الأربعاء، 29 مارس 2017

( رمزية الجَمل في الثقافات الأخرى )

لماذا تم اختيار اسم ورسمة الجمل في اشهر شركات التدخين العالمية


د/ أحمد بن  حامد الغامدي

لطالما تكرر على أسماعنا عبارة (خصوصية المجتمع السعودي) وبحكم إننا حاليا في أجواء احتفاليات مهرجان مزايين الإبل فقد يتعزز عند البعض أن هذا الكائن الفريد المرتبط بحياة البداوة والصحراء هو ماركة مسجلة فقط لدى العرب الاقحاح. بينما في واقع الحال تشير تقديرات منظمة الأغذية والزراعة الدولية الفاو أن عدد حيوانات الجمال في العالم قد تصل لحوالي 19 مليون أغلبها تربى في دول شرق أفريقيا بينما يوجد منها حوالي نصف مليون جمل في الهند لوحدها بينما مئات الالاف من الجمال التي كانت تسير في سهول الصين وقفارها هي من جعلت طريق الحرير معلم خالد في تاريخ البشرية. الغريب في الأمر أن تقديرات وزارة الزراعة ترجح أن أعداد الإبل التي (تربى ويعتنى بها) في المملكة تزيد قليلا عن 200 ألف جمل في حين أنه يقال بأن أعداد الجمال الوحشية التي تعيش حره لوحدها في براري استراليا تقارب المليون جمل. من هذا وذاك يحق لنا أن نتسأل عن مدى دقة توصيف خصوصية (الارتباط  الحصري) للأبل بالشعوب العربية خصوصا إذا علمنا أنه في حدائق بريطانيا وليس في الدول العربية يتم حاليا إقامة النصب التذكارية والتماثيل التكريمية للجمل والهجانة من الجنود الذي كانوا يمتطونها اثناء معارك الحرب العالمية الأولى وكل من يتمشى ويتسكع على ضفاف نهر التايمز في مدينة لندن ربما يلفت أنتباه كراسي الجلوس التي زخرفت أطرافها على هيئة البعير الرابض. 
أليس غريبا أنه في عز عصر النهضة الأوروبية حرصت عائلة مديتشي أمراء مدينة فلورنسا (مهد عصر النهضة) على تربية قطيع كبير من الجمال التي كانت ترعى في سهول توسكانيا المُربِعة في حين أن أحد رجال الكونجرس الامريكي نصح حكومته في القرن التاسع عشر بإدخال الجمال والإبل إلى اراضي الهنود الحمر لأنها سوف تساعدهم على أن يصبحوا متحضرين وأكثر مدنية !!. بل أن الأمر يصل في موضوع (تدويل النياق) لدرجة أن انفراد العرب بالمتاجرة بحليب الخلفات ولبن العيران أصبح اليوم يواجه بمنافسة متصاعدة من مزارع تربية  الإبل المنتشرة في هولندا وتركيا بل وحتى في الولايات المتحدة. كما أن البعارين تحظى على مستوى الاعلام الدولي بتغطية اخبارية واسعة ليس بسبب مهرجانات مزايين الإبل لدينا ولكن من خلال غرابة سباق الهجن الدولي في ولاية كوينزلاندبأستراليا أو مسابقات مصارعة الجمال في تركيا أو سيرك الجمال الروسي أو حتى احتفالات تجميل وتزيين الإبل Camel Art في إقليم راجستان في شمال الهند.

