الجمعة، 20 ديسمبر 2019

( عطارد .. عابر سبيل عَجِل )

مرور كوكب عطارد أمام الشمس .. لحظة فريدة في السجل الفلكي

د/ أحمد بن حامد الغامدي
لكوكب عطارد مكانة خاصة على حدا سواء في عالم الاساطير وفي دنيا العلم حيث أنه في الميثولوجيا الرومانية تجسيد  لإله العلم والحكمة بينما هو عند علماء القرن العشرين تسجيد للدليل الملموس لتفوق اينشتاين على نيوتن. ولهذا ينتظر هواة الفلك في جميع أنحاء العالم بشوق ساعة الأصيل من يوم الأثنين القادم وذلك لرصد (عبور) كوكب عطارد أمام قرص الشمس. ولقد أعلن قيام المرصد الفلكي بكلية العلوم بجامعة الملك سعود باستقبال الزوار لمشاهدة هذه الظاهرة الفلكية (Transit of Mercury) الجميلة والساحرة لحركة كوكب عطارد التي حيرة علماء الفلك قديما وعلماء الفيزياء حديثا.
قبل أربعة قرون من الزمن توصل عالم الفلك الالماني يوهان كبلر لاكتشاف قوانينه الخاصة بحركة الكواكب وما يهمنا هنا هو القانون الثاني منها والذي ينص على أن الكوكب يدور بسرعة أكبر كلما أقترب من الشمس. يبدو أن أسلافنا القدماء من أهل الجزيرة العربية قد لاحظوا أن كوكب عطارد هو بالفعل أسرع الأجرام الملحوظة في السماء ومن هنا قد تنكشف لنا سبب التسمية الغريبة لكوكب (عطارد) والتي قد تكون مشتقة من الفعل (عَطْرَدَ) بمعنى أسرع وتابع في سيرة. وعلى نفس النسق ربط الاغريق بين عطارد وسرعة الحركة ولهذا جعلوه إله السفر ومرسال الآلهة وأشهر ما كان يميزه هو أن لديه حذاء مجنح يمكنه من الطيران والانتقال الرشيق بسرعة خاطفة. منذ زمن الرومان تم الربط بين كوكب عطارد ومعدن الزئبق حيث ان كلا منهما يحمل نفس الاسم Mercury فالزئبق معدن عالي السيولة والكوكب المسمى عطارد جرم سماوي متدفق الحركة.
 إن سرعة دوران كوكب عطارد حول الشمس كل ثلاثة اشهر أربكت علماء الفلك في أرض اليونان فظنوا أنه عبارة عن كوكبين منفصلين يظهر أحدهما بعد الغروب في فترة الغسق (كوكب هيرمس) ويظهر الاخر في الشفق قبل الفجر (كوكب أبولو). بعد ذلك بعقود طويلة رصد عالم الفلك المسلم ابن باجه بقعتين مظلمتين على سطح الشمس فسرهما لاحقا قطب الدين الشيرازي بأنهما عبور عطارد والزهرة أمام الشمس. ومن هنا بدأ علماء الفلك العرب في هز عرش اساسيات كتاب المجسطي لعالم الفلك الشهير بطليموس الذي استبعد إمكانية رصد عبور كوكب عطارد أمام الشمس. مسمار آخر في نعش معلومات كتاب المجسطي غرزه عالم الفلك الاندلسي الزرقالي عندما أقترح أن مدار كوكب عطارد إهليجي يشبه البيضة في حين أن نظام بطليموس الفلكي يصوره دائما على شكل دائرة تامة. ثم جاء دور عالم الفلك الدمشقي ابن الشاطر والذي يعترف اليوم مؤرخي العلوم في أوروبا بأن حساباته ورسومات وتحديده لمسارات كوكب عطارد هي التي استفاد منها عالم الفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس ليضع نموذجه الفلكي المشهور لمركزية الشمس ومن ثم يطلق فجر الثورة العلمية الاوروبية.

لاحقا ومنذ منتصف القرن التاسع عشر لاحظ العلماء أن مدار كوكب عطارد لا يتفق تماما مع قوانين المعادلات الفيزيائية لأسطورة العلم اسحاق نيوتن وهذا ما أفرز ظاهرة فلكية جديدة سمية التعجل precession حيث تزيد في مرحلة ما سرعة حركة عطارد المرصودة عما هو متوقع رياضيا. إن رصد (العبور العَجِل) لكوكب عطارد أمام قرص الشمس هذه الايام مناسبة تاريخية وفلكية مميزة لأنها تقريبا تتزامن مع مرور حوالي قرن من الزمن على تفاخر اينشتاين بأنه تفوق على نيوتن. ما حصل يا سادة أن عملاق الفيزياء اينشتاين توصل عام 1915 لطرح نظريته النسبية العامة والتي هي في جانب منها تنقيح لقوانين الجاذبية لنيوتن وهنا تباهى أينشتاين بأن نظريته النسبية وعلى خلاف نظرية نيوتن تستطيع بدقة علمية كبيرة تفسير ظاهرة (التعجل) الشاذ لسرعة حركة عطارد ويقال بأن اينشتاين ظلّ منتشيا من السعادة لأيام متواصلة وكتب إلى أحد اصدقائه يخبره (لقد تحققت أبعد أحلامي منالاً).
بقي ان نقول في الختام أن ظاهرة المرور العابر لكوكبي عطارد والزهرة أمام قرص الشمس ليس فقط ظاهرة فلكية نادرة الحدوث ولكن ايضا قد ينتج عن عملية رصدها اكتشاف أحد أغرب المعلومات العلمية. القبطان الانجليزي جيمس كوك في الوقت الذي يعتبر أحد أهم الرحالة والمكتشفين الجغرافيين على مر العصور إلا أن أحد أغرب (اكتشافاته الجغرافية) تم في السماء وليس على الأرض !!.  في واقع الامر الرحلات البحرية الجغرافية التي قام بها جيمس كوك هي في الاصل بعثات علمية لرصد بعض الظواهر الفلكية ففي عام 1769م رصد الفريق العلمي المصاحب لحملة كوك ظاهرة عبور كوكب عطارد امام الشمس وحتى اليوم تسمى المنطقة التي تم الرصد منها في نيوزلندا بجزيرة عطارد وخليج عطارد. 
الأهم من ذلك قيام جيمس كوك وفريقة العلمي في نفس تلك السنة برصد عبور كوكب الزهرة Transit of Venus ولكن هذه المرة من جزيرة هايتي في البحر الكاريبي. لقد مكن رصد عبور كوكب الزهرة من قبل كوك وبعثات علمية أخرى متعددة في كندا وروسيا والمكسيك والنرويج من حساب المسافة بين الارض والشمس وأنها تبلغ 150 مليون كيلومتر. ولقد تم ذلك من خلال استخدام هذه البينات الفلكية المتنوعة من مواقع جغرافية متباعدة على سطح الارض وتوظيفها في دراسة ظاهرة تخاطل أو تزيح الشمس solar parallax التي تعتمد على التغير الظاهري لموقع الشمس واختلاف المنظر المرئي باختلاف مكان الرؤية.
صحيح أن مرور عطارد على قرص الشمس سريع وعابر ولكن اللحظات المميزة في تاريخ العلم لا تدوم طويلا فينبغي اهتبال الفرصة وعيش الحدث. تنبيه لهواة العلم والتاريخ: لن تحصل هذه الظاهرة الفلكية النادرة التي ترتبط بعمالقة العلماء مثل بطليموس وابن الشاطر وكوبرنيكوس وإدموند هالي (رصد مرور عطارد عام 1677م) ونيوتن واينشتاين إلا بعد ردهة من الزمن فالمرور التالي لعطارد أمام الشمس لن يرصد إلا عام 2032 ميلادي.

السبت، 9 نوفمبر 2019

( حروب سقراط .. الحرب التجارية وأخواتها )



اسلحة الحرب التجارية بين امريكا والصين

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في عالم السياسة اليوم دوي المدافع يصم الآذان ومن لم يسمع طبول الحرب فهو أصم كما حذر سابقاً ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر. ولكن لكل زمان دولة ورجال وقتال فبعد تقليعة التحذير من (حروب الجيل الرابع والخامس والسادس ... الخ) سوف نختزل متاهة الاسماء تلك إلى مفهوم مركّز هو مبدأ (الحرب الشاملة) وربيبتها الطفلة الشقية (الحرب الاقتصادية).
منذ عقود طويلة والحرب الطاحنة بين الدول الكبرى والتكتلات السياسية العظمى لا تتم في ساحات المعارك ولا جبهات القتال ولكن تتم في شوارع الاسواق التجارية وباحات البورصات المالية وأرقام التعريفات الجمركية.
وفي هذا السياق يمكن فهم  التصعيد الاخير بين الولايات المتحدة والصين والدور الذي يلعبه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كمسعر حرب  وأنه  - حسب زعمه - الرئيس المختار من الله لخوض (الحرب التجارية) مع الصين الاشتراكية.

