السبت، 6 يناير 2024

( الإبل في المختبرات البحثية لشعوب العالم )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم هي المسؤولة عن اختيار الفائزين بجائزة نوبل وبالتالي لها مكانة عالمية مرموقة، ولكن نظرا أن جائزة نوبل مقصورة ومحصورة في تخصصات (الفيزياء والكيمياء) لهذا اهتمت تلك الأكاديمية بطرح جوائز علمية إضافية في الرياضيات والفلك وعلم الأحياء والبيئة. أحد الفائزين بهذه الجائزة الجديدة (جائزة كارفورد) كان عالم الأحياء الأمريكي إدوارد ويلسون والذي حصل عليها عن أبحاثه عن السلوك الاجتماعي للنمل وقد استمتعت بمشاهدة محاضرته العلمية الشيقة عن النمل التي ألقاها في جامعة الملك سعود قبل عدة سنوات وإن كان تم التعريف به بشكل خاطئ بأنه حصل على جائزة نوبل عن دراساته العلمية عن النمل.

وبالإضافة لكون حشرة النمل جذبت بشدة اهتمام العلماء فهي كذلك كانت مصدر إلهام فني للأدباء بدليل أن الروائي الفرنسي المعاصر ولج فيربير أصدر (ثُلاثية النمل) وهي ثلاث روايات أدبية مطولة محورها الأساسي ذلك المخلوق العجيب: النملة. وما أود الوصول له أنه بالرغم من جدارة العديد من الكائنات (مثل النحل والخيل والكلب والنخيل والزيتون) بأن تحظى باهتمام العلماء والأدباء على حد سواء إلا أنه من وجهة نظري كان من المفترض ألا تغيب (الإبل) عن هذا الشرف والشغف. فعلماء الأحياء والطب من أهل الإسلام كان يجب عليهم أن يضاعفوا الجهود العلمية والأنشطة البحثية المتعلقة بالإبل لا لشيء إلا للمزيد من فهم واتباع قوله سبحانه وتعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) علما بأن التوجيه بالتفكر في خلق الإبل في سورة الغاشية أقترن مع المخلوقات الكبرى: السماء والأرض والجبال. وكذلك مما يحفز على تضافر وتنامي الأبحاث العلمية عن الإبل كمحاولة لفهم وسبر أغوار المقصود من الحديث النبوي الشريف الذي يقول بأن (الإبل خلقت من الشياطين) وهذه نقطة بحثية مثيرة جدا من الناحية العلمية والناحية الدينية بغض النظر هل المقصود (بالشياطين) الكائنات النارية أو هو مجرد توصيف لتميز حال الإبل وشيطنة طباعها الحادة.  

قبل حوالي سبع سنوات وفي أثناء صخب أحد مهرجانات (مزايين الإبل) نشرت مقالا حمل عنوان (رمزية الجمل في الثقافات الأخرى) حاولت فيه أن أكشف عن أبعاد حضارية وثقافية للجمل ودوره في ثقافة الشعوب الأخرى وأنه بذلك كائن ذي ثقل وأرث تاريخي ليس للشعوب العربية فقط ولكن للإنسانية جمعاء. واليوم السبت ونحن في نهاية الأسبوع الأول من العالم الميلادي الجديد 2024 ومع إطلاق الأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراع العالمية (الفاو) لفعاليات (السنة الدولية للإبليات 2024) وكذلك بعد إعلان وزارة الثقافة السعودية بأن هذا العام هو (عام الإبل). لهذا وكمساهمة لتوسيع ربط هذا الكائن العجيب بالإرث الإنساني وخروجا من الموروث المحلي المحدود، رغبت أن يكون المقال الحالي امتدادا لمحور السرد السابق عن اهتمام الشعوب الأخرى بالإبل ولكن من المنظور العلمي ومن الجانب البحثي هذه المرة.

ينقل عن أفلاطون قوله (العلم ليس سوى الإدراك) وبشاهدة أغلب العلماء في تاريخ البشرية يمكن تحوير العبارة لتصبح (العلم ليس سوى الفضول) ولهذا كان الفضول العلمي وحب الاستطلاع من أقوى وأهم الدوافع والمحفزات للكشف عن الحقائق العلمية والتوصل للقوانين والمخترعات التقنية. وعليه كان من المفترض للعلماء العرب والمسلمين عندما يقرؤن قوله الله سبحانه وتعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) أو يمر عليهم قول الرسول الكريم بأن الإبل خلقت من الشياطين أو أن لحم الأبل ربما ينقض الوضوء كما إنه لا تجوز الصلاة في مرابض الإبل أو أن أبوال الجمال هي نوع من العلاج، كان ينبغي أن تكون مثل هذه الأشارات والأخبار العديدة في التراث الإسلامي من أقوى المحفزات (وحب الاستطلاع) لإجراء التجارب العلمية لكشف أسبار هذه الجوانب العجيبة في خلق الإبل.

في الثقافة الصينية ينتشر بين القبائل التي تعيش في صحراء جوبي الشاسعة في شمال الصين بأن الجمل ذا السنامين يستطيع أن يشم بخار الماء ولو على بعد خمسين كيلومتر ولهذا يستخدم الرحالة الصينيون الجمل ليدلهم على مواقع الآبار النائية.  ومتسلحون بهذا الموروث الشعبي عن الجمال قام مجموعة من الباحثين في جامعة شانغهاي الصينية بدراسة تشريح أنف الجمل ومحاولة تفسير كيف يستطيع تحسس واستشعار الكميات الضئيلة من الرطوبة. وبعد ذلك قام ذلك الفريق العلمي بتطوير واختراع (أنف إلكتروني) عبارة عن جهاز تحسس للرطوبة humidity sensor له استخدامات واعدة في التطبيقات البيئية والصناعية.

في علم تصنيف الحيوانات يتعبر الجمل مع حيوان اللاما وكأنهما أولاد عم فهما ينتميان إلى عائلة الجمل وفصيلة الإبليات (والبعض يسميها فصيلة الجمليات Camelidate) ونظرا للتقارب النسبي في الشكل العام بين الجمل واللاما (يمكن انتاج كائن هجين بالتزاوج بينهما يدعى كاما) فلا بد من أن تكون مواقع نشوء وظهور هذه الحيوانات متقاربة بل متطابقة. ولعقود طويلة من الزمن شكل وجود حيوان اللاما في مكان جغرافي منعزل في أمريكا الجنوبية لغزا لعلماء الحيوان فكيف ومتى هاجر هذا الحيوان من العالم القديم إلى العالم الجديد. ومع الزمن بدأ يكتشف العلماء أن قصة موطن الجمل الأول والقديم هي قصة (معكوسة) فالإبل لم تظهر لأول مرة في صحاري وسط آسيا ثم انتقلت إلى الجزيرة العربية وكذلك لاحقا إلى الأمريكيتين، ولكن وفق علم الأحافير وعلم الجينات يظهر أن الجمال ظهرت قبل حوالي 44 مليون سنة في أمريكا الشمالية !!. واليوم علماء الأحياء والأحافير في الولايات المتحدة بالذات لهم نشاط محمول لاكتشاف المزيد من عظام وأحافير وأثار كائن (الكاملبوس Camelops) وهو نوع من الجمال البدائية الذي كان سائدا في أمريكا الشمالية لملايين من السنين حتى أنقرض بشكل تام مع بداية العصور الجليدية الأخيرة قبل أكثر من إحدى عشرة ألف سنة. في الواقع علماء الحيوان في الجامعات الأمريكية في ولاية يوتاه أو ولاية كالفورنيا أو ولاية نيومكسيكو هم من يمكن أن يفتخروا بأن لديهم في متاحفهم العلمية عينات الأحافير والهياكل العظمية لأقدم الأبل في التاريخ !!.

 عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات .. دم وبول الإبل

فيما يتعلق بالإبل تثور دائما أسئلة وتنشب نقاشات فقهية وفكرية وعلمية: هل لحم الإبل ينقض الوضوء؟ وهل حليب الخلفات بالفعل منشط جنسي؟ وماذا عن بول الإبل هل ثبت أن له فوائد طبية؟. الغريب أن دماء الجمال ومنذ القدم كانت كذلك تثير الحيرة فحسب الأساطير القديمة أن الأرض لا (تشرب) الدم لأنهم زعموا أنه بعدما قتل قابيل أخاه هابيل وسفح دمه على التراب أصبح محرما على الأرض أن تشرب الدم. وفي الواقع كما هو معلوم الدم المسفوح يتخثر ويتجلط ولهذا لا تتشربه التربة ولكن العرب قديما كانوا يزعمون أن الأرض لا تشرب الدم إلا يسيرا من دماء الإبل خاصة وهذا ما ذكره الجاحظ في كتاب الحيوان. وبالفعل (لزوجة) دماء الإبل تختلف عن بقية دماء الماشية والحيوانات الأخرى فمنذ نهاية القرن التاسع عشر عندما قام العالم الإنجليزي جورج جاليفر بدراسة شكل كريات الدم الحمراء تحت المجهر لحوالي 80 حيوانا مختلفا وجد أن دماء الجمال تتميز بأن كريات الدم الحمراء شكلها ليس دائريا كما هو سائد في أغلب الحيوانات وإنما شكل بيضاوي صغير الحجم. وفي الواقع هذا الشكل البيضاوي بالإضافة لصغر حجم كريات الدم الحمراء يساعد على لزوجة دم الإبل ولهذا يتسرب الدم بشكل أسرع سلاسة بين حبيبات التراب (لهذا قيل إن الأرض تشرب دماء الإبل) وكذلك ينساب الدم بسهولة أكثر في الأوعية الدموية لأنسجة الجمل أثناء الجفاف والعطش الشديد.

من الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأن الجمل (يخزن) الماء في سنامه الشحمي بينما في الحقيقة أن الجمل (يأكل) من سنامه فلا يجوع ولكن لكي يقاوم البعير العطش فمن عجائب الخلق أنه يستطيع شرب كمية هائلة من الماء في فترة قصيرة وهذه المياه الفائضة يتم تخزينها في (دم) الجمل وليس في سنامه. يقول علماء الفسيولوجيا بأن غشاء كريات الدم الحمراء للإبل ذو تركيبة خاصة من الدهون الفوسفاتية تجعلها أقل عرضة لمشكلة انحلال الدم الأسموزي osmotic hemolysis ومعنى هذا الكلام المجعلص بأن كريات الدم الحمراء للجمل يمكن أن تسمح بدخول الماء إليها ومن ثم تنتفخ إلى حوالي ثلاثة أضعاف حجمها الأصلي دون أن تنفجر وبمثل هذه الآلية والميكانيكية تستطيع الإبل ليس فقط تخزين المياه في دمائها ولكن كذلك شرب المياه المالحة وهي خاصية نادرة الوجود في الكائنات الحية الأخرى.

في الموقع الإلكتروني Quora المتخصص في طرح الأسئلة المتنوعة والإجابة عليها أرسل أحدهم قبل فترة سؤال من باب الدعابة كان نصه (هل تعلم أسماك القرش بوجود حيوان الجمل؟) والغريب في الأمر أنه بالفعل توجد علاقة على الأقل بين (دماء) الإبل ودم أسماك القرش. سبق أن ذكرنا بأن كريات الدم الحمراء للإبل شكلها بيضاوي وهذا هو بالضبط شكل كريات الدم لأسماك القرش وبحكم أن هذه الكائنات البحرية مشهورة أنها لا تصاب بأمراض السرطان نتيجة لكفاءة جهازها المناعي لهذا أهتم بعض العلماء بدراسة وتحليل مكونات دماء هذين الكائنين بالذات: الجمل وسمك القرش. وهذا بالضبط ما تقوم به عالم المناعة الأميركية هيلين دولي الباحثة في كلية الطب بجامعة ماريلاند الأمريكية والتي اكتشفت في دماء الإبل وأسماك القرش نوعا من المضادات الحيوية antibodies عبارة مركبات بروتينية صغيرة الحجم ولهذا يطلق عليها المضادات الحيوي المصغرة mini أو الأجسام النانوية nanobodies وهي مركبات قد تكون علاجا فعالا للسرطان ووسيلة كذلك للحصول على جائزة نوبل في الطب.

الشكل البيضاوي لكريات الدم الحمراء تسببت في مزيد لزوجة دم الإبل وبالتالي تغلغله بين حبيبات التراب وكذلك المضادات الحيوية المصغرة يسهل تغلغلها في داخل الخلايا فضلا عن الأنسجة وبالتالي تزداد قدرتها المناعية ويمكن أن تحد من ظهور أمراض السرطان وأمراض الفيروسات الخطيرة مثل الإيدز وفيروس الكبد. المثير للانتباه أن مجاميع بحثية متنوعة من غير الدول العربية (التي قد تتهم بالتحيز والمبالغة في الأهمية الطبية لدماء الإبل) أثبتت استخدامات طبية إضافية لمركبات البروتينية الموجودة في دماء الإبل كاستخدامها لعلاج مرض السكري (دراسة من جامعة شمال تكساس) وأمراض الدماغ مثل الزهايمر وباركينسون (نتائج أبحاث جامعة لييج البلجيكية) ومرض التهاب المفاصل (حسب تقارير المعهد الفرنسي للصحة والبحوث الطبية).

وما أود الوصول إليه أن الإبل في ضوء هذه الفوائد الطبية لدمائها هي بالفعل من أعظم عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات كما ذكر أبو يحي زكريا القزويني في كتابه المشهور وقد فصل في ذلك الكتاب الاستخدامات الطبية لأجزاء الإبل الأخرى لدرجة أنه ذكر أن ابن سينا يقول بأن (بعر) الجمل يمنع الجدري أن يبقى أثره. وإن كنت قد لا أوافق القزويني في وصفته الغريبة بأن شرب بول الجمل يقوي على الجماع (بمعنى أنه منشط جنسي) وهذا يقودنا إلى اللغط المستمر في السنوات الأخيرة والمتعلق باستخدام أبوال الإبل كعلاج لبعض الأمراض. أولا الجميع يعلم بالحديث النبوي الشريف والمتعلق بإرشاد الرسول عليه الصلاة والسلام لبعض الأعراب بأن يستخدموا ألبان الإبل وأبوالها كدواء وفي الواقع استخدام بول الحيوانات كعلاج أمر شائع جدا في حضارات الشعوب القديمة مثل استخدام بول البقر في آسيا وبول الفيلة في إفريقيا. ومع هذه الدراسات الطبية الحديثة تشير بأن شرب كميات قليلة من بول الإبل المخلوط مع حليب الإبل بالفعل له صفات علاجية لمرض القرحة وفق البحث العلمي المنشور من قبل مجموعة طبية في الصين.