الإبل في حياة الاوروبيين
قد لا نضيف جديد لو تطرقنا هنا لدور الجمل في الحضارة العربية والأسيوية فهذا أمر قد سارت به الركبان وتردد صدى حادي النوق بمدائح هذا الحيوان عبر الاجيال. ولهذا ومن باب اسلوب التفكير من خارج الصندوق وكسر منهج النمطية السائدة في النظرة للبعير لعل من الملائم محاولة تسليط الضوء على علاقة الجمل بالشعوب الأخرى وبالذات الامم الغربية. في واقع الأمر سنجد العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة في الحضارة الغربية كان لها نوع ارتباط و (تعارف) مع الجمال منذ أن استخدم الاسكندر المقدوني الجمال لتصل به إلى واحة سيوة في الصحراء الغربية المصرية بعد أن هلكت نفس هذه الصحراء جيش قمبيز الفارسي الجرار. وفي القرن الثاني للميلاد كان للإمبراطور الروماني هاردين وحدات عسكرية تستخدم الجمال لبسط النفوذ الروماني على مدن شمال افريقيا. أما أثناء القرون الوسطى فقد كان للملك الانجليزي إدوارد فرقة عسكرية قوية الشكيمة تستخدم الجمال والتي من المحتمل أنه تم جلب فكرة استخدام الجمال في التشكيلات العسكرية إلى بريطانيا بعد احتكاك الصليبيين بالجيوش العربية. وعلى نفس النسق نجد أنه اثناء حملة نابليون على مصر قام بتشكيل فرقة حربية من الهجانة استخدمها عندما انتقل لمحاولة غزو فلسطين والشام. اللافت في الأمر أنه تم استخدام فرق الهجانة حتى في الحرب الأهلية الامريكية وبعد انتهاء هذه الحرب تقدم وزير الحرب الامريكي بطلب جلب وشراء عدة الاف إضافية من الإبل لاستخدامها في المهام العسكرية. وبالجملة جميع القوات الاستعمارية الاوروبية (الفرنسية والانجليزية والايطالية والالمانية) استخدمت فرق عسكرية محمولة على الجمال اثناء الحرب العالمية الاولى وما بعدها لدرجة أن بعض التقديرات العسكرية تخمن أنه أثناء معارك الحرب العلمية الأولى تعرض حوالي 23 ألف جمل للقتل وكأنها بالفعل الجندي المجهول. وبهذه المناسبة لعله من الملائم أن نقرر أن مما يؤسف له أن نجد أن الجمال العربية قد ساعدت القائد العسكري الانجليزي أدموند اللنبي على احتلال القدس وفي حين ساهمت بعارين أخرى الجنرال الفرنسي هنري غورو في الانتصار في معركة ميسلون وتثبيت احتلال سوريا. أما تكرار نفس القصة في دول المغرب العربي فيكفي أن نشير إلى أن الجيش الفرنسي المحتل ظل يحتفظ بفرقة الهجانة العسكرية حتى استقلال الجزائر عام 1962م وذلك لكفاءة هذه الآلة العسكرية الحية في إخماد ثورات قبائل الصحراء الكبرى.
بينما كان جنود الجيوش الاوروبية يمتطون الهجن لإحكام السيطرة على البلاد العربية كان اسلافهم من الرحالة الغربيين يضربون اكباد الإبل بهدف استكشاف  مجاهل الصحاري والقفار العربية ولقد تم تخليد أسماء العديد منهم في الذاكرة العربية مثل وليم بلغريف ولويس بوركهارت وريتشارد بورتون وتشارلز داوتي وجون فيلبي والليدي آن بلانت والرحالة البريطانية السيدة جروترد بيل. لا شك أن وصف الترحال والسفر بالناقة والإبل في المناطق المخوفة أمر يثير الاهتمام ولهذا أكثر شعراء الجاهلية العرب في معلقاتهم الشعرية من وصف الناقة ووصف مسيرهم ورحلاتهم بها كما نجد ذلك في معلقة طرفة بن العبد والنابغة الذبياني ولبيد بن ربيعة وعلى نفس النسق فتن القراء الغربيين بوصف الرحالة الاوروبيين لمغامراتهم في الصحاري العربية فوق ظهور الجمال. ولهذا لاقى كتاب (الرمال العربية) للرحالة الانجليزي الشاب ويلفريدثيسيجر نجاح جماهيري منقطع النظير حيث وصف فيه رحلاته على ظهور الجمال عبر كثبان الرمال المخيفة في صحراء الربع الخالي في منتصف الخمسينات من القرن العشرين. وبنفس الحماس استثار القائد العسكري المشهور لورنس العرب القارئ الاوروبي عندما وصف في كتابه ذائع الصيت (أعمدة الحكمة السبعة) كيف قام بعد انتصاره في معركة العقبة عام 1917 برحلة خاطفة عبر صحراء سيناء لكي يخبر المندوب الانجليزي في القاهرة بهذا النصر ويطلب منه مزيد من الدعم للثورة العربية ضد الاتراك.لقد حير لورنس المؤرخين بمدى دقة وصفه لأحداث وتفاصيل هذه الرحلة التي زعم أنه أنجزها في وقت بالغ القصر ليرسم لشخصيته مزيد من البطولة والمهارة (الزائفة غالبا) أمام القارئ الغربي.