صحيح أن أسباب الحرب ونتائجها غالبا ما تكون عصية على الفهم لكن لا يحتاج المرء للرجوع لعباقرة الفكر وفلاسفة الفهم ليدرك أن حقيقة الحرب كما قال سقراط من غابر الزمن (كل الحروب تشن من أجل المال). المال هو الغنيمة الكبرى في أي حرب ولكن ينبغي أن لا نغفل كذلك أنه عندما تعجز الدول الكبرى والقوى العظمى  عن سحق بعضها البعض في أرض المعركة فإنها تلجأ إلى استراتيجية كسر عظم الهيكل الاقتصادي للخصم.
ومن هنا سوف تتردد بكثرة في مستقبل الايام مصطلحات الحروب الاقتصادية من مثل الحرب التجارية والحرب الجمركية وحرب العملات وحرب الضرائب وحرب الاسعار وحرب البورصات. في مجال العلوم الحربية نجد أن مصطلح (العمليات العسكرية) يدور حول منظومة من الاستراتيجيات القتالية التي تهدف بشكل أساسي لتحقيق هزيمة العدو من خلال تدمير العديد من الأهداف التكتيكية أو الاستراتيجية على حدا سواء.
في ساحات المعارك الاقتصادية والتجارية تكون الاهداف الحربية المعرضة للقصف والتدمير هي الاسواق المالية والبورصات التجارية والحسابات البنكية وسعر صرف العملات النقدية. ونظرا لاختلاف أرضية المعركة التجارية سوف تختلف ولا شك طبيعة أسلحة الدمار الشامل المستخدمة هنا فهي تشمل مثلا أسلحة (هجومية) مثل الحصار والمقاطعة والتلاعب بالعملة والمضاربة بالأسهم وإغراق الاسواق ومنع القروض وحظر المعاملات المالية والتخريب أو التجسس الاقتصادي.
في حين أن ترسانة الاسلحة الاقتصادية (الدفاعية) سوف تكون من نوع تخفيض سعر الفائدة وزيارة الرسوم وحضر الاستيراد وزيادة فائض الميزان التجاري وما شابه ذلك من الاحترازات والعمليات الاقتصادية المتعمدة.

للوهلة الاولى وبسبب زخم المصطلحات التجارية السابقة الذكر قد نعتقد أن الحروب الاقتصادية هي ظاهرة حديثة في التاريخ البشري بينما في الواقع أن استخدام تلك الاسلحة الاقتصادية الماحقة حاصل منذ فجر التاريخ.
لقد عاصر الفيلسوف الاغريقي المعروف سقراط أحداث الحرب البيلوبونيزية اليونانية بين أثينا واسبارطة ولهذا عندما توصل لتأطير حقيقة أن (كل الحروب تشن من أجل المال) عرف ذلك من رصده أن سبب هذه الحرب الكبرى بدأت من توسع حلف مدينة اثينا الاستعماري والتجاري على حساب حلف مدينة إسبارطة. في واقع الأمر خلال هذه الحرب استخدمت الأساطيل البحرية لمدينة إسبارطة سلاح الحصار البحري sea blockade ضد مدينة أثينا وبعد ذلك بعدة قرون سوف يتكرر نفس هذا التكتيك الحربي الاقتصادي عندما تقوم مدينة روما في نهاية الحروب البونية  بفرض حصار بحري لمدة ثلاث سنوات ضد مدينة قرطاجة.
 أما سلاح المقاطعة boycott ذو الاثار المالية المزعزعة لاستقرار الدول اثناء النزاع العسكري فمن أمثلته البارزة المقاطعة الامريكية للبضائع الانجليزية عند اندلاع ثورة الاستقلال الامريكية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. ومن أشهر عمليات استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادي ما قامت به الدول العربية من حظر بيع النفط للدول الغربية المساعدة للكيان الصهيوني بعد اندلاع حرب الايام الستة سيئة الصيت.
في العقود الاخيرة زادت حدة فرض التدابير المالية والعقوبات الاقتصادية sanctions بين الدول المتناحرة ومن أمثلتها في التاريخ الاقتصادي القديم فرض الامبراطور الفرنسي نابليون قانون يحرم التجارة وشحن السلع من وإلى الجزر البريطانية.

أمريكا والصراع على السلع التجارية

في عز سنوات الحرب على الإرهاب كان المفكر الأمريكي البارز نعوم تشوميسكي يحذر من أن الولايات المتحدة نفسها هي قائدة الإرهاب في العالم وأنها مصدر التهديد الأخطر للسلم الدولي. ومع زخم الضجة الإعلامية حول جبهات القتال الجديدة بين أمريكا والصين والحرب التجارية النشابة بينهما لا غرابة أن نجد نعوم تشوميسكي يشكك مرة أخرى من سلامة السياسية الخارجية لبلاده وأنها قد تضر الاقتصادي الأمريكي نفسه.
سجلات التاريخ تكشف لنا أن الأمة الامريكية خلال تاريخها القصير نسبيا (بالمقارنة بالإمبراطوريات الأخرى) دخلت في صراع مسلح مع أكثر من ثلاثين دولة في أزمان متفاوتة. وبمثل هذا التاريخ الحافل بالعدوان ورد العدوان لا غرابة أن نكتشف أن الولايات المتحدة أكثر دولة معاصرة انخرطت في شن الحروب التجارية وافتعال المعارك الاقتصادية.
تداول السلع التجارية هو المحرك الاساسي لأي اقتصادي دولي مربح ولهذا لم يكن الاقتصادي الفرنسي القديم فردريك باستا يبالغ كثيرا عندما قال (عندما لا تعبر البضائع الحدود بين الدول فإن الجيوش سوف تفعل ذلك). بمثل غطرسة القوة هذه المعجونة بالأطماع الرأسمالية المعروفة نجد أن كل التاريخ الأمريكي سلسلة متصلة من الحروب التجارية منذ (معركة الشاي) مع بريطانيا وحتى (حرب الجولات) اليوم مع الصين.

التاريخ الامريكي أنبثق بحفلة شاي في مدينة بوسطن وذلك في عام 1773 وذلك عندما قام مجموعة من المستوطنين الامريكان باقتحام السفن الانجليزية في ميناء بوسطن واتلاف حمولتها من صناديق الشاي كوسيلة للتعبير عن رفضهم لسياسات الضرائب الحكومية البريطانية وكمحاولة للإضرار بالاقتصاد الانجليزي من خلال مقاطعة صادراته التجارية.
الطريف في الأمر أنه بتعدد وتنوع السلع الاقتصادية والبضائع التجارية نجد حزمه من المعارك التجارية التي شنتها الولايات المتحدة مع مختلف دول العالم المعادية لها والحليفة لها على حدا سواء. من ذلك مثلا نجد أن النزاع العسكري المسمى (حروب الموز) نشب في نهاية القرن التاسع عشر بين أمريكا من جهة وبين مجموعة من دول أمريكا الوسطى وجزر الكاريبي وذلك لحماية المصالح الامريكية الاقتصادية والاستراتيجية المزعومة في الحديقة الخلفية لأمريكا.
(حلفاء اليوم ربما هم أعداء الغد) يبدو أن الولايات المتحدة أكثر من يؤمن بهذه الفرضية ولهذا لم تتردد أمريكا عن شن الحروب الاقتصادية على أي دولة تنازعها نفوذها الاقتصادي حتى ولو كانت تلك الدولة أقرب حليف.
هذا السلوك العدائي أصبح سائد في السياسة الأمريكية بعد منتصف القرن العشرين عندما أصبحت سيدة العالم الغربي ومن دلائل ذلك شنها للمعركة الاقتصادية (حرب الموز الثانية) والتي استمرت لحوالي عشرين سنة ضد الاتحاد الأوروبي وذلك عندما تم مضايقة شركات الفاكهة الأمريكية  العاملة في أمريكا اللاتينية من تصدير منتجاتها الزراعية إلى أوروبا.

كنوع من الحماية الاقتصادية لتجارة الدواجن في فرنسا وألمانيا قامت السلطات التجارية في هذين البلدين بفرض رسوم عالية على دخول الدواجن الامريكية وهذا ما تسبب في اعلان الولايات المتحدة لشنها الحرب التجارية (المسماة حرب الدجاج) وذلك عندما وضعت حواجز مالية ضد استيراد الخمور والشاحنات من فرنسا وألمانيا.
(حرب المعكرونة) هي حرب تجارية مشابهه شنتها أمريكا ضد ايطاليا وبعض الدول الاوروبية وذلك عندما قامت هذه الدول برفع رسوم دخول الصادرات الزراعية الامريكية من البرتقال والحمضيات فكان القصف الامريكي المضاد وضع تعرفة رسوم مرتفعة ضد منتجات الباستا والمعكرونة الاوروبية.
بشكل متكرر عانت الدول الاوروبية من الصلف الامريكي الاقتصادي ولهذا كتب التاريخ وكتب الاقتصاد على حدا سواء تذكر تفاصيل الحروب التجارية بين إخوة السلاح بالأمس والإخوة الاعداء اليوم ولهذا نشبت (حرب الاخشاب) بين أمريكا وكندا و (حرب الفولاذ) بين أمريكا والاتحاد الاوروبي.
أحد أهم المشاكل الاقتصادية للدول الكبرى أن يكون (الميزان التجاري) بينها وبين الدول الأخرى مائل لصالح الشريك التجاري والخطورة تكمن عندما يكون العجز في الميزان التجاري بمبالغ فلكية ضخمة تتسبب في استنزاف الاقتصاد المحلي. وفي مثل هذه الحالة تنشب أشد وأشنع الحروب التجارية بين الدول كما حصل قبل عدة عقود من الزمن بين أمريكا واليابان (حرب الإلكترونيات) وكما هو حاصل اليوم بين أمريكا والصين تلك الحرب الاقتصادية التي يمكن تسميتها (بحرب الجولات).

من غرائب التاريخ أن الولايات المتحدة ساهمت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية في (صناعة) خصومها الاقتصاديين فعن طريق مشروع مارشال في أوروبا وألمانيا والدعم المالي والسياسي لليابان ولاحقا لكوريا الجنوبية تم إنعاش اقتصاديات هذه الدول ومن ثم نموها السريع بطريقة مذهلة وصفت بالمعجزة الاقتصادية.
وبحكم أنه في الاقتصاد كما في السياسة لا توجد صداقات دائمة أو عداوات دائمة ساهمت الولايات المتحدة بعد ذلك في حصول ركود اقتصادي لليابان عندما فرضت تعرفه رسوم جمركية عالية ومجحفة ضد دخول الصناعات اليابانية المتطورة مثل الأجهزة التقنية والشرائح الالكترونية وكذلك تعمد الامريكان قصف قطاع صناعة السيارات اليابانية خصوصا شركة تويوتا وهي الحرب التجارية التي توصف أحيانا (بحرب السيارات).