 في الختام أود أن أقول بأنه في الزمن المعاصر أهم وأبرز الأبحاث العلمية المتعلقة بالإبل وإن تمت في الوطن العربي مثل استنساخ الناقة (إنجاز) في مركز تكاثر الإبل في مدينة دبي أو الكشف عن تسلسل الخارطة الجينية (جينوم الإبل) في مختبرات مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وما شابها من الأبحاث الطبية المرتبطة بالتطبيقات الطبية للخلايا الجذعية للإبل أو من خلال تقنيات الهندسة الوراثية (الإبل المعدلة جينيا)، كل هذه الأبحاث العلمية المتقدمة وغيرها في الغالب تتم عن طريق شراكات علمية مع مراكز بحثية دولية ومع نخبة العلماء من الدول المتقدمة. في الواقع (مهرجان مزايين الإبل) هو حدث محلي خاص قد لا يعكس أهمية الإبل لبقية المجتمع البشري في حين أن (السنة الدولية للإبليات 2024) تعطي انطباعا أكبر وأوضح عن أهمية الدور الغذائي والطبي والثقافي لهذه الكائنات العجيبة. ولهذا أنا أتفق مع الهدف المعلن للإمام المتحدة من فعالية السنة الدولية هذه بأنها: تسعى إلى استثارة الوعي بالإمكانات التي تتمتع بها الإبليات وإلى توجيه دعوة لزيادة الاستثمارات في قطاع الإبليات من خلال الدعوة إلى إجراء المزيد من البحث واستخدام التقنيات المبتكرة. ولو تحقق هذا الهدف فبالفعل سوف نجد الإبل أو على الأقل السوائل الحيوية للإبل (الدم والحليب والبول) موجودة في العديد من مختبرات شعوب العالم كما هو عنوان هذا المقال.

 

( يهود الهولوكوست .. التحول من الضحية إلى الجلاد !! )


د/ أحمد بن حامد الغامدي

الطباع والصفات المرذولة في اليهود كثيرة ومن ضمنها سرعة تغيير المواقف والأحكام كما هي القصة المشهورة في السيرة النبوية عن إسلام الصحاب الجليل عبدالله بن سلام فعندما تحول من اليهودية للإسلام طلب من الرسول الكريم أن يسأل اليهود عنه قبل أن يعلموا بأنه اسلام وذلك لأن (اليهود قومٌ بُهت) سرعان ما (تتغير) أحكامهم من المدح إلى الذم. وعندما حاول يهودي أن يطعن في الصحابة بأنهم سرعان ما اختلفوا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان الرد المفحم الذي قاله الإمام علي رضي الله عنه (وأنتم لم تجف اقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة). والشاهد في القصة أنه بعد النعمة العظيمة من الله سبحانه وتعالى لليهود عندما أنجاهم وأنقذهم وأبعدهم عن عدوهم الشنيع فرعون وشق لهم البحر، فإذا بهم بمجرد شعورهم بالأمان بعد الوصول لصحراء سيناء وخروجهم من الماء، سرعان ما حل التغيير والتحول عليهم بسبب طباعهم السيئة وصفاتهم الدنيئة فإذا بهم يطلبون بأن يكون لهم أوثان وأصنام يتعلقون بها.

وذاك كان تحول الجيل القديم من بني إسرائيل بعد النجاة من القهر والقتل على يد الفرعون أما الجيل الحديث من بني صهيون فقد ورثوا دناءة الطبع وخساسة الجبلة من أجدادهم وآبائهم اليهود فما كادوا ينجون من فرعون العصر (هتلر ونظامه النازي) الذي سامهم سوء العذاب، وما كادت تجف أرجلهم من ماء البحر الأبيض المتوسط وهم ينزلون من سفنهم التي أبحرت بهم من أوروبا إلى أرض فلسطين، وإذا بهم سرعان ما يتحولون من حال الضحية المضطهدة إلى مآل الجلاد المعتدي.

ولنلخص قصة التحول الشنيع هذه كالتالي:

وفق المصادر التاريخية وصلت إلى سواحل فلسطين ما بين عامي 1945-1948م حوالي 65 سفينة مهاجرين يهود غير شرعيين بلغ عددهم نحو 70 ألف يهودي. ونخص بالذكر هنا السفينة المسماة (إكسودوس 1947) وهي سفينة بخارية صغيرة نسبيا كان مكتظة بشكل كثيف (كانت تحمل 4515 راكب) بالمهاجرين اليهود معظمهم كانوا ممن نجو من محرقة الهولوكوست النازية وتم نقلهم إلى أرض فلسطين. وما يهمنا هنا أن عملية نقل اليهود وتهجيرهم من أوروبا وبالذات من ألمانيا إلى فلسطين حملت اسم (عليا بيت Aliyah Bet) ومن قام بتنفيذها المنظمة الصهيونية الإرهابية الشنيعة (الهاجاناه Haganah) التي نفذت سلسلة المجازر والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في عام 1948م.

الجدير بالذكر أنه قبل الإعلان عن قيام الكيان الإسرائيلي بسنة أي في عام 1947م قام قادة اليهود في فلسطين وعلى رأسهم المجرم الأكبر والإرهابي الأثيم ديفيد بن غوريون (أول رئيس وزراء للإسرائيل) بإعلان التجنيد الإلزامي على جميع الرجال والنساء الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و25 سنة وبهذا تم تجنيد حوالي 21 ألفا من شباب الصهاينة بل أنه لاحقا تم الاستدعاء والتعبئة العامة لجميع الرجال تحت سن 40 عاما. كل هذا الحشد العسكري المتصاعد لأن الصهاينة كانوا يتوقعون حصول مقاومة من قبل الفلسطينيين والعرب بمجرد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل ولهذا في عام 1948م تم تجنيد المزيد والمزيد من الرجال والشباب القادرين على حمل السلاح وبالقطع كان من ضمنهم أولئك السبعون ألفا من اليهود الذين نجوا من الهولوكوست ووصلوا في عام 1948م إلى أرض فلسطين وكأنهم السبعين ألفا من اليهود الذين يخرجون من الدجال في آخر الزمان. بالمناسبة تشير المصادر التاريخية أن عشرات الآلاف من اليهود المهجرين من أوروبا تم في بداية الأمر تحويلهم إلى جزيرة قبرص وجمعهم في معسكرات توقيف، ولقد كان من خبث الوكالة اليهودية التي يديرها ديفيد بن غوريون أنها رتبت لتدريب المئات من الشباب اليهودي الناجين من الهولوكوست على حمل السلاح واكتساب الخبرة القتالية أثناء إقامتهم في قبرص حتى يكونوا على أهبة الاستعداد لحرب العرب بمجرد الوصل لأرض فلسطين المحتلة من قبل البريطانيين.

وبالفعل تذكر الصفحة الرسمية على شبكة الإنترنت لمنظمة (الهاجاناه) أن ذلك الجهاز الصهيوني العسكري في عام 1948م كان مؤلفا من 12 لواء وفرقة حربية مقاتله ما يهمنا منها في حديثنا هذا هو (اللواء السابع). هذا اللواء أو الفرقة السابعة (باللغة العبرية هاتيفا شيفا) كان مشكل بالدرجة الأساسية من اليهود الناجين من المحرقة النازية وهو لواء مدرع شارك في العديد من المعارك الحربية والعمليات العسكرية المهمة في بداية قيام الكيان الصهيوني. فقد شارك هذا اللواء السابع من الهاجاناه في معركة احتلال مدينة الناصرة الفلسطينية والسيطرة على منطقة الجليل الأعلى في شمال فلسطين كما قاتل في معارك اللطرون ضد الفيلق العربي الأردني كما واجه أيضا وحدات من الجيش العراقي وذلك في حرب عام 48.

