالنصر والتمكين لمن نصر الدين ولو بعد حين حتى وإن لم يملك المجاهد والمناضل إلا ما تيسر. فوفق الإرشاد الرباني (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) كانت احتمالات النصر في أول الأمر يمكن أن تصل أن يغلب عشرون صابرون مئتين وتستطيع كتيبة من مئة من المؤمنين هزيمة جيش من ألف من الكافرين وأعداء الدين.

 

 

 

( معضلة الخائن اللامنتمي !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 عندما تم اتهام ضابط المخابرات البريطاني كيم فيلبي (ولد جون فليبي أو الحاج عبدالله فيلبي) في عام 1963م بأنه عميل مزدوج وجاسوس للاتحاد السوفيتي وذلك بعد انشقاقه وفراره إلى موسكو والتي عاش فيها حتى وفاته، حاول كيم المدافعة عن نفسه بمقولته المشهورة (لكي تخون، عليك أولاً أن تنتمي، وأنا لم أنتمي قط). في الواقع تلك المرافعة البلاغية التي تفوه بها الجاسوس كيم فيلبي هي عبارة محيرة وربما متناقضة فهل كيم فليبي يعترف أنه بالفعل خائن ولم ينتم قط للمجتمع البريطاني الذي لم يولد فيه أصلا ونفر منه منذ أن اعتنق الأفكار الاشتراكية في شبابه، أم على العكس كيم فيلبي يقول إنه ليس بخائن حتى وإن كان جاسوسا فهو لم يخن بلدا أو شعبا يشعر بالانتماء له. على كل حال، في عالم الجاسوسية والتشفير كثيرا ما تستخدم الكلمة الإنجليزية enigma والتي من ترجماتها: الشخص الغامض أو الأمر المحير واللغز وكذلك تترجم إلى المعضلة أو المتناقضة paradox وهي أمور وأوصاف موجودة في مسيرة حياة كيم فيلبي الغامضة.

وبعيدا عن هذه الفذلكة اللغوية المحيرة ربما يحسن أن نشير إلى أن كيم فيلبي الذي ولد في الهند عاش فترة من زمن مراهقته بين البدو في الجزيرة العربية وكما هو معلوم طبع الخيانة مذموم جدا عند البدو لدرجة أنهم يقولون (الخاين يخون الله) ولهذا أشهر خائن في التاريخ العرب ظل قبره لعقود من الزمن وهو يرجم بالحجارة. وتلك هي قصة أبي رغال رمز الخيانة والخسة لدى العرب وذلك لأنه أعان المحتل الأجنبي وأصبح عميلا وخادم له والقصة التراثية تقول إن أبا رغال كان هو الدليل لأبرهة الحبشي وجيشه الجرار ومرشدهم إلى طريق مكة والبيت الحرام. ولشنيع خيانته (وعدم انتمائه) لمجتمعه العربي وتعاونه مع العدو كان العرب في الجاهلية وبعد انتهاء مناسك الحج يمرون على قبر أبي رغال ويرجمونه بالحجارة. وقبل أن نغادر خبر خائن العرب الأكبر أبي رغال الذي يستحق الضرب بالنعال وبالرغم من وضوح خيانته وكونه لا منتمي لأمته العربية ومع ذلك ربما (المعضلة) أنه قد يكون من جانب ما منتمي ومخلص لقبيلته الخاصة. تقول بعض الروايات التاريخية أن أبرهة الأشرم عندما وصل لمدينة الطائف خرج له كبير وشيخ قبيلة ثقيف مسعود بن متعب وقال له أيها الملك إنما نحن عبيدك وليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا الذي تريد (يعني معبد صنم اللات) وإنما البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك. وبهذا طغى انتماء أبي رغال لقبيلته وصنمها على انتمائه العربي وحرمة بيت الله المعظم ولهذا وافق على أن يدل ويرشد أبرهم الحبشي لطريق مكة حتى يتجاوز ويبتعد عن تدنيس حرم ثقيف.

وفي سياق التاريخ كثيرا ما يقرن ويجمع بين خيانة أبي رغال وخيانة ابن العلقمي فهذا عميل ودليل لأبرهة الأشرم وذاك عميل ومتخابر مع قائد المغول هولاكو الذي اجتاح مدينة بغداد وأسقط الخلافة العباسية. وعلى الرغم من أن خيانة الوزير الشيعي ابن العلقمي مشهورة ومشهودة ولا شك فيها ولا (معضلة) في إثبات خيانته وخساسته، لكن الإشكال فيما يتعلق بالخائن الثاني المدعو نصير الدين الطوسي وهو الوزير الشيعي والمستشار والمنجم الخاص لهولاكو. في الواقع أنا أتفق تماما مع التوصيف الذي أطلقه الإمام ابن القيم الجوزية على نصير الدين الطوسي عندما وصفه بأنه (نصير الشرك ووزير الملاحدة) فهو عريق جدا في الخيانة فقد خان طائفته الشيعة الإسماعيلية وسهل لهولاكو السيطرة على قلعة آلموت عاصمة الحشاشين وهو كذلك من حثّ وأشار على هولاكو بتوجه إلى مدينة بغداد للقضاء على الحكم السني. لا شك في أن نصير الشرك الطوسي هو خائن لا منتمي للعالم السني والحضارة العربية، ولكن الإشكال والمعضلة أن له دورا ملموسا في تقدم الحضارة الإسلامية وخصوصا في مجال علم الفلك. ونظرا لتعلق الخان المغولي هولاكو بعلم التنجيم فهو على عادة قومة كان لا يقوم بأمر كبير إلا بعد أن يستشير المنجمين ولهذا تقرب إليه الخواجة نصير الدين الطوسي وأقنعة بإقامة وبناء مرصد فلكي ضخم في مدينة مراغة في الشمال الشرقي لإيران. وفي تاريخ العلم مكانة كبيرة لمرصد مراغة ومدرسة مراغة الفلكية حيث استطاع نصير الدين الطوسي استقطاب مشاهير علماء الفلك لها كما أنه استطاع سرقة (والبعض يقول إنقاذ) الآلاف من الكتب العلمية من مكتبات بغداد قبل أن يتلفها المغول وبهذا استطاع تجميع كتب الفلك والتنجيم وما شابهها ونقلها إلى مرصد مراغة وبهذا هو من جانب خائن للأمة الإسلامية بينما هو من جانب آخر له إسهام يذكر ولا يشكر في تقدم الحضارة العلمية العربية.

 الصحافة المسمومة والعمالة للمحتل

 المساهمة في الإنجاز الحضاري لا يغسل عار العمالة والخيانة للأجنبي والمحتل ولهذا وبالانتقال من المغول إلى الإنجليز ومن الشيعي إلى المسيحي ومن تطوير علم الفلك لتطوير صناعة الصحافة والإعلام. في الواقع لا يهمنا التركيز على أن الصحفي والكاتب اللبناني فارس نمر عمل في شبابه لفترة من الزمن في المرصد الفكي في بيروت وذلك في عام 1895م ولكن يهمنا كثيرا الإشارة إلى الدور المهم لفارس نمر ورفيق عمره الأديب والصحفي اللبناني يعقوب صورف، في ريادة العمل الصحفي العربي وذلك من خلال إصدارهما لمجلة (المقتطف) في بيروت وذلك في عام 1876م أي فترة زمنية مبكرة من تاريخ الإعلام والثقافة العربية. المشكلة تظهر أنه بعد سنوات قليلة من الاحتلال الإنجليزي لمصر تقدم كل من فارس نمر ويعقوب صروف بطلب إصدار جريدة يومية في مصر تحمل اسم (المقطم) وتشير كل الدلائل التاريخية أن إصدارها في عام 1888م كان برغبة من سلطة الاحتلال نفسه. ومنذ اللحظات الأول عرفت ووصفت جريدة المقطم المسيحية اللبنانية التي تصدر في مصر بأنها (جريدة الاحتلال) حيث كانت تحارب في أخبارها وتعليقاتها الخديوي المصري في ذلك الزمن عباس حلمي الثاني كما أنها كانت تثبط المصريين عن مقاومة الاحتلال الإنجليزي وتمجد التقدم المزعوم التقني والإداري الذي يوفره المستعمر الأجنبي ولهذا لا غرابة أنها كانت تحظى بتمويل مادي مباشر ودعم سياسي على المكشوف من المعتمد الإنجليزي في مصر اللورد كرومر الموصوف زورا وبهتانا بالمندوب السامي.

وشهادة للتاريخ ربما يصح أن توصف علاقة فارس نمر ويعقوب صروف بالاحتلال الإنجليزي أنها علاقة عمالة ولم تصل لدرجة الخيانة الصرفة والفجة فالمحتل يحتاج أحيانا إلى من يكون وسيلته (الصوتية) إلى توصيل خطابه وأفكاره، ومن يتعاون معه في هذا الغرض فهو مجرد عميل أما من يتعاون معه في القتال بالسلاح والتخابر والتجسس فهو خائن أثيم. قبل الاحتلال الإنجليزي لمصر بحوالي قرن من الزمان حصل الاحتلال والغزو الفرنسي المشهور بقيادة نابليون بونابرت وهنا مرة أخرى نجد أن العدو المحتل يحتاج إلى أن يتواصل مع الشعب الذي غزاه وأن يسمعه صوته ويوصل له أفكاره ولذا كان بحاجة إلى (عميل) من العرب يساعده في هذا المطلب. بعد حوالي ثلاثة أسابيع من هبوط بونابرت على ساحل مدينة الإسكندرية وذلك في صيف عام 1798م قام بكتابة وطباعة ونشر ما يسمى (منشور نابليون إلى المصريين). وذلك المنشور هو عبارة عن ورقة مكتوبة باللغة العربية يحاول فيها نابليون خداع العرب بأنه جاء لحمايتهم من تسلط المماليك وأنه لا يحارب الدين الإسلامي بدلالة أن خطابه بداء بالعبارة التالية (باسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد ولا شريك له في ملكة). بقي أن نقول إن العميل الذي كتب هذا الخطاب لنابليون باللغة العربية في الغالب كان هو القس السوري الأصل الأب أنطوان رافائيل الذي كان مترجما وصديقا شخصيا لنابليون وهو في الأصل ولد في القاهرة وتلقى تعليمه الديني الكنسي في مدينة روما. أما الخيانة الصريحة في خدمة الحملة الفرنسية على مصر ومساعدتها بالسلاح وقتال المصريين فكان وزر من تولها ذلك الخبيث المسمى المعلم يعقوب وهو من أقباط مصر وقد ذكره المؤرخ الكبير عبدالرحمن الجبرتي بكثير من النقد والقدح فيه وهو يستحق ذلك فقد تم تعيينه برتبة كولونيل لكي يقود فرقة عسكرية من أقباط مصر ساهمت في دعم المحتل ضد مقاومة الشعب المصري كما حصل في ثورة القاهرة الثانية ضد الجنرال الفرنسي كليبر.

