السبت، 14 نوفمبر 2020

( فرنسا .. شرٌ متواصل )


 من قبل الحروب الصليبية وإلى ما بعد الاستعمار الغربي .. شرور فرنسا متواصلة

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 الصراع بين الحضارات والمدافعة بين الديانات من السنن الربانية التي شاءتها إرادة الله الحكيم العليم. وقد ورد في الحديث الشريف (فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها أبداً، والروم ذات القرون كلما هلك قرن خلف مكانه قرن) فالصراع والصدام بيننا وبين أهل النصرانية مستمر لآخر الزمان كما في تكملة ذلك الحديث الشريف (هيهات إلى آخر الدهر). ولكن تبقى قضية التصور الجمعي لدينا أن أعدائنا من (الروم) الذين سوف نقاتلهم عبر التاريخ هم النصارى المقيمين في حاضرة الفاتيكان من أرض إيطاليا.

بينما الاستعراض التاريخي للصراع الحربي بين الإسلام والمسيحية نجد فيه أن أغلب أعدائنا من النصارى ليسوا من مدينة روما وإنما من نصارى القسطنطينية (الإمبراطورية البيزنطية) أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة (الإمبراطورية الكارولنجية) والتي نعرفها في تاريخنا العربي القديم بإمبراطورية الفرنجة. صحيح إن الأصول العرقية للفرنجة أو الفرنسيس هي لقبائل جرمانية هاجرت من ألمانيا واستقرت في فرنسا (مثل القبائل الجرمانية التي استقرت في بريطانيا وعرفت لاحقا بالانجلوساكسون) لكن بمجرد سيطرتهم على الحكم في تلك البقاع تحول اسم تلك الديار من أرض الغال إلى المملكة الفرنجية خصوصا بعد انتشار المسيحية فيها. فالعداء التاريخي المسيحي القديم لنا كان أغلبه من أرض الفرنسيس (فرنسا) وليس من الديار الإيطالية كما إن بابوات الدين النصراني لم يكونوا دائما يقيمون في الفاتيكان فلفترة طويلة من الزمن أقام العديد منهم في مدينة أفينيون في جنوب فرنسا والتي استحقت لقب مدينة (قصر البابوات).

لأكثر من 1300 سنة استمر الصراع بيننا وبين أهل فرنسا حيث أن منها أنطلق أول غزو عسكري كبير على الديار العربية وعلى الأراضي الفرنسية نفسها وقعت أول هزيمة عسكرية كبرى للجيوش الإسلامية ومن فرنسا انطلقت الحروب والحملات الصليبية والأمة الفرنسية هي من دشن عصر الاستعمار الغربي. من هذا وذاك ومن تلك وتياك نستشف أنه حتى الآن كانت فرنسا هي أكثر بقعة أوروبية ناصبتنا العداء وكبدتنا الشقاء بشرورها المتواصلة عبر الدهور وتتابع العصور.

ولنبدأ القصة منذ فترة مبكرة نسبيا من ظهور الإسلام وبالتحديد عام 114 هـ عندما حصلت أول هزيمة عسكرية كبرى للأمة المسلمة وذلك في معركة بلاط الشهداء والتي وقعت بالقرب من مدينة بواتييه في غرب فرنسا. لقد كان وقع الهزيمة كبيرا على المسلمين لدرجة أنه استشهد عدد كبير من المجاهدين كان على رأسهم قائد الجيش عبد الرحمن الغافقي رحمة الله ومن تلك اللحظة تحول لقب الإمبراطور الفرنسي شارل مارتيل إلى شارل المطرقة لكثرة ما قتل من المسلمين. هذه الهزيمة الكبرى غيرت مجرى التاريخ وأوقفت زخم الفتوحات الإسلامية في القارة الأوروبية ليس هذا فحسب ولكن كانت أيضا لحظة بداية الضعف العسكري الخطير للعالم الإسلام والذي سوف يبدأ يدخل في دوامة الدفاع بدل الهجوم. قد يعتقد البعض أن أول هجوم عسكري كبير تعرض له العالم الإسلامي كان مع بداية الحملات الصليبية في نهاية القرن الخامس الهجري أو مع الغزو المغولي في بداية السابع الهجري ولكن في الواقع أول غزو وهجوم حربي خطير على بلاد الإسلام حصل في زمن مبكر ومرة أخرى كان منطلقة من أرض فرنسا. وهذا ما حدث في عام 160 هـ عندما قام إمبراطور الفرنجة الشهير شارلمان بتوجيه بجيش جرار ضخم عبر به جبال البرانس جنوب فرنسا إلى أرض الأندلس في محاولة منه لاحتلال بعض أهم المدن الإسلامية في تلك البقاع مثل قرطبة وسرقسطة وبرشلونة. وبالرغم من الخيانة لبعض حكام الأقاليم العربية في الأندلس وتعاونهم مع شارلمان ضد صقر قريش عبد الرحمن الداخل (وللأسف تحالف هارون الرشيد مع شارلمان ضد تقارب عبد الرحمن الداخل مع الإمبراطور البيزنطي ثيوفيلوس) إلا أن الهجوم انتهى بهزيمة شنعاء ضد الفرنسيس اشتهرت في التاريخ العربي بمعركة باب الشزري وفي التاريخ الأوروبي بمعركة ممر رونسفال.