الأخطر والأشنع من ذلك أن هذا اللواء السابع الصهيوني وبحكم كونه جزء من منظمة الهاجاناه الإرهابية كان له دور في ترويع وتهجير السكان الفلسطينيين من خلال تعمد تنفيذ مجاز دموية شنيعة مثل مذبحة دير ياسين ومذبحة الطنطورة. المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه له شهرة واسعة في السنوات الأخيرة بعد نشره لكتابه بالغ الأهمية (عشر خرافات عن إسرائيل) ولكن ربما الأهم من ذلك اهتمامه الكبير بتوثيق تاريخ النكبة العربية بعد حرب عام 1948م ومن هنا ظهر كتابه المميز (التطهير العرقي في فبسطين). الأمر البالغ الأهمية هنا هو ذكر شهادة إيلان بابيه عن جرائم اللواء السابع سيئ السمعة والمكون في غالبية من (يهود الهولوكوست) الناجين من جرائم النازية وبالتالي المتحولين من كونهم ضحية مستضعفة إلى كونهم جلادا قاتلا. يقول إيلان بابيه عن اللواء السابع في كتابه التطهير العرقي في فلسطين (في العديد من الروايات الشفهية الفلسطينية (عن النكبة) .. تظهر أسماء ألوية (عسكرية إسرائيلية) قليلة، ومع ذلك يتم ذكر اللواء السابع مرارا وتكرار إلى جانب صفات مثل: إرهابي وبربري).

الضحية عبري وضحية الضحية عربي

وكمثال على إرهاب وبربرية يهود الهولوكوست الذين تحول بعضهم من مظلوم إلى ظالم ومن ضحية إلى جلاد نذكر قصة اليهودي الصهيوني الشاب حاييم ابن أبراهام فيسناد الذي ولد في عام 1925م في مدينة صغيرة في جنوب بولندا والذي اعتقل وهو في سن الثامنة عشرة مع عائلته وتم إرسالهم إلى معسكر اعتقال نازي في داخل بولندا. وبعد فترة تم فصله عن أسرته وترحيله إلى معسكر الاعتقال النازي بوخنفاد غرب مدينة دريسدن الألمانية. وبعد سقوط ألمانيا النازية تم تحرير الشاب حاييم فيسناد مع عشرات الآلاف من اليهود وهنا تنتهي قصة الضحية المظلومة لتبدأ قصة الظالم والمعتدى حيث انخرط الشاب حاييم لعدة سنوات في عمليات تهريب اليهود من النمسا وإيطاليا إلى أرض فلسطين. في يوم 14 مايو من عام 1948م تم الإعلان عن قيام دولة الكيان الصهيوني المغتصب وبعد أيام معدودة من إعلان قيام دولة إسرائيل وصل الشاب حاييم فيسناد عبر البحر إلى أرض فلسطين وكما حصل توصيفه سابقا لم تكد رجلاه تجف من ماء البحر عندما هبط على ساحل مدينة حيفا حتى تم تجنيده على الفور في كتائب الهاجاناه.

الأمر الفائق الدلالة في قصة أحداث الشاب الصهيوني حاييم فيساند أنه شارك من خلال قتاله مع مجرمي كتائب الهاجاناه فيما يسمى معركة الطنطورة أو بالمعنى الأصح (مذبحة الطنطورة) وهي بلدة ساحلية صغيرة تقع بالقرب من مدينة حيفا التي نزل بها الشاب الصهيوني حاييم. قتل في تلك المجزرة حوالي 300 رجل من سكان بلدة الطنطورة وهذا العدد وإن كان يبدو مخفضا بالقياس بجرائم العدو الصهيوني اليوم إلا أنه ينبغي ألا نغفل بأن المذابح الصهيوني في بداية حرب 48 مثل مجزرة دير ياسين والطنطورة ومذابح مدن حيفا ويافا وغيرها كان هدف مجرمي الهاجاناه عند تنفيذها إيقاع أقصى درجات الرعب لدى الفلسطينيين للخوف من قتل الرجال واغتصاب النساء لكي تحصل نكبة التهجير وإخلاء المدن العربية من سكانها وبهذا تتم جريمة (التطهير العرقي).

وهذا ما حصل بالفعل فبلدة الطنطورة التي كان يسكنها حوالي ألفي فلسطيني من نجى منهم من المذبحة تم اعتقالهم وتهجيرهم بالكامل من مدينتهم وبعد ذلك بعدة أسابيع فقط وبالتحديد في 13 يونيو من ذاك الصيف الساخن والحزين تم تأسيس مستوطنة صهيونية في نفس موقع مدينة الطنطورة. في الواقع تلك المستوطنة التي تحمل اسم مستوطنة نحشوليم أغلب سكانها من الصهاينة هم من (يهود الهولوكوست) وبالذات من يهود بولندا (بلد الشاب حاييم فيسناد سالف الذكر) الذين نجوا من محرقة الإبادة النازية وهم هم من ساهم في بداية الإبادة الفلسطينية واحتلال الأراضي العربية المسلوبة. المؤرخ الإسرائيلي ألون كونفينو نشر مقال استقصائي عنوانه (الرمال الدافئة لشاطئ الطنطورة .. التاريخ والذاكرة في إسرائيل بعد حرب عام 1948م). في هذا المقال ينقل المؤرخ كونفينو شاهدة أحد الصهاينة الذي استوطنوا في بلدة الطنطورة مباشرة بعد تهجير العرب منها فقال (استقرينا في الطنطورة ولم نضطر إلى عمل الكثير لنبدأ حياة جديدة .. كانت القرية مهجورة والأملاك كثيرة وكان وقت جنى الغلال .. اسمع لن أبالغ إذا قلت إننا كنا في حالة ذهول .. كانت التربة خصبة والظروف مريحة والبحر والشاطئ لا مثيل لهما .. لقد رأينا حلمنا يتحقق).

وهنا قمة المأساة .. شعب يهودي مشرد ومعذب ومضطهد يهاجر إلى أرض شعب فلسطيني مسالم ومستقر في منازله ومزارعه، وفجأة أحلام اليهود تتحقق وكوابيس الفلسطينيين تتجسد. فمن كان ضحية انقلب إلى جلاد يستضعف غيره ويجعله هو الضحية الجديدة ويصبح الحال كما قال المفكر الفلسطيني البارز إدوارد سعيد بأن العرب زمن النكبة أصبحوا ضحايا الضحايا (victims of victims). قد تكون بلدة الطنطورة تجسيدا صارخا لعمق المأساة الفلسطينية وارتباطها بيهود الهولوكوست (ولهذا وظفتها بذكاء بالغ الروائية المصرية رضوى عاشور لتسليط الضوء على أبعاد المأساة الفلسطينية وذلك في عمل أدبي حمل عنوان مباشر ومركز: رواية الطنطورية)، ولكن مذبحة أخرى لا تقل شهرة وأهمية تلخص التناقض الصارخ والأثيم لسلوك اليهود الذين يتباكون على الظلم الواقع على ضحايا المحرقة النازية. ونتكلم هنا عن المذبحة الأشهر والأبرز (مجزرة دير ياسين) التي حصلت قبل حوالي شهرين من مذبحة الطنطورة وما يهمنا هنا في ربط هذه المذبحة الشنيعة بالمحرقة النازية في معسكرات الاعتقال الألمانية أنه في عام 1953م عندما بدأ الصهاينة في بناء مركز ومتحف الهولوكوست (مركز ياد فاشيم) لتذكير الشعب اليهودي وشعوب العالم بالظلم الفادح الذي وقع على (الضحية) اليهودية، كان من وقاحتهم أنهم أقاموا تلك المنشأة الضخمة على قمة جبل هرتزل في القدس الغربية. والمعنى أن من سوف يزور متحف الهولوكوست ذاك لكي يستعرض عذابات اليهود في المحرقة النازية لو نظر إلى الأسفل جهة الغرب فسوف تقع عينه مباشرة على بقايا أثار قرية دير ياسين المنكوبة وبهذا يمكن أن يستوعب المرء كيف يتحول اليهودي الصهيوني الأثيم من ضحية إلى جلاد.