من المهازل التاريخية أن البعض يعتبر أن للحملة الفرنسية على مصر لها دورا هاما في التقدم الحضاري للشعوب العربية بدلالة أن نابليون كان أول من أدخل المطبعة للمنطقة العربية وكأن أصحاب هذا الرأي يغفلون أن نابليون أحضر المطبعة معه بهدف نشر الدعاية الصحفية له ولجيشة المحتل. وهذا ما تكرر بالضبط عند الاحتلال الفرنسي للجزائر فحتى قبل وصول الجيش الفرنسي تم التجهيز لأن يكون معه مطبعة وهيئة تحرير لكي تصدر جريدة توزع على الشعب الجزائري كانت أولا تظهر باللغة الفرنسية ثم في عام 1832م صدر لها ملحق باللغة العربية ولاحقا تغير اسمها إلى صحيفة المرشد. والغريب في الأمر أن الاستعمار الفرنسي استطاع اصدار جريدة باللغة العربية مناصرة له حمت اسم (المبشر) ويشرف عليها الجنرال الفرنسي أوجين دوما وقد كان لها صبغة دينية استطاعت من خلالها استقطاب بعض بسطاء التفكير من مشايخ الدين الجزائريين. ولهذا لاحقا عندما بدأ الأمير عبدالقادر الجزائري الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي كان من ضمن الصعوبات التي واجهته مقاومة بعض الأعيان والمشايخ له بل إنه تعرض حتى للمقاومة المسلحة من قبل شريحة من المجتمع الجزائري كانت تعرف باسم كتيبة الزواف. ومع فائق الاحترام والتقدير والإجلال للجهاد الجزائري وحركة المقاومة الباسلة لذلك البلد الحبيب المشهور بلقب (بلد المليون شهيد) إلا أن ذلك النضال المشرف عانى في القديم من لطخة سوداء مؤسفة ومحرجة.

 من عرب خيانات إلى صهاينة العرب

الشعوب كما الأفراد نجدها تحت الظروف الصعبة والمواقف العسيرة قد يتخبط سلوك بعض أفرادها أو طوائف منها ولهذا تحت ثقل وقع الاحتلال قد ينجرف البعض للتواطؤ والعمالة للمحتل خوفا كما قيل من سيف المعز أو طمعا في ذهبه. ومن المؤسف أن ننبش التاريخ ونعيد التذكير بفضيحة الجماعات المسلحة التي اشتهرت في الجزائر باسم (الحركي) وهم كتائب من المرتزقة الجزائريين الذين حاربوا في صفوف جيش الاحتلال الفرنسي ضد المقاومة الجزائرية !!. أعداد هؤلاء الخونة كبيرة جدا وقد يصل لعشرات الآلاف لدرجة أن الخبيث الحركي الباشاغا بوعلام استطاع تشكيل جيش من 2000 مقاتل من قبيلة واحدة هي قبيلة الهلالية لكي يساهم مع الجيش الفرنسي في وأد ومناهضة ثورة التحرير الجزائرية. القارئ العزيز عنوان هذا المقال (معضلة الخائن اللامنتمي) وفي الواقع خير من ينطبق عليه هذا العنوان أفراد عملاء الاحتلال الفرنسي من خونة الجزائر من جماعة (الحركي) وقبله بسنوات طويلة أفراد كتيبة الزواف الذين قاتلوا الأمير عبدالقادر. بعد استقلال الجزائر في عام 1962م كثمرة لنضال وجهاد ثورة التحرير المجيدة ظهرت (معضلة) الخونة من الجزائريين من أتباع جماعة الحركي فهم بالقطع لا منتمين للمجتمع الجزائري المناضل ولهذا اضطر الآلاف منهم للفرار والهجرة إلى فرنسا وما زالت (معضلتهم) قائمة حتى اليوم فهم خونه لا يؤمن لهم ولهذا لم يتقبلهم المجتمع الفرنسي وأوضاع أبنائهم الآن مزري في فرنسا.

وفي الختام وبعد أن شرقنا وغربنا في الجغرافيا وبعد أن تنقلنا عبر عصور التاريخ لذا ربما تبين لنا أن ظاهرة (عرب خيانات) حصلت مع كل غاز ومحتل لترابنا العربي سواء كان جيشا حبشيا أو جحافل مغولية أو حملات صليبة أو استعمارا أوروبيا وأخيرا ها نحن ذا منذ عقود نعاني من كارثة الاحتلال الصهيوني الغاشم وكتائب خونة العرب المتعاونين معه. تنتشر هذه الأيام موجة التخوين بوصف البعض منا بأنهم (صهاينة العرب) وبالرغم من أن ذلك مجرد تنابز بالألقاب وتوزيع منفلت للاتهامات إلا أنه بالفعل يوجد طوائف من أبناء العرب لخيانتهم وخستهم هم أحقر وأخطر من الصهاينة الخُلّص. ونقصد بذلك على سبيل المثال بعض نصارى العرب الذين قاموا بتشكيل مليشيات قتالية بعد انشقاقهم عن الجيش اللبناني وتسموا بجيش لبنان الجنوبي وكان وظيفة ذلك الجيش الخائن حماية الكيان الإسرائيلي من الأعمال القتالية للمقاومة اللبنانية المعارضة لاحتلال الصهاينة لجنوب لبنان. للأسف جيش أنطوان لحد المناصر لإسرائيل الذي بلغ عدده حوالي 6000 مقاتل يقال بأن بعض أعضائه كان من عرب لبنان المسلمين الذين كان لهم خصام وصراع مع الفصائل الفلسطينية المتواجدة في ذلك الزمن على الأراضي اللبنانية.

كما هو معلوم تم حل جيش لبنان الجنوبي الخائن في عام 2000م بعد أن انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان ولهذا فرّ وهرب المئات من أفراد تلك المليشيا إلى إسرائيل كما هرب الآلاف من خونة جماعة الحركي الجزائرية إلى فرنسا. واليوم يبقى الفصيل العربي الذي يستحق بجدارة وبعار وشنار أن يحمل لقب (صهاينة العرب) وأقصد بهم شباب طائفة الدروز الذين يعملون في الجيش الإسرائيلي ويصل عددهم إلى حوالي 7000 خائن درزي. في الواقع أحد أكثر ألوية النخبة العسكرية خطورة في جيش العدو الصهيوني هو لواء جولاني وبحكم إنه لواء دبابات ومدفعية فقد كان له دور خبيث في تدمير المدن العربية داخل إسرائيل أو جنوب لبنان. وللأسف جنود وضباط هذا اللواء ثلثهم من الدروز بل وصل الأمر أن قائد هذا اللواء في حرب إسرائيل على قطاع غزة عام 2014 كان الدرزي الهالك الجنرال غسان عليان والذي ولله الحمد قتل على يد كتائب عز الدين القسام أثناء معركة العصف المأكول. وبالمناسبة ما يشفي الصدور ضد هؤلاء الخونة من جنود جيش لحود أو جيش الدروز أنهم يعانون من معضلة عدم الشعور بالانتماء لنسيجهم العربي وكذلك عدم التقبل التام لهم في محيطهم الصهيوني.

 كلمة أخيرة خونة العرب وعملاء الاحتلال الأجنبي الذين تم استعراض ومضات خاطفة ولمحات سريعة من أمثلتهم في الغالب خدموا وتعاملوا مع المحتل لأن لهم احتكاكا مباشرا به فهم إما يطمعون في ذهبه أو يخافون من سيفه. ومع ذلك ما هو دافع أو مبرر بعض الصهاينة العرب من بيننا الذين يجرمون المقاومة ويناصرون العدو الصهيوني وهم على بعد آلاف الأميال من العدو فلا هو يحتل بلادهم ليخافوا منه ولا هم يستفيدون من ثروته لكي يطمعوا فيه فلماذا يرضون بالعمالة له وكأنما حالهم كما قال الأول: إلا (الخيانة) أعيت من يداويها.

 

 

( الجهاد بالشعر والقصيدة في زمن الحروب الصليبية )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 على قاعدة أن التاريخ كثيرا ما يعيد نفسه لذا لا مناص من الوقع في أسر استحضار تاريخ الماضي لمحاولة استشراف مآلات المستقبل. وفي أجواء تأجج الصراع العربي والإسرائيلي كان من الحكمة دراسة تاريخ الصراع العربي (الصليبي) واستخلاص الدروس والعبر لأسباب الهزيمة وعوامل النصر. ومن هنا كان ذاك الكتاب البديع (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) للمفكر الإسلامي والمؤرخ الأردني ماجد عرسان الكيلاني. وفي المقابل نجد أن المؤرخ اليهودي يوشع براور صاحب كتاب (قرون حطين) المستخلص من الأوراق العلمية المنشورة في مؤتمر غربي ضخم بمناسبة مرور ثمانية قرون على معركة حطين، يحاول هو وزملائه خدمة الكيان الصهيوني من محاولة استنباط الدروس والعبر لأسباب انتصار صلاح الدين على مملكة الصليبيين في بيت المقدس وذلك بهدف محاولة الحرص على عدم تكرار التاريخ لنفسه بانتصار العرب مرة أخرى.

وبحكم أننا الآن في الشهور الأخيرة من (عام الشعر العربي 2023) فلعل من الملائم الربط بين مثلث التاريخ والأدب والسياسة في محاولة استقراء الذاكرة الشعرية للأدب العربي المصاحب للصراع العربي الصليبي على القدس وأكناف بين المقدس. ونظرا لأن العرب في الزمن المعاصر هم (ظاهرة صوتية) كما يقال فربما لن نضيف الكثير من فتح دواوين الشعر العربي المعاصر لاستعراض قصائد أدب رثاء المدن الفلسطينية المحتلة أو الأعمال الأدبية لمشاهير الشعراء في نصرة النضال الفلسطيني والمقاومة العربية والجهاد الإسلامي. الجميع يعلم عيون قصائد الشعر السياسي في دعم القضية الفلسطينية التي أبدعها رموز الأدب العربي المعاصر مثل عمر أبو ريشة وعلى محمود طه وعبدالرحيم محمود ونزار القباني ومحمود درويش وسيمح القاسم وفدوى طوقان وأحمد مطر وعبدالرحمن العشماوي. ولكن الغريب في الأمر أن قصائد الأدب العربي القديمة المتزامنة مع الاحتلال الصليبي للقدس والصراع العربي المسيحي في أرض فلسطين شبه مجهولة أو على الأقل غير متداولة بشكل كاف.

الأغرب من ذلك أنه في أواخر سنوات القرن الخامس الهجري بدء مسلسل الانهيار بسقوط المدن العربية في يد النصارى (مدينة طليطلة في عام 478هـ ومدينة القدس في عام 492هـ) ومع ذلك اشتهرت قصائد رثاء المدن الأندلسية المحتلة من قبل الفرنجة في حين لا نكاد نعلم قصيدة مشهورة في رثاء القدس أو المدن الفلسطينية المحتلة من قبل الصليبيين. ويبدو أن انهيار الأمة العربية في القرن الخامس الهجري كان شاملا في جميع المحاور السياسية والعسكرية والأدبية بدلالة السهولة النسبية لمرور الصليبيين على بلاد الشام وسيطرتهم على أرض فلسطين دون حتى ردود فعل ملائمة لا في مجال القتال بالسنان ولا مجال المقاومة باللسان. ففي القرن الرابع الهجري كان أمير بني حمدان يجاهد جحافل الإمبراطورية البيزنطية المسيحية ويسانده كبار الشعراء مثل أبي الطيب المتنبي بقصائد معارك سيف الدولة وأبي فراس الحمداني بقصائد الروميات. وكمحاولة لإعادة إحياء التراث العربي الجهادي في جانبه الأدبي وفي سياق ترسيخ قاعدة (التاريخ يعيد نفسه) لعله من باب التفاؤل وبث الأمل أن نسترجع بعض القصائد العربية العريقة زمن الحروب الصليبية وكيف تحولت مواضيعها من مجرد الفجيعة باحتلال ديار المسلمين إلى الحض والحث على الجهاد والنضال لتصبح أخيرا قصائد الفخر والمديح للسلطان صلاح الدين وتهنئته بتحرير القدس وأكناف بيت المقدس. وها نحن ذا وبعد عقود وعهود من تدبيج القصائد في الفجيعة بسقوط أرض فلسطين تحت القهر الصهيوني الخبيث وبعد مئات القصائد في مديح النضال والمقاومة ننتظر أن يدور الزمان دورته لكي يأتي زمان

تحبير قصائد الاحتفاء والاحتفال بالنصر المبين على الصهاينة أعداء الدين.

