الأربعاء، 28 يوليو 2021

( الشيخ الألباني والإمامة في الدين )

ليس بغزارة العلم وحدة أصبح الألباني أمام في الدين


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في كتاب (الأبطال) لخص المفكر والكاتب الإنجليزي توماس كارليل التاريخ البشري بقوله (تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء) وعلى نفس النسق يمكن بشيء من التجاوز أن نختزل تاريخ التيار والمنهج السلفي بأنه سلسلة متواصلة لمسيرة عدد من (أعلام السلف). الرموز والشخصيات السلفية في القديم والحديث كثيرة وذات مشارب متعددة لكن (القامات التاريخية) محدودة نسبيا ويمكن تلخيصها في الأسماء اللامعة مثل الأمام أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب. في التاريخ الإسلامي وجد العديد من (الأئمة الأعلام) الذين وضعوا بصمتهم الفريدة في شتى المجالات كما في المذاهب الفقهية مثل الأئمة الأربعة أو تدوين السنة مثل علماء الحديث الكبار كالبخاري ومسلم أو حتى في مجال التصوف مثل الإمام الغزالي.

توجد أسباب وعوامل متعددة ومتداخلة في البروز الكبير والانتشار الواسع لتأثير بعض السلف الصالح دون البعض الآخر. عندما قارن الإمام الشافعي بين عمالقة الفقه الإسلامي مالك بن أنس والليث بن سعد قال (الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به) بمعنى أنه الليث بن سعد لم ينشأ مدرسة فكرية تقوم بتدوين علمه وتنشره في الآفاق. قوة المنهج العلمي وكاريزما الشخصية من العوامل المهمة في استقطاب الاتباع والمريدين والتلاميذ ومع ذلك يبقى من العوامل المهمة في شخصية (الأئمة الأعلام) أن تكون مسيرتهم مشحونة بالنضال والمعاناة والابتلاء. البشر يعشقون وينجذبون لم يناضل ولذا يرفعون مكانته ويقدرون تضحيته وبالعودة للإمام الشافعي يقال إن أحدهم سأله فقال: يا أبا عبد الله أيُّما أفضل للرجل أن يُمكّن أو أن يبتلى فقال الشافعي الحكيم: لا يُمكّن حتى يبتلى. وكل درج وسلك في سبيل الدعوة يعلم أنه لا بد أن يمر على طريق الابتلاء والتمحيص ومن هنا ذكر ابن قيم الجوزية في كتابه مدارج السالكين أنه سمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

بالمناسبة يوجد نوع من التطابق بين ابن تيمية والألباني في تنوع الأذى والمعاداة والمضايقة لهما أثناء حياتهما والتجريح والتجريف لمنهجيهما بعد وفاتهما. في القديم تقدم علماء السوء بشكوى ضد ابن تيميه في المسألة الفقهية المتعلقة بالحلف بالطلاق ونتج عن هذه الشكوى قيام قاضي القضاة بمدينة دمشق بمنع ابن تيميه من الإفتاء والتدريس ورفع أمره إلى السلطان. وفي الحديث قام مجموعة من مشايخ دمشق برفع عريضة إلى مفتي الشام يطالبون فيها بإيقاف العلامة ناصر الدين الألباني من نشر العلم والدعوة وقام المفتي بدوره بإحالة الشيخ إلى مدير الشرطة. العلماء هم ورثة الأنبياء كما ورد في الأثر الصحيح وهم ليس فقط ورثوا من الأنبياء والرسل الكرام العلم والدعوة إلى الله، ولكنهم ورثوا منهم كذلك سنة الابتلاء في سبيل الدين والحق. وإذا كان من مكر الأعداء ضد الأنبياء عليهم السلام كما نص القرآن الكريم (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) فهذا ما حصل في الواقع مع جماعة من أئمة السلف في القديم والحديث فقد تعرضوا للحبس والقتل والتشريد والنفي من الأرض. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية سجن وحبس مرات عديدة كان منها أن سجن مرتين في قلعة دمشق في مناسبتين مختلفتين وكلا منها بسبب آراءه الفقهية ومنهجه الفكري والعلمي. وفي نفس قلعة دمشق تلك حصل أن أعتقل الإمام الألباني في عام 1969م لفترة من الزمن وبهذا انطبقت مسيرته مع مسيرة (سلفه) ابن تيمية كما سجن الشيخ الألباني مرة ثانية في سوريا، ولكن في مدينة الحسكة عندما أبعد إليها ومنع من دخول دمشق. وبما إن سيرة المنع من الإقامة والإبعاد والطرد فتحت فيوجد تطابق آخر بين الإمام الألباني وبين سلفه الكبير ابن تيمية فهذا الأخير بسبب من علماء السوء أخرج من دمشق إلى القاهرة ثم بعد فترة من الزمن تم نفيه وتهجيره إلى مدينة الإسكندرية وكذلك الإمام الألباني بعد نفيه إلى مدينة الحسكة تعرض للتضييق والتهجير لدرجة إخراجه من بلده الأصلي سوريا إلى الأردن ليقضي بها سنوات طويلة ويتوفى بها. بل حتى إقامة الإمام الألباني في الأردن لم تخل من المنغصات ففي بداية الأمر رفض طلبه لدخول الأردن وظل الشيخ ثلاثة أشهر على الحدود الأردنية حتى تدخل الشيخ محمد بن إبراهيم الشقرة مدير المسجد الأقصى في الأردن وتوسط له عند الملك حسين. وحتى قبل وفاة الشيخ بعدة سنوات كاد يصل الأمر بطرده من الأردن بسبب فتوى فهمت خطاءً بأنه يدعو الفلسطينيين بوجوب الهجرة من فلسطين.

هذا ما كان مما ذكر في الآية الكريمة عن السجن (ليثبتوك) والتشريد والنفي (أو يخرجوك) أما فيما يتعلق بالقتل فقد صدرت في حق شيخ الإسلام عدة فتاوى بهدر دمه واستحلال قتله. ومن ذلك إصدار ابن مخلوف قاضي المالكية في مصر فتوى في تكفير ابن تيمية ووجب قتله بينما نودي في الجامع الأموي في دمشق (من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله) بل البعض كفر كل من يسمي ابن تيمية بشيخ الإسلام. أما في حالة الشيخ الجليل الألباني وبالرغم ما عرف عنه من تحذيره من التكفير والتفجير (له رحمة الله فتاوى أثارت ضجة تتعلق بعدم موافقته للعمليات الانتحارية ضد اليهود في فلسطين) ومع ذلك لم يسلم الإمام الألباني في نفسه من أن تصدر ضده فتاوى تجيز قتله كما حدث ذلك في شبابه عندما أصدر رئيس رابطة علماء سوريا فتوى أهدرت دمه.

ومن الابتلاء الذي يصيب (الأئمة الأعلام) هو أن يحصل التعريض لهم بالتجريح والتشويه والتسفيه والقدح في علمهم ومنهجهم وغالبا يقع هذا من معاصريهم وسبب ذلك الحسد والحقد. فهذا تقي الدين السبكي لا يكتفي بالرد العلمي على ابن تيمية بل يعمد إلى تجريحه واستنقاصه بقوله (إنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به .. ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره .. وهو لم يتهذب بشيخ ولم يرتض في العلوم). وبالرغم من الشهرة المدوية للإمام الألباني بوصفه (محدث العصر) إلا أن عالم الحديث الهندي المعاصر له حبيب الأعظمي بالغ لدرجة السفه في نقد الإمام الألباني في كتابه (الألباني أخطاؤه وشذوذه) عندما قال عنه: ولازم ذلك أنه والله لا يعرف ما يعرفه أحاد الطلبة الذين يشتغلون بدراسة الحديث في عامة مدارسنا. وبالمناسبة مثل هذا التجني والشطط في الخصومة يوضح لنا الفرق بين النقد العلمي المطلوب (بل الواجب) حيال التراث وأهله وبين الإسقاط والهدم والإقصاء للسلف الصالح وإنتاجهم الفكري.

والمقصود بعد هذا التجوال والمزاوجة بين رمز السلفية القديم (ابن تيمية) ورمز السلفية المعاصر (الألباني) أن طريق الابتلاء والتشويه والعداء هو حال السلف الصالح ومآل الخلف الفالح. ومن هذا المنظور نعلم أن الحملات المتلاحقة والغارات المتصاعدة في تشويه وتسفيه الرموز السلفية الكبرى مثل البخاري وابن تيمية والألباني هي حلقة في سلسلة متواصلة من القديم في مشهد الصراع بين الحق والباطل. التيار والمنهج السلفي له حضور وأثر ونصر بالغ في التاريخ والتراث الإسلامي وكما بدأنا بمقولة للمفكر الإنجليزي توماس كارليل نختم بمقولة أخرى تلخص سبب الهجوم على السلفية ورموزها (ليس من تاج بلا نصر، وليس من نصر بلا معركة، وليس من معركة بلا عدو).

 

( شهر يوليو / تموز من وجهة نظر علمية )

شهر يوليو/تموز بين الولادة والوفاة


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 منذ منتصف القرن الثامن عشر ومنذ عهد الملك الإنجليزي جورج الثاني درج ملوك وملكات التاج البريطاني على الاحتفال بأعياد ميلادهم في فترة الصيف حيث الأجواء أكثر صفاءً وبهجة وملائمة للفرح الملكي من أوقات أعياد ميلادهم الأصلية التي قد تكون في الشتاء الكئيب. حرارة الصيف وعنفوان النشاط البشري في تلك الأجواء شهدت (ولادة) كبرى الجمهوريات والدول في التاريخ الحديث حيث شهد شهر يوليو (الذي نحن فيه الآن) انبثاق الجمهورية الفرنسية بعد ثورة اقتحام الباستيل في 14 من هذا الشهر لعام 1789م وكذلك (ولادة) الأمة الأمريكية في 4 من يوليو من عام 1776ميلادي.

يوماً ما صك الأديب الإنجليزي الفريد وليم شكسبير عبارة (مرحا لهذا العالم الجديد الشجاع) ولهذا أصبحت هذه الجملة تستخدم بكثرة في توصيف أي أفكار أو ابتكارات جديدة وواعدة. ومن هنا قام الكاتب الإنجليزي المرموق ألدوس هكسلي بتوظيف هذه العبارة كعنوان لروايته المشهورة (عام جديد شجاع Brave New World) والتي تدور عن سيطرة العلم والتقنية في المستقبل على حياة البشر وبالذات في مجال (تقنية الولادة). مستهل تلك الرواية ركز على الطرق المستقبلية لتحديد النسل وتكوين الأجنة في أجهزة خاصة والتحكم بعملية الولادة من خلال إنتاج أطفال محددي الصفات والوظائف ضمن فئات محددة مسبقا. رواية الخيال العلمي هذه أصدرت عام 1931م ونسجت أحداثها على أنها تقع بمدينة لندن عام 2540م ولكن الغريب في الأمر أن بعض الأفكار العلمية المطروحة في هذه الرواية ذات الـتأثير الأدبي والعلمي الفائق (صنفت خامس أهم رواية عالمية نشرت في القرن العشرين) ظهرت بعد نصف قرن فقط (وليس نصف ألفية) من ظهورها.