وقبل أن نغادر أود أن أعود لمرة أخيرة لذكر (اللواء السابع) من ألوية الهاجاناه ففي الواقع تلك المنظمة الإرهابية الشنيعة تحولت منذ لحظة الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني من مجرد جهاز ووحدة عسكرية إلى ما يسمى جيش الدفاع الإسرائيلي الذي يشيع ذكره في وسائل الإعلام الأجنبية بحروفه المختصرة (IDF). وما يهمنا هنا أن أغلب الألوية العسكرية الاثنا عشر التي كانت تشكل الهاجاناه تلاشت مع الزمن ولم يبق منها موجودا حتى الآن إلا (اللواء السابع). بمعنى أن تلك الوحدة الحربية الصهيونية التي يشير التاريخ أن أغلب جنودها كانوا من (يهود الهولوكوست) كان لهم إسهام في المذابح الشنيعة واحتلال المدن الفلسطينية ولاحقا تلك الفرقة الحربية (اللواء السابع) شاركت في أغلب الحروب بين العرب والإسرائيليين فهي شاركت في حروب النكبة كما شاركت في حروب النكسة وهي الآن تشارك مع بقية ألوية الجيش الصهيوني في الحرب الشاملة ضد إخوتنا في فلسطين. يقولون الحية لا تلد إلا حية  والصهيوني لا يلد إلا صهيوني وإذا كان اليهودي الأوروبي الأشكنازي المظلوم وضحية المحرقة النازية بمجرد أن نزل من السفينة وقدماه لم تجف من ماء البحر سرعان ما حمل البندقية وركب العربة المصفحة لقتل وتصفية الفلسطيني الأعزل، فهل نستغرب الآن لماذا كل هذا الظلم والاعتداء الأثيم والمتواصل من قبل اليهودي الضحية قديما ضد الفلسطيني الضحية الجديدة. ربما ما سبق يفسر لماذا ظلم الصهاينة اليهود وبربريتهم وإرهابهم استمر لمدة 75 سنة ضد فلسطين والقصف والتدمير المتواصل الحالي يستمر لمدة ثلاثة شهور ضد سكان قطاع غزة.

( التخذيل عن المقاومة .. شواهد من التاريخ )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1445/6/10

 باستثناء النجاح الوحيد في ثورة كوبا تعرض الثائر الأكبر والأبرز في هذا العصر تشي غيفارا لعدد من الهزائم والفشل في ثوراته التالية في جبهات الدول الإفريقية (الكونغو وموزمبيق) وأمريكا الجنوبية (بوليفيا) ومع ذلك كان ذاك الطبيب الأرجنتيني حيكما جدا عندما شخص الحالة السليمة للثورات بقولة (لست مهزوما ما دمت تقاوم). وبالفعل بالرغم من هزيمة وإعدام تشي غيفارا ورفاقه الحمر فإنهم في الواقع من الناحية المعنوية والوجودية لم يهزموا إطلاقا فالرفيق الشيوعي غيفارا ما زال يتمتع حتى اليوم بخلود أسطوري في المجتمعات الغربية الرأسمالية.

وفي عالمنا العربي المعاصر ما زالت الثورات العربية الكبرى مثل ثورة عرابي وثورة سعد زغلول (ثورة 1919م) في مصر ضد الاحتلال الإنجليزي وثورة الأمير عبدالقادر الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر وثورة عمر المختار في ليبيا ضد الإيطاليين وثورة العشرين في العراق ضد الإنجليز وثورة عبدالكريم الخطابي (ثورة الريف المغربي) ضد الوجود الإسباني وثورة عز الدين القسام وثورة البراق في فلسطين ضد اليهود والاحتلال الإنجليزي وثورة يوسف العظمة في المقاومة السورية ضد الاحتلال الفرنسي، ما زالت كل هذه الثورات مثال للتاريخ المشرف للنضال والمقاومة ولهذا تذكر دائما وهي مصحوبة بعبارات التبجيل والتمجيد والثناء العاطر. ومع ذلك ففي الواقع كل تلك الثورات العربية (المجيدة) كان مصيرها النهائي وبدون استثناء الفشل والهزيمة وهذا أمر لا ينقص على الإطلاق من مكانتها المبجلة في الذاكرة العربية المعاصرة لأنه كما قال صاحبنا غيفارا (لست مهزوما ما دمت تقاوم).

لقد لاحظت في الفترة الأخيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة تبادلا كثيفا للعبارة الرائعة التي قالها المجاهد الكبير عمر المختار (نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت) وفي الغالب تنقل تلك العبارة من خلال مقطع فيديو قصير من فيلم عمر المختار وبنبرة الصوت المذهلة للفنان المصري عبدالله غيث. مقطع آخر من فيلم (عمر المختار) يتم تداوله بكثافة أكثر هذه الأيام لأنه يتناسب مع الواقع الحالي في كشف البعض ممن يحاول التخذيل والتهوين من جدوى المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني وأنه لا فائدة من النضال وأن الجهاد ضد العدو يسبب كوارث أكبر وأخطر على المدنيين من الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره. في ذلك المقطع يوجد حوار بين المجاهد عمر المختار وبين مجموعة من مشائخ الدين وأعيان القبائل الليبية الذين اجتمعوا بعمر المختار وحاولوا اقناعه بالتخلي عن الجهاد ويأتي على لسان الشيخ الليبي الشارف الغرياني بأن أطفال عمر المختار أي أطفال الشعب الليبي هم (ضحايا الجوع في معسكر الاعتقال، يمتون لأنك تصر على القتال).

تلك المحادثة بين المجاهد عمر المختار والشيخ الشارف الغرياني كانت في معقل المجاهدين في الجبل الأخضر في ولاية برقة الليبية وبالفعل في تلك الأثناء قام الاحتلال الإيطالي بمحاولة وأد المقاومة الليبية من خلال عزل المجاهدين عن بقية الشعب وذلك بواسطة إقامة خمسة معسكرات اعتقال ضخمة في شرق إقليم برقة. وبسبب الجوع والأمراض وسوء المعاملة تشير التوقعات التاريخية أن أعداد الليبيين الذين لقوا حتفهم في تلك المعتقلات بلغ حوالي 80 ألف قتيل وهذا يعني أن حوالي 55% ممن تم اعتقالهم في تلك المعسكرات خسروا حياتهم فيها. ومع ذلك تقبل المجاهد الكبير عمر المختار في المشهد السينمائي ذاك وفي التمثيل الحقيقي على أرض الواقع أن الحرية والاستقلال والجهاد قد يؤدي إلى تضحية فادحة ومؤلمة في الأرواح والممتلكات.