وختاما بعد هذا التطواف في زوايا التاريخ ودهاليز السياسة وبورصات المال والأعمال نصل إلى مشارف أرض ساحة القتال الاقتصادي الاخيرة بين أمريكا والصين وماذا يمكن أن يسفر عنها. التنين الصيني عبر القرون المتطاولة لم تزيده النكبات والصعاب إلا صلابة وحيوية فهو كما يقال قد يمرض لكنه لا يموت والشعب الصيني هو الوحيد بين شعوب العالم الذي تعرض لحرب اقتصادية مهينة ومذلة ولكنه خرج منها بحال أقوى وحيوية أوفر.
هذا ما حصل قبل حوالي قرن ونصف من الان عندما تعرضت الصين لحرب قذرة مع الامبراطورية الانجليزية اشتهرت في كتب التاريخ باسم (حرب الأفيون).  في عز عنجهية الامبراطورية الانجليزية التي لا تغيب عنها الشمس في منتصف القرن التاسع عشر أعلنت شنها حرب ضروس ضد الامبراطورية الصينية لكي تجبرها بقوة السلاح على فتح حدودها أمام (تجارة) الافيون.
 لقد كان الانجليز يشرفون على زراعة هذه المخدرات في شمال الهند ومن ثم شحنها إلى الصين لكي يقايض بها الجنتلمان الانجليزي مشترياته التجارية من الصين المتمثلة في الشاي والحرير والبورسلان. في حرب الافيون الثانية شاركت فرنسا بريطانيا في هذا الاثم المخزي ولهذا أعترض الأديب الفرنسي البارز فكتور هوغو صاحب رواية البؤساء عن هذا الوضع البائس في سياسية الدول الرأسمالية عندما تتحول الحكومات إلى لصوص.

اسمح لي يا قارئي العزيز بالتوقف قليلا للتذكير بشيء مهم وهو أن بعض المعارك الكبرى قد ينتج عنها دول سياسية مهيمنة وقوى عظمي مسيطرة super power كما حصل مع الامبراطورية البريطانية في العصر الفيكتوري بعد انتصارها مع حلفائها على جيوش نابليون في عام 1812م وكما سوف يحصل لاحقا مع أمريكا عندما انتصرت مع حلفائها على جيوش هتلر وعصبته. تحذير مهم أطلقه أحد ألمع العقول الامريكية وأحد الاباء المؤسسين للولايات  المتحدة وهو بنجامين فرانكلين عندما قال (تكاليف الحروب لا يتم  دفعها اثناء زمن القتال ولكن الفواتير تأتي لاحقا).
في منتصف القرن التاسع عشر (بالمناسبة يطلق عليه قرن الامبراطورية البريطانية) وتحت نشوة القوة وسكرة النصر أكملت بريطانيا احتلالها للصين بعد حرب الافيون الثانية كما أنها سيطرت بالكامل على الهند وأقامت حكم (الراج البريطاني) ثم قلّمت أضافر الامبراطورية الروسية القيصرية في وسط أسيا بعد انتصرت عليها في حرب القرم ثم بعد ذلك أكملت بسط حكمها على جنوب أفريقيا وختمت أخيرا عدوانها العسكري المتواصل باستعمار مصر والسودان. وفي
خاتمة المطاف حان موعد تسديد الفواتير الذي حذر منه قديما بنجامين فرانكلين فبعد أن كانت الجزر البريطانية مهد الثورة الصناعية وموطن الثورة العلمية وورشة العالم وملجأ المضطهدين (كانت أول دولة أصدرت قانون  إلغاء العبودية) وإذا باقتصادها يصيبه الكساد وإذا بشرائح واسعة من الشعب الانجليزي تقع تحت ثقل الفقر واختلال النسيج الاجتماعي وفي مثل هذه الفوضى قد نتفهم لماذا ظهر فجأة كارل ماكس من قلب مدينة لندن يدعو إلى الشيوعية والاشتراكية.

الكل يعلم أن رأس المال جبان ورجل الأعمال يبحث دائما عن مواطن الاستثمار الآمن ولهذا لا غرابة في أجواء الاضطراب الاقتصادي والبلطجة السياسية في نهاية القرن البريطاني هاجرت الاموال والايدي العاملة من الجزر البريطانية إلى وجهات الفرص الواعدة في أرض أمريكا البكر وبلاد الرايخ الالماني الصاعد بقيادة بسمارك.
قبل حوالي مائتين سنة حذر الرئيس الامريكي جيمس ماديسون رجال السياسة في بلاده من خطورة  أن يعميهم الطمع وغرور القوة في التعامل مع الشعوب والدول الأخرى ولهذا قال (تداول الثقة خير من تداول المال) فالاستثمار السياسي والاقتصادي يحقق أرباحه فقط إذا اطمأن الناس للتعامل معك. وكما لاحظنا التطابق في كثرة المعارك العسكرية والحروب الاقتصادية لكل من إمبراطورية القرن التاسع عشر(بريطانيا) إمبراطورية القرن العشرين (أمريكا)  ولهذا لماذا نستغرب أن يكون في نهاية المشوار مصير العم سام الامريكي يختلف كثيرا عن مصير سلفه وقريبة العم جون الانجليزي.

بقي أن نقول أنه في زمن المصانع متعددة الجنسيات والشركات العابرة للقارات والقوميات أصبح عالم الاقتصاد المعاصر معقد ومتداخل ففي أي حرب تجارية الان وأثناء القصف بالقذائف الاقتصادية من المحتمل أن يصيب الشرار والنار الخارج من الفوهة الخلفية لسبطانة البازوكا جسم الجندي المدجج قبل ان تصل القذيفة المدمرة لهدفها.
قد تستطيع الولايات المتحدة في الحرب التجارية الحالية التسبب في أذى وضرر اقتصادي هائل على الصين لكن في الغالب والله أعلم أنه كما حصل مع خاتمة حرب الافيون لن تسفر حرب الجولات عن تركيع أو ترويض التنين الصيني.


الجمعة، 27 سبتمبر 2019

( مدينة الطائف وكيمياء الورود )


شذى التعطير في كيمياء التقطير

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في تاريخ علم الكيمياء يعتبر جهاز الإمبيق وعملية التقطير من المعالم البارزة في تقدم مسيرة صنعة الخيمياء ومعجزة الكيمياء ولهذا لا غرابة أن جميع الشعوب حاولت ربط حضارتها برابطة كيميائية وآصرة تارخية بجهاز الإمبيق. في محيطنا العربي المحلي نزعم بأن أبو الكيمياء العربي جابر بن حيان هو من أخترع جهاز الإمبيق بدلالة أن اسم هذا الجهاز باللغة الانجليزية هو Alembic مما يشي بأصله العربي. هذه معلومة شائعة لكن ما أربك افتخاري العربي بهذا الانجاز انني قبل فترة قصيرة وعندما كنت اقرأ في كتاب (العلوم والتكنولوجيا في الصين) صعقت وشرقت عندما عرفت أن أول العمليات الكيميائية المعقدة باستخدام جهاز التقطير مثل استخراج الزئبق من مسحوق الزنجفر تمت ليس بجهاز إمبيق فخاري عربي ولكن بجهاز نحاسي صيني. من شبة الثابت الآن من الناحية التاريخية أن معرفة الصين لجهاز التقطير تعود في أقل تقدير إلى فترة حكم سلالة الامبراطورية الثانية (أسرة هان) والتي وجدت في القرن الثاني قبل الميلاد أي قبل ظهور الإمبيق الحيّاني الكوفي بثمانية قرون كاملة.
للأسف الشديد ليست فقط الصين العتيقة هي من زاحم جابر بن حيان على شرف جهاز التقطير ولكن وصل الأمر إلى العصر الحديث وبالذات في أرض العم سام ممثلة بالجمعية الكيميائية الأمريكية . لقد تأسست هذه الجمعية العلمية العريقة قبل حوالي قرنين من الزمان وهي تعد حاليا وبدون منازع أكبر جمعية علمية في العالم من ناحية عدد الاعضاء المنتسبين لها وميزانيتها السنوية تزيد عن نصف بليون دولار. ما يهمنا هنا ان شعار هذه الجمعية ACS logo هو شكل مطور ومعقد لجهاز التقطير يدعى kaliaappart استخدم ليس فقط لفصل المركبات الكيميائية ولكن ايضا لتفكيكها ومن ثم تخمين تركيبها الكيميائي. وهذا اتحاد الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية (الأيوباك IUPAC) وهو المظلة الأعم والمرجع الرسمي لعلم الكيمياء نجده هو الآخر يفتخر بجهاز الإمبيق ويجعله في القلب من شعار الأيوباك.
وبمناسبة (تقاطر) الذكريات والمعلومات عن جهاز التقطير  الإمبيقي حصل قبل عدة سنوات عندما كنت أتولى مهام الأمين العام لاتحاد الكيميائيين العرب أن تقدمت إلى الزملاء والزميلات في المجلس الأعلى لاتحاد الكيميائيين العرب باقتراح تغيير شعار الاتحاد الكيميائي إلى شعار مطور يحتوى في القلب منه على شكل جهاز الإمبيق الذي أرتبط بتاريخ الكيمياء العربية ولكن تم التصويت في خاتمة المطاف على الاحتفاظ بالشعار القديم الموروث.