وبالعودة لحرارة الصيف في شهر يوليو نجد أنه في العلم والتقنية كما في عالم السياسة والتاريخ (ولدت) العديد من الاكتشافات والابتكارات العلمية المذهلة والتي كلا منها يُعد بحق (عالم جديد وشجاع). عبر تاريخ البشرية كانت عمليات الإنجاب والتوليد تتم بتكرارية ثابتة وتقليدية رتيبة متواصلة حتى حصل التغير الهائل في طريقة الولادة الدموية المسماة (العملية القيصرية). كما هو معلوم يشتهر نسبة تقنية الولادة القيصرية إلى الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر الذي وإن لم يكن أول من ولد بهذه الطريقة، ولكنه كان أشهر وأهم شخصية أرتبط بها بشكل موثق في كتب التاريخ حيث ذكر ذلك المؤرخ الروماني بليني الأكبر في كتابه (التاريخ الطبيعي) أن اسم يوليوس قيصر جاء من أحد أجداده الذي ولد بواسطة جراحة قيصرية. كلمة التشريح والتقطيع باللغة الرومانية القديمة هي Caesar ومن هنا أصبحت كلمة سيزر (القيصر) هو لقب أباطرة الرومان والأهم من ذلك ارتباط هذه الحادثة بشهر يوليو والذي سمي كذلك لتكريم القيصر يوليوس الذي (ولد) في هذا الشهر.

الحدث الأبرز التالي في دنيا الولادة والذي حصل في شهر يوليو هو بداية ما توقعه ألدوس هكسلي في رواية عالم جديد وشجاع وهو استخدام الأجهزة والزجاجيات المعملية في إنتاج الأطفال أو بمختصر العبارة ظهور الطفرة العلمية المتمثلة (بأطفال الأنابيب). في الخامس والعشرين من شهر يوليو من عام 1978م ولدت الطفلة الإنجليزية لويز براون لتصبح أول طفلة أنابيب Test Tube Baby وبهذا حصل لأول مرة في تاريخ البشرية تلقيح اصطناعي خارج جسم الإنسان حيث تمت عملية الإخصاب في وعاء زجاجي (وليس أنبوب كما يشاع) يسمى طبق بتري. الجدير بالذكر أنه بعد عملية التخصيب لتلك للبويضة التي تستمر لمدة خمسة أيام يتم زراعة البويضة المخصبة داخل الرحم وفي حالة لويز براون ولدت بعملية قيصرية وبهذا اجتمع في شهر يوليو من ذلك اليوم وفي لحظة واحدة أعجب عمليتي إنجاب في التاريخ. بقي أن نقول إنه حتى الآن تم (ولادة) أكثر من تسعة ملايين طفل أنابيب كان يستحيل ولادتهم بالطرق العادية ولهذا لا غرابة أن يحصل عالم الأحياء البريطاني روبرت إدوارز مطور هذه الطريقة (الجديدة والشجاعة) في عملية التوليد على جائزة نوبل في الطب لعام 2010ميلادي.

الإنجاز العلمي الهائل الذي (ولد) في شهر يوليو ويعتبر بحق مثال للعالم والعلم الجديد والشجاع هو الإعلان يوم الخامس من شهر يوليو لعام 1996م عن ولادة النعجة دوللي وهي أول حيوان يتم ولادته من خلال تقنية الاستنساخ. الطريف في الأمر أن عالم الأجنة الإنجليزي إيان ويلموت الذي طور عملية استنساخ الأجنة للحيوانات الثديية في معهد روزلين بجامعة إدنبرة كان مولوده في السابع من شهر يوليو أي أن عيد ميلاده يتوافق نسبيا مع عيد ميلاد نعجته فائقة الشهرة. الجدير بالذكر أن تقنية علمية وطبية أخرى فائقة الأهمية في تاريخ البشرية أُعترف بها بشكل رسمي في شهر يوليو من عام 1990م وهي تقنية العلاج الجيني وما يهمنا هنا الإشارة إليه أن هذه التقنية الطبية المذهلة استخدمت لإحداث ثورة هائلة وجديدة في عالم الولادة. بعض الأطفال في حالة ولادتهم بشكل طبيعي قد يكونون معرضين للإصابة بأمراض وراثية قاتلة وهنا تم استخدام تقنية (العلاج الجيني) لإعادة الهندسة الوراثية لبعض الأجنة البشرية وبالتالي إنتاج وإنجاب أطفال بمواصفات حسب الطلب. في أشهر الصيف من عام 2000م تم الإعلان عن والدة الطفل الأمريكي آدم ناش وهو أول طفل مصمم designer baby بمعنى أنه طفل معدل وراثيا وتم تصميم جيناته لتفادي حصول أمراض وراثية خطيرة. وتقريبا في نفس تلك اللحظة التاريخية من صيف عام 2000م وبالتحديد في يوم السابع من شهر يوليو تم نشر المسودة الأولية من نتائج وبيانات المشروع العمي الكبير المتمثل في تحديد الخارطة الجينية (مشروع الجينوم البشري). وبتضافر هذه الإنجازات العلمية والطبية الكبرى مثل العلاج الجيني والجينوم مع الاستنساخ وأبحاث الخلايا الجذعية حصلت طفرة علمية كبرى في محاولة ضمان صحة البشر وبالذات المواليد الجدد.

ومن هنا نصل إلى سؤال عنوان المقال (هل شهر يوليو/تموز شهر للوفاة أم الولادة) وربما الإجابة من الناحية العلمية والطبية واضحة ومباشرة أن هذا الشهر بالذات شهد العديد من الإنجازات الطبية المذهلة التي ضمنت بقدر الله ومشيئته إمكانية ولادة عشرات الملايين من الأطفال الذين كان مصيرهم الموت المحتمل لولا اكتشاف هذه التقنيات العلمية الجديدة.

بقي أن نقول إن شهر يوليو يطلق عليه في بعض بلدان المشرق العربي مثل العراق وبلاد الشام اسم شهر (تموز) وذلك وفق طريقة التسمية السريانية. وبحكم أن شهر يوليو/تموز هو أحد أكثر شهور السنة حرارة ولذا يقول أهلنا في الشام (بتموز تغلي المي بالكوز) وهي الأجواء الضارة بالنباتات والحياة إجمالاً. وفق الأساطير البابلية القديمة يعتبر الإله تموز رمز للوفاة والهلاك وذلك لأنه في هذا الشهر يموت عندما تكون الأرض جافة وقاحلة وتنقطع مواسم الزراعة. وقديما كانت تقام مراسم الحداد والنياحة على تموز في أرض سومر خلال أشهر الصيف لأنهم كانوا يعتقدون أن هذا الإله المزعوم ينزل إلى العالم السفلي لمدة ستة أشهر ثم يعود مع بداية الربيع مع حبيبته عشتار.

شهر يوليو الساخن من خلال العلم ارتبط بالحياة والولادة والنماء بينما كان شهر تموز وفق الجهل والخرافات رمز لانقطاع الحياة والعدم والوفاة.

 

( الصعاليك والوعول الجبلية )

كيف حافظ صعاليك الجاهلية على الحياة الفطرية 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

وصف أي شخص بأنه من (صعاليك الجاهلية) يبدو في ظاهرة الأمر أنه هجاء مقذع لما لكل من كلمتي الصعلكة والجاهلية من ظلال سلبية وأبعاد لغوية منفرة ومع ذلك للثائرين القدامى الذين عرفوا بلقب الصعاليك كان لهم العديد من الصفات وملامح الشخصية التي عدت من مكارم الأخلاق والتي أتى الإسلام لإكمالها. من الصفات النبيلة للصعاليك نجد الشجاعة والفروسية والصبر والأنفة والإباء ويضاف لذلك عشقهم للطبيعة ورعايتهم لحيواتها وكائناتها لدرجة أن الصعلوك المعروف بالاسم الشنيع (تأبط شراً) لم يكن منه شر ضد الطبيعة، كيف وهو من يلقب أحياناً بأنيس الوحوش. قارن هذا بما حصل من بعض الرعاع من أبناء منطقة الباحة (الكرام أهلها) عندما قام أولئك الهمج من الشباب الطائش الأسبوع الماضي من اقتناص وقتل الوعول الجبلية بعد ساعات من لحظة إطلاقها في البرية. الغريب أن مفهوم (المحافظة على الحياة الفطرية) خير من يمثله صعاليك الجاهلية ممن ترعرعوا ودرجوا على جبال منطقة الباحة كما سوف نذكر أمثلته بعد قليل من أخبار الشنفرى وتأبط شراً.

وبحكم أن الصعلوك قديماً هو من تمرد على القبيلة وبالتالي ُطرد وهُجّر منها ولهذا كان العديد من الصعاليك يعيشون في قمم الجبال في مواقع كانت تسمى (المَرقبة) والتي كان يستخدمونها للترصد والتربص بالآخرين سواء من الأعداء أو من الأشخاص الذين قد يخططون لسرقتهم. ومن ذلك جبل المرقبة من أرض زهران وهو الذي يطل على تهامة وهو الذي ورد ذكره في شعر الشنفرى عندما كان يقيم بديار سلامان بمحافظة المندق ديار قومه وأهله وفي تلك القمة الشاهقة يقول:

ومَرقَبَةٍ عَنقاءَ يَقصُرُ دونها           أخو الضروَةِ الرجلُ الحَفِيٌّ المُخَفّفُ

نَعَبتُ إلى أدنى ذَراها وقد دَنا        من الليلِ مُلتَفُّ الحديقةِ أسدَفُ

والمهم هنا أن إقامة الصعلوك الجاهلي في هذه (المراقب) وقمم الجبال تجعله على تماس وتقارب كبير مع الحيوانات الجبلية ومن أهمها الوعل الجبيلي. وبحكم طول المجاورة وكما قالت العرب قديما إن (قرب الوساد وطول السواد) مغري بالمؤانسة والمجالسة وبذا لا غرابة في الواقع أن تتوثق العلاقة بين الشريد (أي الصعلوك) وبين الطريد (أي وعل الجبل).

واحدة من أجمل القصائد العربية الأصيلة هي قصيدة (لامية العرب) للشنفرى وفي آخرها نجد هذا الصعلوك يصف تعامله الرقيق والأنيق مع الوعول الجبلية فيقول:

ترُودُ الأرَاوي الصُّحمُ حولي كأنها          عَذَارى عليهن المُلاءُ المُذيّلُ

ويركُدنَ بالآصالِ حولي كأنني               من العُصم أدفى ينتحي الكِيحَ أعقلُ

وما أراد شاعرنا قوله إنه أثناء أقامته بتلك القمم الشاهقة من جبال زهران تتحرك وتجيء الوعول الجبلية حوله وهي من الشياه والأناثي التي وصفها بأنها سوداء اللون وأنها كذلك أشبه بالعذارى الخجولات المحتشمات. والمقصود أن تلك الوعول الجبلية قد ألفت وأنست بالشنفرى فلا تخاف منه ولا تنفر عنه وهي وقت المساء وفي الأصيل تجتمع حوله وتربض بالقرب منه وهي في حمايته وكنفه آمنة مطمئنة على خلاف ذلك الوعل السيء المصير الذي تم قتله وسلخه في الليل هذا الأسبوع من قبل أوباش أهل الطيش في مجتمعنا.