بقي أن نقول إن الشيخ الليبي الشارف الغرياني لم يكن عميلا وخائنا بالمعنى المعروف نتيجة تعاونه مع الاحتلال الإيطالي، بل أنه في شبابه كان يساعد المجاهدين ضد الطليان من خلال تهريب الأسلحة لهم، لكن الغرياني لاحقا أنخرط في السياسة بعد توليه الجناح السياسي في الحركة السنوسية ولهذا كان اجتهاده أن يتم مهادنة الاحتلال بدلا من مقاومته وكانت تلك هي الثغرة أو العثرة التي انزلق منها إلى خطيئة التخذيل عن الجهاد والتهوين في الاستسلام للعدو.

في الواقع قبل سنوات قليلة من هذه الأحداث والمحادثات بين عمر المختار والشارف الغرياني نجد قصة مشابهة سبق وأن تكررت في العراق بدل ليبيا فهذا الشيخ خيون العبيد زعيم عشيرة العبود يشارك في عام 1916م بقية العشائر العراقية في صد هجوم القوات البريطانية التي تحاول احتلال العراق. ونظرا لمساهمة الشيخ خيون العبيد في حشد 1700 مقاتل من قبيلته مكن ذلك مساندة حشود بقية العشائر العراقية التي انتصرت ضد الإنجليز في موقعة باهيزة لكن للأسف هذه المسيرة النضالية للشيخ خيون العبيد لم تستمر. بعد اكتمال احتلال العراق قامت القوات الإنجليزية بمحاولة شراء ولاء بعض مشائخ العشائر من خلال منحهم الامتيازات المادية والمعنوية ومن ذلك الشيخ خيون العبيد الذي استلم إدارة سلطة مدينة الناصرية من قوات الاحتلال البريطاني وبهذا أصبح للشيخ (خيون) من اسمه نصيب. في بدايات التجهيز والتخطيط للاندلاع (ثورة العشريين العراقية) وذلك في عام 1920م حاول الشيخ خيون العبيد (التخذيل) عن مقاومة المحتل وتسبب في البداية في تأخير الإعلان عن الثورة لمعارضته لها. وعندما أشتهر عن الشيخ خيون العبيد بأنه (يساير الإنجليز) بمعنى أنه يواليهم، أرسل المرجع الشيعي كاظم الطبطبائي رسائل إلى شيوخ ورؤساء الناصرية يطلب منهم أن يمنعوا الشيخ خيون من مسايرة الإنجليز وكذلك إرسال عدة رسائل خاصة للشيخ خيون يأمره بالمشاركة هو وعشيرته في الجهاد.

 دحر الثورات العربية بأيدي عربية

 بمناسبة الحديث في الفقرة السابقة عن إكمال احتلال العراق من قبل القوات البريطانية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية نجد أنه قبل ذلك بقيل كان الجنود الإنجليزي قد بسطوا سيطرتهم على أرض فلسطين وعندما دخل الجنرال الإنجليزي اللبني القدس كان بصحبته الضابط والجاسوس الخطير لورنس العرب. وما يهمنا هنا أن توماس لورنس كما كان يخطط من القاهرة (التي يحتلها الإنجليزي ويحتلون كذلك بغداد وعدن والخرطوم) كيف يتم تهييج وتجييش العرب السذج للثورة كان سوف يخدم بلاده لاحقا عندما طرح أفكاره لإخماد أي ثورات عربية مضادة محتملة. لهذا نجد لورنس العرب يساهم عام 1929م في الطبعة الرابعة عشرة من الموسوعة البريطانية بكتابة مقال يحمل عنوان (حرب العصابات Guerilla Warfare) وذلك لإعطاء نصائح ليس فقط عن كيفية إقامة الثورات ولكن أيضا عن كيفية التصدي للثورات المضادة من خلال تكتيك توظيف القيادات الفاسدة في الشعب لكي تعمل لصالح الاحتلال وتساهم في التشويش والتشويه لأي مقاومة ضده.

وفي هذا السياق نستوعب تورط الشيخ الليبي الشارف الغرياني في العمالة للاحتلال الإيطالي وكذلك انزلاق شيخ العشيرة العراقي خيون العبيد في التخذيل والتثبيط من اندلاع ثورة العشرين ضد الإنجليز. وبما إننا في سياق الاحتلال البريطاني لأرض فلسطين الذي ساهم فيه لورنس العرب فكما هو معلوم حاول الشيخ السوري عز الدين القسام الجهاد ضد تدنيس القدس ولكنه استشهد وعندما تولى مفتي القدس الحاج أمين الحسيني محاولة استمرار مسيرة المقاومة والنضال نجد أن سلطات الاحتلال حركت بعض القيادات الفاسدة في الشعب الفلسطيني مثل رئيس بلدية القدس راغب النشاشيبي. في البداية حاول العميل الإنجليزي راغب النشاشيبي إقناع الفصائل الفلسطينية بقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود وشن حملة شعواء ضد مفتي القدس واتهمه بالتطرف ولاحقا أنتقل إلى تشويه سمعة الثورة العربية الفلسطينية (الثورة الكبرى عام 1936م) باتهامها بالإرهاب وارتكاب المجاز. ولأن الانزلاق في وهدة العمالة قد يقود لمزيد من الخيانة الصريحة لهذا تورط بعض عائلة النشاشيبي وبالأخص فخري النشاشيبي (ابن شقيق راغب النشاشيبي) في ضرب الثورة من خلال تنظيم مظاهرات ضدها ولاحقا القيام بتشكيل تنظيم مسلح يدعى (فصائل السلام) تم تسليحها ودعمها ماليا من قبل الاحتلال. وذلك لكي تقوم فصائل الحرب تلك بشكل أثيم بملاحقة ومحاربة الثوار بل هاجمت القرى المؤيدة للثوار واعتقلت وقتلت بعض الثوار وسجنت البعض الآخر منهم أو سلمتهم للاحتلال الإنجليزي في إطار التنسيق الأمني البغيض في القديم والحديث.

 وبنهاية الفقرة السابقة نصل إلى مرحلة خطرة في ملف التخذيل المفضي إلى التخوين فبعد أن كان الاحتلال الأجنبي يجد من يدافع عنه من أبناء جلدتنا بارتكاب خطيئة التخذيل عن المقاومة وتهوين التعامل والتقبل للاحتلال إذا بنا نصل للقاع في العمالة من خلال المشاركة مع العدو في حرب الثوار وقتال المناضلين كما لاحظنا في حالة عمالة بعض أعضاء آل النشاشيبي. والأخطر من ذلك أن تقوم بعض الأنظمة العربية نفسها في دعم الاحتلال والقتال والتصدي للمقاومة والثورة ضد المحتل ومن أمثلة ذلك أن الثائر العربي البارز أحمد عرابي عندما قام هو والضباط الذين معه في عام 1882م بتدشين الثورة العرابية ضد تدخل الإنجليز والفرنسيين في شؤون مصر السياسية والاقتصادية لم يتعاون معه الخديوي توفيق بل انحاز إلى الإنجليز. وحتى بعد أن قصفت البوارج الحربية البريطانية مدينة الإسكندرية دافع الخديوي توفيق عنهم وقال إن احتلال الانجليز للإسكندرية الغرض منه المحافظة على الأمن وكان من توابع ذلك أن صدرت فتوى شرعية من شيخ الأزهر محمد عليش وبعض مشايخ الأزهر تتهم الخديوي بالخيانة والمروق من الدين لانحيازه إلى الجيش الذي يحارب بلاده.