 

من الحملات الصليبية إلى الاستعمار الغربي

ذكرنا أن حملة الإمبراطور الفرنسي شارلمان على بلاد الأندلس هي أول حملة عسكرية كبرى يتعرض لها العالم الإسلامي وبالرغم من فشل هذه الحملة إلا إن فرنسا كانت نقطة الانطلاق لأخطر وأهم الحملات العسكرية التي تعرضنا لها ألا وهي الحروب الصليبية والاستعمار الأوروبي. بعدما بدأنا نستوعب دور فرنسا وأنها هي أم الشرور الكبرى ضدنا ليس بمستغرب الآن أن نعلم أن لحظة الإعلان وحملة التجييش والتشويه ضد الإسلام عند انطلاق الحملات الصليبية كانت من فرنسا وليس من روما أو الفاتيكان. هذا ما حصل عام 448 هـ (الموافق 1095م) عندما أعلن البابا المسيحي أوربان الثاني من مدينة كليرمون في وسط فرنسا عن انطلاق الحملة الصليبية وكما هو معلوم أن الشخصية الدينية الأكثر أهمية في تأجيج جموع المسيحيين لهذه الحرب الصليبية هو بطرس الناسك وهو راهب فرنسي متعصب. وكل من يطالع تاريخ الحروب الصليبية ستتكرر عليه أسماء ملوك مملكة بيت المقدس المسيحية وأسماء فرسان الجيوش الصليبية من مثل جودفري وبلودين وبودوان وكل هؤلاء حكام مدن وأقاليم فرنسية اشتركوا في الحملة الصليبية الأولى. وكما هو معلوم منذ الحملة الصليبية الثانية بدأ ملوك الدول والإمبراطوريات الأوروبية في قيادة الجيوش المشاركة في الحروب الصليبية وقد كان لملوك فرنسا حصة الأسد في هذا الإثم والعدوان. ويكفي أن نعلم أن الحملة الصليبية الثانية قادها الملك الفرنسي لويس السابع في حين قاد الحملة الثالثة الملك الفرنسي فيليب الثاني أما الحملتين الصليبيتين السابعة والثامنة فقد قادهما الملك الفرنسي لويس التاسع. وبهذا الدور الكبير لفرنسا بملوكها ورهبانها وجيوشها الضخمة في دعم الحروب الصليبية لا عجب أن العرب أطلقوا اسم (الفرنجة) على هؤلاء الأعداء والاسم مأخوذ كما هو واضح من كلمة الفرنكيين Franks والتي هي مشتقة من اسم فرنسا.

 تعتبر محطة الحروب الصليبية ومرحلة الاستعمار الأوروبي من المحطات والمفاصل التاريخية بالغة الأهمية والأثر في التاريخ الإسلامي القديم والحديث ومن عجائب الصدف أن دول ساحل المغرب العربي شهدت نهاية الحروب الصليبية وكذلك بداية الاستعمار الغربي للأراضي العربية. ففي عام 668 هـ (1270 ميلادي) شن ملك فرنسا لويس التاسع الحملة الصليبية الثامنة التي كانت تهدف لمحاولة احتلال تونس والتي فشلت فشلا ذريعا وبهذا انتهت الحروب الصليبية على أرض تونس المجاهدة. ولكن سرعان ما سوف يشهد العالم الإسلامي نكبته الكبرى باكتمال سقوط الأندلس عالم 1492م لتبدأ بعد ذلك مباشرة بواكير وإرهاصات الاستعمار الأوروبي للثغور الإسلامية في بلاد المغرب العربي. فبعد أقل من عقدين من الزمان من سقوط الأندلس احتلت الأساطيل العسكرية الإسبانية المدن المغاربية العريقة مثل وهران وبجاية وعنابة وطرابلس الغرب. صحيح إن الإحتلال الأسباني للسواحل العربية الإفريقية استمر لفترة من الزمن بالرغم من حركة المقاومة والجهاد التي قام بها القائد الشهير خير الدين بربروسا وأخيه المجاهد عرّوج إلا إن هذا الاحتلال لم يتوغل كثيرا في الداخل العربي لتلك البلدان كما أنه بمجرد زواله لم يبق له على الإطلاق أي أثر حضاري أو سياسي. ولكن الأمر اختلف كثيرا مع الاحتلال الفرنسي الغاشم للجزائر عام 1830م وقبله احتلال فرنسا بقيادة نابليون للديار المصرية عام 1798م وهو احتلال وإن كان أحدث في التاريخ من الاحتلال الإسباني إلا أنه أشنع في شدة الأثر والتغيير للمجتمع العربي والمسلم.