 الذاكرة الشعرية للقصائد المقدسية

عندما سقطت مدينة طليطلة في يد ألفونسو ملك قشتالة وذلك في عام 478هـ رثاها وتفجع على ضياعها عدد من شعراء الأندلس ذكرهم الأديب المقري التلمساني في كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) مثل الشاعر ابن عسال وقصيدة أخرى طويلة لشاعر مجهول.  ولكن بعد ذلك التاريخ بحوالي 14 سنة وعندما سقطت القدس في يد الدوق جودفري قائد الحملة الصليبية الأولى لم نسمع صدى محسوسا لهذه الفاجعة وذلك ربما للضعف الشامل للأمة الإسلامية تحت حكم الدولة الفاطمية في ذلك العصر. صحيح أن الشاعر أبا المظفر الأبيوردي عاصر زمن الحروب الصليبية وله قصيدة مشهورة في التفجع على مصيبة أهل الشام وما عانوه من المذابح والجرائم على يد الروم:

وَشَرُّ سِلاحِ المَرْءِ دَمْعٌ يُفيِضُهُ

إذَا الحَرْبُ شُبَّت نارُها بِالصَّوارِمِ

وكيفَ تنامُ العينُ ملءَ جفونها

على هَفَواتٍ أَيْقَظَتْ كُلَّ نائِمِ

وإخوانكمْ بالشَّامِ يُضحي مقيلهمْ

ظهورَ المذاكي أوْ بطونَ القشاعمِ

تَسُومُهُمُ الرُّومُ الهَوانَ وَأَنْتُمُ

تجرُّونَ ذيلَ الخفضِ فعلَ المسالمِ

ومع ذلك تلك القصيدة لا يوجد بها إشارة واضحة وصريحة عن سقوط القدس ومسجد الأقصى بيد أهل الصليب وكأنما القصيدة هي في سياق استصراخ (صناديد الأعراب) إلى نصرة إخوانهم في الدين والعروبة ورفع الظلم عنهم دون الإشارة إلى إعادة استرجاع القدس لحظيرة الإسلام.

وهذا يقودنا لفكرة أن توظيف الأدب من خلال (الجهاد بالشعر العربي) يقصد به أن تصبح القصيدة وسيلة للتحريض على قتال الأعداء واستنهاض الهمم واستصراخ الأمم للجهاد والنضال ضد أعداء الدين والأوطان. وبالمناسبة أشهر قصيدة في دواوين الشعر العربي في مجال أدب رثاء المدن وهي القصيدة النونية (لكل شيء إذا ما تم نقصان) للشاعر الأندلسي أبي البقاء الرندي حتى وإن ورد فيها رثاء مدن قرطبة وإشبيلية (حمص) وبلنسية ومرسية وجيان فإن الهدف الأساسي لتدبيج هذه القصيدة ليس مجرد (رثاء الأندلس) ولكن الدافع لها طلب الدفاع عما تبقى من المدن الأندلسية قبل أن تسقط تحت حكم النصارى. وفي الواقع هذه القصيدة ارسالها أبو البقاء الرندي إلى ملوك بني مرين في المغرب كمحاول لاستنهاض حميتهم الدينية واستثارة حكمتهم السياسية لضرورة المسارعة في نصرة أهل الأندلس قبل أن يزول حكم الإسلام بالكامل من الأندلس ثم ينتقل الخطر إلى أرض المغرب وهذا بالضبط ما حصل بعد السقوط النهائي للأندلس بعد قرنين من الزمن من قصيدة أبا البقاء الرندي الباكية تلك.

وفي هذا السياق نستحضر كذلك دور الأمير والفارس والشاعر العربي الكبير أسامة بن منقذ ليس فقط في شنّه الجهاد المتواصل بسيفه وسنانه ضد الصلبيين (ولد فقط قبل أربع سنوات فقط من سقوط بيت المقدس) ولكنه أيضا جاهد كذلك بقلمه ولسانه من خلال قصائده الشعرية في وصف قتال الروم وكذلك في حث الأمراء والسلاطين في العراق والشام ومصر للتكاتف والتحالف لحرب الصليبيين. ومن ذلك محاولة أسامة بن منقذ اغراء واقناع الملك العادل نور الدين زنكي حاكم الشام والعراق بتوحيد حملة الجهاد ضد الصليبيين بالتحالف مع الوزير الفاطمي طلائع بن رزيك ولهذا كانت القصيدة التي أُرسلت إلى نور الدين:

فلو أن نور الدين يجعلُ            فعلَنا فيها مثالا

ويسيّرُ الأجنادَ جهراً               كي ننازلهمْ نِزالا

ويفي لنا ولأهل دولتهِ              بما قد كان قالا

لرأيتَ الأفرنج طراً                في معاقلها اعتقالا

وتجهّزوا للسيرِ نحو الغربِ      أو قصدوا الشمالا

 وبما أن سيرة نور الدين وعلاقته بالدولة الفاطمية انفتحت فنختصر الحديث ونقول بأن نور الدين أرسل صلاح الدين وعمه أسد الدين للسيطرة على مصر وبعد أن تمكن الناصر صلاح الدين الأيوبي من إتمام سيطرته على أرض مصر وأصبح (يوسف بن أيوب) أي صلاح الدين هو (عزيز مصر) الجديد ولهذا قام بعض الشعراء بتوظيف هذه الملابسات في استنهاض صلاح الدين لينقذ أهل فلسطين كما أنقذ نبي الله يوسف عزيز مصر أهل الإيمان في الشام. وهنا نجد الشاعر عماد الدين الأصبهاني يتمنى أن يطول به العمر حتى يشاهد انتصار يوسف الأيوبي وهو يسفك دماء فرسان الأسبارطية (الأسبار) ويهد سقف كنيسة الأسقف النصراني:

أيبلغ دهري قصدي وقد           قصدتُ بمصر ذُرى يوسفِ

ويوسفُ مصر بغير التقى        وبذلُ الصنائع لم يوصفٍ

فسر وافتح القدس واسفك به      دماء متى تجرها ينظفِ

وأهدِ إلى الأسبار البتار           وهُدّ السقوفَ على الأسقفِ

وخلّص من الكفر تلك البلاد      يُلخصك الله في الموقفِ

 ومن الشاعر العماد الأصبهاني الفارسي إلى الشاعر عبدالمنعم الجلياني الأندلسي ودوره هو الآخر في تحريض واستنهاض همة وحمية الناصر صلاح الدين لحرب الفرنجة بني الأصفر الذين حان الزمان لكي تصفر وتخلو أرض المقدس منهم:

الله أكبر أرضُ القدس قد صَفَرتَ     من آلِ الأصفرِ إذ حينَ به حانوا

أسباطُ يوسف من مصر أتو ولهم     من غير تيهٍ بها سلوى وأمنانُ

لهم فلسطينُ أن يخرج مُنفرجا         عنها وإلا عدّت بيضٌ وخرصان

ولابن أيوب في الإفرنج ملحمةٌ        دلت عليها أساطير وحسبانُ

 وبحكم أن تجهيز الجيوش وترتيب الصف الداخلي للأمة العربية يحتاج زمنا طويلا ولهذا عندما تأخر قليلا عزيز مصر الجديد صلاح الدين في إكمال مسيرة الجهاد أخذ بعض الشعراء وفي تصعيد لظاهرة (الجهاد بالشعر والقصيدة) يكررون ويعاودون حثّ وحض وتحريض صلاح الدين بل أن الشاعر العماد الأصبهاني عندما توفي المجاهد الكبير نور الدين زنكي كتب قصيدة يرثيه فيها ومع ذلك قال يعاتبه:

كم قد أمرت بحفر خندق معقلٍ     حتى سكنت اللحد في محفورهِ

أوما وعدت القدس أنك مُنجز       ميعادهُ في فتحهِ وطهورهِ

فمتى تجير القدس من دنس العدا    وتقدس الرحمن في تطهيرهِ

 وهذا الشاعر الفاطمي عمارة اليمني يبالغ في استنهاض صلاح الدين للسيطرة الكاملة على مصر ثم المسير إلى أرض فلسطين من غير تكاسل أو فتور:

قل لابن أيوب وكم ناصح             أنفع ممن هو شاكي السلاحِ

واصدم بها شعث النواصي ربي     غزة أو ما حولها من نواحِ

قولا لمن في عزمه فترة              ارجع إلى الجد وخل المزاحِ

 وربما في هذا السياق نفهم أنه عندما تأخر الناصر صلاح الدين في عدم الوصول للقدس إلا بعد أن يضمن السيطرة على أغلب مدن الساحل وتطهير مساجدها ودورها من نجس الاحتلال الصليبي، نفهم مغزى الأبيات المشهورة التي أرسلت إلى صلاح الدين ونظمها أحد الشعراء على لسان المسجد الأقصى وهو يستنهض ويستنجد:

يا أيها الملكُ الذي       لمعالم الصُلبان نكّس

جاءت إليك ظلامة      تسعى من البيت المُقدّس

كلُّ المساجد طُهرت    وأنا على شرفي أُدنس

 وفي الختام نستعرض الفرق الجوهري بين أدب المقاومة المعاصر في زمن سيطرة الصهاينة وأدب الجهاد في زمن اندحار الصليبيين وهو أن شعراءنا وأدباءنا لهم قصائد المواساة لجراحات المسلمين والحث على الصمود والجهاد لكن لم يشهد عصرنا بعد كتابة قصائد الاحتفاء والاحتفال بتطهير أرض فلسطين من تدنيس الصهاينة. بينما نجد الشاعر عبدالمنعم الجلياني السالف الذكر يمدح صلاح الدين وينظم القصيد في تهنئته بفتح القدس:

وكنتُ أرى ذا الفتح من قسم يوسفَ       فلله ذاك القسم ما كان أسعدا

كفى مطهرا من طهر القدس واحتوى     بني أصفرٍ سبيا وقتلا وتعمّدا

هنيئا لبيت القدس الآن طُهرهُ               وللناصرِ المنصورِ غبطته غدا

 ومن المعروف أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب هو من (أول) افتتح بيت المقدس ولهذا كان من وسائل المديح لصلاح الدين أنه هو (ثاني) من افتتح بيت المقدس ولهذا استخدم هذه الفضيلة الشاعر الدمشقي ابن الساعاتي فقال يمدح صلاح الدين:

هو الفاتح البيت المقدس بعدما        تحامته الدنا ومسودها

فضيلة فتح كان ثاني خليفة           من القوم مبديها وأنت معيدها

 وعليه لا شك أنه في مستقبل الأيام عندما يعاد للمرة الثالثة بمشيئة الله فتح بيت المقدس، فإن شعراء ذلك الزمن سوف يمدحون ويثنون فاتح القدس الجديد بأنه يسير على خطى عمر بن الخطاب وصلاح الدين وأنه (ثالث) فاتح للقدس. طبعا ذلك حلم بعيد المنال وهو كذلك ينطوي على الكثير من المخاطر والصعاب ففي رواية (عمر يظهر في القدس) للأديب المصري الكبير نجيب الكيلاني نجد أن حبكة تلك الرواية تفترض أن يتعرض الخليفة عمر بن الخطاب لمحاولات اغتيال ربما يشارك فيها بعض المسلمين الذين كذبوه أو شعروا بالخطر من وجوده.