في الأدب العربي ما أن يذكر اسم الشنفرى حتى يرتبط به مباشرة ذكر الشاعر والفاتك الصعلوك تأبط شرا وسبب ارتباطهما معا أن تأبط شرا (كما يقال) هو خال الشنفرى ولذا كثر تردد تأبط شرا لمواقع كثيرة من بلاد زهران وبعضها ورد ذكرها في شعره. كما هو معلوم سرد أبو العلاء المعري في (رسالة الغفران) عدد كبير جدا من شعراء العربية وزارهم في المنام بزعمه إما في الجنة أو في النار وعندما ذكر الشنفرى الأزدي عرج مباشرة بذكر تأبط شراً وقال عنهما (وإذا هو قرينُ تأبط شرا كما كان في الدار الغرارة) وعلى نفس النسق سوف نقرن ونجمع بين خبر تأبط شرا مع الوعول الجبلية بعد أن ذكرنا حال وحنان الشنفرى حيالها. البيئة الطبيعية قديما في الجزيرة العربية كانت تعج بالوعول الجبلية والبقر الوحشية (ظباء المها) والتي كانت ترتع في مراعيها البرية. وكما الحال مع الشنفرى نجد أنه ينطبق الحافر على الحافر في أن تأبط شراً قد ألف التعايش بسلام وسماحة مع هذه الحيوانات الجموحة ولهذا نجده يقول عن نفسه:

يَبيت بمَغنى الوحشِ حتّى ألِفنهُ         ويصبح لا يَحمي لها الدهر مرتعا

رأين فتى لا صيدُ وحش يهمه          فلو صافحت إنساً لصافحنه معا

فهو يبيت وينام في مرابض ومنازل الظباء والوعول ومن طول ملازمته لها ألفته هذه الحيوانات النافرة فهو لا يمنعها من الرعي كما أنه مسالم لها ولا يخطر في باله أن يصيدها ولو أمكن لهذا الوعول والظباء أن تصافح إنسانا لصافحته كلها من كثرة ما ألفته واعتادت على مسلامته لها.

صورة فنية وتوصيف أدبي بديع ذلك الذي سطره صعاليك الجاهلية في رعايتهم للحياة الفطرية بمنطقة الباحة القديمة في مقابل ما نستنكره كلنا مما قام به بعض الشباب الطائش من أبناء المنطقة. ومع ذلك توجد ظاهرة اجتماعية أخرى تستحق الإشارة والتنبيه وهي قيام بعض الشباب وبشكل أسبوعي باستنزاف الثورة الحيوانية للمنطقة، ولكن ليس بقنص التيس الجبلي، ولكن باستهلاك التيس الساحلي والتهامي. ليس من فراغ انتشار الطرفة والنكتة بين أبناء المنطقة والتي تقول إن يوم الثلاثاء (Tuesday) يستحق بأن يدعى تيوس - دي أي (يوم التيوس) بسبب كثرة التيوس التي تذبح وتأكل كحنيذ أو مندي. وذلك هدر هائل وتضييع للأموال والأوقات بسبب نزول أعداد غفيرة من أبناء منطقة الباحة إلى سهول تهامة كل يوم ثلاثاء وغيره من أيام الأسبوع.  قبل عدة سنوات سطرت في إحدى قروبات وسائل التواصل الاجتماعي مداخلة خفيفة حول هذا الأمر حملت عنوان (يوم الثلاثاء (تيوس - دي) هو يوم الملحمة !!!) لعلي أعيد أرسلها ملحقة بهذا المقال.

 


( الغبار من منظور فلسفي !! )


 في أجواء الغبار الخانق تنقدح حكمة الفلسفة

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

غالب البشر لهم نفور طبيعي ومعاناة ملموسة من الغبار والأتربة ولكن عندما تكون كحالتي تقيم في مدينة الطائف - مدينة الغيوم وأناقة الطبيعة - ثم تتحدث عن الغبار والأتربة فأنت إما ( تمزح ) أو لا تراعي مشاعر الآخرين ولا تستشعر معاناتهم ولذا أنت تتفلسف. هذا الأسبوع شهدت أجزاء من الوطن وبعض دول الخليج موجة غبار وأتربة غير مسبوقة وفي بعض الحالات كانت درجة العواصف الرملية مفزعة وكارثية. يقال من رحم المعانة تولد ( الحكمة ) وتستنبط الفلسفة وثلاثية ( الفلسفة والمعانة والغبار ) خير من يمثلها الفيلسوف الهولندي المنكوب باروخ سبينوزا الذي عانى من ويلات مرض عضال قضى على حياته وهو في سن مبكرة. لقد كان سبينوزا يعمل في مهنة صناعة العدسات الطبية وبسبب تعرضه المستمر لغبار صقل زجاج العدسات أصيب بمرض رئوي قاتل.

 للعقل الفطين والذهن اللمّاح حتى الأشياء التافهة والصغيرة يمكن أن تفتح مجالات وأبعاد متعددة لأفكار عميقة ولهذا أستنبط أستاذ الفيلسوف الكندي مايكل ماردر بأن ملاحظة الغبار والتفكير فيه قد تجعل الشخص مؤرخاً وأن يطرح أسئلة عميقة عن الانتماء والوقت. وفي سياق التفكر في الغبار يقال إن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت عندما كان في أوائل شبابه لفت نظره يوما ما الضوء الداخل من النافذة وأنه يكشف عن ذرات وهباب الغبار غير المرئي والذي هو دوما في حركة وتصادم مستمر. وبالرغم من الفراغ الظاهري للهواء في الغرفة إلا أنه مليء بجسيمات الغبار وكذلك الكون في نظر ديكارت مليء بالمادة والذرات أو ما سماه ذلك الفيلسوف (سائل التفكير من الغبار). ونفس ذلك المشهد لذرات وجسيمات الغبار الضئيلة المنكشفة بنور الضوء تلقفه قبل ذلك الشاعر والمتصوف جلال الدين الرومي وعبر تقريبا عن نفس الفكرة في وحدة الكون وأنه مكون من الروح والمادة:

قل من أنا

أنا ذرات غبار في ضوء الشمس

 ليت شعري كم منا يعرف أن الشمس هي في الواقع عبارة عن (نجم) عادي من نجوم السماء ومرة أخرى نجد الترابط بين الغبار وبين الكشف الفلسفي عن حقيقة الكون وهو ما تمثل في المقولة المشهورة لعالم الفلك الأمريكي والنجم التلفزيوني كارل ساغان (أيتها البشرية .. ما نحن إلا حفنة من غبار النجوم). وإن كان ساغان نظر للجانب المادي للبشرية وأنها مخلقة من ذرات وجسيمات (غبار) مصنعة في قلب النجوم فإن شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال نظر للبشرية بأنها وإن كانت من أصل وضيع إلى أنها قابلة للسمو والرفعة ولهذا قال (صحيح أننا مصنوعون من الغبار، والغبار أيضا من تراب ولكن الغبار يرتفع). وبحكم أن كل ما يرتفع حتماً في لحظة ما يجب أن يقع وينزل فمن هنا نفهم ديمومة الغبار وديناميكيته (فالغبار لا يهدأ) فهو وإن استقر لفترة من الزمن فقد يُثار وينفض ويرتفع مرة أخرى في دورة لا نهائية وهذا الثنائية من الركود والصعود للغبار تستحق التأمل وثرية بالحكم الفلسفية.

وبعد هذه السفسطة الفلسفية حول الغبار والعفار المُثار نختم بما بدأنا به من الربط بين الغبار والفلسفة ومن رزق الجو الصافي والبديع ونشير لما ينقل عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت قوله: بعض الناس مثل الغبار عندما يختفون يكون يوما جميلاً.

أسعد الله أوقاتكم وجمّل الله أيامكم ولياليكم وأبعد الله عنكم الغبار وخفف عنكم ثقل اللقاء بمن لا تحبون.

( صفعات غيرت مجرى التاريخ )

 هل اللطم أمر متوارث في تاريخ حكام فرنسا

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 دوي الصفعة الاحتجاجية على وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تردد صداها العالم كله وقطعاً سوف تخلد في صفحات التاريخ بأحرف من عار وشنار. صحيح أن الرئيس المصفوع حاول التقليل من أثر تلك اللطمة الاحترافية التي أدمت كبريائه إلا أنه في بعض الأحيان ربما يكون: معظم النار السياسية من مستصغر (اللطم). لفترة من الزمن سيطر الحاكم الفرنسي الأعظم والإمبراطور الأعجم نابليون بونابرت على أرض مصر واستتب له الأمر حتى لطمه رجل مصري أعمى. كان العالم الأزهري سليمان الجوسقي وبالرغم من فقره وإصابته بالعمى من الشخصيات ذات القدر والمكانة في أرض مصر ولهذا حاول نابليون أن يستميله إلى صفه فعرض عليه أن يجعله سلطانا على ديار المحروسة. فأظهر الشيخ قبول العرض وطلب أن يصافح نابليون بيده اليمين وفي لحظة خاطفة صفع الجوسقي نابليون على وجهه دلالة على مقاومة الشعب للاحتلال الفرنسي. خلد هذه الحادثة العجيبة المؤرخ الجبرتي في كتاب عجائب الآثار بينما عرضها الأديب الكبير على أحمد باكثير بأسلوب بديع عندما صاغ الحدث على لسان سليمان الجوسقي وهو يخاطب نابليون بقوله (معذرة يا بونابرته هذه ليست يدي .. هذه يد الشعب).

لقد كانت تلك الصفعة هي النار التي زادت في اشتعال ثورة المصريين ضد الفرنسيس الأنجاس كما كانت صفعة أخرى هي (شرارة) ثورة سياسية كبرى امتد مداها وسمع صداها مره أخرى في أرض مصر. مجرى التاريخ العربي الحديث تغير بشكل مزلزل وذلك عندما قامت في نهاية عام 2010م سيدة تونسية تعمل في مهنة الشرطة بصفع الشاب محمد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد بعد أن صادرت عربة الخضار التي كان يكسب رزقه منها. كما هو معلوم للتنديد بالظلم والإهانة التي تعرض لها الشاب البوعزيزي قام بإضرام النار في نفسه أمام مقر الولاية وبهذا اندلع حريق ثورة الربيع العربي من مجرد حرارة اللطمة الأثيمة من تلك السيدة/ السلطة على وجهة ذلك الشاب المكافح.

العدل أساس الملك ولولا الظلم والقهر في البلدان العربية ربما لما حصل الاحتجاج الثائر وبما إننا في سياق الصفع واللطم فيقول بعضهم (لا شيء أكثر مهانة من الصفعة التي لا ترد). لو وجد الشاب المكلوم والمهان من ينصفه و (يقتص) له حقه لما ثار ومن هنا نعلم حكمة وعدل الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب والذي مكن القبطي غير المسلم من أن يضرب ابن الأكرمين وإن كان والده عمرو بن العاص حاكم مصر المسيطر. في قصة أخرى ذات مغزى مشابهه نجد أن الملك الغساني جبلة ابن الأيهم قام بلطم إعرابي على وجهه لمجرد أنه وطيء على إزاره أثناء طوافه حول الكعبة. وقد علم الإعرابي الفزاري أنه في ظل دولة العدل يستطيع رد تلك الصفعة وعندما شكا أمره إلى الفاروق عمر كان حكمه على الملك الغساني (إما أن ترضيه وإلا اقتص منك بلطمك على وجهك). وعندما حاول جبلة إثارة الجلبة بقوله (يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة) كان الرد الحاسم من عمر رضي الله عنه وأرضاه: يا جبلة إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه فما تفضله بشيء إلا التقوى.