شذى التعطير في كيمياء التقطير
كشخص ينتمي لعلم الكيمياء (صنعة جابر) أعترف بفضل وأثر جهاز الإمبيق على أهل الكيمياء ومن لف لفهم وبحكم أنني كذلك ولدت وترعرعت في مدارج الطائف المأنوس فهي الحب الأول والأوحد ومع ذلك أود أن أفصح وأبين أن لجهاز الإمبيق دور محوري في ضمان وصف (مدينة الورد City of Roses) لمدينة الطائف. مدينتي رشيقة كنسمة هواء عاطر وأريج بخور فاخر ولهذا يستخدم فيها جهاز الإمبيق لاستخلاص العطور ورحيق الزهور. بينما في غيرها يستخدم ذاك الجهاز المُقطِّر في فعل مدمر مثل إنتاج الأحماض المتلفة أو الكحولات المفسدة أو الكيماويات المشتعلة أو السموم المهلكة. كما هو معلوم للقاصي والداني اشتهرت مدينة الطائف منذ القدم ببرودة ونقاء أجوائها وتنوع ولذة فواكهها. لكن الأمر المحير أن شهرة وتاريخ الطائف المأنوس كمدينة للعطور ليست قديمة ويبدو والعلم عند الله أن حرفة بعض ابناء منطقة الهدا والشفا في استخلاص زيت الورد الطائفي باستخدام أجهزة التقطير ليست غابرة في الزمن الماضي. العديد من الرحالة العرب زاروا مدينة الطائف وبالرغم من اسهابهم في وصف أشجار وفواكهه ومنتجات الطائف إلا انهم اغفلوا بشكل غريب الاشارة الواضحة لورد الجوري الطائفي. ولن نذهب بعيدا في التاريخ لذكر رواد الرحالة العرب الذين زاروا الطائف ولم يشيروا لانتشار شجر الورد بها بل يكفي الاحالة إلى الرحالة المعاصرين مثل شكيب ارسلان وخير الدين الزركلي. تقول الاسطورة الشائعة أن أحد سلاطين الدولة العثمانية قبل حوالي قرنين من الزمن أهدى شريف مكة عدة شتلات من شجر الورد المجلوبة من  الشام. وبحكم أن هذا النوع من الورد لا يعيش إلا في الاجواء الباردة فقد أمر شريف مكة بأن تغرس في قمة جبال الهدا والباقي تاريخ كما يقال.
بعيدا عن أجواء الاسطورة تشير المصادر التاريخية الثابتة أن صناعة تقطير الورد للحصول على زيت الورد rose oil وإن كان لها تاريخ قديم نسبيا في منطقة إيران وما حولها إلا أنها لم تنتشر وتعرف بشكل واسع  على المستوى العالمي إلا أثناء حكم الخلافة العثمانية للإقليم بلغاريا في شرق أوروبا. ولهذا عرف ذلك العطر باسم الورد العثماني rose otto وفي عام 1888م انتقلت زراعة الورد إلى تركيا نفسها ولهذا تعتبر مدينة إسبرطة التركية من أهم مدن العالم في انتاج زيت الورد حيث يقال أنها مصدر 65% من الانتاج العالمي لهذا الشذى العطري. ومن المحتمل أن زراعة شتلات ورد الجوري (أسمه العلمي Rosa damascena) معروفة من قديم في المنطقة العربية بدلالة أن الاسم العلمي يربطها بمدينة دمشق ولكن (انتشار) صناعة استخلاص وتقطير زيت الورد ربما تعززت اثناء الحكم العثماني.
على كل حال ما يهمنا الآن هو إعطاء فلاشات خاطفة عن دور الكيمياء وجهاز تقطير جابر بن حيان في المساهمة في إضفاء الرونق والبهاء لمدينة الطائف عروس المصائف. من الناحية العلمية رائحة الورد العطرية لا تأتي من مركب كيميائي واحد موجود في الزهور ولكن عبير الورود هو في الواقع ناتج من خليط لعدد كبير من المكونات الكيميائية والتي أثبتت الدراسات والابحاث العلمية انها في حالة شذى ورد الجوري قد تقارب الثلاثمائة مركب كيميائي مختلف. من عجائب الخلق أن عدد كبير من الزهور وبالرغم من أنها تحتوي (عند تقطيرها) على عدد هائل من المركبات العطرية إلا أن الزهرة نفسها لا رائحة لها. من هذا نعلم تعقيد صناعة العطور وأنها تعتمد على طريقة مزج المركبات الكيميائية وكمية ونوعية هذه الجزئيات العطرية. وبالعودة لعبير جوري الطائف نجد أن الورد يحتوى على مركبات كيميائية عديدة من أهمها بيتا داماسينون (الاسم نسبة إلى دمشق Damascus)  وبيتا أيونون وعدد من كحوليات الورد من أشهرها الفينيل إثانول   ونيرول وسيترونيول والتي وجد أنها تشكل نسبة كبيرة من تركيب زيت الورد. ومع ذلك وبدون منازع وجد أن أهم مادة كيميائية لها الفضل في اعطاء الاحساس بأريج الورد هو مركب عطري اسمه أكسيد الورد rose oxide والذي يتنمى لطائفة المركبات العضوية التي تعرف بالتربينات. على مر السنين حاول علماء الكيمياء تحليل وتحديد سبب رائحة عبير الورد وبحكم أن كيمياء رائحة الورد معقدة للغاية تم في عام 1968م تخصيص المؤتمر الدولي الرابع للزيوت العطرية الذي عقد في روسيا لدراسة كيمياء روائح الورد وارتباطها الكبير بمركب أكسيد الورد. وبسبب أهمية هذا الاكتشاف العلمي تم في تلك السنة انتاج طابع بريد روسي يوثق ذلك الحدث العلمي البارز وقد اشتمل هذا الطابع على صورة لزهرة الورد مع شكل التركيب الكيميائي لمركب أكسيد الورد  ولم يتم  اغفال وضع شكل مبسط لجهاز الإمبيق المستخدم في تقطير وفصل الاريج العطري.
وفي وقت لاحق وبعد التطور الكبير في أجهزة التحليل الكيميائي الكروماتوجرافية تبين أن قصة تعقيد كيمياء عبير الورد لم تكتمل فصولا بعد فقد اكتشف العلماء أن مركب أكسيد الورد الموجود بالزهور يحتوي على أربع مواد كيميائية متشابهه تدعى متماكبات isomers وهي جزيئات لها نفس الصيغة الكيميائية ولكن تختلف في ترتيب وموضع المجموعات الوظيفية الكيميائية. وهذا يعني أن لذلك المركب (الواحد) أربع أنواع مختلفة من الروائح يتم وصفها بأن لها رائحة حلوة ورائحة الفاكهة ورائحة النعناع ورائحة الليمون. الأمر لا يتوقف هنا فبعد وصول هذه المتماكبات الاربع المختلطة مع حوالي 300 مركب كيميائي آخر نجد أن هذه (الخلطة العطرية الفريدة) يتم التفاعل بينها وبين المستقبلات العصبية العديدة داخل أنوفنا بطرق مختلفة ومن مجمل هذه المتاهة نستشعر أخيرا أريج وعبير الزهور المختلفة.

الورد من الكيمياء إلى الأدب
هذا التعقيد المحير في كيمياء الورود ربما أكثر شخص كان سوف يصاب بالإحباط لو علمه به هو الاديب الانجليزي البارز وليم شكسبير لأنه ذكر في مسرحيته على لسان جولييت (ماذا في اسم الوردة.. الوردة بأي اسم كانت فهي حلوة الرائحة). هذا المقطع الاديب من مسرحية شكسبير ذائع الاستخدام في اللغة الانجليزية (a rose by any other name would smell as sweet). ويستخدم هذا الاستشهاد الادبي في سياق تقرير أن الاسماء تدل على مسمياتها فمهما كان اسم الوردة (أو اسم عائلة روميو) فهي بالقطع ذات عبير جميل ومتماثل. هذا من الناحية الأدبية الجمالية أما من الناحية العلمية البحتة فكل وردة أو زهره لها أريجها المختلف من حيث (بصمة الرائحة الكيميائية). الورود رمز للرقة والمحبة ولا أعلم لماذا يحشرها دائما  شكسبير في مسرحياته الدرامية بالذات فنجدها حاضره في الصراع بين العائلات الأرستوقراطية (مونتيجو عائلة روميو وكابوليت عائلة جولييت)  أو القتال بين العائلات الملكية كما في حرب الوردتين بين عائلة لانكستر وعائلة يورك. تدور أحداث مسرحية شكسبير الشهيرة (هنري السادس) عن الحرب الاهلية الانجليزية التي دامت ثلاثة عقود والصراع الدامي على العرش بين أسرة لانكستر (شعارها الوردة الحمراء) وأسرة يورك (شعارها الوردة البيضاء) ولهذا يقال ان أول من اطلق اسم (حرب الوردتين Wars of the Roses ) على هذه الحرب الطاحنة كان شكسبير في مسرحيته هذه. وفي ذات السياق نجد أن أشهر رواية على الاطلاق في الأدب الايطالي المعاصر هي رواية (اسم الوردة) للكاتب  أومبيرتو إكو وبالرغم أنها رواية بوليسية غامضة تدور عن أحداث قتل ورعب تقع في دير كنسي في العصور الوسطى إلا إن الأديب إكو Eco برر اختيار هذا الاسم الغريب للرواية لأن (الورد له دلالة رمزية ثرية جدا بالمعاني ومع ذلك يصعب أن يبقى له أي معنى الان). ومن هنا قد نفهم لماذا كان آخر سطر في تلك الرواية: ورود الأمس لها الاسم فقط بينما نحتفظ فقط بالأسماء الفارغة.
في المقابل وفي رياض الأدب العربي نجد الاحتفاء والانتشاء بالورد والجوري أكثر بهجة مما سبق الاشارة إلية لدى أدباء القارة الاوروبية فنجد مثلا أن ابن دمشق نزار قباني يفتخر بالورد الجوري (ذي المسمى العلمي: الورد الدمشقي) حيث يقول:
جئتكم .. من تاريخ الوردة الدمشقية التي تختصر تاريخ العطر
ومن ذاكرة المتنبي التي تختصر تاريخ الشعر
أنا وردتكم الدمشقية .. يا أهل الشام
فمن وجدني فليضعني في أول مزهرية