ومن التقاطعات بين الماضي والمستقبل في مشكلة سلامة الفاتح الجديد للقدس سواء كان عمر جديد أو صلاح جديد أنه في آخر قصيدة نزار قباني المشهورة عن صلاح الدين نجده يصرخ في أرض العروبة لتلد صلاح الدين الجديد:

رفيق صلاح الدين هل لك عودة          فإن جيوش الروم تنهي وتأمُر
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم       وجندك في حطين صلوا وكبروا

أيا فارسا أشكو إليه مواجعي              ومثلي له عذر ومثلك يعذرُ
وأصرخ يا أرض المروءات احبلي      لعل صلاحا ثانيا سوف يظهرُ

 ولكن الطامة لو ظهر صلاح الدين الجديد في القدس فهل سوف يكون مصيره مثل المصير الذي تخيله نجيب الكيلاني في رواية عمر يظهر في القدس ولعل الجواب الصادم نجده في أبيات الشاعر العراقي الثائر أحمد مطر في قصيدة (ورثة إبليس):

إن تندبوا: " قم يا صلاح الدين ، قم " ، حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة،
كم مرة في العام توقظونه،
أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة،
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه،
لأنه لو قام حقا بينكم فسوف تقتلونه !!.

 

 

( محطات الانكسار في مسيرة صلاح الدين الأيوبي )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 للجنرال الأمريكي المعاصر مايكل لي لاننج عدة كتب متخصصة عن تاريخ المعارك الحربية وأبرز القادة العسكريين في التاريخ وفي الواقع في كل من كتابه (100 قائد عسكري The Military 100) وكتاب (أهم 100 معركة حربية The Battle 100) نجد فصول خاصة عن القائد المسلم الكبير صلاح الدين الأيوبي وانتصاره الأسطوري في معركة حطين الفاصلة. الجدير بالذكر أن الإعجاب بشخصية صلاح الدين ونبل أخلاق الفروسية لديه بالإضافة لعبقريته العسكرية متجذر في الثقافة الغربية والكتابات الأوروبية لدرجة أنه تم تأليف كتب خاصة عن جوانب الأسطورة في رؤية الغربيين لصلاح الدين ومن ذلك كتاب (أسطورة صلاح الدين في الأدب والتاريخ الغربي) للباحثة البريطانية في الدراسات الأدبية مارغريت جوب وكتاب (حياة وأسطورة السلطان صلاح الدين) للمؤرخ البريطاني جوناثان فيليبس.

والمقصود أن الخصوم قبل الحلفاء والأعداء قبل الأصدقاء كلهم فتنوا وأعجبوا بالمسيرة الجهادية المباركة والنضال الحربي البطولي لصلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس وقاهر الصليبيين والقائد الذي استطاع أن يجمع كلمة ومواقف العرب والمسلمين في هدف واحد.

وكما هو معلوم للقاصي والداني فإن طريق ومسيرة النصر تمر على محطات الهزيمة ولحظات الانكسار ومواقف الضعف كما تمر على محطات النصر ولحظات السمو ومواقف القوة. في فن الحرب وباستقراء نتائج مسيرة المعارك الفاصلة في التاريخ أصبح من الشائع قبول القاعدة والحكمة العسكرية التي تقول (لكي تكسب الحرب لا بأس أحيانا من أن تخسر بعض المعارك). عندما وصل القائد والثائر القرطاجي هانيبال أخيرا بأفياله وجيشه الجرار إلى الأراضي الإيطالية ضل لمدة سبع عشرة سنة وهو ينتصر في سلسلة من (المعارك) الصغيرة لكن لم يتمكن على الإطلاق من تحقيق النصر الحاسم في (الحرب) ضد الإمبراطورية الرومانية. لا يوجد في التاريخ أي قائد عسكري انتصر في جميع المعارك التي خاضها لأن أمثال هذا القائد المظفر دائما هو مجرد خيال ومصيره الهلاك ففي ملحمة الإلياذة لهوميروس كان البطل الأسطوري آخيل ينتصر في كل معركة يخوضها وفي النهاية قتل بسبب جرح بسيط بسهم في كعب قدمه بينما البطل الفارسي الأسطوري رستم وإن كان ينتصر دائما في معاركه كما أوردها الفردوسي في ملحمة الشاهنامة ومع ذلك قتل بمجرد أن سقط في بئر.

وما أريد الوصول له أن مسيرة الجهاد لدى القائد المسلم الكبير صلاح الدين الأيوبي هي من أرض الواقع وليست مجرد أسطورة من نسج الخيال وبحكم أنها كذلك فقد تمكن ولله الحمد من النصر في (الحرب) ضد الصليبيين، ولكن هذا لا يعنى أنه لم يخسر العديد من (المعارك). وهذه نقط تاريخية مهمة وجديرة بالتوضيح وخصوصا في زمننا الحالي مع زيادة المكابدة التي يعاني منها إخوتنا المجاهدون في أرض فلسطين فهم قد يخسرون بعض (المعارك) ولكن بمشيئة الله النصر لهم في (الحرب) ضد الصهاينة الغاصبين.

وهذا يقودنا وبشكل عام للإشارة والاستعراض السريع لبعض محطات ومراحل التعثر والانكسار في المسيرة الجهادية للمثل الأعلى للمجاهدين العرب القائد المسلم السلطان صلاح الدين. فمنذ بدايات المسيرة الجهادية لصلاح الدين واجهته العقبات والمصاعب الواحدة تلو الأخرى ففي سن السابعة والعشرين تعرض الشاب صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركوه لحصار خانق لمدة ثلاثة أشهر في مدينة بيلبيس في شمال القاهرة. ذلك الحصار الخطر أشترك فيه الصليبيون ممثلين بملك بيت المقدس عموري الأول وحليفهم الخائن الوزير الفاطمي شاور السعدي. وما كاد الشاب صلاح الدين ينجو من ذلك الحصار بالقرب من القاهرة حتى تعرض لحصار أخطر وأصعب، ولكن هذه المرة في مدينة الإسكندرية حيث حاصره من البحر الأسطول الصليبي القادم من جزيرة صقلية بينما كانت تحاصره من البر قوات مملكة بيت المقدسة الصليبية.

ويبدو أن لحظة الحصار العصيبة هذه في الإسكندرية أثرت كثيرا في نفسية الشاب صلاح الدين وأعادت تشكيل طريقة تفكيره فهو مثلا عندما طلب منه السلطان المجاهد عماد الدين زنكي أن يرجع مرة ثانية لحماية مصر من هجوم الصليبيين تقهقر صلاح الدين وتراجع. وحسب ما أورده المؤرخ الكبير ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ فإن صلاح الدين قال (أمرني نور الدين بالمسير إلى مصر فالتفت إلى عمي أسد الدين شيركوه فقال تجهز يا يوسف فقلت والله لو أُعطيت ملك مصر ما سرت لها فلقد قاسيت بالإسكندرية وغيرها ما لا أنساه أبدا). وتحت إصرار نور الدين زنكي وعندما أجبر أخيرا صلاح الدين على المسير مع عمه أسد الدين إلى مصر كان بغير رغبة منه لدرجة أن صلاح الدين وصف حاله وكأنما هو يساق إلى الموت. ويقال إنه بسبب استشعار صلاح الدين لخطورة أن يقاتل الصليبيين وظهره مكشوفا للأعداء كما حصل في حصار بلبيس وحصار الإسكندرية توصل إلى قناعة ضرورة الاستيلاء على حكم مصر وسحبها من يد الدولة الفاطمية الشيعية. 

 أوقات عصيبة في ساحة الجهاد

بعد سنوات قليلة من استقرار زمام الحكم في مصر للسلطان صلاح الدين وتمكنه من تأسيس الدولة الأيوبية استطاع خلال معارك متعددة انتصر فيها جميعا وبشكل متدرج من توسعة دائرة حدود ملكه لتشمل كامل بلاد الشام وشمال العراق واليمن وتونس وأطراف ليبيا. وأخيرا كان لا بد من تبدأ فصول المعركة الحاسمة مع أهل الصليب ولكن للأسف ربما لم يكن بعد صلاح الدين ولا رجاله مستعدين لها بالشكل المطلوب. في الواقع بعد نصر سريع وسهلة في مدينة عسقلان تعرض صلاح الدين والجيش الإسلامي لامتحان حقيقي في معركة تل الجزر بالقرب من مدينة الرملة وبعد أن تعرض صلاح الدين في شبابه لأهوال حصار مدينة الإسكندرية على يد ملك بيت المقدس عموري الأول إذا به الآن وفي موقعة الرملة يتقابل مع ولده بلدوين الرابع ملك بيت المقدس وقائده الخطير أرناط أمير الكرك. لقد تعرض صلاح الدين وجيشه لهزيمة ثقيلة في تلك المعركة لدرجة أنهم ظنوا أن صلاح الدين قد قتل وبالفعل أستشهد وتم أسر بعض إخوانه وأقاربه بالإضافة لعدة آلاف من المجاهدين. وفي الواقع كانت تلك هزيمة شنيعة حتى وإن سماها المؤرخ بهاء الدين ابن شداد في كتابه عن سيرة صلاح الدين (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية) بأنها (كسره) ومع ذلك قال إن الله سبحانه وتعالى في معركة الرملة قدّر كسرتهم فانكسروا كسرة عظيمة. في الحقيقة كارثة هزيمة تل الجزر حصلت عام 573 هـ أي بالضبط قبل عشرة سنوات من النصر الكبير للمسلمين في معركة حطين ولكن للأسف لا يمكن اعتبار محطة الانكسار تلك مرحلة نادرة لن تتكرر وأنها فقط حصلت في بدايات جهاد صلاح الدين رحمة الله ضد الفرنجة. بل أن الهزيمة الأخطر التي تلقاها صلاح الدين وجيشة كانت بعد النصر الكبير في معركة حطين وبعد شرفه الله باستعادة بيت المقدس.