بالمناسبة عندما فشلت أخيرا الحملات الصليبية باعتقال الملك الفرنسي لويس التاسع وحبسه بدار لقمان في مدينة المنصورة يقال إن أسلوب وخطة (الغزو الفكري) خطرت ببال الملك الفرنسي من تلك اللحظة وذلك وفق ما نقله المؤرخ جان دي جوانفيل الذي كان يرافق الملك لويس التاسع في حملته الصليبية تلك. بالرغم من أن الاحتلال البريطاني والاحتلال الفرنسي هما أكثر انواع الاستعمار الغربي انتشارا في البلاد العربية إلا إن تأثير الاحتلال الفرنسي من الناحية (الفكرية) أخطر وأدوم. ولتدليل هذه الفرضية قارن الاحتلال الفرنسي للجزائر والذي استمر لمدة 130 بالاحتلال البريطاني لليمن الجنوبي وعدن والذي استمر كذلك لمدة 128 سنة علما بأنهما حدثا في فترة متزامنة تقريبا (الاحتلال الفرنسي بدأ عام 1830م بينما البريطاني عام 1839م). بعد جلاء الاحتلال الإنجليزي من اليمن أو مصر أو العراق لا تكاد تشعر بديمومته الفكرية بينما حتى الان للفكر الفرنسي الفرانكوفوني تأثير خطير في بعض البلاد العربية مثل الجزائر وتونس ولبنان. والمهزلة الكبرى أن بعض المفكرين والمثقفين في أرض الكنانة مصر العربية احتفلوا عام 1998م بمرور قرنين من الزمن على احتلال نابليون لمصر. والمقصود أن (الغزو الفكري) الفرنسي كان على درجة عالية من الخبث والشر لدرجة أن آثاره وأتباعه لهم السطوة حتى الان في بعض الدول العربية. ونختم موضوع خطورة الاحتلال الفرنسي للدول العربية والإسلامية بالتذكير بالعدد الضخم جدا من بقاع الإسلام التي اجتاحتها الجيوش الفرنساوية الغازية مثل سوريا ولبنان ومصر وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وشمال العراق وجزء من الاناضول بتركيا والسنغال ومالي والنيجر وتشاد وغينيا وبينين وجزر القمر.

والملاحظ أن سطوة وسيطرة فرنسا على الدول العربية والإسلامية التي كانت تحتلها ما زالت مستمرة ومتجددة سواء من خلال تأثير منظمة الدول الناطقة بالفرنسية أو حتى بإعادة التدخل العسكري المباشر. حيث تشير الدراسات إلى إن فرنسا ومنذ عام 1960م تدخلت عسكريا أكثر من خمسين مرة في الدول الإفريقية يهمنا منها الإشارة للاعتداء على الدول الإسلامية كما يحصل الآن في مالي وقبل ذلك في تشاد وليبيا والصومال وجزر القمر.

وعقلية المستعمر هي التي تفسر لنا وقاحة رجال الحكم في فرنسا في تعاملهم مع بعض القضايا الداخلية في الدول العربية كمثل تهديد الرئيس الفرنسي ميتران بالتدخل العسكري في الجزائر لو فاز حزب جبهة الإنقاذ الإسلامي وكما يتدخل الرئيس ماكرون الآن في تشكيل الحكومة اللبنانية. وعلى ذكر علاقة لبنان بفرنسا يجدر التنبيه للعنجهية الاستعمارية الصفيقة التي انتهجتها فرنسا عام 1861م وذلك بالتدخل في قلب العالم العربي عندما أرسلت فرنسا حملة عسكرية إلى لبنان بحجة عجيبة أنها تريد إعادة تسكين الموارنة (الذي اعتبرتهم رعايا فرنسيين بالرغم من كونهم عرب ومواطنين يتبعون للدولة العثمانية) إلى قراهم التي تم تهجيرهم منها على يد الدروز. وبهذه الحجة تم انتزاع لبنان من أراضي سوريا الكبرى ومن هنا بدأ مسلسل تقسيم الدول والأقاليم العربية قبل قرن ونصف من الآن.

وقبل أن نغادر نذكر في الختام وبشكل سريع (فقد طال المقام والمقال) ببعض شرور وجرائم فرنسا الحديثة من مثل المشاركة في حرب العدوان الثلاثي على مصر والقيام ببناء مفاعل ديمونة النووي الإسرائيلي حتى من وراء ظهر أمريكا الراعية الحصرية للصهاينة. وإذا كان لفرنسا دور حاسم في دعم عدونا الصهيوني فلا يمكن أن ننسى أن الخطر الإيراني الشيعي على منطقتنا كان لفرنسا دور في هذا الشر عندما احتضنت آية الله الخيميني ومكنت له من قيادة الثورة الإيرانية وهو يقيم في ضواحي باريس ثم بعد ذلك وصل إلى الأراضي الإيرانية بطائرة فرنسية نزل من سلم الطائرة وهو يستند ويتعكّز على ذراع الطيار الفرنسي بدل أن يستند على أكتاف مناصريه وهي حركة عفوية ولا شك ولكن تشف عن أشياء وخفايا كثيرة.


( الانتخابات .. بعيداً عن السياسة )

ما هو دور الأدباء العرب تحت قبة البرلمان

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 بعد كم هائل من الأخبار المتعلقة بالحملات الانتخابية الرئاسية الأمريكية والبرلمانية المصرية أتوقع أن الغالبية العظمى منا لا تريد المزيد من هذا الشقاء. ومع ذلك دنيا الانتخابات وصراعات الأحزاب قد يكون فيها أمر شيق بعيدا عن السياسية إذا رصدناها من المنظور الأدبي. قديما ألف الأديب الأندلسي ابن أرفع رأس الجياني كتاب خيميائي سماه (شذور الذهب في صنعة الكيمياء) وهو كتاب ثبت أنه غير مفيد علمياً ولكنه شيق من الناحية الأدبية. ولهذا تهكم وسخر البعض منه ومن كتابه فقال (إن فاتك ذهبه لم يفتك أدبه) وهذا الوصف الساخر ربما ينطبق على الانتخابات والمجالس البرلمانية في دول العالم الثالث فهي وإن لم تفيد بشي في تحسين حياة الناس إلا موضوعها بيئة خصبة لإنتاج أعمال أدبية راقية وشيقة. ولهذا سوف نذهب في جولة أدبية مع مشاهير الشعراء وكبار الأدباء في العالم العربي وفي أمريكا اللاتينية وفي القارة الأفريقية السمراء لنسبر أغوار العلاقة بين دهاليز السياسة وأورقه الأدب.