وعلى ذكر تأليف الكتب التي تناقش معيشة الشخصيات الاوروبية البارزة في البلاد العربية تجدر الاشارة إلى أن عدد لا بأس به من مشاهير الادباء الغربيين قد سافروا إلى البلاد العربية وبعضهم اشار في مذكراته الشخصية تجربته مع الجمال وركوب الإبل كما حصل مع الاديب الفرنسي فولبير والشاعر لامارتين بينما نجد أشهر كاتب وروائي أمريكي هو مارك توين اثناء زيارته للأراضي المقدسة في فلسطين يعلق باستغراب من كثرة وجود روث الإبل الذي كان يغطي حتى الجدران على حد زعمه.يضاف إلى ذلك أنه لا يستبعد ان كبار الادباء من مثل الروائي الفرنسي الكبير ألبير كامو (الحاصل على جائزة نوبل في الأدب) الذي عاش بالجزائر أو الشاعر أرثر رامبو الذي استوطن في مدينة عدن لمدة خمس سنوات والروائية البوليسية الأشهر أجاثا كريستي التي اقامت لفترات طويلة في العراق وسوريا، كلهم قد شاهدوا الجمال إن لم يكونوا قد حاول تجربة ركوبها. وهذا يقودنا ولا شك للإشارة بشكل خاطف وسريع لطبيعة الصورة النمطية للجمال والإبل في الاعمال الادبية الغربية. كما هو متوقع النظرة الادبية للجمل محدودة جدا في الانتاج الروائي والشعري الأوروبي لأنه كائن غريب عن تلك البيئة الثقافية وأكثر الاستشهادات المتعلقة بالجمل لها نوع علاقة بالكتاب المقدس الانجيل الذي استخدم الجمل في بعض التشبيهات المنفرة من الربا والغني الفاحش (مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله ) أو عبارة الذائعة الصيت المرتبط بالإبل (القشة التي قصمت ظهر البعير). وبهذا نجد بعض الاشارات الطفيفة للجمل في مسرحيات شكسبير (هاملت ومسرحية الملك ريتشارد) وفي حكايات كانتربريلجيوفريتشوسر وبعض روايات تشارلز ديكنز أو حتى قصيدة ملكة الجن للشاعر الانجليزي للشاعر الانجليزي البارز إدموند سبنسر. ومن الروايات الادبية الغربية الواسعة الشهرة وورد فيها إشارات خاطفة للجمال رواية (جريمة في العراق) لأجاثا كريستي والتي عاشت لفترة طويلة في البلاد والعربية ولهذا نجد في خاتمة هذه الرواية أن البطلة التي تقص أحداث الرواية تغادر العراق وتقول (..أما أنا فلم أعد إلى الشرق بعد ذلك. والغريب أنني اشعر بالحنين إليه من وقت لآخر وأتذكر .. الجمال المتعالية وهي ترميني بنظراتها الغربية). أما رواية الأديب الفرنسي غوستاف فولبير المثيرة للجدل (مدام بوفاري) التي منعت من النشر لأنها من الادب المكشوف وفي ثناياها إشارة خاطفة للجمال وسنعلم لاحقا ارتباط الجمل بالشهوة والشبق الجنسي في المخيلة الأوروبية. ومع ذلك تظل أكثر رواية عالمية مشهورة مرتبطة بالجمل هي رواية (الخيميائي) للكاتب البرازيلي المعروف باولو كويلووفيها نجد الراعي الاسباني سنتياغو يسافر مع قافلة جمال إلى واحة صحراوية في مصر واثناء ذلك يدخل في حوار شيق وماتع بينه وبين قائد القافلة مليء بالحكمة ومحاولة فهم فلسفة الحياة.
وقبل ان نختم صورة الإبل في الثقافة الأوربية لعل من الملائم الاشارة إلى أن البعير قد وجد طريقه لبعض اشهر اللوحات الفنية الغربية ومن ذلك رسومات عصر النهضة الذائعة الصيت والبالغة التقدير والاهتمام. وكما هو معلوم كانت أغلب الرسومات الفنية في بداية عصر النهضة ذات طابع ديني عن ولادة المسيح أو صور السيدة العذراء أو حادثة الصلب المزعومة وفي أغلب هذه الصور والمشاهد يتم اتخاذ (البيئة العربية القديمة) كخلفية للصورة ولذا لا غرابة أن يتم رسم الجمل في بعض هذه اللوحات الفنية. واشهر هذه اللوحات في هذا المجال لوحة الرسام الايطالي الاسطورة ليوناردو دافنتشي المسماة (توقير المجوس) وهي عن الحكماء الثلاثة المجوس وقدومهم لتوقير وتبجيل المسيح المولود ففي هذه اللوحة تم رسم مشهد للجمل الذي من المحتمل أنهم استخدموه في سفرهم من المشرق إلى أورشليم.