في الواقع بعد أن استعاد الملك العادل صلاح الدين بيت المقدس يمكن أن نعتبر تلك اللحظة هي إرهاصات بداية الحروب الصليبية الثالثة وذلك عندما تداعى الفرنجة والنصارى لاستعادة القدس وفلسطين من أيد المسلمين. ولهذا في عام 587 هجرية وصل الملك الإنجليزي ريتشارد الأول (ريتشارد قلب الأسد) إلى مدينة عكا وسيطر عليها وهنا بدأت المشاكل الضخمة لصلاح الدين. فأولا قام الملك الإنجليزي بتنفيذ مجزرة شنيعة ضد المسلمين في عكا مما تسبب في حرج بالغ لصلاح الدين ولاحقا خسر صلاح الدين معركة حربية أمام ريتشارد اسمها معركة أرسوف وثالثا أصابت صلاح الدين رحمة الله نوع من الإهانة والانشقاق الداخلي فيما يتعلق بالمحافظة على مدينة عسقلان. ما حدث أنه مع بداية الحملة الصليبية الثالثة استطاع الملك ريتشارد الأول وملك فرنسا فيليب استطاعوا السيطرة السريعة على بعض المدن الساحلية المهمة مثل عكا ويافا وهنا أستشعر صلاح الدين الخطر البالغ فيما لو سقطت كذلك قلعة مدينة عسقلان. في كتاب الكامل في التاريخ لابن الثير توثيق للمحادثة بين صلاح الدين وبين الأمراء وقواد جيشه وكيف أنه طلب منهم أن يذهبوا لتحصين قلعة عسقلان لكيلا تقع في أيد الفرنج لكنهم رفضوا ذلك وخافوا أن يقتلوا كما حصل لأهل عكا. بل إنهم قالوا لصلاح الدين (إن أردت حفظها فادخل أنت معنا أو بعض أولادك الكبار وإلا فما يدخلها منا أحد) وبهذا تم أجبار صلاح الدين على أن يوافق على يقوم المجاهدون بأنفسهم تخريب حصن عسقلان وكذلك تخريب حصن مدينة الرملة.

وبالجملة كان لصلاح الدين رحمة الله شهرة أسطورية كبرى عندما حقق النصر في معركة حطين ومن ثم أصبح لجدارة تامة يلقب بـ (محرر المسجد الأقصى) ولفترة من الزمن كان يلقب كذلك بـ (قاهر الصليبيين). ولكن للأسف فالمؤرخ الأمريكي المعاصر توماس مادن والمتخصص في الحروب الصليبية يقول إنه بسبب النجاح النسبي للحملة الصليبية الثالثة فإن (معظم انتصارات صلاح الدين في أعقاب معركة حطين تم مسحها).

أما وقد صلت معي أيه القارئ الكريم إلى هذه المحطة في سيرة محطات الانكسار في مسيرة المجاهد الأكبر والبطل الأشهر السلطان العادل صلاح الدين الأيوبي أود أن أنبه أن الهدف من السرد السابق ليس الاستنقاص من نصاعة تاريخ الجهاد والنضال لشيخ المجاهدين (كما حاول ذلك الكاتب المأزوم يوسف زيدان أخزاه الله). ولكن الهدف الأساسي هو التماس العذر للمجاهدين في أرض فلسطين في الزمن المعاصر أنهم قد تمر عليهم لحظات الضعف والهزيمة والانكسار كما هو حال جميع المجاهدين والأبطال في كل التاريخ بل إنهم قد يخسرون بعض المعارك ولكنهم في خاتمة المطاف ينتصرون بمشيئة الله في حرب الكرامة والنضال.

وفي الختام أود أن أوكد بأن أرض فلسطين بالذات كانت دائما أرض الملاحم والمعارك الكبرى ومن ذلك مثلا أنه في عام 614م حصلت معركة كبرى بين الفرس بقيادة الملك خيسرو الثاني وبين الروم بقيادة الإمبراطور البيزنطي هرقل ونتج عن ذلك سقوط القدس في يد المجوس والغالب والله أعلم أنه هذه الهزائم التي نكب بها النصارى هي التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة الروم (الم * غُلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون).

وهذا ما حصل فكتب التاريخ تقول أن الإمبراطور الشاب هرقل الذي ذاق طعم الهزيمة ذاق طعم النصر بعد ذلك بسنوات قليلة إذ أخذ ينتصر في معارك متلاحقة ضد الفرس. وبالتحديد في عام 629م استطاع هرقل أن يعيد انتزاع بيت المقدس من الاحتلال الفارسي المجوسي له وفي هذه الفترة تقريبا حصل صلح الحديبة وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة إلى هرقل عظيم الروم يدعوه للإسلام. في هذا التوقيت كان أبو سفيان في دمشق وهنا استدعاه هرقل لكي يسأله عن هذا النبي الذي ظهر في بلاد العرب وقد كان من ضمن أسئلة هرقل لأبي سفيان: (كيف قتالكم إياه؟ فقال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منّا وننال منه) وبعدها كان رد الإمبراطور هرقل بقوله (وسألتك كيف كان قتالكم إيّاه؟ فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة).

ويبدو أن هذا قدر المجاهدين في أرض الرباط والملاحم في فلسطين الحرب بينهم وبين عدوهم حرب سجال وتداول للنصر والهزيمة، ولكن في خاتمة المطاف العاقبة للمؤمنين والمجاهدين الصابرين بمشيئة الله (في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

 

( الأنفاق سلاح الخلاص من سايغون إلى سراييفو )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 قديما مرت علي القصة الطريفة التي تذكر أن الملك فيصل رحمة الله أثناء تسليمه لكأس الملك لفريق نادي الإتحاد قام بإطلاق وصف (خط ماجينو) على حارس نادي الإتحاد القديم تركي بافرط وذلك لمهارته الفائقة في صد هجمات الفريق المنافس. وخط ماجينو يقصد به التحصينات الدفاعية والقلاع الخرسانية التي أنشأتها فرنسا بطول حدودها مع عدوها اللدود ألمانيا وعلى خلاف (خط بارليف) الإسرائيلي والذي هو عبارة عن ردم ترابي هائل ثبت بالفعل أن خط ماجينو لا يمكن عبوره ولهذا عندما غزا النازيون فرنسا في بدايات الحرب العالمية الثانية تجنبوا تماما هذه العقبة العسكرية المنيعة. وفي الواقع خط بارليف الصهيوني أقيم فوق الأرض ولهذا تم بواسطة دفع خراطيم المياه (تجريف) الأسطورة الإسرائيلية بأنه يستحيل عبوره وذلك لأن لا جذور له تحت الأرض في حين أن خط ماجينو وبالرغم من أنه مكون من خمسين قلعة خرسانية مصغرة إلا أن أحد أسباب قوته وصموده أن هذه القلاع كلها مرتبطة تحت الأرض بشبكة واسعة وعميقة من الأنفاق التي تسمح بنقل الذخيرة الحربية والجنود بينها بسرعة وسرية تامة.  

وإذا كانت الحرب العالمية الأولى تسمى (حرب الخنادق Trench Warfare) فإنه على نفس النسق نجد أنه من الأوصاف التي يمكن إطلاقها على الحرب العالمية الثانية بأنها (حرب الأنفاق Tunnel Warfare) وذلك لكثرة استخدام نظام الإنفاق تحت الأرض في العمليات العسكرية سواءً بهدف الدفاع أو الهجوم وبالمناسبة يمكن تسمية الحرب الباردة بأنها (حرب الملاجئ Bunker Warfare) بسبب شيوع استخدام الملاذات المحصنة تحت الأرض التي يمكن أن تساعد في النجاة حتى من الحرب النووية !!.

وعلى كل حال منذ العصور القديمة تم استخدام الإنفاق الطبيعية مثل أو الكهوف والمغارات أو الإنفاق المحفورة بشكل متعمد لتكون أحد الوسائل الحربية والتكتيكات العسكرية التي يمكن أن تستخدمها الجيوش النظامية أو الجماعات المسلحة. صحيح أن الاستخدام الفعلي لمصطلح (حرب الأنفاق) لم يظهر ويشيع استخدامه إلا في الحرب العالمية الثانية وذلك أثناء حرب المقاومة الصينية ضد الاحتلال الياباني إلا أن هذا المبدأ موجود منذ القدم. فهذا المؤرخ اليوناني بوليبيوس يصف حصار الرومان لمدينة أمبراسيا اليونانية العتيقة وكيف أن هجومهم عن طريق حفر الأنفاق تم مواجهته بهجوم مضاد تمثل ليس فقط في استخدام المدافعين عن أمبراسيا سلاح الأنفاق المضادة ولكن أيضا باستخدام الشكل البدائي من (الحرب الكيميائية) وذلك من خلال تعمدهم توليد دخان كثيف داخل النفق الروماني بواسطة اشعال ريش الطيور مع الفحم.

ولطالما كانت حروب الأنفاق مرتبطة بالأخبار الفريدة والعجيبة فهذه مدينة نوشاباد الإيرانية نجدها هي الأخرى ومنذ أكثر من 1500 وهي محصنة بسلسلة من الأنفاق الدفاعية لدرجة أنها أصبحت مدينة من ثلاث طوابق مشيدة تحت الأرض. وبالإضافة لاستخدام متاهة من الأنفاق التي تتسبب في ضياع وحيرة المهاجمين على مدينة الأنفاق تلك قام أهلها كذلك بحفر أنفاق عميقة داخل الغرف الداخلية يتم تغطيتها بحجارة دوارة التي تسقط إذا تم المشي عليها وهي بهذا تذكرنا بتلك المقاطع الطريفة التي تشاهد في الأفلام السينمائية وأفلام الرسوم المتحركة عن مثل هذه الفخاخ الخطيرة. وطبعا غني عن القول إن هذه الأنفاق العجيبة أصبحت اليوم مزارا سياحيا وسبب شهرة واسعة لتلك المدينة الفارسية الصغيرة والمعزولة.

أما أشهر وأكبر (مدينة أنفاق) على الإطلاق فهي تلك الموجودة في وسط منطقة الأناضول في تركيا وتسمى مدينة الجن لأنها مدينة في باطن الأرض واسمها باللغة التركية مدينة ديرنكويو والتي تعني (مدينة البئر العميق). وإذا كانت مدينة نوشاباد الإيرانية مكونة من ثلاث طبقات تحت الأرض فهذه المدينة التركية مكونة من تسع طبقات ولهذا يصل عمقها تحت الأرض إلى 85 متر. ومن عجائب مدينة الأنفاق هذه ليس فقط عمقها السحيق، ولكن كثرة الأنفاق بها لدرجة أن تلك المدينة المخسوفة تحت الأرض التي تعود بدايات تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي وصل بها الحال في فترة من الفترات أنها كان بإمكانها أن تستوعب حوالي 20 ألف ساكن. ونظرا للحجم الهائل لتلك المدينة تحت الأرض كان بها غرف ضخمة تستخدم كإسطبلات للحيوانات أو كنائس للعبادة أو مستودعات لتخزين الطعام ولهذا لقرون طويلة جدا كانت تلك الأنفاق وسيلة دفاع فعالة للنصارى في حروب البيزنطية مع الخلافة الإسلامية أو للاختباء والاحتماء من هجمات المغول.

وإذا كان برابرة آسيا في القديم هم جحافل المغول فإن همج أوروبا في تلك العصور هم جحافل الفايكنغ وبدورهم عندما غزوا فرنسا في القرن التاسع الميلادي هرب الناس منهم إلى الكهوف والجبال وكان من ضمن ذلك أنفاق مدينة ناورس في شمال فرنسا. ومرة أخرى نجد هنا مدينة متكاملة تقع تحت الأرض بها حوالي 300 غرفة وعدة أميال من الإنفاق وكانت تتسع لسكن وإقامة ثلاثة آلاف شخص.