كما هو معلوم كانت ردة فعل جبلة ابن الأيهم أنه هرب من مكة في جنح الظلام ثم ارتد إلى النصرانية وعاش كنف إمبراطور الروم في القسطنطينية وهذا يقودنا إلى حادثة لطم وصفع مرتبطة بالنصرانية والامبراطور. عند ظهور المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية البيزنطية كان المجتمع ما زال تتجاذبه انقسامات حادة بسبب تعدد الطوائف المسيحية والتي كان من أكثرها تأثيرا مذهب الآريوسية المنسوب إلى الأسقف آريوس (البعض يقول أنه هو من ورد ذكره في رسالة الرسول الكريم إلى هرقل إمبراطور الروم: أسلم تسلم .. فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين). وما يهمنا هنا أن مذهب الآريوسية ربما كتب له اكتساح الديانة المسيحية لولا تلك اللطمة التي نزلت على فم الأسقف آريوس عندما أمر الإمبراطور قسطنطين بعقد مجمع دينيي كبير للنظر في معتقداته الدينية المخالفة. في بداية الأمر واثناء مناظرات مجمع نيقية المنعقد عام 325م استطاع الأسقف آريوس إفحام خصومه وتفنيد ودمغ شبهاتهم، ولكن الأمر أختلف بشكل حاد كما تزعم الأسطورة الشائعة عندما أخذت القديس نيقولاس الحمية الدينية لأن يندفع ويلطم أريوس على فمه واسكاته. هذه الإهانة قللت من هيبة الأسقف المصفوع مما عزز إصدار حكم الهرطقة ضده وتسبب في نهاية الأمر لانقراض المذهب الآريوسي والذي يعتبر قرب المذاهب المسيحية تقريبا إلى مفهوم الإسلام من أن عيسى عليه السلام لم يكن إله وإنما بشر مخلوق.

ما سبق ذكره الصفعة المقدسة قد لا يكون ثابت بشكل دقيق من الناحية التاريخية، ولكنه صحيح من ناحية بيان أثر (التحطيم المعنوي) للشخصيات الاعتبارية عندما يتم إهانتهم بشكل علني من خلال صفعهم ولطمهم على وجوههم فتزول مكانتهم الاجتماعية ويلحقهم الخزي. ومن اسطورة لطم القديس آريوس إلى الأسطورة اليمنية القديمة في العصر الجاهلي التي تزعم أن التُبّع عمرو بن عامر الأزدي ملك مأرب لما أحس بضعف سيطرته على شؤون الملك واحتمالية وقوع كارثة انهدام السد أراد أن يهجر قومه وينجو بنفسه. ولهذا اختلق حيلة مسرحية أن يقوم أصغر أولاده بلطمه أمام الناس بعد مشاحنة بينهما فقال (لا أقيم في بلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي). والمقصود أن سلاح الإهانة وجرح الكرامة من خلال الصفع واللطم أمام الملأ استخدم بشكل متكرر عبر التاريخ كمحاولة من قبل صحاب السلطة لإزاحة الأشخاص الذين يخشى منهم مزاحمته على مقاليد الحكم. عندما تولى معاوية بن أبي سفيان أمر الخلافة واستتب له الأمر ربما حاول أن يُحيّد أي شخص من ذوي الشرف يطمح في الحكم وكما ورد في كتاب البداية والنهاية لابن كثير أنه عندما (دخل ابن الزبير على معاوية فأمر أبناً له صغير فلطمه لطمة دوخ منها رأسه). وربما من هنا كان مبتدأ السعي الدؤوب لعبد الله بن الزبير لأن يقصي بني أمية من الحكم وعندما توفي يزيد بن معاوية دعا ابن الزبير الناس لمبايعته بالخلافة فاستجاب له أهل الحجاز وأهل العراق. وإذا كانت تلك اللطمة لم تغير التاريخ بشكل كامل لأن ابن الزبير لم يصل لمنصب الخليفة وقتل دون ذلك كما هو معلوم إلا أن صفعة أخرى تسببت في وصول الملطوم إلى سدة الحكم في بلده. في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي قادت عجرفة الإمبراطور البيزنطي إسحاق الثاني إلى احتقار نبلاء الطبقة الارستقراطية في مملكته لدرجة أنه لطم رجل يدعى إيفان آسين لمجرد أنه طلب أن يصبح هو وأخية من فرسان جيش الإمبراطور وأن يمنحا قطعة أرض. لاحقا تمرد إيفان وأخوه على حكم الإمبراطور وخلال سنتين فقط استطاعا أن يسقطا الإمبراطور البيزنطي عن عرش حكمه ويتولى الملطوم إيفان منصب الإمبراطور بدلا عنه.

وكم وكم صفعة ولطمة تجاهلها الزمن وتناستها الذاكرة الجمعية للبشرية مع أنها بالفعل غيرت مسار التاريخ.


( في وداع الإجازة الصيفية )


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

في الحضارة الإسلامية وعبر قرون متطاولة كانت الكتاتيب هي عصب المنظومة التعليمة والتربوية للأجيال المتلاحقة وبالرغم ما لها من دور هائل في تشكيل التراث العلمي الإسلامي والعربي إلا أنها لم تسلم من النقص الذي لا يخلو منه أي سلوك بشري. الصورة النمطية السلبية عن أجواء الرعب أو الكآبة في الكتاتيب الدراسية القديمة مبثوثة في الأدب العربي ويكفي مراجعة وصف طه حسين في كتابه الأيام لمعلم كتّاب قريته الشيخ محمد جاد الرب أو شخصية معلم القرية القاسي والجشع الشيخ زكي في رواية أم النذور للروائي البارز عبد الرحمن منيف.

بغض النظر عن صدق ودقة مثل هذه الصور النمطية الكئيبة عن حياة الصبيان في عالم الكتاتيب القديمة لكن تبقى حقيقة أن (التقويم والرزنامة الدراسية) في تلك الأزمان الغابرة كانت تشمل أغلب أيام السنة وان فترات العطل والإجازات كانت نادرة ومتقطعة. ربما يعد كتاب (آداب المعلمين) للأمام محمد بن سحنون المنشور في منتصف القرن الثالث الهجري أقدم مرجع علمي في النظام التربوي الإسلامي وفيه حدد ابن سحنون (تقويم الإجازات) والعطل المدرسية للصبيان والتي هي عطل أسبوعية تشمل يومي الخميس والجمعية وعطل سنوية تشمل عيد الفطر يوماً واحداً ولا بأس أن تصل إلى ثلاثة أيام وعطلة يوم العيد الكبير (عيد الأضحى) وهي ثلاثة أيام ولا بأس أن تصل إلى خمسة أيام.

وبالمناسبة وأيّن كان عدد أيام الإجازة المدرسية في ذلك الزمن نجد الحال لم يتغير قديماً وحديثاً بأن الطلاب يكرهون يوم العودة للكتاتيب أو المدارس ولهذا طوال التاريخ الإسلامي كان يوم السبت يوم كئيب بامتياز لصبيان الكتاتيب. في إحدى المقامات الأدبية لبديع الزماني الهمداني المسماة المقامة الدينارية يتخاصم ويتهارش شخصين حول أيهما الأولى بالحصول على دينار يستحقه فقط من يقذع في السب للشخص الآخر ولهذا قام أحدهما بسب صاحبه بقائمة طويلة من الشتائم كان منها ( .. يا بول الخصيان .. ويا سبت الصبيان).

 قبل ظهور نظام التعليم الحديث كان الحال مشابهة تماما في الدول الأوروبية زمن العصور الوسطى حيث كان يقتصر التعليم العام فيها على المدارس الكنسية ومدارس الأديرة الدينية ولهذا كانت الإجازات المدرسية متزامنة مع العطل والأعياد الدينية. وإن كان توجد بعض الإشارات التاريخية إلى أن المدارس القديمة المسماة (مدارس القواعد) Grammar Schools التي ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي في بريطانيا والمستعمرات الأمريكية كانت تمنح طلابها أسبوعين كعطلة سنوية. وهنا نصل للحدث التاريخي الأبرز في مجال العطل المدرسية وهو تمديد فترتها لتصل لمدة شهرين متتابعين وغالبا حصل هذا الأمر لأول مرة في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. بسبب أن أغلب الأسر والعوائل في الولايات المتحدة في تلك الفترة كانت لا زالت تعيش في مجتمع زراعي لذا كان ينظر للأطفال كقوة عاملة ذات أهمية كبرى في مساعدة الأسرة في الأمور الزراعية ولهذا كان يتم سحب الأطفال من فصول الدراسية إلى حقول المزارع وزرائب الماشية ومن هنا أعتقد البعض أن تشريع نظام العطلة الصيفية كانت نتاج هذه الظروف المجتمعية والاقتصادية.

الإشكال يظهر أن هذه القصة تزعم أن تخصيص شهرين من أشهر الصيف وهما شهري يوليو وأغسطس كعطلة مدرسية كان لهذا السبب بينما منطق الفهم للواقع الزراعي يجعل شهور الخريف وبالأخص شهر سبتمبر هي الأنسب للعطلة السنوية لأنها هي موسم حصاد أغلب الحبوب. بالمناسبة فكلمة حصاد باللغة الإنجليزية Harvest مشتقة أصلا من كلمة إنجليزية قديمة تعني (الخريف). والمقصود أنه إذا صدرت قوانين تشريعية رسمية بتحديد موعد وتوقيت الإجازات والعطل المدرسية فمن المرجح أنها لن تكون فقط لمراعاة الفقراء والمزارعين فالضعفاء لا يكتبون التاريخ ولا يسنون القوانين.

بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن تشريع وجود إجازة صيفية لطلاب المدارس كان يهدف منه بالدرجة الأولى راحة الأسر الثرية وذات النفوذ الاقتصادي والسياسي. في منتصف القرن التاسع عشر لم يتم بعد اختراع أجهزة تكييف الهواء والتبريد والثلاجات ولهذا كانت فترة الصيف غير مريحة للطبقة المخملية من المجتمع ولذا كانت تلك الأسر المرفهة تغادر إلى المنتجعات السياحية الباردة في أشهر الصيف وبالطبع تضطر لسحب أبنائها من المدارس. وبحكم أن الدراسة في ذلك الوقت لم تكن إلزامية فكان بإمكان الآباء سحب أبنائهم من المدرس في أي وقت يشاؤون مما يتسبب في إرباك العملية التعليمة وإضعاف سمعة المدارس.

ومنذ عام 1942 ميلادي بدأت العديد من المدن الأمريكية في وضع التشريعات الرسمية لتنظيم مدة وزمن العطل المدرسية بحيث تكون في فترة الصيف وخلال شهري يوليو وأغسطس. ومما تجدر الإشارة إليه أن الارتباط بين العطل المدرسية والسفر والارتحال قديم نسبيا في ثقافة الدول الغربية ولا سيما في بريطانيا حيث انتشر خلال القرن السابع عشر وإلى منتصف القرن التاسع عشر ظاهرة (الجولة الكبرى Grand Tour). في ذلك الزمن كان يقوم العديد من النبلاء والأثرياء والأرستقراطيين بإرسال أبنائهم في سن المراهقة أو في مرحلة أوائل الشباب للقيام برحلة تعليمية وثقافية إلى عدد كبير من المدن الأوروبية وذلك غالبا في أشهر الصيف ولهذا كانت الجامعات الكبرى والمدارس المرموقة تمنح الطلاب فترة الإجازة الصيفية لتمكينهم من القيام بهذه الجولة الثقافية والتعليمية البالغة الأهمية في تشكيل الحصيلة المعرفية لجيل ذلك الزمان.