ربما كان أول حزب سياسي في العالم العربي هو الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل عام 1907م في حين أن أول برلماني نيابي في العالم العربي كان هو مجلس شورى النواب المصري الذي افتتح عام 1866ميلادي. والمقصود أن الحراك النيابي والنشاط الانتخابي قديم وعريق في محيطنا الإقليمي ومع ذلك هو مجهول تماما كما هو مجهول تماما أن مشاهير الأدباء شاركوا بشكل أو آخر في الحياة البرلمانية. من الصفحات المجهولة في حياة أمير الشعراء أحمد شوقي أنه قد شارك في عضوية البرلمان المصري والأغرب من ذلك أنه كان أول نائب عن محافظة سيناء في البرلمان بالرغم من أنه ليس من أهل سيناء كما هو معلوم. في مقال سبق نشر قبل عدة سنوات وحمل عنوان (الشعراء والثقافة السياسة) ناقشت فيه بعض التميز البارز لأحمد شوقي في مجال الثقافة السياسية والتاريخية المذهلة وهنا نكمل الإشارة للجوانب النيابية والدستورية والانتخابية في شعر شوقي. وهو أمر متكرر بشكل واضح في ديوانه لدرجة وجود قصيدة اشتهرت بعنوان (البرلمان) والتي أنشدها في افتتاح أول برلمان منتخب في تاريخ مصر. صحيح أن حماسة وتسويق أحمد شوقي للبرلمان والحياة النيابية في مصر سرعان ما سوف تصاب بخيبة أمل إلا أن تكريم شوقي بمنحه عضوية البرلمان من خلال الملك فؤاد الأول كان على النقيض تماما من قصة عملاق الأدب العربي عباس العقاد مع نفس البرلمان ونفس الملك.

في عام 1930م وتحت قبة البرلمان تهور عباس العقاد ليس فقد بانتقاد ولكن أيضا بتهديد الملك فؤاد الأول نظيرا موقفه من محاولة تعطيل الدستور المصري. وهنا تم إجبار عباس العقاد على الاستقالة من البرلمان بعد توجيه تهمة (العيب في الذات الملكية) له كما حكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر قضاها في سجن القلعة السيئ الصيت. وبينما كان عباس العقاد يستند إلى شرعية البرلمان المصري ويدافع بشراسة عن الدستور المصري نجد في المقابل وفي نفس الفترة تقريبا الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي يهاجم الدستور العراقي الذي أصدره الانتداب البريطاني ويسخر في قصيدة مشهورة له من البرلمان (مجلس الأمة) العراقي المزيف:

أنا بالحكومة والسياسة أعرفُ         أأَلام في تفنيدها وأعنّفُ

عَلَم ودستور ومجلس أمة              كل عن المعنى الصحيح محرفُ

من يأتِ مجلسنا يصدق أنه            لمُراد غير الناخبين مؤلّفُ

 وبمثل هذه الأبيات الشعرية عن الجوانب السلبية للحياة البرلمانية هذا يقودنا لاستعراض (النقد الأدبي) لمهزلة تزوير الانتخابات وخرافة مجلس البرلمان ونواب الشعب وهذا شائع ومتداول في قصائد شعراء الرفض السياسي. ومن ذلك مثلا السخرية المشهورة للشاعر العراقي أحمد مطر من حصول بعض رؤساء الدول العربية على نسبة (99.99%) في الانتخابات الرئاسية ولذا كانت قصيدته تبدأ كالتالي: ( حضر سلة .. ضع فيها (أربع تسعات) ضع صحفا منحلة .. ضع قفلا .. وتذكر قفلة .. وأخلط هذا كله .. ثم اسحب كرسيا واقعد فقد صار عندك دولة ).

 في عام 1965م حصل استفتاء رئاسي في جمهورية مصر العربية نال فيه جمال عبد الناصر على نسبة 99.9% من الأصوات المزعومة للناخبين ويقال إن الشاعر المصري الكبير أمل دنقل كتب عند ذلك بأسلوب احتجاجي قصيدته (كلمات سبارتاكوس الأخيرة). عندما كان أمل دنقل يقضي الصيف في مدينة الإسكندرية شاهد الفلم السينمائي الشهير عن ذلك الثائر الروماني المعروف سبارتاكوس ومع تمازج أجواء الحماس بقصة سبارتكوس البطولية وتحديه للسلطة مع حالة الإحباط من فساد الحياة السياسية نتجت تلك القصيدة المميزة. بالمناسبة حالة الإحباط من فساد الأجواء وتفشي الألاعيب البرلمانية والنيابية أفرز ذلك قصائد حادة جدا نشرها الشاعر العراقي المثير للجدل مظفر النواب وبسبب كلماتها الخادشة من المستحيل استعراضها هنا.