 دروس الأنفاق من فيتنام إلى سراييفو

ما سبق الحديث عنه يعطي انطباع واضح عن الدور الذي يمكن أن تقوم به الإنفاق تحت الأرض في الدفاع عن السكان من هجمات جيوش الأعداء أو غارات اللصوص والبرابرة، ولكن يمكن أن تستخدم الأنفاق كذلك كسلاح فعال في العمليات القتالية والتكتيكات الهجومية العسكرية. في شمال الصين توجد قرية صغيرة اسمها رانزهوانج اشتهرت بوجود أنفاق تحت الأرض استخدمها المناضلون من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني أثناء مقامة الاحتلال الياباني للصين. وكانت الفكرة من هذه شبكة الأنفاق هذه أنها توفر عددا كبيرا من الفتحات في أرض المعركة وبحكم أن هذه الفتحات مموهة ومخفية بالقش أو بالشجيرات فيمكن أن يخرج منها فجأة رجل (حركة المقاومة) الصيني ويقتل عدوه الياباني. ونظرا للمهانة التي تعرضت لها الصين من قبل جارتها الإمبراطورية اليابانية سواء قبل الحرب العالمية الثانية عن طريق غزو إقليم منشوريا أو أثناء الحرب اليابانية الصينية الثانية التي تزامنت مع الحرب العالمية الثانية حرص الحزب الشيوعي الصيني كثيرا على إبراز دور حرب الأنفاق تلك لدرجة أنها أصبحت مزارا للشعب الصيني لتعزيز الكرامة الوطنية. ولهذا وبشكل دائم تنظم الزيارات لطلاب المدارس ولعامة الشعب لزيارة المتحف الخاص بتلك الأنفاق وكذلك عن طريق إنتاج أفلام سينمائية عالية الجودة حمل أحدها اسم (حرب الأنفاق).

أسلوب الهجوم المباغت من تحت الأرض باستخدام شبكة الأنفاق استخدمته كذلك (حركة المقاومة) الفيتنامية أثناء قتالها للجيش الأمريكي المحتل لأرض فيتنام الجنوبية. وبمناسبة ذكر الأفلام السينمائية عن حرب الأنفاق تجدر الإشارة إلى وجود فليم غربي يحمل عنوان (جرذان الأنفاق) تدور أحداثه عن فرقة عسكرية أمريكية حقيقة ذات تدريب خاص في القتال تحت الأرض كان اسمها فرقة (جرذان الانفاق) ربما على نفس نسق الفرقة الحربية الإنجليزية المشهورة (جرذان الصحراء). عندما قام إخوتنا في (حركة المقاومة) الفلسطينية بتخطيط القائد الميداني محمد الضيف بهجومهم المباغت في صباح يوم السبت السابع من شهر أكتوبر كان ذلك يتوافق مع عيد ديني يهودي اسمه (سمحات توراه) ولهذا كان البعض من القوم من أهل صهيون يقيمون الحفلات الصاخبة. بعض أفراد الجهاد الفلسطيني استخدموا الأنفاق لمباغتة العدو الصهيوني والخروج عليهم من تحت الأرض وهذا التكتيك الحربي له مشابه في أحداث الحرب الأمريكية الفيتنامية واستخدام الأنفاق كسلاح هجوم.

في صبيحة يوم 29 يناير من عام 1968م قام الثوار الفيتناميون المعرفون باسم الفيت كونج وبتخطيط من قبل الجنرال الشهير فو جياب بهجوم عسكري كبير تزامن هو الآخر مع عيد ديني فيتنامي يتوافق مع بداية السنة القمرية. بقي أن نقوم أن ذلك الهجوم المفاجئ الفيتنامي الذي بدأ في يوم 29 يناير المشابه للهجوم المفاجئ الفلسطيني في يوم السابع من أكتوبر، شهد اقتحام عدد ضخم من المواقع العسكرية الأمريكية والصهيونية وتسبب في تكبد كلا من الجيش الأمريكي قديما والجيش الصهيوني حديثا خسائر هائلة في أرواح الجنود والمعدات العسكرية. في حال كان (تاريخ المقاومة) يعيد نفسه فقد ساعدت شبكة الأنفاق الفيتنامية المسماة أنفاق كوتشينغ المنطلقة من مدينة سايغون عاصمة الجنوب الفيتنامي وبذلك الهجوم المباغت في خلخلة التواجد العسكري الأمريكي في فيتنام لدرجة نشوء بداية التفكير الجدي من قبل الأمريكان في مغادرة المقبرة الفيتنامية. ولهذا بمشيئة الله سوف يكون لشبكة الأنفاق الفلسطينية المنطلقة من مدينة غزة عاصمة الجنوب الفلسطيني دورها التاريخي وبصمتها العسكرية في (بداية) هزيمة جيش ودولة وشعب الكياني الصهيوني الأثيم.

في عام 1993م وأثناء حرب البوسنة قامت القوات الصربية بفرض حصار خانق لمدينة سراييفو وكوسيلة لتخفيف معاناة المحاصرين قام أهل البوسنة بحفر نفق يبلغ طوله 840 مترا فقط ومع ذلك قلب ذلك النفق المفرد موازين المعركة حيث كان يتنقل من خلاله يوميا أكثر من 3000 جندي بالإضافة لعشرات الأطنان من المواد الغذائية والذخائر. ونظرا للدور الحاسم لذلك النفق الوحيد في خلاص ونجاة أهل سراييفو لذا لا غرابة أن نعلم بأن ذلك النفق كان يلقب بنفق الحياة أو نفق الأمل أو نفق الخلاص. وعليه بوجود شبكة متشعبة من الأنفاق تحت قطاع غزة قد تزيد عن 2500 نفق وبمجموع أطوال يفوق 500 كيلومتر وفي جميع الاتجاهات نأمل بمشيئة الله أن تكون هذه الأنفاق هي سلاح الخلاص وطريق الأمل ووسيلة تحقيق حياة العزة والكرامة لأهلنا في فلسطين أرض الجهاد والرباط.

 

( زيارة لحارة اليهود )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في تاريخ العلوم الجيوسياسية تغيرت منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط بشكل هائل في عام 1948م وذلك بعد الإعلان الأثيم عن ولادة الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي وعليه تغير شكل الخارطة الجغرافية. وفي نفس التوقيت وفيما يخص الديموغرافيا السياسية حصل تغيرا كبيرا في طبيعة التركيبة السكانية لأهل المنطقة نتيجة للأحداث السياسية والصراعات المسلحة التي أفرزت الهجرة والهجرة المعاكسة.

كلنا يعلم بأن (التغريبة الفلسطينية) الأليمة حصلت أثناء حرب 48 عندما قامت عصابات الهاجاناه الصهيونية بترويع سكان المدن والقرى الفلسطينية ودفعهم للهجرة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ودول الطوق العربي. ولكن في الواقع نغفل أحيانا بأن عملية تهجير العرب في (التغريبة الفلسطينية) كانت تقريبا متزامنة مع هجرة معاكسة لليهود من الدول العربية إلى الكيان الإسرائيلي فيما عرف باسم هجرة (الخروج الثاني لليهود Second Jewish Exodus). ويقصد بذلك تكرار هجرة وخروج اليهود من أرض مصر إلى أرض فلسطين كما حصل في زمن نبي الله موسى عليه السلام في الهجرة الأول وإن عملية الإبعاد والتهجير للجاليات اليهودية المقيمة في الدول العربية بعد حرب 48 وكأنها الهجرة الثانية لليهود.

الغريب في الأمر أن الهجرة العربية والهجرة المضادة العبرية التي حصلت بعد عام 1948م لها أعداد متقاربة فالتقديرات التاريخية تشير إلى أن حوالي 700 ألف عربي ممن خرجوا من فلسطين أصبحوا لاجئين في الدول العربية وفي المقابل حوالي 800 ألف يهودي تم تهجيرهم من الدول العربية إلى أرض فلسطين بالدرجة الأولى.

في الواقع وفي غفلة من الشعوب العربية وبمؤامرة دنيئة من الدول الاستعمارية التي كانت تحتل أغلب بلدان المنطقة حتى إلى ما بعد منتصف القرن العشرين، في هذه الأجواء من حالة الضياع العربي حصلت عملية تهجير (اليهود العرب) إلى أرض فلسطين. وفي الوقت الذي حصل التخاذل من قبل الأنظمة العربية في إيقاف تهجير الشعب الفلسطيني نجد أن بعضها يتعاون أو يغض النظر عن عملية هجرة اليهودي إلى فلسطين مثل عملية الإخلاء التي نفذتها الوكالة اليهودية عام 1949م لتهجير حوالي 50 ألفا من يهود اليمن. مؤامر عجيبة كأنها من نسج الخيال تلك التي نفذتها الصهيونية واشترك فيها الاحتلال الإنجليزي في عدن وبمباركة من حاكم اليمن الإمام أحمد بن حميد الدين بتسهيل تهجير يهود اليمن إلى أرض فلسطين ولهذا لا غرابة أن نعلم أن تلك الحادثة حملت اسم (عملية بساط الريح).

والأغرب من ذلك أن (الذاكرة الجمعية) للأمة العربية تلاشى منها بشكل شبه كامل أخبار تهجير أو خروج exodus مئات الآلاف من اليهود العرب إلى أرض فلسطين

لدرجة أنه من المحتمل أن عملية (عزرا ونحميا) ساهمت في نقل حوالي 120 ألف يهودي عراقي إلى أرض فلسطين. وكأنهم بذلك يكررون عودة اليهود من العراق إلى فلسطين كما حصل في زمن الملك الفارسي قورش الأول في القرن الخامس قبل الميلاد عندما سُمح ليهود السبي البابلي بالعودة إلى وطنهم الأم وبحكم أن تلك الهجرة القديمة قام رجلان اسمهما عزرا ونحميا بقيادة الشعب اليهودي من العراق إلى فلسطين فلهذا تم تسمية عملية التهجير والتسفير اليهودية باسميهما. وكما ساعد وسهل الاحتلال الإنجليزي لليمن والعراق ومصر في هجرة اليهود العرب إلى أرض فلسطين سهل كذلك الاحتلال الفرنسي هجرة يهود المغرب والجزائر وتونس إلى أرض فلسطين لدرجة أنه يقال بأن الجزائر كان بها حوالي 140 ألف يهودي لم يبق منهم إلا أقل من خمسين شخصا.

صحيح أن اليهود العرب ما زال يمكن مشاهدتهم في جزيرة جربة التونسية أو في حي الملاح (الدرب اليهودي) في مدينة الدار البيضاء المغربية ولكن في الواقع عدد اليهود التوانسة أو اليهود المغاربة لا يزيد عن ألفي شخص في كل دولة. وفي المقابل تلاش اليهود بشكل كلي تماما من أغلب الدول العربية لدرجة انه أصبح من المستغرب الآن أن نعلم بأنه كان في السابق يوجد يهود عراقيون أو سوريون أو ليبيون فضلا عن وجود يهود كويتيون أو بحارنة أو عمانيون. بالمناسبة حتى زمن ليس بالبعيد كان يوجد في منطقتنا المحلية مجموعة من اليهود في منطقة الأحساء واستمر وجودهم حتى عام 1913م أي زمن ضم ذلك الإقليم للدولة السعودية الثالثة. ولعشاق الأدب توجد رواية عنوانها (الليدي تالين) للكاتب السعودي فوزي صادق محور أحداثها الرئيس عن يهود الأحساء وهم عبارة عن بعض عشرات من العوائل اليهودية التي كان تسكن في منطقة السنود في وسط مدينة الهفوف ولهذا كانت تلك المنطقة قديما تعرف باسم (حارة اليهود).