وهذا ابن الطائف الشاعر الرقيق محمد الثبيتي يتغزل بجمال النزهة في أكناف المصيف:
طف بالشفا راكبا صمت الجمال       مَر النسيم على الازهار كالخجلِ
وداعب الروض واستسق الغمام له      ذرات ماءٍ كدمع الأعين النجلِ
طف بالطبيعة وأحضن طلعها جذلا      ودغدع الورد والأزهار بالقبلِ

وفي الختام بقي ان أقول أنه في المهرجان السياحي الصيفي لمدينة الطائف لهذه السنة (موسم الطائف) وفي مهرجان سوق عكاظ (ملتقى العرب) يلتقي الزائر شخصية عربية غريبة لا تنتمي لسوق عكاظ الذي هو عبارة عن نادي مغلق العضوية على شعراء الجاهلية. ومع ذلك في سوق عكاظ لهذا العام نجد فعالية (معرض الجاحظ) ربما لا لشيء إلا لأنه ذكر الخيل والابل في مؤلفه الموسوعي: كتاب الحيوان. من وجهة نظري الشخصية (والتي تفتقر للحياد بسبب ارتباطي المهني بالكيمياء) أن الشخصية العربية الأكثر والأحق جدارة بالتكريم من أهل الطائف هي شخصية الخيميائي النجم جابر ابن حيان والذي من خلال جهاز الإمبيق عطّر سمعة مدينة الطائف في الآفاق بأنها مدينة الورد والعطور. ولهذا اقترح أن يتم في موسم الطائف في الصيف القادم إقامة (معرض ابن حيّان) للتعريف بدور جهاز الإمبيق وتقنية التقطير البخاري في صناعة العطور ولعل هذا المعرض العلمي الثقافي يشارك في تنفيذه الزملاء الافاضل من منسوبي قسم الكيمياء بجامعة الطائف. من جانب آخر يعجب المرء عندما يعلم أنه تقريبا لا يوجد لمدينة الطائف العريقة إلا طابع بريدي واحد (عن قصر شبرا التاريخي) تم إصداره منذ زمن غابر (عام 1984م) ولهذا اعتقد أن عروس المصائف الطائف المأنوس جديرة بتصميم طابع بريدي جديد أقترح (بكل تعصب كيميائي) أن يحمل شكل ورد جوري الطائف ورسم جهاز التقطير الإمبيقي. لعلها فكرة تشهد التنفيذ قريبا لتصبح لائقة نسبيا بالاحتفاء بمرور نصف قرن على ظهور طابع البريد الروسي السالف الذكر والذي خلد ذكرى البحث العلمي.

الأربعاء، 28 أغسطس 2019

( الحج .. سيرة ذاتية )