ومن أدب المعارضة الشعرية نختم بلمحة سريعة لما ذكرناه سابقا أن أجواء الانتخابات في العالم الثالث المتخلف لم تفد المجتمع إلا بتوظيفها في الدراما الروائية. خذ على ذلك مثلا رواية (يوميات نائب في الأرياف) والتي تعد إحدى أهم وأشهر ما أنتجه الأديب الكبير توفيق الحكيم والتي تكشف عن الفساد الحكومي والقضائي والأخلاقي في مجتمع الريف المصري. عندما يسأل وكيل النيابة الشاب مدير مركز الشرطة عن ترتيبات الإشراف على الانتخابات: ( والانتخابات يا حضرة المأمور ..؟  عال. ماشية بالأصول

فنظر إلي مليّا، وقال لي في مزاح كمزاحي:

حا نضحك على بعض؟! فيه في الدنيا انتخابات بالأصول!!.) ثم نصل إلى المقطع من تلك الرواية الذي كثيرا ما يستشهد به في السخرية من أي انتخابات مصرية عندما يعترف المأمور :(دي دايما طريقتي في الانتخابات: الحرية المطلقة أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وارميه في الترعة وأروح وأضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا).

جانب آخر من فساد الحملات الانتخابية هو ما تعرضه رواية (زقاق المدق) التي أبدع فيها نجيب محفوظ في تعريه الفساد الأخلاقي والعري السياسي في المجتمع المصري عندما عرض تفاصيل محاولة رشوة الناخبين من خلال (الحفلة الانتخابية) كما تسميها الرواية حيث يقوم تاجر الحشيش والشاذ جنسيا المعلم كرشة بالعمل كسمسار لتجهيز الحملات الانتخابية. وبعد هذه النظرة المشوهة للعملية البرلمانية والأجواء الانتخابية لا غربة أن نجد ان نجيب محفوظ يجعل من يفوز في الانتخابات بمقعد النائب في البرلمان هو الشخصية اللئيمة فرج إبراهيم الذي يمتهن القوادة ويدفع الشابة المغرر بها لطريق الدعارة في أحضان أعداء الوطن من جنود الإنجليز.

 

الانتخابات من منظور الأدب العالمي

في المدينة الفاضلة لأفلاطون لا يسمح بوجود الشعراء في هذه (الجمهورية) الخيالية بينما في الجمهوريات العربية تم طرد الشعراء والأدباء من عالم السياسة فأعلى منصب سياسي حققه أديب عربي ربما هو فقط رئيس مجلس البرلمان الذي شغله الشاعر والكاتب المصري محمد حسين هيكل الذي ألف أول رواية عربية (رواية زينب). صحيح أن الكاتب المسرحي التشيكي فاتسلاف هافيل تولى مهام منصب رئيس جمهورية التشيك لمدة زادت عن عشر سنوات وكذلك كان الشاعر الإفريقي ليوبولد سنغور أول رئيس لجمهورية السنغال إلا أنه هذه النوادر في دنيا السياسة كانت هي الشذوذ الذي يثبت القاعدة. لا شك أن فرصة وصول أي أديب لسدة الحكم في أي من دول العالم الثالث ضعيفة وخير دليل على ذلك الأديب العالمي المشهور ماريو يوسا الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 2010ميلادي. فبالرغم من أن يوسا كانت متزلف للسلطة في جمهورية البيرو وغيرها من الدول (مثل تصريحه الأحمق عبر التلفزيون المكسيكي: إن المكسيك هي الدكتاتورية المثلى !!) إلا أنه عندما طمح فيما هو أعلى من ذلك وترشح لمنصب رئاسة الوزراء لدولة البيرو عام 1990م تم تحجيم تقدمه السياسي.

وهذا الشاعر التشيلي البارز بابلو نيرودا أحد أهم شعراء أمريكا الجنوبية في جميع العصور كان له نشاط سياسي حافل حيث أنه كان يدير الحملة الانتخابية للرئيس التشيلي بيديلا وأصبح عضوا بمجلس الشيوخ كما إنه فعل مثل ماريو يوسا فتهور ورشح نفسه لمنصب الرئيس. وبسبب هذه النشاط السياسي تعرض نيرودا للمضايقة والتهديد بالقتل لدرجة أنه فر عبر الجبال إلى الأرجنتين ومباشرة بعد الانقلاب الدموي في تشيلي الذي قاده المجرم الجنرال بيونشيه تم التخلص منه حيث توجد شبهات كبيرة أن نيرودا تعرض للتسميم في المستشفى الذي كان يتعالج فيه من مرض السرطان. وكأن التاريخ يعيد نفسه فهذا بالضبط ما حصل مع الشاعر الأسباني الكبير فيديريكو لوركا والذي أعدمه الجنرال فرانكو بعد فترة قصيرة من الانقلاب العسكري الذي قام به عام 1936ميلادي. في الواقع بسبب تعرض نيرودا للمضايقة السياسية والسجن والتشريد أصبح رمز الأدب والمقاومة السياسية ولهذا أصبحت السنة التي حصل فيها نيرودا على جائزة نوبل سنة مميزة في أدب المعارضة السياسية ففي واقعنا العربي قام في تلك السنة الشاعر المصري المعارض أحمد فؤاد نجم بكتابه قصيدته التي حملت عنوان (نيرودا).