 لعقود طويلة من الزمن وحتى الآن حافظت العديد من الدول على نظام (الإجازة الصيفية) التي تستمر في الغالب لمدة شهرين يسبقها سنة دراسية مكونة من فصلين دراسيين. ومع ذلك العديد من الدول قامت منذ فترة بتعديل نظامها التعليم بتقسيم العام الدراسي إلى ثلاثة فصول والبعض حتى إلى أربعة فصول دراسية، بل إن النظام التعليمي في المكسيك يتوزع على خمسة فصول دراسية قصيرة. وبعد هذه التعديلات الجديدة في هذه البلدان تقلصت الإجازة الصيفية بشكل ملحوظ وخصوصا في الدول التي يتكون نظامها التعليم من أربعة فصول دراسية (quarters) ولذا تكون الإجازة السنوية المطولة بها لا تزيد في الغالب عن شهر واحد.

وفي ضوء هذه المتغيرات يبدو أن نظام (الإجازة الصيفية) سوف يتلاشى أو يضعف في المستقبل خصوصا مع تزايد انتشار مفاهيم التعليم عن بعد والتعليم المستمر والتعليم المرن ومن هنا يخفت الحد الفاصل بين زمن التعليم على مقاعد الدراسة وبين التعليم بالترفيه أثناء الاستمتاع بالإجازة الصيفية والعطلة المدرسية. 

 

( من المنتصر ؟!!)

بعد هدنة الحرب .. كثير ما يتغير التاريخ بشكل صارخ

د/ أحمد بن حامد الغامدي

من المعارك الفاصلة في التاريخ الإنساني تلك التي وقعت أحداثها بالقرب من مدينة حمص السورية وحملت عنوان (معركة قادش) والتي تطاحنت فيها قوات جيوش الإمبراطورية الفرعونية وجيوش المملكة الحيثية. في عام 1274 قبل الميلاد فشل الفرعون المصري البارز رمسيس الثاني من هزيمة عدوه ملك الحثيين مواتللي الثاني وبعد خسائر حربية كبرى من الطرفين تم بعد ذلك بعد سنوات عقد ما يمكن تسميته (معاهدة قادش) وهي هدنة سلام بين تلك الأطراف المتحاربة. الطريف في الأمر أنه عند توثيق بنود هذه المعاهدة باللغة الهيروغليفية على جدران معبد الكرنك بمدينة الأقصر زعم الفرعون رمسيس الثاني أن ملك الحثيين مواتللي الثاني هو من بادر بطلب الصلح مع الفراعنة. وفي المقابل نجد أن نص المعاهدة التي كتبت على لوح من الفضة باللغة الحيثية التي عثر عليها في أحافير عاصمة الحيثيين في منطقة الأناضول تشير إلى أن ملك المصريين رمسيس الثاني هو من جاء يتوسل عقد الهدنة.

لقد بالغ كثير الفرعون رمسيس الثاني في محاولة إظهار أنه هو المنتصر في تلك المعركة التاريخية الفاصلة فنجد له تلك اللوحة الشهيرة المرسومة على أعمدة معبد أبو سمبل في أسوان والتي تمثل ذلك الفرعون وهو يقود بنفسه مركبة حربية في معركة قادش ويطلق السهام على أعدائه وفي منظر آخر نجده وهو يقتل بيده أحد الجنود الحيثيين بينما يدوس بقدمه جندي آخر منبطح على الأرض. ونفس تلك الدعاية المبهرجة عن انتصار رمسيس الثاني نجدها تقريبا بصور مشابهة منقوشة على معبد الرامسيوم المخصص بالكامل لرمسيس الثاني في مدينة طيبة الجنائزية الفرعونية الواقعة حاليا بمحافظة الأقصر. ومن المقرر في صفحات التاريخ أن رمسيس الثاني هو بلا جدال أحد أشهر وأهم فراعنة الحضارة المصرية القديمة وقد أقام وإنشاء العديد من المعالم الأثرية الفرعونية البالغة الأهمية في جميع ربوع مصر القديمة.

ولكن ما هي حال الحضارة الفرعونية بعد ذلك النصر المزعوم في معركة قاديش علما بأنه لا مقارنة من ناحية القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية والعمق التاريخي بين الحضارة الفرعونية في ذلك الوقت وبين الحضارة الحيثية. بعد حوالي ثلاثة عقود من وفاة رمسيس الثاني تولى الفرعون رمسيس الثالث مقاليد الحكم وهنا تعرضت الأراضي المصرية لغزو الجيوش القادمة من الغرب من ليبيا والجيوش القادمة من الشمال من جهة رفح وهذا ما شكل نقطة البداية في نهاية قوة الهيمنة للإمبراطورية الفرعونية.  وبعد ذلك بعدة قرون أصبحت مصر الفرعونية في درجة مريعة من الضعف والهوان لدرجة أنه في عصر الفرعون أحمس الثاني أصبحت محل مهانة من الإمبراطوريات المنافسة. وهذا ما دفع الإمبراطور الفارسي قمبيز الثاني بأن يتجرأ ويطلب الزواج بكل صفاقة من ابنة الفرعون أحمس الثاني وعندما حاول أن يتحايل عليه بأرسال ابنة الفرعون السابق له تسبب ذلك في غزو واجتياح الفرس لكامل الديار المصرية الفرعونية. الغريب في الأمر أنه على الرغم من الصورة النمطية لقوة وعنجهية الإمبراطورية الفرعونية إلا أنها تعرضت عبر التاريخ لغزو واحتلال العديد من الشعوب مثل الهكسوس والنوبيين والليبيين والفرس والبطالمة المقدونيين والرومان وغيرهم.

كم تغير التاريخ بعد هدنة وقف الحرب بين الإمبراطورية الفرعونية بالغة القوة وبين المملكة الحيثية الفتية. فهل يعيد التاريخ نفسه ونشهد بداية النهاية للكيان الصهيوني المحتل والغاشم والذي بالرغم من قوته العسكرية الطاحنة يجبر على الموافقة على هدنة إيقاف القتال بينه وبين أهل فلسطين المرابطين والمجاهدين.

 

 

( الاعتداءات على المسجد الأقصى .. تاريخ زائل )

كما زال الاحتلال الصليبي للقدس فهذا مصير الصهاينة 


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 منذ سنوات والعالم العربي والإسلامي يتابع لحظة بلحظة وعلى الهواء مباشرة الاعتداءات الصهيونية الآثمة على المسجد الأقصى وعلى أهلنا في أرض الرباط في أكناف بيت المقدس. قديما قال متمم بن نويرة (إن الأسى يبعث الأسى) ولهذا الشجى يستجلب صدى الذكريات والعودة لتاريخ الاعتداء على أول القبلتين ومسرى الرسول في زمن حكم وسيطرة الصليبيين. باستثناء الفاجعة الكبرى وقت احتلال الصليبيون لبيت المقدس وارتكابهم للمذبحة الأليمة بقتلهم وإبادتهم لمعظم أهل الإسلام في القدس وتحويل المسجد الأقصى إلى كنيسة وسكن لفرسان الداوية واستعمال سراديبه كإسطبلات للخيول، باستثناء هذه الأحداث الجسام لا نعلم تقريبا كيف كان حال المسجد الأقصى والمقدسيين تحت تدنيس أهل الصليب والذي استمر لحوالي قرن من الزمان. انشغل الحكام العرب ورجال التاريخ في القرن السادس الهجري بقتال وتوثيق المعارك الحربية والمناورات السياسية ضد الصليبيين ومع ذلك لا تكاد تجد في كتب تاريخ ذلك الزمان أي إشارات لحال أهل فلسطين تحت حكم النصارى الصليبيين.

والمتصفح لكتب التاريخ التي ألفها أبرز المؤرخين في القرن السادس الهجري مثل ابن عساكر وأبو الفرج ابن الجوزي وعماد الدين الأصفهاني يجد معلوماتها شحيحة جدا عن حالة القهر التي كان يتعرض لها من بقي من أهل الإسلام مقيما فيما كان يسمى (مملكة بيت المقدس) المسيحية. ومن أشهر ما يتم ذكره في هذا الشأن ما نشره أسامة بن منقذ في كتابه الاعتبار عن زيارته للمسجد الأقصى وبالرغم من كونه سفير رسمي من قبل عماد الدين زنكي إلى ملك الصليبيين بلدوين الثالث إلا أنه تعرض لبعض المضايقة من الصليبيين المتعصبين عندما أراد الصلاة في داخل المسجد.

وبعد ذلك بعدة عقود من الزمن وفي ظروف شبه متطابقة زار المؤرخ والقاضي ابن واصل الحموي بيت المقدس كسفير سياسي مبعوث من قبل الظاهر بيبرس إلى ملك الصليبيين الأمبراطور فريدريك الثاني وهنا كانت الشاهدة التاريخية الأليمة عن حال الأقصى تحت الاحتلال الصليبي الثاني للقدس. يقول ابن واصل الحموي عن تلك الزيارة النادرة لأهل الإسلام للمسجد الأقصى زمن الاحتلال (دخلت البيت المقدس ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة وعليها قناني الخمر برسم القربان، ودخلت الجامع الأقصى وفيه جرس معلق وأُبطل بالحرم الشريف الأذان والإقامة وأعلن فيه بالكفر).

 والمقصود أنه بالرغم من عدم اطلاع العرب زمن الاحتلال الصليبي لأرض فلسطين على تفاصيل اضطهاد المسلمين ودقائق المعلومات عن الاعتداء والتدنيس للمسجد الأقصى ومسجد الصخرة إلا أن الشعوب والدول والممالك الإسلامية في ذلك الزمن (على علاتها وحروبها الطاحنة بينها البين) كانت على درجة مقبولة من الحمية لنصر الإسلام ومقدساته والمضطهدين من أبنائه. فكيف الحال بنا ونحن نشاهد منذ سنين ومن خلال البث المباشر لتفاصيل التفاصيل لما يقع على الإسلام وأهله في أرض فلسطين السليبة.

الاعتداء الصليبي على القدس وأهلها أصبح من التاريخ الزائل الذي لا أثر له على أرض الواقع اليوم وكذلك حتما وجزما الاعتداء الصهيوني على القدس وأهلها سوف يزول في يوم ما ويصبح من التاريخ الغابر. مملكة بيت المقدس المسيحية زالت بالرغم من كل الحملات الصليبية المتتالية التي قام بها ملوك وأباطرة أوروبا وذلك لسبب بسيط أنها كانت قائمة داخل محيط هادر معادي لها ومختلف عنها في الدين واللغة والعرق.

وهذه ظاهرة متكررة في التاريخ الإنساني بأن أي كيان يوجد في بيئة بشرية ضخمة مختلفة عنه ومعادية له لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة حتى ولو كان تدعمه قوى سياسية واقتصادية كبرى. التواجد الإسلامي في أطراف أوروبا لم يكتب له الخلود ولهذا طرد الحكم العثماني من دول البلقان ومن بلغاريا ورومانيا وكذل طرد الحكم الإسلامي من البيئة الضخمة المعادية له كما حصل مع حكم السلطنة المغولية الإسلامية الي كانت تحكم الهند. سيطرة قوة كبرى لشعوب معادية لها لا تستمر لفترة طويلة فالنصر المبكر سهل وقد يستمر لفترة من الزمن، ولكن المحافظة على مكاسب النصر هي الاشق ولهذا قال خبير السياسية الأبرز ونستون تشرشل (مشاكل النصر ألطف من مشاكل الهزيمة، ولكنها ليست أسهل في أي شيء).