اليهودي العربي من جار إلى عدو

في حين أن رواية (الليدي تاين) الصادرة عام 2015م هي تقريبا أحدث رواية عربية تدور أحداثها ضمن (حارة اليهود) نجد أن إحدى أقدم الروايات العربية التي ارتبطت بحارة اليهود كان بالفعل عنونها المباشر (حارة اليهود) وهي رواية الأديب المصري الكبير نجيب الكيلاني رحمة الله والتي أصدرها عام 1981ميلادي. في عام 1848م زار الرحالة اليهودي بنيامين هشيني مدينة دمشق وذكر بأنه يسكنها ما يقارب 600 عائلة يهودية والبعض يقول بأن عدد اليهود في دمشق ربما وصل في وقت ما إلى حوالي 30 ألف يهودي وقد كان لهم فيها 22 كنيسا ومعبدا وبالتالي ربما في الواقع كان لليهود أكثر من حارة واحدة في دمشق فقد كانوا موزعين بين حي جوبر وحي باب شرقي وأكبر حارة لهم كانت في حي الأمين.

وبالعودة إلى رواية (حارة اليهود) لنجيب الكيلاني تجدر الإشارة إلى أن العنوان البديل لتك الرواية هو: (دم لفطير صهيون) وهي مبنية على قصة حقيقة وقعت في عام 1840م في حارة اليهود في مدينة دمشق. وقد ذكر الروائي نجيب الكيلاني أنه اطلع على وثائق وصور التحقيق في حادثة اختفاء ومقتل القسيس المسيحي الأب توما في حارة اليهود وكيف أنهم استدرجوه هو وخادمة ليقتلوهما بغية الحصول على دمائهم لتحضير نوع من خبز الفطير الذي يوزعه الحاخامات على الأسر اليهودية في عيد الفصح. وعلى كل حال وبالرغم من حالة التعايش السلمي والتداخل الاجتماعي لقرون طويلة بين الطوائف الدينية المسلمة والمسيحية واليهودية في الشام إلا أنها كانت لا تخلو من حزازات وشكوك وإشاعات متبادلة.

وهذا يقودنا للحديث عن (حارة اليهود) ولكن في مدينة حلب السورية هذه المرة ويبدو أنه كانت توجد حالة من التشكك والخوف العام من غدر اليهود ولهذا يذكر الفقيه والعالم السوري مصطفى الزرقا أنهم وهم صغار عندما كانوا يعشون بمدينة حلب في بداية القرن العشرين كانت الأمهات يمنعن أولادهن الصغار من الخروج وحدهم حتى لا يخطفهم اليهود لكي يذبحونهم ويستنزفوا دمائهم. كما يذكر الشيخ الزرقا أنهم عندما أصبحوا في مرحلة المراهقة كانوا يتم تحذيرهم كذلك بأن لا يدخلوا حارة اليهود وألا يمروا بهم منفردين وأنه إذا داعهم يهودي لدخول بيته لإيقاد النار بحجة أنهم لا يمسون النار في يوم السبت فكانوا ينصحون بأن لا يستجيبوا لذلك كنوع من الحذر ألا يُغدر بهم في حارة اليهود لأجل قتلهم وأخذ دمائهم.

ومع ذلك يجب أن نقول إنه بالجملة في أغلب التاريخ العربي والإسلامية كانت العلاقة طيبة وطبيعة بين اليهود والعرب بدليل أنه عندما حصل التضييق على اليهود في الأندلس من قبل النصارى هاجرت أعداد كبيرة منهم إلى العالم العربي ومن أبرزهم الفيلسوف والطبيب اليهودي المشهور موسى بن ميمون والذي ولد في قرطبة ثم تنقل بين المدن العربية في فاس والقدس والقاهرة. وإذا انتقلنا من حارتي اليهود الدمشقية والحلبية إلى حارة اليهود في القاهرة نجد أنه حتى اليوم أحد أبرز المعالم التاريخية فيها هو كنيس ومقام موسى بن ميمون لأنه توفي ودفن في حارة اليهود المصرية. بقي أن نقول بأن الفيلسوف وعالم التوراة موسى بن ميمون كان بارعا جدا في مهنة الطب لدرجة أنه كان الطبيب الخاص لصلاح الدين الأيوبي وهذا مؤشر أن علاقة العرب باليهود في ذلك الزمان كان يسودها الثقة في التعاملات التجارية (كانت القاهرة مركز التجار اليهود الذين عن طريقهم تتم المتاجرة مع البندقية وجنوه الإيطالية) والمعالجات الطبية لدرجة أن سلطان المسلمين وملكهم الأيوبي لم يكن يغشى أن يقوم طبيبه اليهودي بتسميمه أو تصفية دمه.

بقي أن أقول في الختام إنني سبق وإن زرت مدينة القاهرة أكثر من خمس مرات في سنوات مختلفة وبهذا مررت على أغلب معالمها السياحية وفي الوقت الحالي وأنا في زيارة جديدة لأرض مصر المحروسة مع كوكبة من الزملاء الأفضال وبسبب إفتتاني الدائم بمعالم القاهرة الفاطمية، لذا رغبت في زيارة من نوع خاص لذلك المكان الساحر وذلك من خلال زيارة (حارة اليهود) في حي الجمالية. والدافع في الحقيقة لزيارة حارة اليهود هو كنوع من العزاء الروحي لما يقع هذه الأيام لأخوتنا في أرض فلسطين وذلك للتفكير المتأمل أن الواقع السياسي والاجتماعي والديموغرافي يمكن أن يتغير في زمن قصير نسبيا. يقال إنه حتى لحظة الإعلان عن قيام الكيان اليهودي الغاصب في عام 1948م كان يوجد بأرض مصر حوالي 80 ألف يهود وقطعا حارة اليهود بالقاهرة كان يقيم بها الآلاف منهم. وحتى عام 1956م كان اليهود أغلبية كاسحة في تلك الحارة وبعد تهجيرهم بعد حرب 56 لم يبق منهم إلا المئات وأخيرا قبل سنوات قليلة مضت توفي آخر شخص يهودي كانت تعيش في حارة اليهود.

وعليه بعد أن تلاشى كل أولئك الـ 80 ألف يهودي من مصر و140 ألف يهودي من العراق و120 ألف يهودي من الجزائر و50 ألف يهودي من اليمن و105 ألف يهودي من تونس بل وحتى ذلك الرقم العجيب المتمثل في تلاشي الربع مليون يهودي من المغرب ليتبقى منهم ألفين فقط، فهل يمكن في مستقبل الأيام أن تقر أعين وتهدأ قلوب إخوتنا في فلسطين عندما يتقلص عدد اليهود في أرض الجهار والرباط إلى أعداد لا تذكر.

من كان يعيش من العرب قبل عام 1948 بالقرب من حارة اليهود في بغداد أو دمشق أو القاهرة ربما كان يستبعد تماما أن يتلاشى اليهود من الدول العربية في غضون سنوات قليلة ولكن هذا ما حدث فهل يمكن بالفعل بعد سنوات قليلة تتحقق نبوءات ومخاوف بعض اليهود بأن دولتهم وسطوتهم وحكمهم سوف يتلاشى عندما تحل عليهم (لعنة العقد الثامن). فكما هو معلوم قبل حوالي سنة حذّر الصهيوني إيهود باراك رئيس الوزراء السابق للكيان الغاصب من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الثمانين لها وفيما أنا أمشي في أزقة حارة اليهود بوسط القاهرة وهي خالية تماما منهم أتمم في نفسي باحتمالية أدراك (بداية) تلاشي حكمهم من أرض فلسطين والله غالب على أمره ولو كره الكافرون (فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا).

 

( المأساة الفلسطينية في روايات الأدب الغربي والعبري )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 القضية الفلسطينية عنوان القضية العادلة وإن كان بعض المحامين من أهلها فشله إلا أنه كثيرا ما يقيض الله لها محامين من الأغراب فمثلا هذا المفكر الأمريكي (اليهودي) المعروف نعوم تشومسكي قام بتأليف حوالي أربعة كتب خصصها عن فلسطين والقضية الفلسطينية كان أحدها بعنوان (غزة في أزمة) ينتقد فيه بشدة العمليات العسكرية الصهيونية وأضرارها الإنسانية على أهل غزة. وبدرجة أقل في دعم القضية الفلسطينية، ولكن بصورة أكثر غرابة نجد أن الضابط الإسرائيلي نير كوهين وهو برتبة رائد في جيش العدو وبالرغم من أنه حمل السلاح للدفاع عن الكيان الصهيوني إلا أنه مع ذلك ألّف كتابا حمل عنوان (أحب إسرائيل وأدعم فلسطين). ونظرا لتبني الإسرائيلي نير كوهين لأفكار التعايش السلمي وبحكم أنه يعتبر نفسه ناشطا في مجال حقوق الإنسان لهذا تحول مع الزمن لمعارض للاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين. لا شك أن لهذا الضابط الإسرائيلي معارضة حادة للحكومات الإسرائيلية دفعته لمحاولة الكشف عن جرائم الجيش الصهيوني وهو بهذا يتعاطف بشجاعة مع الضحية في مقابل الجلاد.

بقي أن نقول إن تكملة عنوان الكتاب الذي ألفه نير كوهين عن الصراع العربي الإسرائيلي هو: أحب إسرائيل وأدعم فلسطين (قصة إسرائيلية An Israeli Story) بمعنى أن الكاتب سوف يسرد ويذكر القصة من زاوية نظر الراوي الإسرائيلي المشاهد للأحداث. وفي الواقع نشر قبل فترة قصيرة كتاب أشبه برواية أدبية تحوي سردية من وجهة نظر فلسطينية (قصة فلسطينية A Palestine Story) عن الأبعاد المأساوية للصراع الدائم في أرض فلسطين. ذلك الكتاب الروائي كان من تأليف الصحفي الإسرائيلي ناثان ثرال وحمل عنوان رئيسي (يوم في حياة عابد سلامة) والعنوان الفرعي له هو (تشريح لمأساة القدس). قصة المأساة الفلسطينية الواردة في ذلك الكتاب مبنية على واقعة حقيقة حصلت بالقرب من مدينة القدس في عام 2012م عندما اصطدمت حافلة مدرسية بمؤخرة شاحنة نقل مما نتج عن ذلك الحادث المروري مصرع ثمانية من أطفال الروضة الصغار ومعلمتهم وإصابة العشرات. ولهذا قام الكاتب الإسرائيلي ناثان ثرال بصياغة قصة متخيلة ومستوحاة من تلك المأساة وتدور عن رجل حقيقي يدعى عبد السلام سلامة الذي فقد ابنه الصغير ميلاد في ذلك الحادث. وكيف ظل ذلك الأب لمدة يوم كامل يحاول البحث عن جثمان ابنه الذي نقل لمستشفى داخل إسرائيل والتعقيدات الأمنية والمعاناة الإنسانية التي تعرضت لها أسرة عابد سلامة جراء الصراع والانقسام بين العرب واليهود بسبب جدار العزل العنصري البغيض. وأود تنبيه القارئ العزيز أن تلك المأساة التي حدثت لأطفال المدرسة هي ناتجة عن حادث مروري ومع ذلك قام المؤلف الإسرائيلي بتوظيف هذه الكارثة لمحاولة (تشريح) أسباب الواقع المأساوي لأهل فلسطين. وبالجملة هذا الكتاب المصاغ بأسلوب الرواية الأديبة يهدف إلى تجسيد المعاناة والشقاء الذي يعيشه الفلسطينيون في ظل الاحتلال الصهيوني وذلك من خلال محاولة الكاتب تتبع تفاصيل الحياة اليومية المأساوية للأفراد والعوائل الفلسطينية.