أما الشاعر الأرجنتيني المعروفي خورخي بورخيس الذي يعد من أهم كتاب القرن العشرين فقد كتب في تلك السنة قصة (البرلمان) التي كان يصفها بأنها قصته المفضلة. وعلى ذكر بورخيس فربما كان هو من علّم الأدباء والشعراء الاحتجاج على انتخاب الطغاة فعندما تم انتخاب الدكتاتور الأرجنتيني خوان بيرون عام 1973م استقال بورخيس من منصبه كمدير للمكتبة الوطنية. أما أشهر الأدباء في الاحتجاج على نتائج الانتخابات فهو بلا منازع الروائي النيجيري وولي سوينكا الذي يعتبر أول أديب إفريقي يحصل على جائزة نوبل في الأدب (عام 1986م) والذي دعا عام 2007م وطالب بإلغاء الانتخابات الرئاسية النيجيرية لما شابها من التزوير والعنف. كما إن سوينكا تعمد مغادرة الولايات المتحدة عندما تم الإعلان عن فوز الرئيس الأمريكي ترامب وأيضا قام سوينكا في وقت حفل تنصيب الرئيس ترامب بتمزيق البطاقة الخضراء التي تسمح له بدخول أمريكا.

وفي الختام لعلنا نربط بحادثة طريفة لها رمزيتها وتربط بين عالمنا العربي وعالم أمريكيا اللاتينية التي اشتهرت بالفساد السياسي وكثرة الانقلابات العسكرية. يعتبر الروائي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز آخر أشهر الأدباء على الإطلاق (والحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1882م) وفي الفترة التي كان يقيم فيها في مدينة باريس عام 1955م سقطت الحكومة الفرنسية بسبب الوضع المتوتر الذي صاحب ثورة التحرير الجزائرية. وكمحاولة للسيطرة على الأمور تم منع المظاهرات وحصل اعتقال الآلاف من الجزائريين والعرب في فرنسا. ويذكر جابرييل ماركيز أنه تم اعتقاله بالخطأ مع مجموعة من الجزائريين حيث ظنوا أنه عربي بسبب تقارب سحنة وملامح العرب مع الرجال ذوي الأصول الأسبانية. إن الرواية الأشهر لجابرييل ماركيز هي بلا شك رواية (مائة عام من العزلة) والتي هي مشحونة بالخيال والفانتازيا عن تلك المدينة الأسطورية (ماكوندو) وما يحدث فيها من العجائب. في جزء من تلك الرواية مناقشة لموضوع تزوير الانتخابات وبالرغم ما في الرواية من الخيال المجنح إلا إن ما حصل في الانتخابات الرئاسية الجزائرية عام 2014م فاق كل جنون عندما تم إعادة انتخاب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة للمرة الرابعة وهو يقاد على كرسي متحرك ولا يستطيع النطق على الإطلاق. بقي أن نقول إن موعد تلك الانتخابات الجزائرية المهزلة وتوقيت وفاة الروائي الحالم جابرييل ماركيز تم في نفس اليوم أي في السابع عشر من شهر أبريل لعام 2014 ميلادي.

 

 

( الصارم المسلول على شاتم الرسول )


 (ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب)

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله فهم ثاقب لموضوع نصرة الرسول الكريم وهو (وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) فالله سبحان وتعالي كافٍ عبده وهو القائل (إنا كفيناك المستهزئين). فما يقع من الاستنقاص والسخرية من النبي صلى الله عليه وسلم هو في جزء منه امتحان واختبار للأمة الإسلامية جمعاء لمدى نصرتها لنبيها وتحقيق ما ذكره ابن تيمية في بداية كتابه العظيم (الصارم المسلول على شاتم الرسول): هو ما أوجب الله من تعزيره ونصره بكل طريق وحفظه وحمايته من كل موذٍ.

الجدير بالذكر أن سبب تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية لهذا الكتاب كان انعكاس لتبعات الحادثة المشهورة من قيام أحد نصارى الشام يدعى عساف النصراني بسب النبي عليه الصلاة والسلام ولهذا بادر شيخ الإسلام مع بعض المشايخ بالانتصار لرسولنا الكريم وطلب الاقتصاص ممن تجرأ عليه. وكما نافح شيخ الإسلام وذب عن الرسول بلسانه دافع عنه بسنان قلمه ولهذا كتب وألف ذلك الكتاب الفريد.

وما أشبه الليلة بالبارحة فما زلنا ومنذ سنين نبتلى ونمتهن ونستفز بالاستنقاص والتعرض لنبي الإسلام على يد بعض الأوباش الأنجاس من أهل المسيحية. والغريب من أن عداوة اليهود وإن كانت أشد وحقدهم أكثر إلا أنهم كانوا أعقل من استفزاز المسلمين بمثل ذلك العمل الشنيع. وبحكم أن بعض النصارى تغلب عليهم العاطفة ويفتقدون الحكمة في التصرف فلذا نجد الشواهد التاريخية في سب الرسول الكريم مرتبطة بهم أكثر من غيرهم. تعايش المسلمون مع اليهود في المدينة وخيبر فلم يكن منهم حماقة سب نبي الإسلام إلا ما كان من الحالة الفردية لشاعر يهود بني النضير كعب بن الأشرف وهي حادثة ليست واضحة تماما أنه سب الرسول الكريم وإن كان آذاه بشعره والتعرض للصحابيات. في حين أن أول لقاء بين أهل الإسلام وأهل النصرانية والذي حصل في السنة التاسعة للهجرة عندما قدم وفد نصارى نجران شهد حادثة غريبة في شتم رسولنا الكريم. ففي الواقع قبل أن يصل الوفد للقاء الرسول تعثرت بغلة كبيرهم الأسقف أبو حارثة بن علقمة فقال أخوه وكان بقربه تعس الأبعد يقصد شتم الرسول الكريم. وبقية القصة أن الأسقف اعترف بصحة نبوة الرسول ولكن منعه حب الدنيا والعطايا التي كان يأخذها من أن يتبعه ولهذا بادر أخوه لاحقا في الدخول لدين الإسلام عندما علم أنه الحق.