 بقي أن نقول أن العصر الذهبي للجمل في لوحات الرسامين الغربيين هو القرن التاسع عشر فبعد حملة نابليون على مصر أُغرم الأوروبيون بشكل عجيب بالشرق الخيالي وفتنوا برومانسية الصحراء العربية ولهذا ظهرت موجة (الرسم الاستشراقي) حيث شُغل الفنانون الغربيون برسم الجمل في كم مهول من لوحاتهم الشرقية كما نلاحظه مع الرسامين الانجليز مثل روبرت هاي وديفيد روبرتس والفنانين الفرنسيين وفي مقدمتهم فيفان دينون وباسكال كوت. 

رمزية الجمل في الثقافات الأخرى
حاولت فيما سبق أن أكشف عن أبعاد حضارية وثقافية للجمل ودوره في ثقافة الشعوب الأخرى وأنه بذلك كائن ذو ثقل وأرث تاريخي ليس للشعوب العربية فقط ولكن للإنسانية جمعاء. ونصل الآن إلى بيت القصيد وهو انعكاس الصورة النمطية للجمل في نظرة الشعوب الأخرى لهذا الكائن المميز والبديع. بلا جدال حيوان الجمل له استحسان وتقدير عالمي واسع بحكم رمزيته كأيقونة للتكيف والمقاومة ولذا هو في نظر الغربيين على سبيل المثال رمز للبقاء survival  والصمود stamina حتى في أقصى الظروف الشرسة. وبسبب ملائمته العالية لتحمل الاسفار الطويلة وحمل الاثقال المرهقة أصبح البعير يعتبر كذلك رمز للثروة والتجارة والسفر والترحال. والغريب في الأمر أن البعض يرى في الجمل كائن فاتن وظريف ومسلي ولهذا تشهد فقرات ألعاب وحركات الجمال في عروض السيرك نسبة أعجاب عالية.
في مقابل هذه الرمزية الايجابية للإبل في وعي أغلب الشعوب الانسانية نجد صور رمزية سلبية أخرى تنطبع في المخيلة والانطباع الذهني لشعوب وثقافات أخرى تجد في الجمل تجسيد لمعاني شائنة مثل الحقد والغباء والطمع والضعة فضلا عن رمزيته كأيقونة للشهوة والشبق الجنسي.
وفيما تبقى من هذا المقال لعلنا نشير لارتباط الجمل برمزية الخضوع والخنوع والعبادة في الذهنية الأوروبية وسبب ذلك ليس فقط أن البعير سهل الانقياد حتى ولو لطفلة الصغيرة تتحكم فيه كيفما تشاء ولكن ايضا جذب الغربيين والمسيحيين الاوائل هيئة الجمل عندما يريد ان يبرك حيث يجثو ويهوي إلى الارض وينتكس في بروكه حيث يقدم يديه قبل ركبتيه وفي هذه الهيئة الفريدة في الجلوس ينظر لها الغرببيين وكأنها تجسيد لحالة الركوع kneeling والتعبد . من جانب آخر منتشر عند المسيحيين تشبه حالة التذلل والخشوع للعبد (المحمل بالذنوب) أمام خالقه كحال البعير البارك أمام صاحبة والذي يتحنن إليه لكي يزيل عن سنامه العبء والحِمل burden الذي يرهقه وكذلك الشخص المتعبد الذي يجثو أمام خالقه لكي يغفر له ذنوبه ويمحو عنه خطاياه التي تثقل كاهل روحه المعذبة.