لماذا تأخر أدب رحلات الحج لأكثر من أربعة قرون ؟

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الأمة العربية في مجملها أمه بادية كثيرة التنقل والترحال والأمة الاسلامية ركنها الخامس فريضة الحج ومع الزخم الوافر لرحلات الحج إلا أن عدد قليل جدا من الحجيج من حرص على توثيق مشاهدات وذكريات (رحلتهم الحجازية). هل يكفي عذرا أن العرب أمه أمية لا تقرأ ولا تكتب لكي نفهم الفارق الحضاري بيننا وبين الامم السابقة ففي حين كان المؤرخ الاغريقي هيرودوت يوثق في القرن الخامس قبل الميلاد مشاهدات رحلاته في كتابه (تاريخ هيرودوتس) نجد أن أول توثيق للرحلات العربية (رسالة ابن فضلان) لم يقع إلا في القرن الثلاث الهجري - القرن العاشر الميلادي - بمعنى أننا تخلفنا 1500 سنة عن تقليد الاغريق في جانب أدب الرحلات. ليس هذا فحسب فحين نجد أن أول سرد موثق في كتاب مخصوص عن رحلة الحج في الحضارة الاسلامية هو ما قام به الرحالة الفارسي ناصر خسرو شاه في منتصف القرن الخامس الهجري (منتصف القرن الحادي عشر الميلادي) نجد أن الشعوب الأخرى قد قامت قبل ذلك بقرون عديدة في توثيق رحلاتها الدينية. كما هو معلوم ظهرت المسيحية كدين رسمي معترف به عام 325م زمن الإمبراطور الروماني قسطنطين وبعد ذلك بسنتين أرسل ذلك الإمبراطور والدته العجوز هيلينا لحج الأراضي المقدسة المسيحية في القدس. ونظراَ لأهمية هذه الرحلة الدينية أهتم المؤرخ الروماني يوسيبيوس من القرن الرابع الميلادي على توثيق جميع مراحلها وهي بهذا أول حجة دينية مسيحية إلى القدس لها سجل تاريخي غني وشامل. قد تكون الهند هي مهد نشوء الديانة البوذية لكن انتشارها الوسع تم في الاراضي الصينية ولهذا عبر التاريخ قام عشرات الاف من الرهبان البوذيين برحلات دينية غرباَ نحو الأماكن المقدسة البوذية في الهند. ومن أقدم الوثائق التاريخية المسجلة لهذه الرحلات البوذية رحلة الراهب الصيني شوانتسانغ التي استمرت لمدة ستة عشرة سنة والمثير في قصته أنه يتوفر مصدران كبيران لرحلات شوانتسانغ أحدهما من تأليفه نزولا عند رغبة الامبراطور الصيني والآخر من تأليف أحد مريدية ومرافقية.
وعَودُ على بدء نُذّكر بأن العرب شعب من سجيته الارتحال والسفر كما إن من عاداته المستأصلة الحديث عما حصل معه في سفره ولهذا شعر العرب في الجاهلية وصدر الاسلام مشحون بالقصائد والابيات الشعرية الطوال التي تصف الناقة أو الخيل التي يمتطيها الفارس العربي والأهوال التي طرأت عليه في اجتيازه للمفاوز والفيافي والقفار. ولكن اللغز التاريخي المحير هو لماذا أنصرف الأعراب الاقحاح لقرون طويلة عن تدوين وتوصيف رحلاتهم للحج إلى البيت الحرام حيث كما ذكرنا كان الرحالة والشاعر الفارسي ناصر خسرو هو أول شخص في التاريخ الاسلامي يصف معالم وأحداث رحلته إلى الأرض الحرام عام 439 هـ وذلك في كتابه المشهور والبالغ الاهمية (السفرنامه) والذي كتب باللغة الفارسية. لماذا لم يدّون أي من حجاج البيت العتيق من العلماء والادباء في القرون الاربعة الاسلامية تفاصيل رحلاتهم الدينية هل ذاك بسبب الورع وعدم الرغبة في الرياء والسمعة أم هو الخوف من الوقوع فيما حذر منه المؤرخ والرحالة اليوناني القديم سترابو عندما قال (كل متحدث بقصة رحلاته متبجّح).
وكالعادة في واقعنا العرب سرعان ما ننتقل من طرف إلى طرف ومن نقيض إلى نقيض، فطلب تفسير شح وقلة تسطير ذكريات ويوميات ومشاهدات الحاج في العصور الاسلامية القديمة لا يزاحمه إلا طلب تبرير طوفان سيل الحبر المسكوب والورق المكتوب لتوصيف تفاصيل رحلات الحج الحجازية التي نشرها كم غفير جدا من الرحالة والحجاج منذ مطلع القرن السادس الهجري. علما بأن اشهر الرحلات العربية مثل رحلة ابن جبير أو رحلة ابن بطوطة كان مبدأها في الاصل رحلة لأداء فريضة الحج . بكل ثقة نستطيع القول انه لا يوجد الان في تاريخ البشرية كتب مؤلفة لسرد تفاصيل الزيارة الدينية والرحلة الايمانية لأي بقعة دينية او سياحية على سطح الأرض كما هو موجود في كتب مشاهدات الاعلام إلى البلد الحرام. ولتدليل على الكثرة الوافرة من كتب أدب السفر والتحليق إلى البلد العتيق يكفي ان نشير إلى أن المؤرخ المغربي المعاصر عبدالهادي التازي عندما أهتم فقط بتوثيق الرحلات الحجازية المنطلقة من الديار المغربية استطاع سرد أخبار أكثر من مائة مستند وكتاب ووثيقة لرحالة وحجاج من بلاد المغرب سطروا ذكرياتهم المكية وتفاصيل رحلاتهم الحجازية. وهذا ما نجده في الكتاب الموسوعي الضخم الذي ألفه العلامة الدكتور التازي وحمل عنوان (رحلة الرحلات .. مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة).
بقي أن اقول أنه من وجهة نظري الشخصية أن عنوان موسوعة الرحلات المكية للعلامة التازي (رحلة الرحلات) جانبه بعض الصواب فالشطر الثاني منه (مائة رحلة .. ورحلة) هو استدعاء ولا يشك للموروث القصصي القديم (ألف ليله وليله) وما فيه من غرائب الاخبار ومخاطر الارتحال وربما كان الاولى تنزيه ربط رحلة الحج الايمانية بتهويمات الخيال الخرافية. الجدير بالذكر أنه قبل سنوات معدودة من نشر كتاب رحلة الرحلات المغربي نُشر كتاب هام عن رحلات الحج باللغة الانجليزية للكاتب والشاعر الامريكي المسلم مايكل وولف وبحكم أن الكتاب موجهة للقارئ الغربي في الاساس ولهذا يبدو أن عنوان الكتاب أُريد به (توظيف) جاذبية العنوان السحري لألف ليله وليله مع تحوير طفيف ليصبح: ألف طريق إلى مكة (One thousand roads to Mecca). في هذا الكتاب الأجنبي دلالة إضافية على وفرة الكتب المؤلفة في القرون الاخيرة عن رحلة الحج ففي حين ركز عبدالهادي التازي على الرحالة المغاربة نجد أن مايكل وولف يخصص كتابه تقريبا بالكامل لسرد أخبار سفر الرحالة غير العرب (بل وربما غير المسلمين) من الأصول الاوربية. في هذا الكتاب الضخم (656 صفحة) يوثق مايكل وولف الرحلات المكية لحوالي عشرين شخصية منحدرة من دول غربية مختلفة مثل بريطانيا وايطاليا وامريكا واسبانيا وسويسرا والنمسا واستراليا عبر فترة زمنية متطاولة تمتد لخمسة قرون تبدأ من مطلع القرن السادس عشر (عام 1503م عندما قام الرحالة الايطالي فارتيما المعروف بالحاج يونس بزيارة مكة) وحتى نهايات القرن العشرين (سنة 1990م عندما أدى المؤلف مايكل وولف مناسك الحج).
من الاخبار إلى الخواطر
بالرغم من أن مناسك و شعائر الحج ثابتة أبد الدهر إلا إن أحاسيس ومشاعر الحجاج التي تم توثيقها في الكتب يبدو أنها قد تغيرت عبر الزمن. كما لاحظنا في بداية الأمر ولمدة تزيد عن أربع قرون متواصلة لم يسطر أحد من الحجاج المسلمين أي شيء ذي بال عن رحلة الحج ثم وبظهور أدب الرحلات في ديار الاسلام كان اهتمام رواد (( الجغرافيين العرب)) ممن وثق وسجل رحلته الحجازية ينصب على (الدراسة الوصفية) لأبرز أحوال وطباع المسالك والممالك التي يمرون بها أثناء رحلة الحج. بمعنى أن الرحالة الحاج كان يركز على زيادة المعلومات الجغرافية والتاريخية عن الديار الاسلامية والبقاع المكية والاثار الحجازية.  بالمناسبة يشير علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر في مقدمة كتابه الماتع (رحلات حمد الجاسر) أنه استفاد بشكل كبير من كتب رحلات الحج في الحصول على المعلومات المتنوعة عن تاريخ بلادنا وجغرافيتها وأحوالها وربما هذا ما شجعه لاحقا لبذل جهد خاص في تقصي وتجميع كل المخطوطات التراثية عن الرحلات الحجازية ونشر كتابه الفريد (أشهر رحلات الحج).
ما سبق كان هو مساق الاخبار والمعلومات والرصد في أجواء الحج أما ما نحتاج إليه في إثبات أن الحج هو (سيرة ذاتية) وليس فقط (دراسة وثائقية) فنحتاج أن نفتش وننبش عن مشاعر الحاج وليس عن مشاهدات الحاج. الحج كما هو معلوم رحلة مشحونة بالعواطف والاحاسيس والتأملات والنقاشات وتبادل الافكار ورحلة الحج بحق كما وصفها الشيخ محمد الغزالي (رحلة روحية وسياحة عاطفية). من هذا وذاك نجد أنه ومنذ مطلع القرن العشرين اختلفت وبشكل حاد سمات ومعالم كتب رحلات الحج المكية فلم تصبح تركز علي (السرد المُجَرَد) للأخبار والمعلومات ولكن على (السبر المُجرِد)  عن أعمق مشاعر الروح عندما توجد في المشعر الحرام الذي  تسكب عند العبرات وترتفع في محيطه أنين الشهقات.
في زمن الشاشات الفضائية وطوفان معلومات الشبكة العنكبوتية في الغالب نحن لسنا بحاجة إلى كتب الرحلات القديمة لأنها تعطي وصف لمعالم جغرافية غير موجودة الان ولهذا نادر جدا من يقرأ (من غير المتخصصين) رحلة الحج للصفدي أو العبدري أو القيسي أو الجزيري أو البكري أو العياشي أو الهشتوكي فهؤلاء رحمة الله عليهم لا يعرفهم (وفي الغالب لن يعرفهم) جيل اليوم حتى وأن ذكرهم العلامة حمد الجاسر ووصف رحلاتهم الحجازية بأنها من (أشهر) رحلات الحج. في المقابل نجد أن لرحلات الحج ذات طابع الوصفي الروحاني أو الرونق الادبي أو العمق الفلسفي لها سوق رائجة وشهرة ذائعة. وبعد أن كانت عناوين الرحلات القديمة للبيت المعمور لها اسماء متكلفة ومسجوعة فمثلا كتاب رحلة الحج للعالم للفقيه المغربي ابن رشيد السبتي وهو من أعلام القرن الثامن الهجري حمل عنوانا صعب الفهم (ملأ العيبة بما جُمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة) نجد أن عناوين كتب الزمن المعاصر قصيرة وحكيمة. فهذه رحلة علامة الهند الكبير وحيد الدين خان إلى الديار المقدسة نتج عنها أحد اهم كتب الفكرية المعاصرة وهو كتاب حمل عنوان بسيط ولكن عميق (حقيقة الحج) ركز فيه على (روح) الحج ورسالته الكبرى.
الشيخ الجليل علي الطنطاوي وضع قاعدة جميلة في أدب الرحلات عندما قال (.. وأنا حين أهم بالكتابة عن بلد لا أصف أرضه ولا تحديد مساحته وحاصلاته، ولكن أحاول أن اصف مدى شعوري به ومبلغ ما له في نفسي). ولهذا نجد شيخنا الطنطاوي يختار أن يكتب خواطره الحجازية بأسلوب أدبي رفيع والأهم من ذلك أنها جاءت في سياق استخراج معاني الحج  الايمانية ودروسه التربوية ولهذا كان عنوان كتاب الشيخ الطنطاوي عن الحج (من نفحات الحرم). ومن الكتب التي نسجت على منوال الخواطر الفكرية والتأملات الروحية أثناء الزيارة لمهوى الافئدة المكي كتاب (أرض المعجزات) للكاتبة الكبيرة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) وكتاب (في منزل الوحي) للدكتور الاديب محمد حسين هيكل. وبمناسبة ذكر الروائي المصري الكبير محمد حسين هيكل فكما أنه خلّد أسمه في تاريخ الأدب العربي بكونه أول من ألّف قصة عربية حديثة (رواية زينب) فهو كذلك أول أديب معاصر يوثق رحلة حجه في كتاب ثقافي بأسلوب أدبي رفيع. صحيح أن الأديب العملاق عباس العقاد عندما سأل عن وصفه لمشاعره في الحج فكان رده (هي تُحس أكثر ما توصف) وكذلك عبر طه حسين عن أحاسيسه في أرض الحجاز بأنها (لا يمكن أن تصور في حديث أو أحاديث) وربما لهذا لم يتسنى للعقاد أو طه حسين تأليف كتاب خاص عن رحلتهم للبلد الحرام. ومع ذلك نجد كوكبة أخرى من كبار الادباء يثرون المكتبة العربية بعدة كتب غاية في الروعة والثراء الأدبي تتعلق بأدب الرحلات إلى المشاعر المقدسة. ويمكن في هذا السياق ذكر كتاب (رحلة الحجاز) للأديب الظريف إبراهيم عبدالقادر المازني وكتاب (حَمَام الحمى .. يوميات حاج) للروائي المصري المعاصر جمال الغيطاني وكتاب (إسلام بلا ضفاف) لرائد القصة القصيرة العالمي يوسف إدريس. من أغرب الأمور في مجال أدب رحلات الحج أنه على خلاف الشعراء نجد أن الروائيين وكتاب القصة وإن كانوا تواجد في الحج إلا أن الحج لم يتواجد في رواياتهم الأدبية. دفق الاحاسيس وسمو العاطفة الوجدانية اثناء تأدية شرائع الحج والتواجد في أرض النسك أنتجت كم هائل من القصائد الشعرية في القرون المتأخرة وإن كانت البدايات شحيحه (كما ذكرنا ذلك العام  الماضي في مقال: الصور الشعرية للحج .. وشح البدايات). وفي المقابل هذه البيئة العاطفية الخصبة أثناء الحج لم تنتج أي عمل روائي مهم في مجال القصة أو المسرح لها ارتباط بالحج والحجيج. للأسف الشديد التاريخ يعيد نفسه فكما لم يطلع (العرب) على أدب الرحلات الحجازية إلى من خلال اللغة الفارسية في كتاب سفرنامه السابق الذكر فكذلك  لم نعرف حتى الان  أي رواية أدبية عن أجواء الحج إلا تلك التي كتبت باللغة الفرنسية وحملت عنوان (لبيك حج الفقراء) والتي هي الرواية الأدبية الوحيدة للمفكر الجزائري البارز ماك بن نبي. سبق وأن اشرنا ان الصور الشعرية عن الحج كانت شحيحة ونادرة ثم جادت القرائح بالقصائد والمطولات الشعرية فهل الأمر كذلك فيما يتعلق بالروايات والاعمال القصصية المرتبطة بالحج فهي مفقودة اليوم موجودة في الغد القادم. علم ذلك عند ربي لكننا في قمة التخلف في هذا الشأن مقارنة بالأدب العالمي فمنذ بواكير ظهور الرواية والقصة الادبية على المستوى العالمي كان للحج  ورحلة الحجيج وجود ملموس وحضور محسوس. بعض النقاد يشير إلى إن المجموعة القصصية (حكايات كانتربري) للأديب الانجليزي جيفري تشوسر والمنشورة قبل حوالي ستة قرون ربما هي أقدم الاعمال الأدبية في صورتها الحديثة وما يهمنا هنا أنها تدور عن رحلة عدد من الحجاج إلى ضريح القديس توماس في كاتدرائية كانتربري. في وقتنا الحالي يعتبر الروائي البرازيلي باولو كويلو (صاحب رواية الخيميائي ذائعة الصيت) أشهر وأهم كاتب قصة على قيد الحياة ومع ذلك كانت أول رواية ناجحة له والتي جلبت له شهرة دولية طاغية هي رواية (حاج كومبوستلا). وهي رحلة روحية وفلسفية عميقة تتقمص طريق الحج الموجود في اسبانيا المسمى مارا يعقوب وهي الطريق التي يسلكها الحجاج المسيحيون منذ القرون الوسطى إلى كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستلا في شمال اسبانيا. بقي أن نقول في الختام أنه في الفترة الأخيرة يعاني (الأدب السلامي) من تعثر في جودة الانتاج وغموض في المفهوم والابعاد وربما مساهمة كتاب القصة من رواد الرواية الاسلامية المعاصرة في سد النقص في فضاء (الحج في الادب الروائي) يكون لها صدى إيجابي لتفعيل روح ورسالة هذا الفرع الثقافي والفني الواعد.