 اليهود أهل غدر وفيهم ظلم وحقد ولهذا كانت عدوتهم للإسلام ونبيه الخاتم حادة بالتآمر المتكرر على الرسول بمحاولة اغتياله عليه الصلاة والسلام سواء بإلقاء الصخرة عليه أو محاولة تسميمه. أما النصارى فهم أهل ضلالة وجهل عن صراط الحق ولهذا قد يدفعهم شدة تعصبهم لدينهم بانتقاص وسب الأديان الأخرى ومقدساتها. وهذا قد يفسر لماذا وجد خبث ولؤم بعض رجال الكهنوت النصارى في الاستنقاص من الإسلام والقرآن والرسول حتى وهم يعيشون في وسط المجتمع المسلم كما هو حال يوحنا الدمشقي زمن الخلافة الأموية أو حال القس الأندلسي الملقب بالفاروس القرطبي. طبعا فإن تشويه واحتقار رسول الإسلام في وسط البلاد الإسلامية أمر على درجة عالية من الخطورة ولكن هؤلاء القسس الخبثاء كانوا يكتبون باللغة اللاتينية ومؤلفاتهم موجهة بالدرجة الأولى لأفراد دينهم من الشباب ومحاولة تشويه الإسلام في أعينهم حتى لا يتأثروا وينجذبوا له. بالمناسبة ذلك القس المتعصب الفاروس القرطبي هو نفس الشخص الذي كثيرا ما يذكر في الكتب من أن أحد رجال الدين المسيحي في الأندلس كان يحذر قومه من أن الشباب المسيحي (المستعرب) يفخر بلبس الثياب العربية ويتباهى بقدرته على الحديث باللغة العربية ويبحثون بشغف عن الكتب العربية في حين يحتقرون دراسة اللغة والآداب اللاتينية ويجهلون شريعتهم الدينية وينسون لغتهم الأصلية.

في مثل هذه الأجواء ربما قد نفهم لماذا وجدت ظاهرة شتم وسب وتشويه الرسول الكريم في أوساط النصارى قديما وحديثا فأما قديما حتى لا ينجرف الشباب المسيحي المقيم في البلاد العربية لدين الإسلام. وأما حديثا فكردة فعل منفلتة من خوف المجتمعات الغربية الأوربية المعاصرة من سرعة انتشار دين الإسلام في المجتمعات الغربية ومن إقبال عدد كبير من الشباب وبخاصة النساء لاعتناق الإسلام ولهذا البعض من الخبثاء منهم يحاولون افتعال المشاكل حول الإسلام ورسوله العظيم. الجدير بالذكر أنه كما انتشرت في العصر الحديث حملة ظالمة وخبيثة لتشويه وشتم رسول الإسلام في البلاد الأوربية حدث أمر شبيه نسبيا قبل أكثر من ألف عام. ولله الحمد دين الإسلام الخالد له هالة جذب مؤثرة ولهذا في زمن (التعايش) السلمي بين الأديان يكسب الإسلام المزيد من الاتباع ولا يخسرهم. في منتصف القرن الثالث الهجري كانت بلاد الأندلس تمثل حالة تجانس و(تعايش) مميزة بين الأديان السماوية وفي مثل هذه الأجواء بدأ الشباب المسيحي يميل للطباع والمظهر الإسلامي. بشكل عفوي أو بصورة مدبرة حاول بعض نصارى الأندلس افتعال أحداث صادمه يهدف منها تعكير أجواء التعايش السلمي ومن ثم قد تتسبب في انكفاء الجالية المسيحية حول نفسها وعدم الانفتاح على بقية المجتمع المسلم. يقال إنه في عام 237هـ قام القسيس بيرفيكتوس بشكل متعمد بشتم والسب النبي في سوق مدينة قرطبة وبعد إدانته بالجرم المشهود حكم عليه بالقتل بحد الصارم المسلول. ثم بعد ذلك مباشرة ظهر راهب نصراني متعصب يدعى إسحاق وجاهر بنفس تلك الفعلة الشنيعة وهي شتم الرسول الكريم ودين الإسلام وبعد أن قبض عليه تم قتله هو الآخر. وللأسف سرعان ما انفرط الأمر ووجد أهل التعصب والتطرف المسيحي فرصتهم لادعاء الشهادة والتضحية بأنفسهم من خلال تقدم العشرات منهم وتكرار نفس العمل القبيح من إهانة مقدسات الإسلام وسب رسوله وبالتالي خلال عدة شهور بلغ عدد من قتل منهم حوالي 48 وهم من عرفوا في التاريخ المسيحي باسم (شهداء قرطبة). ولم تنس أبدا النصرانية المتعصبة هؤلاء الشهداء المزعومون فألفت فيهم العشرات من الكتب ودبجت فيهم القصائد وخلدت بطولتهم المزيفة في العديد من اللوحات الفنية.