ونختم أخيرا بالانتقال من هذه الصورة الرمزية المشرقة للجمل في مجال التعبد والتذلل إلى الصورة النمطية الواسعة الانتشار في العالم الغربي عن الجمل وربطه بالشهوة المفرطة والشبق الجنسي. وجزء من أسباب هذا التصور هو النظرة الرومانسية التي ارتبطت لدى الاوروبيين بالصحراء وانها تمثيل مكثف للنزوة الفاتنة والغامضة exotic fantasy . وفي الواقع نجد أن في  الثقافة الغربية نظرة وتصور خاص لبعض الحيوانات بأنها ذات قدرة جنسية عالية مثل الثور والماعز والجمل ووحيد القرن ولهذا يتم توظيفها كرمز للشبق الجنسي. ومن هنا نشير أن أحد أقدم ماركات أنواع السجائر هي سيجارة الجمل Camel cigarette والتي مر على ظهورها أكثر من قرن من الزمان والتي يباع منها سنويا أكثر من ستين مليار سيجارة ويقال أنه عند بدأ التفكير في التسويق لها تم اختيار اسم ورسمة (الجمل) لها لما أنطبع في ذهنية الغربيين عن الجمل وارتباطه بالأشياء الفاتنة والغامضة. ويضاف لذلك أن في العديد من اللوحات الدعائية لهذا النوع بالذات من السجائر يتم إقحام صورة المرأة اللعوب والمثيرة وذلك لما في هذا الامر من الإيحاءات النفسية غير المباشرة للشبق الجنسي عند الجمل مما يكمل مثلث الشهوة والمتعة الحرام: التدخين وكأس الخمر والجنس. أمر آخر يربط المرأة بالجمل في الحس الغربي هو أن البعض منهم يشعر بوجود نوع تجانس وتشابه بين سنام الجمل وبطن المرأة الحامل المنتفخ خصوصا إذا تم استحضار طريقة اهتزاز وتأرجح الراكب الذي يمتطي هودج الجمل ولهذا من الاقوال الدارجة عند الغربيين (ثلاثة لا يمكن إخفائها: الحب والحَمل وركوب الجمل).


الأحد، 19 مارس 2017

( هَجر الكتب .. الخطيئة والتكفير )

هجر الكتب .. خطيئة حضارية محزنة
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
شهدت الساحة الثقافية المحلية العام الماضي حدثاً مميزاً تمثل في انطلاق معرض جدة الدولي الأول للكتاب واحتفاءً بتلك المناسبة كتبت مقال تحفيزي عن القراءة كان عنوانه (الهيام بالكتب وعشق الأوراق) تم فيه سرد أخبار وعجائب قصص الادباء والعلماء الذي هاموا عشقا بالكتب حيث لم تكن تفارق أياديهم حال تناول بعضهم للطعام أو المشي أو في الحمام بل أن منهم من قد توفي والكتاب على صدره. وبمناسبة انطلاق فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2017 هذا الاسبوع خطر ببالي أن أكون أكثر واقعية وأبعد عن عالم المثاليات المجنحة وأن أناقش في عجالة (واقع القراءة) المحزن وخصوصا لدى الجيل الجديد المدمن على التقنيات الالكترونية ذات الشاشات البراقة والتي أزهدتهم عن لمس وتصفح أوراق الكتب الصفراء والأغلفة المجعدة.  منذ حداثة صباي وأنا عاشق للكتاب ولذا عجبي لا ينتهي من صدود وهجر الشباب للكتب ومع ذلك لو فكرت في هذه الظاهرة الشبابية بتجرد لكن الأحق أن أعجب من إقبال الناس على الكتب وليس من هجرها فحالي في شوقي للكتب وحال الشباب في هجرها في الواقع كما قالي المتنبي:
أُغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغلبُ        وأعجبُ من ذا ( الهجرِ ) والوَصلُ أعجبُ
 
في الزمن الحالي أصبح الجميع مفتتن بالنظر في صفحة وجه المحبوب الرقمي من أجهزة الآيباد والجوالات وشاشات الكمبيوتر التي سلبت العقول وخطفت الانظار بوسائلها الجذابة في التسلية والترويح عن النفس ولذلك قل لي بربك كيف يستطيع أن ينافس الكتاب الباهت بين كل هذا الزحام البرّاق والمتألق ولذا (وصال وأتصال)  الشباب بهذه الكتب هو المستغرب وليس (هجرها). ورحم الله زماناً كان يقال فيه إن القراءة (نزهة) في عقول الرجال وعوضاً عن هذه الحكمة البليغة أصبحت (نزهة) جيل اليوم تصفح مواقع الشبكة العنكبوتية السطحية واستعراض مقاطع اليوتيوب الساذجة وأضاعت الاوقات والاخلاق في دردشات الانترنت المريبة. في مطلع الثمانينات من القرن الماضي انتشرت حملات دعائية في بعض الدول الأوروبية حملت عنوان (أنقذوا القراءة) وكان سبب ذلك الهلع الكبير أن (التلفزيون) صرف الناس عن المعرفة الجادة وتسبب في أزمة القراءة والعزوف عنها. في الحديث الشريف إن (الفتن يرقق بعضها بعضا) فبعد أن كان جيل الآباء يخشى على أبنائه من تلف العيون/ التلفزيون وتسببه في ضياع أوقاتهم اصبحنا نترحم على زمن الطيبين التلفازي مقارنه بالضياع شبه الكامل للوقت والانعزال الشعوري لأغلبنا مع شاشاتنا اللوحية الخاطفة للأبصار والوجدان.