ونختم بأن تخاذل الخديوي توفيق ساعد في نهاية المطاف في القضاء على وزير الدفاع المصري أحمد عرابي في معركة التل الكبير أمام الإنجليز كما أن تخاذل الشريف فيصل بن الحسين ملك الأردن وسوريا ساهم في القضاء على وزير الدفاع السوري المناضل يوسف العظمة الذي استشهد في معركة ميسلون أمام الجنرال الفرنسي غورو. وقبل ذلك بنصف قرن ساهم التخاذل العربي في اجهاض ثورة الأمير عبدالقادر الجزائري المناهضة للاحتلال الفرنسي للجزائر ومن المحزن أن المعارك الأخيرة التي خاضها الأمير عبدالقادر في مسيرة الجهاد تلك كان يقاتله فيها ملك المغرب سلطان مراكش عبدالرحمن بن هاشم الذي تحالف مع الفرنسيين في القضاء على الثورة الأولى لتحرير الجزائر. وبالفعل صدق المجاهد الكبير مولاي عبدالكريم الخطابي مفجر ثورة الريف المغربي ضد الإسبان والفرنسيين عندما قال وكأنه يصف حال من يتخاذل عن مقاومة المحتل وينتهي به الأمر أن يصبح عميل له، يقول الخطابي (من لم يحمل السلاح ليدافع به عن نفسه، حمله ليدافع به عن غيره).

 قديما حاول البعض منا التشوية والتشنيع والتخذيل من جدوى الثورات العربية الكبرى ضد المحتل الأجنبي ثم مع الزمن زادت تلك الثورات ومن أطلقها وجاهد فيها رفعة ومكانه وخلود الذكر أما من عارضها وحاربها وشوشر عليها فقد احتجنا أن نغوص في مزابل التاريخ لكي نخرج بعض من ذلك التاريخ الأسود والمشين.

( حرب اللغات .. الصراع بين العربية والعبرية )

 


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1445/6/3

 يوم الإثنين القادم أي بعد غد يوافق ذكرى سعيدة تأتي في ظروف كئيبة وعصيبة وأقصد بذلك حلول اليوم العالمي للغة العربية الذي يمر في خضم الصراع في أرض فلسطين مع العدو الغاصب والغاشم الذي يحاربنا في العديد من الجبهات. قبل أيام فقط هدد رئيس وزراء الكيان الصهيوني النتن ياهو بشن (الحرب الشاملة) وهو أمر في الواقع تقوم به إسرائيل منذ عقود ضد الأمة العربية الغافلة والمغيبة فعدونا يشن علينا (حرب مياه) وحرب التعطيش بتلويث المياه الجوفية في قطاع غزة وسرقة مياه نهر الأردن ونهر الليطاني. أما (الحرب الديمغرافية) فمعالمها واضحة منذ التغريبة والتهجيرة الفلسطينية زمن نكبة 48 ومحاولة العدو تكرار ذلك في نكبة 23 الهادفة لتهجير المهجرين إلى صحراء سيناء. وقد يطول بنا المقال لو حاولنا حصر أنواع الحرب الشاملة التي يشنها عدونا ضدنا من خلال الحرب الاقتصادية والحرب الإعلامية والحرب النفسية وأخيرا وليس آخرا (الحرب اللغوية).

في عام 2018م وقف النتن ياهو داخل الكنيست الإسرائيلي وهو في قمة السعادة بعد إقرار مشروع قانون الدولة القومية والذي هو أشبه بدستور جديد للكيان الصهيوني يركز على (تهويد الدولة) وأنها كيان خالص وخاص لليهود فقط. وكان من كوارث ذلك القانون القومي اليهودي المحاربة الصريحة وبالعبري الفصيح ضد اللغة العربية فقد نص مشروع القانون على أن اللغة العبرية اليهودية ستكون هي اللغة القومية الوحيدة الرسمية في إسرائيل وأنه بناءً على ذلك يجب الحد من استخدام وتداول اللغة العربية. وفي الواقع ومنذ عام 2008م وجد تيار قوي في داخل وزارة التعليم الإسرائيلية كان يدفع باتجاه إخراج تعليم اللغة العربية من مناهج التدريس الإجبارية في المدارس العبرية ومن المحتمل مع وصول اليمين الصهيوني المتطرف بقيادة النتن ياهو أن يعاد طرح هذه الفكرة مرة أخرى. وأيضا بعض المتشددين الصهاينة يطالبون بشدة منع المدرسين العرب من تدريس اللغة العربية وقصر ذلك على المعلمين الصهاينة وذلك من باب تبني هؤلاء المتشددين للمقولة المشهورة لمالكوم إكس (فقط الأغبياء هم من يتركون عدوهم يعلم أبناءهم).

وفيما يتعلق بوسائل الإعلام مثل قنوات التلفزيون الرسمي الإسرائيلي والقنوات الفضائية وبالرغم من أنها تحتوي على بعض البرامج ونشرات الأخبار المقدمة باللغة العربية والتي هي أصلا موجهة للدعاية الصهيونية أو تقديم الأخبار من وجهة النظر الإسرائيلية إلا أن نسبة هذه البرامج الناطقة باللغة العربية أخذت تتقلص فمثلا القناة الإسرائيلية (آس 24 نيوز) تبث عشرة برامج باللغة الإنجليزية و 14 برنامجا باللغة الفرنسية في حين البرامج الناطقة باللغة العربية ( ينبغي التنبيه أنه حتى عام 2018م كانت اللغة العربية لغة رسمية في إسرائيل) هي ستة برامج فقط الوضع أسوء بكثير في القنوات التلفزيونية العامة مثل القناة الإسرائيلية الأولى. تقهقر اللغة العربية في إسرائيل وتراجعها للمرتبة الثالثة بدلا من الثانية نجده كذلك في عدد الكتب المنشورة في الكيان الصهيوني ففي عام 2021م تم نشر رقم ضخم من الكتب باللغة العبرية بلغ 6598 كتابا في حين نشر باللغة الإنجليزية 334 كتابا بينما للأسف لم ينشر باللغة العربية إلا 160 كتابا فقط وذلك وفق إحصائيات المكتبة الوطنية الإسرائيلية.

الحرب المسعورة الصهيونية لمحو الذاكرة العربية من خلال تهميش اللغة العربية وصلت إلى (لغة الشوارع) وأقصد بذلك تحويل أسماء الشوارع والمناطق والبلدات من اللغة العربية إلى اللغة العبرية فمنذ عام 2009م أمرت وزارة المواصلات الإسرائيلية بشطب أسماء البلدات والمدن العربية عن اللوحات واللافتات المنصوبة في الطرق العامة. وفي الواقع هذه الحرب اللغوية الشوارعية ليست حديثة فمنذ عام 1952م سعت لجنة التسميات في حكومة الكيان الصهيوني الأثيم إلى تهويد و (عبرنة) الدولة من خلال إطلاق الأسماء العبرية بدل الأسماء العربية في المئات والآلاف من المواقع الجغرافية والتاريخية وما زال مشروع تهويد الشوارع الفلسطينية مستمرا ففي عام 2015م صادقت بلدية القدس على تسمية الشوارع في البلدة القديمة والقدس الشرقة بأسماء عبرية ذات دلالات توراتية. وبحكم أن شرائح واسعة من المجتمع الصهيوني من المتشددين أو من المستوطنين تعتبر اللغة العربي هي (لغة العدو) لهذا يقودهم تطرفهم لعدم استحمال مشاهدة اللافتات واللوحات الإرشادية في الشوارع وهي مكتوبة باللغة العربية لذا يقومون بطمسها بالأصباغ بينما البلديات الحكومية تتعمد التأخير في صيانة وتجديد لوحات الشوارع التالفة والمكتوبة باللغة العربية.