من الأمثلة السابقة للحالة الفريدة والغريبة من تعاطف (بعض) اليهود من المقيمين في إسرائيل وخارجها مع ما يتعرض له أهلنا في أرض فلسطين السليبة يتبين لنا أن (القضية الفلسطينية العادلة) تلقى دائما وأبدا من يتعاطف معها ويناصرها. وهذا ما انعكس في الأسابيع الماضية في المظاهرات غير المسبوقة في ضخامتها وتعددها وتنوعها لنصرة القضية الفلسطينية في مختلف بلدان العالم. وقبل عد سنوات كتبت مقال خاص حمل عنوان (النضال الفلسطيني وتعاطف الغرباء) استعرضت فيه أمثلة عديدة لأشخاص وجماعات ومنظمات من مختلف الجنسيات والدول ليس فقط تعاطفوا وتفهموا ضرورة (النضال) الفلسطيني بل العديد منهم شارك في الحرب ضد الاحتلال الصهيوني وبعضهم قتل وبعضهم سجن لسنوات طويلة. ونحن اليوم نهدف إلى محاولة رصد صدى القضية الفلسطينية العادلة وانعكاسها في الإعمال الأدبية والقصص الروائية التي تم تأليفها من قبل (بعض) الكتاب الغربيين أو العبريين الذين ناصروا حقوق الشعب الفلسطيني ووظفوا الأدب والرواية في توثيق مآسي أهل فلسطين.

 أدب عبري متعاطف مع العربي

لقد كان (أدب المقاومة) أحد وسائل الكفاح التي استخدمها المناضل الفلسطيني والمناصر العربي في حربهما الطويلة مع العدو الصهيوني الغاشم ولهذا عبر العقود الزمنية السابقة ظهرت العديد من الأعمال الأدبية العربية عن مأساة الشعب الفلسطيني. ونخص بالذكر هنا الروايات القصصية التي ناقشت التهجير القصري للفلسطينيين خلال نكبة عام 1948 والتي يصفها البعض بـ (التغريبة الفلسطينية) ومن أشهر الروايات التي يمكن ذكرها على عجالة رواية عائد إلى حيفا لغسان كنفاني ورواية البحث عن وليد مسعود لإبراهيم جبرا إبراهيم ورواية زمن الخيول البيضاء لإبراهيم نصر الله ورواية المتشائل لإميل حبيبي ورواية الطنطورية لرضوى عاشور وغيرها كثير. والغريب أن أغلب روايات (التغريبة الفلسطينية) حديثة نسبيا في تاريخ صدورها حيث إن أغلبها ظهرت بعد عام 2000م وأقدم رواية منا هي رواية عائد إلى حيفا التي صدرت في عام 1969م أي بعد النكسة بالرغم أن أحداث الرواية تدور في زمن النكبة.

في الواقع غير مفهوم تأخر الأدباء العرب في توظيف الروايات والأعمال الأدبية في خدمة القضية الفلسطينية العادلة وفي المقابل تعجب كيف أنه في عام 1962م أصدرت الأديبة الإيرلندية إيثيل مانين رواية خاصة عن النكبة الفلسطينية حملت عنوان (الطريق إلى بئر السبع). تبدأ تلك القصة بداية دراماتيكية ودرامية مزدوجة حيث نحبس أنفاس الإثارة وعبرات ودموع التأثر ونحن نتابع أحداث هروب طفل الفلسطيني الصغير يدعى منصور مع عائلته من مدينة اللد في حر الصيف والهلع من قصف الطائرات وبطش جنود الصهاينة وهم يهجرونهم إلى مدينة رام الله قبل ان ينتقلوا للعيش في مدينة أريحا في ظروف تشرد عصيبة.

الطفولة المعذبة جراء الاعتداء الوحشي الصهيوني الذي يسرده ويحكيه بطل الرواية الطفل منصور ذو الإثنى عشر ربيعا نجد إلى حد ما شبيه له مع الطفل الآخر يدعى أحمد بطل رواية (شجرة اللوز) وهو يتطابق مع منصور في نفس العمر (12 سنة) وفي تكرار المأساة. الجدير بالذكر أن مؤلفة رواية (شجرة اللوز) هي كاتبة أمريكية تدعى ميشيل كوهين وهي من أصول يهودية وقد عاشت عدة سنوات في بداية شبابها في أرض الكيان الصهيوني وتخرجت من الجامعة العبرية في القدس. ومع ذلك لهذه الكاتبة اليهودية تعاطف واضح مع المأساة الفلسطينية فنجدها في مطلع تلك الرواية تسرد معاناة الشعب الفلسطيني المحتل ممثلة في أسرة الطفل أحمد حيث يجتاح الاحتلال الصهيوني قريتهم في زمن النكبة. وبالإضافة إلى قمع وترويع سكان تلك القرية يتعرض أحمد لكارثة مقتل أخته الصغيرة بأحد الألغام التي نشرها العدو وكذلك لسجن والده ظلما لمدة 14 سنة.

وبحكم أن مأساة الشعب الفلسطيني متجددة ومتنوعة عبر السنين ففي الواقع أصبحت فاجعة التهجير والتغريبة الفلسطينية قبل حوالي 75 سنة أمر من الماضي الأليم وللأسف استجدت للشعب الفلسطيني مآسي جديدة مثل جريمة (جدار العزل العنصري). وهذا ما انعكس لدى عدد من الروائيين والكتاب الغربيين الذين أصبحوا يركزون أكثر في سرد مأساة الشعب الفلسطيني من خلال معاناتهم مع حالة العزل والحجز الإقصائي لأهل الضفة الغربية بسجنهم معنويا وراء بوابات الحواجز الأمنية وأسوار الجدران الخرسانية الشاهقة. وبالرغم من أن الكاتب الأمريكي تيموثي نيدرمان متخصص في مجال القانون وله اهتمامات صحفية متنوعة ولم يسبق له كاتبة أي أعمال أدبية إلا أن أول رواية فنية يكتبها كان عن المأساة الفلسطينية بعد أن تعاطف معها بشكل كبير. في رواية (جدار الغبار) نجد نيدرمان يوظف جدار العزل العنصري كرمز مكثف لتجسيد المعاناة الفلسطينية وذلك من خلال سرد قصة معلمة فلسطينية تدعى عائشة تسببت طائرة حربية إسرائيلية في مصرع أغلب الطلاب الذين تدرسهم وذلك بعد قصف مدرستهم الابتدائية. ونظرا لرمزية جدار الفصل الإسمنتي الإسرائيلي ودوره في تعميق مأساة الشعب الفلسطيني تقوم المعلمة المفجوعة عائشة والمشوشة عقليا باتخاذ عادة قذف ذلك الجدار بالحجارة وهي تذكر اسماء طلابها واحدا واحدا مع كل الحجارة التي تقذفها. 

القارئ العزيز أود أن أشير بأن رجل القانون الأمريكي تيموثي نيدرمان السالف الذكر ربما استشعر الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني ولهذا كانت روايته الأدبية الأولى عن معاناتهم وكذلك يبدو أن المحامية الأمريكية السيدة تيريزا لوريلا ربما هي الأخرى تعاطفت مع القضية الفلسطينية العادلة ولهذا دافعت عنها من خلال أحداث روايتها الأدبية التي حملت عنوان (حمائم فلسطين The Doves of Palestine). الجدير بالذكر ان الغلاف الخارجي لهذه الرواية يحمل رسمة لطفلة فلسطينية صغيرة تطلق تسع حمامات كانت محبوسة في شنطة سفر ومن ثم تحلق وتطير تلك الحمائم فوق الحاجز الإسمنتي لجدار العزل العنصري.

رواية أدبية إضافية تربط بين فلسطين والانقسام وبين الجدار هي رواية (جدار حي Living Wall ) ومع ذلك ينبغي التنبيه أنها نموذج مختلف للأدب العبري الذي يكون محورة القضية الفلسطينية. ما سبق ذكره ورصده من الروايات العبرية والغربية هي أعمال أدبية لها رسالة واضحة وثيمة محورية تدور حول التعاطف مع المأساة الفلسطينية في حين نجد أن رواية (جدار حي) للكاتبة الإسرائيلية ذات الأصول الإيرانية دوريت رابينيان الخط الدرامي يختلف حيث إن (الجدار) في عنوان الرواية يقصد به الحاجز المعنوي الذي يفصل الفرد الفلسطيني عن الفرد الإسرائيلي وتلك الرواية في الحقيقة تدور عن قصة حب رومانسية بين فتاة إسرائيلية وشاب فلسطيني.

 في التوازي مع الأعمال الأدبية الغربية والعبرية التي تتفهم المأساة الفلسطينية نجد بعض الأدباء الغربيين والعبريين يهتمون أكثر بنشر ثقافة التعايش والتسامح بين الشعب العربي والشعب العبري وبث مفاهيم قبول الآخر والسلام. ومن الطرائف أن الروائي الكندي كولين مالارد من شدة حماسته لفكرة التعايش السلمي ونبذ العنف والصراع حرص أن تكون رسالته واضحة حتى في صفحة عنوان غلاف الرواية. فهو قد كتب رواية بعنوان ينفع للكتب الأكاديمية والتاريخية وليس للروايات الأدبية وقد كان العنوان الذي اختاره كالتالي: (نقطة ثابتة: رواية عن الحرب والسلام والسياسة وفلسطين).

 وفي الختام أود أن أذكر بأنه في تاريخ (الأدب العبري) المعاصر وجدت منذ أكثر من نصف قرن حركة أدبية في الشعر الإسرائيلي تسمى (أدب الاحتجاج السياسي) شارك فيها بعض أشهر وأهم الأدباء اليهود من مثل شموئيل عجنون الحاصل على جائزة نوبل. وبعض هؤلاء الأدباء الإسرائيليين كان لهم موقف ضد المجازر التي وقعت على الشعب الفلسطيني وبعضهم رفض المشاركة في تجميل صورة الحكومات الإسرائيلية من خلال القوة الناعمة للأدب. وعلى كل حال وبحكم أن اليهود والصهاينة ليسوا كتلة صلدة وليسوا على قلب رجل واحد فربما من الملائم الاستعانة بالتيارات الدينية اليهودية مثل حركة ناطوري كارتا التي تعارض نشوء الدولة الصهيونية. أو دراسة ظاهرة بعض التيارات السياسية اليسارية الإسرائيلية التي تحارب توسع المستوطنات الصهيونية وكذلك لعل من الملائم النشر والتعريف بما تطرحه بعض المدارس الأدبية الإسرائيلية من حركة الاحتجاج السياسي أو تبنيها لثقافة التعاطف مع مأساة فلسطين وقضيتها العادلة.