 
خطيئة .. أمة أقرأ لا تقرأ
في عام 2008 أصدرت مؤسسة الفكر العربي (التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية) وهو التقرير الذي صعق المجتمع الثقافي والعلمي والتربوي للامة العربية من الخليج إلى المحيط. ومما زاد الأمر سوءا فيما يتعلق بالقراءة واقتناء الكتاب أن هذا التقرير مبني على نتائج استقرائية أجريت عام 2007 وما قبلها أي قبل تصاعد وتنامي ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك وتويتر والواتس أب والسناب شات) التي هي حاليا من أهم الاسباب الرئيسية في هجر الكتاب بالإضافة إلى أنه في عام 2008 حصلت الازمة الاقتصادية الدولية الماحقة لبركة المال والمتسببة في ضعف القوة الشرائية لأغلب العرب الذين اصبح شراء كتاب في واقعهم رفاهية باهضه ليست من ضمن سلم الأولويات المعيشية. قبل عشر سنوات من الآن (والواقع الحالي أكثر مراره) توصل التقرير السابق إلى أن معدل القراءة للطفل العربي لا يزيد عن 6 دقائق في السنة في حين أن متوسط القراءة للمواطن عربي لا يزيد عن 10 دقائق في السنة مقابل 12 ألف دقيقة للمواطن الاوروبي. الجدير بالذكر أنه في المسح الاستقصائي السنوي الدولي للتربية لعام 2008 والذي تجرية هيئة اليونيسكو بالأمم المتحدة تبين أن متوسط عدد الصفحات التي يقرئها الشخص العربي في السنة هي اربع صفحات فقط في مقابل 11 كتاباَ يقرئها في المتوسط الشخص الامريكي كل سنة.
 أما في جانب نشر وتأليف الكتب فيشير تقرير مؤسسة الفكر العربي أنه يصدر كتاب واحد فقط لكل 12 ألف مواطن عربي بينما هناك كتاب لكل 500 رجل إنجليزي علما بأنه في عام 2007 كان مجموع الكتب التي نشرت في كامل الوطن العربي هو 27809 كتاب والذي هو ربما نصف عدد الكتب التي تنشر سنويا في تركيا أو ثلث الكتب التي تنشر سنويا في إيران. ولذا لا غرابة أن نعلم أن إجمالي ما يتم طبعه من الكتب في العالم العربي يقل عن واحد في المائة من الانتاج العالمي لنشر الكتب بالرغم من أننا نسبتنا الديمغرافية أكثر من خمسة في المائة من سكان العالم. ما سبق من التدهور المعرفي والثقافي في مجال التأليف مقبول بالمقارنة مع الطامة الكبرى والفضيحة المخزية التي يشير لها تقرير التنمية البشرية لليونيسكو لعام 2013 والذي يفيد بأن العرب الذين تجاوز عددهم 270 مليون نسمة لا يترجمون سنويا سوى 475 كتاباً (بمعنى أنه يتم ترجمة كتابين فقط لكل مليون عربي) في حين أن دولة مثل إسبانيا ذات العدد السكاني الذي لا يتجاوز 38 مليون نسمه تترجم أكثر من عشرة الاف كتاب سنويا.
ما سبق كان إطلالة خاطفة من واقع الارقام الاحصائية المرير والمقلق لتدهور الظاهرة الحضارية الحيوية لأي مجتمع وهي القراءة وصناعة الكتاب ونتيجة لهذه الخطيئة خسرت الأمة العربية (أمة أقرأ التي لا تقرأ) مقدراتها الاقتصادية وسيادتها السياسية وتقدمها العسكري. في هذه السنة سوف تمر ذكرى مرور نصف قرن على هزيمة العرب المخزية في حرب 1967 أمام أوباش الجيش الاسرائيلي فكم يا ترى كان نصيب جاهلية الشعوب العربية وعزوفها عن القراءة في التسبب بهذه الهزيمة النكراء أمام لفيف اليهود وشذاذ الآفاق. يقال أنه قبل حرب الوكسه والنكسه زار صحفي هندي يدعى كارانجيا إسرائيل لإجراء لقاء صحفي مع وزير الدفاع الاسرائيلي موشي ديان وفي هذا اللقاء سرب موشي ديان جزء من خطته الحربية المتمثلة في قصف الطائرات الحربية المصرية وهي على مدرج المطار. وعندما استغرب الصحفي الهندي كشف هذه الخطة الحربية على الملأ يقال أن موشي ديان رد ببرود قولته المشهورة (لا عليك .. فالعرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون).