( من جاكرندا مدينة أبها إلى ساكورا مدينة الطائف )

الورود .. وسيلة جذب سياحي 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في ختام شهر أبريل يوشك مهرجان ( الورد الطائفي ) الذي يقام سنويا في منطقة الهدا والشفا بمدينة الطائف مع بواكير فصل الربيع من نهاية شهر مارس إلى أواخر شهر أبريل، يوشك ذلك المهرجان على الانتهاء وكالعادة دون تغطية إعلامية كافية.
في المقابل تحظى مدينة أبها البهية هذه الأيام بشهرة ذات بهجة مبهرجة بسبب موسم تفتح زهور أشجار الجاكرندا البنفسجية اللون والخلابة والتي تزين طرق وميادين وتقاطعات مدينة أبها عروس الجنوب.
أعتقد أن مدينتي الحبيبة الطائف المأنوس تحتاج (لهجمة مرتدة) في سباق التنافس مع مدن الجذب السياحي ويمكن أن تستفيد من التجربة بالغة النجاح لأشجار الساكورا اليابانية. منذ القدم اشتهرت مدينة طوكيو العاصمة اليابانية بجمال الربيع فيها عند تفتح أزهار شجرة الكرز ( الساكورا ) بأزهارها البيضاء الفائقة الجمال والروعة.
في عام ١٩١٢ ميلادي أهدت اليابان حوالي ٣٠٠٠ شجرة ساكورا إلى الولايات المتحدة الأميركية لتعزير العلاقات بين الشعبين الياباني والأمريكي. وبعد زراعة هذه الأشجار حول ضفاف نهر بوتوماك في قلب العاصمة الأمريكية واشنطن أصبحت تلك المنطقة قبلة السياح والزوار بسبب جمال أزهار شجرة الكرز البيضاء. نفس هذه التجربة الناجحة تم (استزراعها ) في العديد من المدن الدولية الكبرى وذلك عن طريق زراعة أشجار الساكورا وقد (أثمرت) هذه التجربة نجاح باهر بالذات في مدينة هامبورج الألمانية ومدينة فانكوفر الكندية.

لذا نصيحتي لمدينة الورود  أن تحاول منافسة مدينة الضباب أبها في هذه الاجواء الربيعية بزراعة شوارع وميادين مدينة الطائف بشجرة الساكورا اليابانية لكي تنافس شجرة الجاكرندا القادمة في الأصل من أمريكا الجنوبية. علما بأن لمدينة الطائف نفسها تجربة ناجحة في انتشار زراعة شجرة ورد الجوري والتي بدأت قبل قرنين من الزمن بمجرد عدة شتلات من شجرة الورد الدمشقي. العديد من الرحالة العرب زاروا مدينة الطائف وبالرغم من إسهابهم في وصف أشجار وفواكهه ومنتجات الطائف إلا أنهم أغفلوا بشكل غريب الإشارة الواضحة لورد الجوري الطائفي.
ولن نذهب بعيدا في التاريخ لذكر رواد الرحالة العرب الذين زاروا الطائف ولم يشيروا لانتشار شجر الورد بها بل يكفي الإحالة إلى الرحالة المعاصرين مثل شكيب أرسلان وأمين الريحاني. تقول الأسطورة الشائعة أن أحد سلاطين الدولة العثمانية قبل حوالي قرنين من الزمن أهدى شريف مكة عدة شتلات من شجر الورد المجلوبة من الشام. وبحكم أن هذا النوع من الورد لا ينمو إلا في الأجواء الباردة فقد أمر شريف مكة بأن تغرس في قمة جبال الهدا والباقي تاريخ كما يقال.

في مقال نشر قبل فترة حمل عنوان ( النباتات المهاجرة .. النخلة أنموذجا ) أشرت لظاهرة انتقال النباتات بين الدول والشعوب والحضارات. وهو ما يعزز مقترح نقل أشجار الكرز اليابانية لمدينة الطائف ومع ذلك تبقى أغرب قصة في نقل وتهجير النباتات والأشجار ما حدث مع شجرة السرو المجلوبة من كاليفورنيا. في منتصف القرن التاسع عشر جلب ثري إنجليزي لمز عته في مدينة ليفربول نوع خاص من شتلات أشجار السرو أصبحت تعرف باسمه ( leylandii ) وبسبب خواصها المميزة والملائمة لإنتاج سياج شجري كثيف وطويل انتشرت انتشار النار في الهشيم في جميع الحدائق المنزلية في بريطانيا. ومن بضع شتلات استوردت من كاليفورنيا قبل قرن ونصف من الزمن يقدر الآن عدد أشجار السرو ذات الأصول الأمريكية بحوالي ٦٠ مليون شجرة في بريطانيا لوحدها.

وفي الختام في حال تكررت مثل هذه الأحداث الفريدة في سرعة انتشار النباتات المستجلبة يمكن أن نشاهد على سفوح جبال الهدا والشفا بمدينة الطائف عند نشر زراعة أشجار الساكورا ذات الأزهار البيضاء الكثيفة تكرار القصة الطريفة التي حصلت بين الأمير والشاعر الأندلسي المعتمد بن عباد وزجته اعتماد الرميكية. تقول القصة أن تلك الأميرة المدللة شاهدت يوما هطول الثلج على سفوح جبال قرطبة وهو أمر نادر الحدوث في جنوب الأندلس ولهذا طلبت من زوجها أن ينتقل بها للإقامة في منطقة يكثر بها الثلج. وهنا أمر المعتمد بن عباد بزراعة أشجار اللوز بكثافة على سفوح جبال قرطبة لتظهر عند طلوع أزهارها البيضاء وكأن تلك الجبال مغطاة بالثلوج. المعتمد بن عباد كان حاكم إقليمي إشبيلية وقرطبة ولو كان ملكه يمتد إلى مدينة غرناطة لكان ارتاح من هذا العناء فكما هو معلوم تقع مدينة غرناطة بمحاذاة سلسلة جبال (سييرا نيفادا) والتي تعني باللغة الاسبانية بكل بساطة (الجبال الثلجية).


الجمعة، 23 أبريل 2021

( أسطورة الأدب الغربي الرفيع )

الكاتب الفرنسي ميشيل فوكو عزز كشف فضائح مشاهير الأدب الغربي

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في منتصف القرن العشرين نشبت معركة أدبية بين الكتاب العراقي البارز الدكتور على الوردي وبين الدكتور العراقي عبدالرزاق محي الدين أستاذ الأدب العربي وكان مدار ذلك السجال في بعض مناحيه حول سلوك بعض (الأدباء) المنافي للأدب والأخلاق. ومن هنا جاء عنصر السخرية في عنوان الكتاب الشهير لعلي الوردي (أسطورة الأدب الرفيع) وبالذات عندما ناقش في جزء منه ارتباط الشعر العباسي بالشذوذ الجنسي. وكما ظهر في تاريخ الأدبي العربي موجة (شعراء المجون) ظهر في تاريخ الأدب الغربي موجات متتالية مما يسمى بزخرف القول (الأدب) المكشوف أو (الأدب) الإباحي والذي طغى طوفانه منذ القرن الثامن عشر. الطامة الكبرى ظهرت في التداخل موجة المجون العربي وموجة الشهوانية الأوروبية في مطلع القرن التاسع عشر عندما وبدافع من توسيع روافد الأدب الجنسي قام العديد من الكتاب والأدباء والباحثين الغربيين بنشر ترجمة المؤلفات والكتب العربية التي تدور حول الشهوات والشذوذ. ومن خلال ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة وما ورد فيها من مجون الخلفاء ودعارة بعض الشعراء مثل أبو نواس تشكلت في (المخيلية) الغربية خرافة أن المجتمع الشرقي والغربي ماجن ومنحل. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تقاطر العشرات من الأدباء والشعراء الأوروبيين إلى البلاد العربية لمحاولة اشباع شهواتهم وشذوذهم الجنسي.

في هذا الأسبوع أصيبت الدوائر الأدبية والمنتديات الصحفية بصدمة كبيرة بعد أن قامت جريدة الصاندي تايمز البريطانية بنشر تقرير صحفي تتهم فيه الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي المعروف ميشيل فوكو بأنه قام في فترة إقامته في تونس في نهاية الستينيات من القرن العشرين باغتصاب والانتهاك الجنسي للعديد من الأطفال. لقد بلغ الفجور والشذوذ بهذا المفكر المزعوم الذي اهتم بكتابة تاريخ الجنسانية وحب الغمان عند الرومان أنه كان يعتدي على أوليائك الأطفال الصغار جدا في مكان موحش مثل مقبرة ضاحية سيدي بوسعيد. وفي ضوء ما تم ذكره سابقا كان المفترض ألا يكون مثل هذا الخبر (صاعقا) أو مستغرباً وإنما دليل جديد وفصل آخر من فصول الكتاب المخزي (للأدباء) الغربيين وفجورهم وفسقهم وشذوذهم الذي أفرغوه في الشرق.  الإيروتيكية المثلية والتصورات الجنسية الماجنة والمتخيلة للغرب عن الشرق هي التي قادت مشاهير وأبرز كتاب القارة الأوروبية لزيارة البلاد العربية خصوصا تلك التي تقع تحت الاحتلال الفرنسي. ومن هنا نعلم مثلا لماذا لم يتورع كثيرا المؤلف الفرنسي أندرية جيد (الحاصل على جائزة نوبل في الأدب 1947م) في الاعتراف بأنه ذهب للجزائر بهدف إشباع شذوذه الجنسي مع المراهقين وهنالك تقابل مع الكاتب الإيرلندي أوسكار وايد البالغ الشهرة في الشذوذ وكانا يتعاونان معنا في اصطياد المراهقين والعبث بهم. أما مدينة طنجة المغربية فكانت تحت الاحتلال الفرنسي وكر للفساد والشذوذ ولهذا جذبت كتاب بارزين بهدف ممارسة الرذيلة من الأطفال كما هو الحال مع أندرية جيد السابق الذكر وكذلك والشاعر الفرنسي جان جينية والعديد من الكتاب الأمريكان ذوي الشهرة الأدبية البارزة مثل تينيسي وليامز وترومان كابوتي وويليام بوروز.

وإذا كان المفكر العراقي علي الوردي سخر من توصيف الأدب العربي بالرفيع بمجرد اللطخة السوداء من جراء وجود شعراء المجون مثل أبي نواس وشلته المحدودة فماذا نقول عن الأدب الغربي الزاخر بكم هائل من الكتاب والشعراء والروائيين منحلي الأخلاق. وبما إن سيرة الشذوذ انفتحت فهذا الشاعر الفرنسي الأبرز أرثر رامبو بالإضافة لشهريته الطاغية لعشقه للشرق وتجواله في اليمن والحبشة إلا أنه اشتهر بمخازيه الجنسية حيث كان شاذ جنسيا لدرجة أنه دخل في علاقة آثمة مع الشاب الشاعر الفرنسي بول فيرلين (الملقب بأمير الشعراء) تطورت لدرجة أنه هجر زوجته وطفله الرضيع من أجل الإقامة مع رامبو. وتستمر علاقة الشرق بقصص الشذوذ الجنسي لمشاهير الكتاب الغربيين ونعرج على الرمز الأشهر للأدب المكشوف وهو الروائي الفرنسي الرمز جوستاف فولبير صاحب رواية (مدام بوفاري) الذائعة الصيت. عندما قام فولبير بزيارته الشهيرة إلى مصر في منتصف القرن التاسع عشر وفي أجواء العربدة التي كان يعيشها تجرأ أن يقول لرفيقه في السفر إنه لا ملامة على الشخص أن يعترف بشذوذه الجنسي وعندما جرب الجنس مع رفيقه ذلك كتب لاحقا يقول (لقد اعتبرنا أنه من واجبنا تجربة هذا النمط من القذف).