العربية تعلم العبرية قواعد الكلام !!

ما سبق سرده قد يصيب الواحد منا بالغصة لأنه يوحي بأن عبارة (الأرض بتتكلم عربي) ليس لها وجود في أرض فلسطين وهذا قد يعني أنه في هذه الجولة من الصراع ربما استطاعت اللغة العبرية أن توقع بعض الخسائر باللغة العربية في حرب اللغات تلك. ولكننا هنا نغفل أمرا مهما وهو البعد (الجغرافي) والسياق (التاريخي) للصراع والتنافس بين اللغة العربية واللغة العبرية فواقع الحال في أرض فلسطين (المحتلة) هو بمشيئة الله وضع مؤقت سوف يزول يوما ما وعسى أن يكون قريبا كما أن اللغة العبرية ليس لها أي هيمنة على الإطلاق خارج جغرافيا حدود فلسطين السليبة حتى وإن كان صهاينة العرب في تزايد هذه الأيام وللأسف بعضهم بدأ يفاخر أنه يتحدث ويغني باللغة العبرية ويغرد (عفوا أقصد ينهق) ويكتب بالحروف العبرية.

صفحات التاريخ وخرائط الجغرافيا كلها تثبت أن اللغة العربية كان لها دوما (الكلمة) العليا مع اللغة العبرية ففي تاريخنا العربي القديم نجد أن الشعراء اليهود من مثل السموأل وكعب الأشراف كانت قصائدهم بلسان عربي فصيح، بل حتى التوراة في جزيرة العرب كانت تكتب باللغة العربية فالخليفة العادل عمر بن الخطاب أخذ صفحات من التوراة من أحد اليهود بالمدينة وأحضرها للنبي صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه والقصة مشهورة في غضب النبي عليه السلام من هذا الأمر.

من المشهور وصف اللغة العبرية اليهودية بأنها لغة ميتة لأنها كانت لغة مندثرة لا تستخدم في الكتابة أو في الحديث في الحياة العامة وإنما كانت فقط تستخدم في أداء الشعائر الدينية التوراتية وذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر مع تنامي الفكرة الخبيثة الصهيونية الهادفة لإعادة اليهود إلى أرض فلسطين. وبالعودة للتاريخ نجد أن اللغة العبرية تلاشت وأهملت بعد السبي البابلي لليهود في عام 586 قبل الميلاد وبعد عودة اليهود إلى فلسطين زمن الملك قورش أصبحت اللغة الآرامية هي اللغة التي يتحدثون بها وهي اللغة التي كتب بها التلمود ولهذا تسمى اللغة القانونية لليهود. ونظرا لتعرض اليهود عبر التاريخ للاحتلال الروماني والمقدوني والفارسي لذا تعددت اللغات التي يتحدث بها اليهود فقد كانت اللغة الآرامية في العراق والشام واللغة اليونانية في مصر واللغة اللاتينية في شمال إفريقيا وأوروبا بينما كان اليهود الذين عاشوا في المدينة واليمن يتحدثون اللغة العربية. تشير الدراسات التاريخية إلى أنه في القرن الثاني الهجري ومع اتساع الرقعة (الجغرافية) للخلافة الإسلامية فإن 90% من يهود العالم كانوا يعيشون تحت مضلة الإسلام ولهذا كانت اللغة المحكية بينهم هي اللغة العربية وهذا ما ساعد على تجانس اليهود مع العرب والمسلمين وتقبلهم في نسيج المجتمع العربي.

وكان من آثار هيمنة اللغة العربية على اليهود في القرون الوسطى أن الإنتاج الحضاري والمعرفي لليهود ولقرون طويلة كان يكتب باللغة العربية وليس باللغة العبرية. لدرجة ان كتاب (تفسير المشناة) والذي ربما هو ثالث أهم كتاب في الديانة اليهودية بعد التوراة والتلمود كان من تأليف الحاخام والطبيب اليهودي الأندلسي المعروف موسى بن ميمون والذي كتب هذا المؤلف في الشريعة اليهودية باللغة العربية ومن أهمية هذا الكتاب أنه ورد فيه المبادئ الثلاث عشرة التي جعلها موسى بن ميمون أسس الدين اليهودي وأركان الإيمان فيه. وبالمناسبة موسى بن ميمون يعتبر كذلك أحد أهم الفلاسفة اليهود في جميع العصور (يعرف في الغرب باسم Maimonides) وأفكاره وآرائه الفلسفية موجوه في كتابة الذي هو بعنوان (دلالة الحائرين) وهو مكتوب باللغة العربية وبأحرف عبرية.

ومن دلائل تأثير وهيمنة اللغة العربية على اللغة العبرية أن الحاخام اليهودي مروان بن جناح القرطبي كان عالما باللغتين العربية والعبرية ولذا مزج بينهما فله كتاب يحمل اسم (التنقيح) وكتاب آخر بعنوان (اللمع) جمع فيهما قواعد اللغة العبرية ونظرا لأنه كان متبحرا في علم النحو على منهج سيبوية فقد صاغ قواعد اللغة العبرية على وفق قواعد النحو والصرف في اللغة العربية. سبق وأن ذكرنا بأنه منذ فترة السبي البابلي أصبحت اللغة العبرية شبه مهجورة ولهذا لم تتطور وبقيت متخلفة في صورتها البدائية المنطوقة لدرجة أن الدراسات اللغوية والتاريخية ترجح أن اللغة العبرية لم تعرف نظام النحو وقواعد اللغة إلا في زمن يهود الأندلس من مثل عالم اللغة اليهودي مروان بن جناح السالف الذكر وكذلك يحي بن حيوج الفاسي الذي عاش بمدينة قرطبة والذي أعتمد على نظام الخليل وسيبوية في النحو العربي وطبقه في دراساته النحوية العبرية وخرج بكتابه (كتاب الأفعال) في النحو العبري. ولا يتسع المقال والمقام لذكر أمثلة لتأثر شعراء وأدباء وعلماء اللغة اليهود بعلم البلاغة العربي وتطويرهم لأساليب أدبية وأغراض وفنون شعرية غير معروفة على الإطلاق في الأدب اليهودي القديم.

ما سبق استعراضه من شواهد التاريخ وحدود الجغرافيا يثبت أن اللغة العبرية أضعف وأهون من تؤثر في اللغة العربية أو أن تكون مكافئة لها في نزال حضاري أو صراع لغوي. ومع ذلك بالفعل في المساحة الجغرافية الصغيرة المتمثلة في أرض فلسطين وفي اللحظة التاريخية الحالية يحاول أهل العبرية تحييد وتهميش أهل العربية ولغتهم وسبب نجاحهم النسبي أنهم تفردوا بالصراع مع أخوتنا ولغتنا في فلسطين دون أي مؤازرة أو تكتل لبقية الناطقين باللغة العربية من العرب والعجم من أهل الإسلام. وبمشيئة الله يوم أن يعود أهل العربية وأهل الإسلام للاتحاد لكي يكونوا جمع مذكر سالم بدلا من حالهم المخزي كجمع تكسير فعند ذلك لن يكون للصهاينة محل من الإعراب في أرض الأعراب.