 
التكفير عن الخطيئة .. مبادرات إعادة إحياء القراءة
ليس بالتعليم وحده يحيا الإنسان ففوق ذلك يحتاج أبناؤنا وجيل المستقبل إلى التربية وغرس الأخلاق الحميدة وكذلك تعزيز السلوك الحضاري المتمثل في القراءة ومصاحبة الكتاب. المثال الإنجليزي الحكيم القائل (بإمكانك أن تأخذ الحصان إلى النهر، ولكن لا تستطيع أن تجبره على الشرب) يعكس تماما حالنا مع أبنائنا وجيل الغد فقد نحاول أن نحبب لهم القراءة ونوفر لهم الكتب الشيقة ولكن قد نفشل في أن نغرس هذا السلوك الراقي في وجدانهم وجيناتهم. ولهذا لا غرابة أن أكبر مشروع عربي على الاطلاق يطمح لمحاولة حث الاطفال على القراءة خارج المنهج الدراسي سمي مبادرة (تحدي القراءة العربي) وهو البرنامج الحضاري الرائد الذي أطلقه حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لتشجيع القراءة لدى شريحة طلاب المدارس في عموم العالم العربي. لقد كان هذا البرنامج الثقافي الاثرائي طموحا جدا حيث حدد هدفه الرئيس في التزام أكثر من مليون طالب عربي بالمشاركة بقراء خمسين مليون كتاب خلال كل عام دراسي ويتم حاليا تنفيذ هذا (التحدي) من خلال تدشين منافسة للقراءة خصصت لها جوائز قيمة وحفل تكريم حاشد يقام في مدينة دبي.
في الوقت الحالي تعتبر دولة الامارات العربية المتحدة هي الدولة الرائدة عالميا وبكل المقاييس في محاولات تحفيز وتشجيع جميع شرائح المجتمع على القراءة والمبادرات التي تم تفعيلها في الامارات هذا الشأن تثير الأعجاب وتفرض الاحترام وبمثل هذه المبادرات الحضارية يمكن التكفير ولو جزئيا عن خطيئة هجر الكتاب والعزوف عن القراءة. بالإضافة لبرنامج تحدي القراءة الرائد نجد أنه تحت شعار (ثقافة بلا حدود) تقوم إمارة الشارقة بتنفيذ مشروع (مكتبة لكل بيت) والذي يهدف لإهداء حوالي ثلاثين ألف مكتبة منزلية تشمل على حوالي مليون كتاب مجاني. بينما أعلن العام الماضي في مدينة دبي عن البدء في انشاء أكبر مكتبة عامة في الشرق ألأوسط يخطط لها أن تضم حوالي أربعة ملايين كتاب ما بين كتاب ورقي او إلكتروني أو سمعي. أما مدينة أبو ظبي فقد تم العام الماضي إطلاق مبادرة (2016 عام القراءة) والتي دشنها الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة والتي تهدف لترسيخ ثقافة العلم والمعرفة والاطلاع وتم خلال تلك السنة تنفيذ ما يقارب 1500 حملة ومبادرة وبرنامج مختلف لتعزيز القراءة قام بالمشاركة في تنفيذها كافة قطاعات الدولة الحكومية والشركات التجارية الكبرى. وأعجب ما توصلت له الامارات وتفردت فيه ربما على جميع دول العالم أنها أصدرت (القانون الوطني للقراءة) حيث يشكل القانون إضفاء صبغة تشريعية ملزمة لمأسسة النشاط المعرفي وتفعية من خلال جميع مؤسسات الدولة المعنية بصناعة مجتمع المعرفة.
بقدر ما تثير الجهود الاماراتية في إعادة إحياء سلوك القراءة الحضاري الإعجاب بقدر ما تصيبنا بالإحباط من تعثر النشاط المشابه في واقعنا المحلي بالرغم من مرور حوالي 15 سنة على تدشين (المشروع الوطني لإعادة الصلة بالكتاب) والذي أوكلت مهمة تنفيذه إلى مكتبة الملك عبدالعزيز العامة. للأسف الشديد كل مظاهر تنشيط وتعزيز سلوك القراءة في المجتمع من ذلك المشروع لا تتعدى نشر بعض رفوف المكتبات في المطارات (برنامج سافر مع القراءة ) أو تسيير بعض باصات المكتبات في ساحات مدينة الرياض (مبادرة المكتبة المتنقلة) أو استقطاب عدد محدود من طلبة المدارس لمهرجانات القراءة الحرة. وبالرغم من المبادرات والمشاريع الاخرى التي تصب في هدف تشجيع القراءة مثل مبادرات (القراءة للجميع) سواءً تلك المنفذة من قبل وزارة التعليم أو مكتبة الملك فهد الوطنية إلا أن هذه الجهود من الضعف وعدم الشهرة والانتشار وكأنها صرخة في البرية أو قطرة في لفيح الهجير. إن بلادنا شهدت مهد الحضارة الاسلامية الخالدة وإذا أردنا أن نضمن إسهام أجيالنا الجديدة في إعادة بعث الحضارة الإسلامية والعربية من جديد فلا مندوحة من أن نعيد هندسة جيناتهم الحضارية بخصوص القراءة لكي نجنبهم تهكم نزار قباني عندما قال (إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب).