وهذا الروائي والكاتب الفرنسي البارز ألبرت كامو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1957م الذي ولد وتعلم وعاش بالجزائر نجده بعد أن انتقل للإقامة في مدينة باريس توجد شبه أنه أقام علاقة جنسية شائنة مع الروائي الأمريكي المعروف بشذوذه نورمان كابوتي. ومن المهازل والمخازي أن أوسكار وايد المشتهر عنه شذوذه الجنسي والذي دخل السجن بسبب علاقته بشاب يدعى اللورد ألفريد دوغلاس عندما خرج من السجن حاول زملائه تحسين سمعته بأن نظموا تغطية صحفية له وهو يزور ماخور دعارة لممارسة الجنس مع مومس كي يحاول يثبت للجهور أنه شخص مستقيم (كذا زعموا) وليس شاذ. الجدير بالذكر أن الشذوذ الجنسي له نماذج وشواهد في عالم الأدب الغربي حتى مع النساء الذين اشتهرن في مجال الكتابة والرواية. فهذه الروائية الإنجليزية البارزة فرجينيا وولف كانت هي الأخرى شاذة جنسيا حيث كانت على علاقة سحاق مع كاتبة تدعى فيتا ويست. وبالرغم أن كلا من فرجينيا وفيتا هي سيدة متزوجة ومع ذلك كانت تلك العلاقة الجنسية الشائنة بينهما تتم بمعرفة زوجيهما المتحررين فكريا وأخلاقيا.

بدأنا بالحديث عن كتاب (أسطورة الأدب الرفيع) للدكتور علي الوردي ولعلنا نعرج عليه مره أخيرة قبل الختام فقد اعترض الكاتب على محاولة الدكتور عبدالرازق محي الدين تعليل أن شيوع التغزل بالذكر في الشعر العباسي كما يلاحظ في بعض قصائد أبي نواس أنما مرده لشيوع النزعة العرفانية الصوفية التي تقتضي تذكير الضمير. بمعنى أن بعض القصائد الماجنة لأبي نواس لا يقصد منها (الكلام الحرفي) للتغزل بالشذوذ الجنسي، ولكن يقصد منها طريقة أدبية خاصة لوصف المشاعر. فحوى هذا الكلام في محاولة دفع تهمة الشذوذ الجنسي عن أبي نواس استخدمت بشكل أو آخر كمحاولة بائسة وفاشلة في دفع مسبة اتهام أشهر وأهم شاعر أمريكي وهو (والت ويتمان) بأنه كان له ميول جنسية شاذة. في الديوان الشعري ذائع الصيت لويتمان (أوراق العشب) بعض القصائد التي عن الحب الرجولي للرفاق وبالرغم من أن بعض نقاد الشعر الإنجليزي يرجحون أن هذه العبارات هي فقط توصيف مجازي. إلا أن السائد لدى الغالبية العظمى من النقاد بأنها مؤشر شبه مباشر عن طباع وتصورات والت ويتمان فيما يخص القبول بالعلاقة الجنسية بين الذكور بدليل أنه من الثابت أنه في حياته الشخصية كان له علاقة شاذة مع عدد من الرجال والأطفال.

( إبرة التطعيم وتنشيط الذاكرة )

الألم والذاكرة توأمان لهذا لا عجب أن نتذكر مع تطعيم الكورونا تطعيم الجدري 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 وأخيرا قبل أيام تشجعت لاتخاذ الخطوة المنتظرة بأخذ الجرعة الأولى من اللقاح ضد مرض الكورونا بعد ترقب للتأكد من نجاعة التطعيم وبعد توتر بسبب القلق من وخز الإبر. من الطريف أن جزء من التردد بأخذ حقنة التطعيم نتائج من الخوف من الألم وإن كان مغلف بادعاء الحكمة في التريث بسلامة اللقاح الجديد وفاعليته. من العجيب أن ظاهرة تفادي الذهاب للمستشفيات والعيادات الصحية بغرض أخذ الحقن الطبية أو سحب الدم هي ظاهرة ملموسة بشكل جلي لبعض الأشخاص بسبب إصابتهم المحتملة باضطراب نفسي يدعى رهاب الإبر أو فوبيا الحقن (التريبانوفوبيا). وعلى خلاف الاعتقاد السائد من أن الأطفال هم فقط من يخاف من شكل وألم إبرة الحقن الطبية فالدراسات النفسية المتعلقة بمرض فوبيا الإبر تشير إلى أن نسبة وجوده في شريحة البالغين قد تصل إلى رقم مرتفع يبلغ 22 بالمائة لديهم هلع حاد من الحقن الطبية. فالحقيقة العارية إذا أن الجميع يخشى من وخز الإبرة فالصغار كما الكبار هم جميعا سواسية تم تخويفهم عبر القصص والحكايات من أي طرف معدني حاد. فجميع الأطفال تم غرس الخوف في نفوسهم من الإبر من خلال قصص الأطفال مثل حكاية (الجميلة النائمة) وكيف تم تفعيل اللعنة الشريرة ضدها من خلال جرح إصبعها بسن إبرة المغزل. وفي حكايات وروايات الكبار ورد في عدد من الأعمال المسرحية لشكسبير ذكر وخز الإبرة في سياق الشر والشؤم كما نجده في مسرحية هاملت وتاجر البندقية بينما في مسرحية ماكبث نجد المقطع الرهيب عندما تعلن الساحرة الثانية البغيضة قولها (عن طريق وخز إبهامي، تأتي أشياء شريرة). 

وبالفعل قديما قبل اكتشاف المضادات الحيوية كان حادث خفيف مثل وخز الإبهام قد يأتي بأشياء شريرة وقد سبق الإشارة إلى إن الطفلة الألمانية هايدغارد أصيبت بالتسمم البكتيري المميت نتيجة تعرض إحدى أصابعها لوخز إبرة ملوثة وقد أنقذ حياتها اكتشاف والدها الطبيب الألماني غرهارد دوماك لأدوية السلفا التي حققت له كذلك جائزة نوبل في الطب. وكذلك خدش يكاد لا يذكر عن طريق شوكة وردة أوشك أن يتسبب في وفاة رجل شرطة إنجليزي يدعى أبرت ألكسندر الذي تعرض هو الآخر لتسمم بكتيري تم علاجه بأول كميات تم استخلاصها من عقار البنسلين. والمقصود أن حياة البشر في القديم كانت في بعض الظروف على محك الخطر المميت بسبب (وخزة إبرة) سواء كانت بسبب كائنات حية مثل لدغة العقرب أو لسعة الدبور أو كانت مجرد خدشة شوكة ملوثة أو وخزة دبوس مسمم. من مثل هذه الذكريات المؤلمة ترسب ومنذ الأزل في أغوار النفس البشرية الخوف والفزع من الإبر ولاحقا من الحقن الطبية.

للكاتبة والروائية السورية غادة السلمان عبارة متداولة تقول فيها (إن الذاكرة والألم توأمان) والعجيب في الأمر أن علماء الأعصاب الألمان توصلوا قبل عدة سنوات لاكتشاف منطقة في قشرة دماغ الإنسان يرتبط فيها الشعور بالأم مع تسجيل الذاكرة. وبالإذن من القارئ العزيز إذا أثقلت عليه بذكر الاسم العلمي الغريب لتلك المنطقة من الدماغ والتي تسمى (المركب القذالي الوحشي LOC) والمرتبطة بالإدراك والوعي ولها علاقة كذلك بالذاكرة وقد وجد العلماء أن هذه الأنشطة الذهنية في ذلك الجزء من عقل الإنسان تتأثر بالألم. قد يكون هذا اكتشاف طبي حديث، ولكن في الواقع كتب تاريخ الطب سجلت وقائع تجربة علمية طريفة ومشهورة نسبيا حملت عنوان (تجربة وخزة الدبوس) كما عرفت أيضا بالعنوان الأكثر دراما (العلاج بالصدمة). في عام 1911م كان طبيب الأعصاب السويسري إدوارد كلاباريد يحاول علاج مريضة تعاني من حالة حادة من فقدان الذاكرة. لقد كان الطبيب كلاباريد يقوم بتعرف نفسه لهذه السيدة وبعد دقائق قليلة تنسى اسمه وتنسى تماما أن تكون تعرفت عليه. وفي إحدى الجلسات العلاجية قام كلاباريد بتعريف نفسه للسيدة مرة أخرى ثم قام بمصافحتها بعد أن وضع بشكل غير ملحوظ دبوس في راحة يده وكما هو متوقع أحست السيدة بألم وخزة الدبوس فسحبت يدها بسرعة. لقد كانت تلك السيدة دائما تنسى شكل وهيئة الدكتور كلاباريد بعد دقائق معدودة ومع ذلك بعد تلك التجربة الأليمة والصادمة وعندما قابلت الدكتور في اليوم التالي ومد يده لمصافحتها رفضت السيدة أن تصافحه خوفا من تجربة الأمس وهذا عزز الفكرة العلمية لدى الأطباء أن الألم في بعض الحلات يكون (منشط) للذاكرة أو توأم لها حسب وصف الروائية غادة.

في حالة المجتمعات ما يتم تنشيطه بسبب وخز الإبر وغرز الحقن هو (الذاكرة الجمعية) وليس الذاكرة الفردية ولهذا لا عجب عندما تجتمع مع لفيف من الأقارب أو المعارف بعد أن يقوم أحدهم أو عدد منهم بتلقي تطعيمات مرض الكورونا أن تسترجع (الذاكرة الجمعية) لهذه الشلة من الأصدقاء أو الثلة من الأقرباء قصص وأخبار الطفولة مع التطعيمات المدرسية. الغالبية الكاسحة من أبناء الجيل الجديد يتلقون التطعيمات الصحية واللقاحات الطبية وهم في سن مبكر جدا قبل الدخول للمدرسة ولهذا غالبا لا ذكريات لهم من وقائع (ملحمة التطعيمات). أما أبناء جيل الطيبين والزمن الجميل كما يقال فجميعهم دون استثناء عاصروا حالة الفزع والرعب من (الحملات والغزوات) الصحية لتطعيم طلاب المدارس بالعديد من اللقاحات الطبية التي ولدت عصر الرعب والعقد النفسية. مع وخزة إبرة لقاح الكورونا تنشطت ذاكرة البعض منا لاسترجاع أحداث وأهوال حملات وحفلات التطعيم ضد مرض الجدري أو الحصبة والتي كانت تتم (ويا للهول) ليس بوخزة إبرة واحدة، ولكن عبر تشريط الساعد الأيسر مثلا بالعديد من الغرز المتتالية والمتتابعة لتشكل جرح غائر على شكل دائرة. هذه العملية الصحية لإعطاء اللقاح كانت تسمى في الزمن الغابر (بالتينة) أو التيانه وفي بعض المناطق اشتهرت باسم التوتينة ويبدو والله أعلم أن التسمية من المحتمل هي تحريف لكلمة (كرنتينه) وهي كما هو معلوم مركز الحجر الصحي وفي الغالب يكثر فيها تطعيم الأشخاص المحجوزين باللقاحات ضد الأمراض المعدية مثل الجدري والحصبة والملاريا. الجدير بالذكر أن من يتتبع الأخبار العالمية المصاحبة لانتشار حملات التطعيم باللقاح المضاد للكورونا في العديد من بلدان العالم يجد أن وخز الإبر له دور السحر في تنشيط الذاكرة الجمعية لدى الشعوب الأخرى. فتجد تلك الأخبار الدولية تستحضر في نفس الوقت الحملات الصحية القديمة للتطعيم في فترة الستينيات من القرن العشرين ضد مرض شلل الأطفال أو ما تلا ذلك في السبعينيات من التطعيم ضد الحصبة والجدري.