السبت، 3 أغسطس 2019

( قفزة كبرى نحو القمر )

الهبوط على القمر .. خطوة صغيرة لإنسان وقفزة كبيرة للبشرية

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الفلك دوّار والزمن سيّار وها نحن ذا تتردد في آذاننا العبارة الأسطورية (إنها خطوة صغيرة لرجل ولكنها قفزة كبرى للإنسانية) وهي تلك الكلمات التي نطق بها رائد الفضاء الامريكي المشهور نيل آرمسترونغ في مثل هذا اليوم قبل خمسين سنة شمية أو حوالي 52 سنة قمرية. كان ذلك في حدود الساعة الثالثة حسب التوقيت العالمي الموحد من  يوم 20 يوليو من عام 1969م عندما خطى آرمسترونغ بأول خطوة لإنسان على أرض القمر منهيا بذلك الشوط الأهم في سباق الفضاء space race بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. بصورة حاسمة أثبت الأمريكان تفوق التقنية الغربية على منافسيها ليس فقط بالوصل والهبوط مرة واحدة فقط على القمر ولكن بالوصول المتتالي لست مرات إلى أرض القمر التي درج ومرج على ثراها اثنى عشر رجل فضاء وكان أخر من رفع قدمه منهم عن تراب القمر رائد الفضاء الامريكي يوجين سيرنان بعد أن خط اسم ابنته تراسي على ثرى القمر وذلك في نهاية عام 1972 ميلادي.
يقال أن (الرابح يبقى وحيداً) وهذا ما حصل مع الامريكيان في سباق الفضاء فقد أنسحب الروس تماما من المشهد وعلى نفس النسق يقال (الفائز ينال كل شيء) وهذا ما حصل مرة أخرى مع رواد فضاء العم سام الامريكي الذين حازوا التاريخ مع المجد. عندما فاز رجال الفضاء الزرق (الأمريكان) في الشوط النهائي والحاسم على رجال الفضاء الحمر (الروس) نسى التاريخ كل الأمجاد العظيمة والمذهلة التي حققها الروس في بواكير عصر الفضاء فهم أول من أرسل قمر صناعي للفضاء (سبوتنك 1) وهم أول من أرسل رائد فضاء (جاجارين) وأول رائدة فضاء من النساء (تيريشكوفا).  كلنا نتوقع أن أول من وصل وهبط على سطح القمر هي مركبات الفضاء الامريكية في عام 1969م وهذا خطأ تاريخي شائع فأول مربكة فضاء (غير مأهولة unscrewed mission) هبطت على  القمر هي مركبة الفضاء السوفييتية لونا 2 وأول الصور الفوتوغرافية لسطح القمر تمت من خلال عدسات الكاميرات الروسية بواسطة مركبة الفضاء لونا 9. والأغرب من ذلك أن عينات التربة والصخور التي تم أخذها من سطح القمر ونقلها إلى الارض لم تكن فقط من خلال رحلات برنامج الفضاء الشهير أبولو ولكن أيضا عن طريق مركبة الفضاء الروسية لونا 16 التي هبطت على سطح القمر ثم أقلعت مرة أخرى بعد التحكم بها عن بعد.
الذاكرة التاريخية للبشر قصيرة وتميل للاختصار والاختزال ولهذا أغلبنا توقف المشهد عنده لوصول البشر إلى القمر عند لحظة هبوط نيل ارمسترونغ وتم نسيان بقية  الرواد الاخرين الذين انحدروا من بعده وكما صعدوا على سلم المجد هبطوا في غياهب الغفلة وفقدان الذاكرة تم نسيانهم كما حصل تماما مع نسيان عشرات المركبات الفضائية التي هبطت على سطح القمر. لحظة هبوط أول انسان على سطح القمر تمت في شهر يوليو 1969م بينما أول هبوط ناجح لجهاز أو مركبة من صنع الانسان تم قبل ذلك التاريخ بعشر سنوات كاملة حيث هبطت المركبة الفضائية الروسية لونا 2 عام 1959م في شهر سبتمبر بينما آخر محاولة حتى الان للهبوط على سطح القمر تمت قبل عدة شهور عندما فشلت مركبة الفضاء الاسرائيلية بيراشت في منتصف شهر مارس الماضي من الهبوط بسلام على سطح القمر. المحاولات العلمية الجادة (للوصول) للقمر بدأت قبل حوالي ستين سنة وبالتحديد في صيف عام 1958م وخلال هذا الزمن تم محاولة أرسال أكثر من ثمانين مركبة فضاء مستقلة إلى القمر. في بداية الأمر العشرات منها تحطمت لحظة الاقلاع ولاحقا العشرات منها نجحت في تحقيق مهام بسيطة مثل المرور والتحليق flayby  حول القمر أو الدوران حوله. بينما حققت 15 مركبة الهدف العلمي المنشود منها وهو (ويا للغرابة) مجرد الاصطدام بالقمر بينما لم تكن المركبة الامريكية المسماة النسر (التي هبطت بأرمسترونغ وزميل باز ألدرين)  هي الوحيدة التي هبطت بسلام على تخوم القمر وإنما تمكنت كذلك اثنى عشر مركبة فضائية أخرى في تحقيق هذا الخلود العلمي الكبير.
الجدير بالذكر أن مركبات الفضاء التي تدلّت ونزلت على أرض القمر ليست فقط من صنع التقنية الامريكية والروسية المتقدمة فقبل عدة سنوات نجح علماء الفضاء الصينيين في إنزال مركبة فضاء متحركة rover على سطح القمر كما نجحوا قبل عدة أشهر فقط في إنزال مركبة أخرى على الجانب المظلم والبعيد من سطح القمر. يبدو أن الشعب الهندي على موعد قريب من تحقيق الفخر العلمي فبعد أن تم قبل عشر سنوات ارسال مركبة الفضاء الهندية شاندرايان 1 التي اصطدمت بشكل متعمد impact على سطح القمر يتوقع هذه الايام هبوط فعلي lunar landing  لمركبة الفضاء الهندية شاندريان 2 على سطح القمر والتنقل عليه لإجراء التجارب العلمية القمرية.
حقاً وصدقاً لقد دار الفلك دورته وعاد سيرته فكما انطلق قبل نصف قرن من الزمن سباق الفضاء بين الروس والامريكان للوصول إلى القمر نجد اليوم العديد من الدول تطلق كلا منها مركبات الفضاء الخاصة بها لتمخر بروج السماء ولتهبط على أديم القمر. وكما تم الاشارة له سابقا نجحت الصين قبل اشهر في انزال مركبة على سطح القمر بينما تحطم غير مأسوفاً علية مسابر الفضاء القمري الاسرائيلي في حين أن مركبة الفضاء الهندية في طريقها ألان إلى القمر وكذلك أعلنت وكالة الفضاء الروسية انها تخطط لإرسال مركبة فضاء إلى القمر في نهاية هذه السنة. أما عن أخبار أسياد الفضاء في وكالة الفضاء الامريكية ناسا فلم تنقطع مركباتهم الفضائية من الوصول إلى القمر وإن كان آخر مركبة امريكية هي تلك التي قصف بها القمر عام 2013ميلادي. في واقع الأمر الوصول للقمة (أو القمر) قد يكون سهلا لكن البقاء على القمة هو الاصعب ولهذا لم تحقق وكالة الفضاء الامريكية ناسا وعد الرئيس الامريكي جورج بوش الأبن عندما أعلن في عام 2004م بأن الأمة الأمريكية على موعد مع التاريخ في عام 2019م عندما يتم إعادة ارسال رواد الفضاء الامريكيان إلى أرض القمر مرة أخرى. وفي الوقت الحالي يبدو ان سياسية الرئيس الامريكي دونالد ترامب مرتبكة على جميع الاصعدة فبعد أن صرح قبل عدة اسابيع بحماسة لعودة الامريكان إلى القمر حيث غرّد على تويتر قائلا (سنعود إلى القمر) وإذا به بعد ذلك بثلاثة اسابيع فقط  يهاجم وكالة الفضاء الامريكية ناسا ويسخف من خططها للعودة للقمر ويطلب منها عوضا عن ذلك أن تركز على التجهيز للرحلات إلى المريخ. وليس هذا فقط بل أذهل ترامب العالم بمعلوماته العلمية كما اذهله بتخبطه السياسي عندما قال في تغريدة له (إن القمر جزء من المريخ !!!).