 
زمن جرير والكتاب الالكتروني
عندما تولى الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز اجتمع الشعراء عند بابه ولكنهم حجبوا من الدخول عليه لزهد الخليفة عن شعر المديح الكاذب ولذا عندما كان التابعي والمحدث الجليل عدي بن ارطاه يهم بالدخول على الخليفة خاطبة الشاعر جرير ببيت شعره المشهور:
يا أيها الرجل المرخي مطيته         هذا زمانك إني قد مضى زمني
ولذا على نفس النسق بعد أن أتخذ الناس في عصرنا الكتاب الورقي التقليدي مهجورا ومن له استمرار صله بالكتاب يطالعه في نسخته التقنية المسماة (الكتاب الالكتروني) لذا يجوز لنا أن نحور البيت الشعري السابق لجرير ليصبح وكأنه خطاب من الكتاب الورقي للكتاب الالكتروني:
يا أيها اللوح المشع صفحته     هذا زمانك إني قد مضى زمني
 
صحيح أن المفكر والفيلسوف الفرنسي المعاصر جاك دريدا صاحب المنهج التفكيكي تنبأ (بموت المؤلف) ولهذا رأي البعض بالتبعية حتمية (موت الكتاب) في هيئته الورقية على الاقل انسياقا مع مفهوم نظرية التطور وأن البقاء للأصلح ولذا لا مكان لكتاب الأوراق الصفراء في القرن الواحد والعشرين القرن الذهبي لتقنية المعلومات والنشر الالكتروني. ومع ذلك معركة الكتاب الورقي مع الورق الالكتروني لم تكتمل فصولا بعد بدليل أن أكبر منصة تجارية دولية لبيع الكتب الالكترونية وهي شركة موقع الامازون أعلنت عن خطتها لفتح سلسلة من متاجر الكتب الورقية كما أنه يوميا يتلقى ذلك الموقع الالكتروني عشرات الالاف من طلبات شراء الكتب الورقية  من قائمة كتب تقليدية قد يفوق عددها ثلاثة ملايين كتاب.
 وبالعودة لقصة الشاعر جرير مع الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز فبالرغم من أنه حجب في البداية لدرجة أنه توسط بأهل الفضل من العلماء مثل رجاء بن حيوة وعدي بن أرطاه إلا أنه أخيرا حاز مكانة التفضيل بأن سمح له بإلقاء قصيدته أمام الخليفة ولهذا كان منهجية شعر جرير العفيفة (نسبياً !!) هي السائدة زمن خلافة عمر بن عبدالعزيز. ومن جرير الشاعر بالأمس إلى جرير المكتبة اليوم نجد الفرج بعد الشدة والتمكين بعد الصد فبكل وضوح نرصد أن من مؤشرات رسوخ مكانة زمن الكتاب الورقي ما نشاهده من التوسع الكبير والعجيب لفروع مكتبة جرير التجارية لدرجة أن لها حوالي 14 فرعا في مدينة الرياض وحدها. كما لا يمكن أن نغفل الحضور المكثف والغفير لطوفان محبي الكتب في معارض الكتب الدولية أينما أقيمت في الرياض أو القاهرة أو فرانكفورت أو غير ذلك من مدن الثقافة. أعتقد أنه بمشيئة الله سوف يتعايش الكتاب الورقي والورق الالكتروني جنبا إلى جنب وكأنهما يتقبلان نصيحة أمير الشعراء أحمد شوقي الحكيمة في ضرورة التعايش السلمي وانتهاج فضيلة القبول بالآخر:
إلامَ الخُلف بينكمُ إلاما           وهذي الضجة الكبرى علاما
وفيمَ يكيدُ بعضكمُ لبعضٍ        وتُبدون العداوة والخِصاما