 وبقفزة بالزانة فوق مسار التاريخ لنقطع أكثر من ألف عام منذ حادثة الاعتداء على الرسول الكريم من نصارى الأندلس لنصل إلى يوم الناس هذا مع الحملة الأثيمة المعاصرة من نصارى الفرنجة في فرنسا والسخرية من نبي الإنسانية. الخطوط العريضة بين الحدثين هي نفسها تقريبا والمتمثلة في أطراف متعصبة تتعمد إحداث شرخ عميق من الكراهية والاستقطاب بين اتباع الأديان المتجاورة. وكما انزعج قديما المتعصب المسيحي فاروس القرطبي من إعجاب بعض شباب ملته بالحضارة العربية نجد في وقتنا المعاصر العديد من العنصريين من اليمين المتطرف (وبدافع علماني بالدرجة الأولى) يحاربون بشراسة وجود جالية مسلمة في قلب أوروبا. ويمكن أن نذكر هنا النماذج القبيحة منهم مثل الهالك الفرنسي جان لوبان وابنته المتعصبة مارين لوبان والمصدوم النمساوي يورج هايدر والحاقد الهولندي الأصهب خيرت فليدرز. وكما حاول (شهداء قرطبة) من أهل الصليب استفزاز المسلمين بشتم المصطفى الحبيب ومن ثم التسبب في تعكير أجواء التعايش الديني في أرض الأندلس يحاول العديد من (حماة الحرية) المزعومة استفزاز الجيل الجديد من أهل الإسلام المقيمين في الغرب عن طريق التعمد بنشر الرسوم المسيئة للرسول وهم بهذا يدفعون البعض منا للانتقام العنيف عبر القتل والتفجير والترويع. والنتيجة من دائرة الصراع هذه المزيد من التشويه للإسلام وأهله وتبرير التمييز العنصري والاضطهاد الديني ضدهم والإقصاء السياسي لهم وإخراجهم من مظلة (التنوع الثقافي) الوارفة في الغرب والتي ضمنت للمسلمين انتشاراً كبيراً في السابق وهيئت البيئة الخصبة لتشجيع مئات الألاف من أبناء الغرب للدخول في الدين الحق.

 إلا تنصروه فقد نصره الله

وفي الختام عودٌ على بدء للتذكير باستنباط شيخ الإسلام ابن تيمية أن رسول الله قد أغناه الله عن نصرتنا وأن فتنة التعرض والاستنقاص للمصطفى المختار هي في جزء كبير منها اختبار لنا (ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب). وكما للبيت ربٌّ يحميه فكذا لرسوله الكريم جند من جنود الله يدافعون عنه في حياته وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام. ولذا تذكر الأخبار في التاريخ الإسلامي أن عتبة بن أبي لهب عندما تعمد إهانة الرسول سلط الله عليه كلاب من كلابه فقتله السبع وهو نائم بينما ويذكر الإمام ابن حجر العسقلاني أنه في زمن المغول أخذ أحد دعاة النصارى في شتم النبي فانفلت عليه كلب مربوط فقتله. ولا يعلم جنود ربك إلا هو فكل من يتطاول على رسول الله سوف يصيبه من هذا الوعيد إما في شكل مرض أو حادث أو مصيبة ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. ومع ذلك ينبغي علينا كأفراد وشعوب وحكومات في الدول التي يشملها حكم الإسلام أن نشدد النكير ونزيد في التنكيل كل من يسئ الأدب مع مقام النبوة. أما الأفراد والجماعات الإسلامية المقيمة خارج ديار الإسلام فعليهم التحلي بالحكمة والتجنب تماما تماما أي ردود أفعال عنيفة أو ترويع وتفجير وإرهاب ففي الواقع حالهم أشبه بالمسلمين في صدر الإسلام عندما كان التوجيه الرباني لهم في مكة كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة) وهم يشاهدون الكفار وهم يتعرضون للرسول ويضع الملعون منهم سلا الجزور (وهو قذر ما بعد الولادة) على ظهره الشريف وهو ساجد أمام الكعبة. ومع هذا ينبغي بالطرق السليمة أن تقوم الدول الإسلامية وأفراد الجاليات المسلمة في الغرب وكيانات المنظمات والجماعات العربية بالضغط على هيئات المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بأن تصدير قوانين تجرم بث الكراهية من خلال التهجم على الرموز الدينية.

في العام السادس للهجرة سافر الرسول عليه الصلاة والسلام بجمع غفير من الصحابة يريد أداء العمرة لكن قريشا منعوه وكادت تقع حرب بينهم وهنا أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي لكي يكون وسيط بينهم وبين المسلمين. فلما عاد عروة إلى رجالات قريش قال لهم (أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك كسرى وقيصر والنجاشي والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً. والله ما انتخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له). وبمجرد ما نبههم عروة الثقفي بشدة تعلق المسلمين بدينهم ونبيهم حتى عرفوا قوة المسلمين الحقيقة ولهذا بادرت قريش بقبول الصلح. نحن اليوم بين الشعوب والدول كالهمل وسقط المتاع ولو أحسّت دول الغرب منا غضبة حقيقة حيال رسول الله لعلموا أنه قد بقي فينا جذوة كرامة وبذرة شهامة وربما احترمونا وهابونا ولكن من كان لنبيه ودينه مفرط فلا خوف منه ولا كرامة له.