القمر بعيد عن العين قريب من القلب
هذا صحيح فمنذ فجر الإنسانية تعلقت قلوب البشر بهذا الرفيق السماوي ولهذا نُسجت عنه الاساطير وفُتن به الشعراء وشُغل به الفلاسفة وكَشف أسراره العلماء. في عماء الاساطير القديمة أسندت للقمر قدسية سماوية سامقة فهو إما تمثيل للإلهة أو محل سكن وإقامة بعض ربات السماء مثل إلهة الصيد ديانا في الاساطير الرومانية أو الإله المنير نانا إله القمر في الحضارة السومرية. وبسبب هذا السمو المكاني والروحي للقمر كان الصعود إلية مستحيلا untouchable إلا على الكائنات الروحانية الشفافة وبسبب استحالة الوصول إلى القمر في المخيلة البشرية كان الهبوط أخيرا على القمر يعتبر أعظم إنجاز علمي بلا منازع في تاريخ البشرية. الغريب في الأمر أنه فيما بحثت وفتشت لم أجد أي إشارة لخبر من خيال الانسان القديم للوصول إلى القمر إلا ما ذكر عند شعوب الاسكيمو فمن اساطيرهم أنه يمكن لأي شخص أن يسافر إلى القمر إذا اختارته الاله ان يصعد معها إلى القمر عبر زلاجة تجرها الكلاب. في واقع الأمر زخم تدفق الخيال والأحلام بالسفر إلى القمر لم يظهر إلا في القرون القريبة الماضية ومن ذلك أن الكاتب الإنجليزي فرانسيس قودوين ألّف في مطلع القرن السابع عشر قصة خيالية حملت عنوان (رجل في القمر) تدور حول رجل هارب وجد في جزيرة نوع كبير من طيور الإوز والتي ربطها بعربة وحلق بها لمدة اثنى عشر يوما حتى وصل إلى سطح القمر.
في نهاية القرن الثامن عشر بدأت تظهر القصص والأعمال الادبية الأكثر منطقية وعقلانية في كيفية الوصول للقمر فبدلا من خرافات السفر عبر زلاجات الكلاب أو عربات طيور الإوز نجد أن الأديب الالماني رودولف راسبي ينشر روايته بالغة التشويق عن مغامرات البارون الالماني مانشهاوزن والتي من ضمنها محاولته الهرب عن طريق تصنيع منطاد كبير والذي حلق به في عالياً في السماء حتى وصل إلى القمر لتبدأ مغامرة جديدة له هنالك مع ملك القمر الغضوب. الملفت للنظر أن الحبكة الروائية حول شخص هارب يفر إلى القمر تكررت مرة أخرى في منتصف القرن التاسع عشر عندما نشر الكاتب الأمريكي الشهير إدغار آلان بو قصة قصيرة عن قاتل يدعى هانس بافال حاول الهرب باستخدام نوع خاص من المناطيد والذي حلق به لمدة ثمانية عشر يوما حتى هبط  به على سطح القمر.
كما هو متوقع فإن الخيال البشري للعديد من الكتاب والروائيين قادهم لتأليف عشرات القصص للسفر إلى القمر باستخدام وسائل سحرية مثل سفن شراعية أسطورية أو جسور وأنفاق غير مرئية أو حذاء سحري أو اختراعات علمية غريبة مثل نوع من المعادن أو الأصباغ المضادة للجاذبية أو نوع من المغناطيسات العجيبة. ومع ذلك تبقى الحبكة العلمية والأدبية الصحيحة هي أن تكون القصة أو الرواية قائمة على استخدام طاقة النار والاشتعال الكيميائي لتحقيق الرحلات القمرية إما في شكل مدفع عملاق أو على هيئة صواريخ الفضاء. لعل أقدم وأهم قصة خيالية في هذا النسق يمكن تتبعها إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما قام الأديب الفرنسي البارز  جول فيرن (صاحب رواية: حول العالم في ثمانين يوما) بنشر روايته بالغة التأثير في ولادة أدب الخيالي العلمي إلا وهي القصة التي حملت عنوان (من الأرض إلى القمر). الغريب في أمر هذه القصة أنه بالرغم من أن مؤلفها روائي فرنسي إلا أنها بالغة الارتباط بالتاريخ الامريكي فهي قد نشرت في عام 1865 أي في نفس سنة نهاية الحرب الأهلية الامريكية وهي بالتالي في جزء من حبكتها تستند إلى هذه الحرب حيث ان أحداث الرواية تدور في مدينة بالتيمور. القصة تدور عن ثلاثة رجال من أمريكا يقمون بمغامرة جريئة وخطيرة للسفر إلى القمر وهو ما سوف يحصل تقريبا بعد مائة عام بوصول آرمسترونغ وزميليه إلى مدار القمر. الاختلاف الجوهري ما بين الرحلة الخيالية والرحلة الحقيقة أن انطلاق المغامرين الثلاثة القدماء كان عبر استخدام مدفع ضخم بينما تم في رحلة الفضاء الحقيقة نقل رواد الفضاء عبر صاروخ ضخم جدا يدعى ساترون 5.
وما ينبغي الإشارة له هنا إلى أن كل من جاء بعد جول فيرن (مثل كتاب روايات الخيال العلمي الكبار مثل إسحاق عظيموف وآرثر كلارك) تأثر به بشكل كبير فيما يتعلق بمزج الابداع الادبي بخيال الرحلات العلمية إلى القمر وبقية الكواكب. بل اننا نجد في الرواية الشهيرة (أوائل الرجال على القمر) عن استشراف المستقبل لرائد روايات الخيال العلمي الكاتب الانجليزي المعروف هربرت جورج ويلز (صاحب روايات آلة الزمن والرجل الخفي)، نجد أن بطلي الرواية رجل الاعمال السيد بيدفورد والعالم السيد كارفور يتناقشان عن مدى احتمالية السفر إلى القمر بالاستناد إلى تفاصيل رواية جول فيرن السابقة الذكر. الأغرب من ذلك أن ذكر رواية جول فيرن والاشادة بها من قبل رواد الفضاء وهم في مركبة الفضاء الصاروخية حصل في الخيال وفي الحقيقة. أما في الخيال فهو ما سبق ذكره من الحوار بين ابطال رواية (أوائل الرجال على القمر) أما في الحقيقة فهو ما حصل مع طاقم رحلة ابولو 11رائد الفضاء آرمسترونغ وزميليه حيث أنهم في رحلة العودة من السفر من القمر قاموا بإرسال بث تلفزيوني في يوم 23 يوليو تحدثوا فيه عن رحلتهم التاريخية الكبرى وكيف أنها تأتي بعد حوالي مائة سنة من نشر رواية (من الأرض إلى القمر). وقد ذكر رواد القمر أن جول فيرن تخيل سفينة فضاء تدعى كولومبيا أطلقت من فلوريد ثم سقطت في رحلة العودة في المحيط الهادئ وهو ما سوف يحدث مع سفينة الوقت الحالي كولومبيا الجديدة التي هم فيها والتي سوف تلتقي مع الارض يوم غد (24 يوليو 1969م) في المحيط الهادئ.
يشتهر عن أدباء الخيال العلمي قدرتهم العجيبة على (استشراف المستقبل) وهذا ما حصل مع الفرنسي جول فيرن والانجليزي هـ. ج. ويلز فرواياتهم زاخرة بتوقع المخترعات العلمية التي لم تظهر بعد في زمانهم من مثل الطائرات والغواصات والصواريخ والدبابات والليزر والتلفزيون وما يهمنا هنا هو ما توقعه الروائي البريطاني المثير للاهتمام أرثر كلارك في روايته (اوديسة الفضاء 2001). ظهرت هذه الرواية الرائعة والفلم المصاحب لها في عام 1968م أي قبل سنة واحدة فقط من هبوط البشر على سطح القمر وهي وإن كانت تتحدث عن القمر ووجود مسلة غريبة مدفونة تحت سطح القمر منذ ملايين السنين إلا ما يهمنا في الواقع هو بداية الراوية حيث يتم وصف الرحلة الفضائية الخاصة التي سوف يقوم بها بطل الرواية الدكتور فلويد على متن مركبة فضاء مخصصة للرحلات السياحية للفضاء وزيارة القمر تتسع لعشرين راكب. في الوقت الحالي مفهوم (سياحة الفضاء) هو واقع حقيقي وليس خيال علمي محض فمنذ عام 2001م تم بدأ قص التذاكر وبطاقات الصعود
(boarding pass) لسياح الفضاء لكن تبقى (القفزة الكبرى الثانية إلى القمر) والمتمثلة في ارسال سياح في نهاية المطاف إلى محطة القمر destination moon وهذا بالمناسبة أسم لفلم ورواية أدبية شهيرة.
قبل حوالي سنيتن أعلن رجل الاعمال المشهور إليون مسك صاحب شركة مركبات الفضاء العملاقة SpaceX أنه سوف يتم ارسال سياح إلى القمر في حدود مطلع هذه السنة وذلك بعد أن دفع هؤلاء السياح جزء من قيمة تذكرة السفر الباهظة التكاليف والتي تبلغ 70 مليون دولار امريكي. الأمر الصادم أن هذا المبلغ الضخم هو فقط لرحلة سياحية تشمل (لفه حول القمر) اي بمعنى الدوران حول سماء القمر دون الهبوط عليه لأن إنجاز مثل هذا الأمر يحتاج إلى مبالغ مالية إضافية طائلة تصل لخانة مئات الملايين من الدولارات التي يجب أن يدفعها كل سائح قمري. وبكشف الحساب المالي هذا أجدني اكرر إعجابي ببعد نظر كتاب روايات أدب الخيال العلمي واستشرافهم للمستقبل ومن ضمنهم الكاتب السوري المعاصر الدكتور طالب عمران (رئيس رابطة كتّاب الخيال العلمي العرب) الذي نبهنا منذ سنوات انه لن يصل ويهبط على القمر إلا أغنى الاغنياء ولهذا أعتقد أنه نجح ووفق في اختيار عنوان روايته الشيقة (ليس في القمر فقراء).