بقي أن أقول في الختام وقبل أن نغادر أنه من الأمانة أن أعترف لقارئي العزيز أن عنوان هذا المقال (إبرة التطعيم وتنشيط الذاكرة) ليس المقصود به بالدرجة الأولى ما سبق ذكره عن تنشيط (الذاكرة الجماعية) وإنما ما سوف يأتي ذكره عن (الذاكرة المناعية) !!. قبل عدة أيام عندما ذهبت مع غيري من مئات الآلاف من البشر على مستوى العالم إلى مراكز التطعيم لأخذ وخزة الإبرة بحقنة اللقاح ضد مرض الكورونا في الواقع ما كنا نقوم به هو باللغة الطبية (تفعيل الذاكرة المناعية) وذلك من خلال تنشيط قدرة الجهاز المناعي في جسم الإنسان على التعرف بسرعة ودقة وكفاءة على فيروس وباء الكورونا المعروف باسم (كوفيد 19). فكرة تنشيط عمل جهاز المناعة تقوم على آلية (المحاكاة) لتعرض الجسم للجراثيم والفيروسات حيث يتم حقن الجسم من خلال إبرة اللقاح بسائل يحتوي على فيروسات ميتة أو حتى أجزاء من الحمض النووي لبعض الفيروسات. وهنا يأتي دور الاستجابة المناعية المكتسبة لجسم الإنسان والتي تتم من خلال ما يسمى خلايا (الذاكرة) البائية memory B cell وخلايا (الذاكرة) التائية وهي إحدى أنواع خلايا الدم البيضاء والتي يتخصص دورها في إنتاج الأجسام المضادة والتي (تتذكر) وتتعرف على فيروس الكورونا في حال تسل إلى جسم الإنسان ومن ثم تقوم بالقضاء عليه قبل أن يتكاثر وينتشر في الجسم.


( قاعدة فيثاغورس في عشق الرياضيات )


 عشق الرياضيات تحول عند البعض لطقوس وعبادات بل وحتى قتل المخالف !!

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 وافق الأسبوع الماضي مرور ذكرى (اليوم العالمي للمرأة) وبحكم أن المرأة نصف المجتمع الذي أعيش فيه فقد كان من الملائم أن أكتب مقالا ثقافيا عن تلك المناسبة. وفي مطلع هذا الأسبوع مرت ذكرى (اليوم العلمي للرياضيات) وبحكم أن الرياضيات توصف أحينا بأنها ( أم ) العلوم وهو المجتمع الذي انتسب له لهذا كان من الملائم للمرة الثانية على التوالي كتابة مقال حيال هذا المناسبات المتكررة.

(المحاور) و (الزوايا) و (النقاط) و (الدوائر) التي يمكن من خلالها مناقشة مجال وعلم الرياضيات عديدة ومتنوعة وربما من باب الملاطفة للزملاء الأفاضل من محترفي علم الرياضيات ومن لف لفهم (من أهل الإحصاء والهندسة بل وحتى المحاسبة والاقتصاد) أن نتطرق لبعض حالات الغلو والتعصب والجنون في عشق وتقديس الرياضيات. لعلم الرياضيات مكانة مرموقة في الإرث البشري والحضارة الإنسانية لدرجة أن الفيلسوف الإغريقي البارز أفلاطون كان يعتبرها بأنها أسمى صورة للمعرفة في حين أن العالم الأسطورة جاليليو اشتهر عنه وصفه بأن كتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات وكذلك نجد أن الفيلسوف العربي الشهير الكندي ألف رسالة وكتاب خاص في أن الفلسفة لا تنال إلا بعلم الرياضيات. كل هذا سليم ولا غبار عليه ولكن الإشكال يأتي من (التعصب) المبالغ فيه والمتطرف نحو ((تقديس)) علم الرياضيات كما نجده لدى رمز علم الرياضيات الأكبر فيثاغورس وتلاميذه من اتباع المدرسة الفيثاغورسية.

لقد كانت فكرة فيثاغورس وتلامذته عن الأرقام الرياضية بأنها هي جوهر وروح كل الأشياء وأن الأرقام هي العنصر الأول والأبدي للكون وأنها شي نقي وسحري ومفتاح فهم الدين والفلسفة. تطور الأمر بعد ذلك لدرجة أن فيثاغورس وتلامذتها أن للرياضيات والأرقام هي بحد ذاتها (دين خاص) ومن ذلك مثلا أنهم يكنون إجلالا خاصا للأعداد التامة مثل العدد 6 والعدد 28 اللذان يساوي كل منهما مجموع قواسمه. كما خصوا العدد 10 باحترام عظيم وأطلقوا عليه اسم الرابوع الإلهي كما جعلوا العدد المربع 4 رمز للعدالة والإنصاف. وبحكم أن الأرقام في عقيدة فيثاغورس هي أساس الجمال ورمز القدسية ولهذا عندما توصل أحد تلاميذ فيثاغورس والمدعو هيبياسي إلى إثبات أن جذر العدد اثنين √2 هو رقم غير حقيقي irrational   وهذا ما تسبب في إثارة هيجان فيثاغورس وتلاميذه بالزعم بوجود شيء قبيح مثل الأعداد غير الحقيقة. يقال أن هيبياسي توصل لذلك الإثبات الرياضي لوجود الأعداد غير الحقيقة عندما كان مع فيثاغورس وبعض تلاميذه في رحلة بحرية وهنا كانت ردة فعل فيثاغورس ضد هذه (الزندقة والبدعة) الرياضية الشنيعة أن أمر تلاميذه بقذف وإغراق هيبياسي في البحر.

 لقد كانت (قاعدة فيثاغورس) هي التعصب الشديد والغلو المفرط في التعلق بالرياضيات ولو تسبب ذلك في ارتكاب الجرائم مثل القتل والاعتداء على أي عالم رياضيات يخالف في المفاهيم الرياضية السائدة أو ينتقص من المكانة الرياضية لرموز علم الحساب. عالم الفلك الدنماركي الشهير تايكو براهي وهو أحد أبرز علماء القرن السادس عشر كان له ولع وعشق كبير لعلم الرياضيات لدرجة أنه دخل في مبارزة دامية بالسيوف مع عالم رياضيات آخر وكان سبب الشجار بينهما زعم كل واحد منهما أنه هو الأفضل والأكثر عبقرية في مجال الرياضيات. هذه الحادثة أثرت كثيرا على تايكو براهي حيث أنه نجا من الموت بأعجوبة لأن القتال تم في الظلام الدامس ولكن مع ذلك خسر أنفه الذي جذع وتعرض لجرح غائر في جبهته. التاريخ الدامي في صراع علماء الرياضيات فيما بينهم البين أو مع الآخرين له العديد من الشواهد كما نجد ذلك في الحادثة الأليمة عندما قام عالم الرياضيات الفرنسي المرموق أندرية بلوخ بقتل أخيه عالم الرياضيات جورج بعد لوثة عقلية أصابته جعلته يقتنع بأن أخيه وبعض أقاربه هم عبء على البشرية ويجب التخلص منهم بقتلهم. وما زلنا في فرنسا ومع عالم رياضيات مميز هو الشاب إيفاريست غالوا والذي اشتهر بنظرية غالوا ذات الأهمية الكبرى في نظرية الزمر في الرياضيات الحديثة. في سن العشرين تورط الشاب غالوا في خصام وقتال بالمسدسات مع شاب آخر. وعندما تم تحديد موعد هذه المبارزة المسلحة duel في صبيحة يوم 29 من شهر أبريل لعام 1832م شعر غالوا بأن موعد مقتله قد اقترب ولهذا أمضى الليلة السابقة بطولها وهو يسجل أخر أفكاره الرياضية الملهمة المتعلقة بطريقة مبتكرة لحل المعادلات عن طريق الجذور وقام بإرسال تلك الأوراق إلى قريب له مع توصية له بأن يحاول نشرها في مجلة أكاديمية العلوم الفرنسية.

الجدير بالذكر أن ليس كل (المعارك) العلمية في تاريخ الرياضيات هي معارك دامية وقتال مسلح فكثير ما يكون الخصام والصراع مجرد تراشق بالسباب أو عراك بالألفاظ. ومن القصص المشهورة في تاريخ العلوم ذلك النزاع المشين والصراع المهين الذي نشب بين أشهر عمالقة الرياضيات على الإطلاق ألا وهم الإنجليزي إسحاق نيوتن والألماني غوتفريد ليبنتز. لسنوات طويلة في مطلع القرن الثامن عشر زعم كلا من نيوتن وليبنتز أنه هو من أكتشف فكرة علم التفاضل والتكامل في الرياضيات وهو المجال العلمي الذي لا يمكن تخيل تقدم البشرية الحالي لو لم يتم تطوير ذلك الفرع الإبداعي. وبالرغم من أن أغلب الرموز والمفردات في علم التفاضل والتكامل والمستخدمة حتى اليوم كان أول من وضعها هو ليبنتنز إلا أن من المشهور أن نيوتن بالفعل قد اكتشف ذلك الحقل الرياضي وهو بعد في أوائل الشباب ولكن لم ينشر هذا الاكتشاف التاريخي إلا بعد سنوات طويلة. وبسبب البلبلة التي حصلت في المجتمع العلمي حيال هذا الخصام والاتهام المتبادل بالسرقة والانتحال قامت الجمعية الملكية البريطانية بتشكيل لجنة خاصة للتحقيق والتدقيق في هذا النزاع. ولقد كان من السخف البالغ واللؤم الحقير أن نجد نيوتن وبحكم نفوذه كرئيس للجمعية الملكية البريطانية يقوم بتعيين عين نفسه رئيسا لهذه اللجنة. وكما هو متوقع خرج التقرير النهائي للجنة التحكيم باتهام ليبنتنز وإدانته بسرقة وانتحال أفكار نيوتن مما تسبب في حالة إحباط حادة له لدرجة أن نيوتن بعد وفاة ليبنتنز قال إنه شعر بمتعة كبيرة حين حطم فؤاده. وقبل حادثة الخصام الرياضية المشينة هذه بحوالي قرن من الزمن حصلت حالة خصام وشقاق وتشاحن حول الاسبقية في الاكتشافات الرياضية بين عالم الرياضيات الفرنسي المعروف رينه ديكارت وبين أستاذه عالم الرياضيات الهولندي إسحاق بيكمان حيث زعم التلميذ الفرنسي أن ليس لأستاذه الهولندي فضل عليه في توصله لأي من اكتشافاته الرياضية وهو ما عده بيكمان جحود وعدم أمانة علمية.

 دالة العشق والهيام الرياضي الا منتهي

ما سبق ذكره عن الحدة والتعصب بين علماء الرياضيات لدرجة العنف أو الفجور في الخصومة يعكس مشاعر وجدانية ووشائج نفسية شديدة التعلق والعشق بعلم الرياضيات. وكما هو متوقع ليس جميع عشاق وأنصار علم الرياضيات هم على تلك الدرجة من العدوانية مع الآخرين من المنافسين فالغالبة العظمى منهم انشغلوا بالتفرغ للتمتع بلذتهم الذهنية ومتعتهم الفكرية وهم في حضرة (ملكة العلوم) أي علم الرياضيات كما وصفها عالم الرياضيات الألماني البارز كارل جاوس الذي ربما يعرفه جميع طلاب المرحلة الثانوي من خلال ما يسمى (منحنى جاوس) في علم الإحصاء. وبمناسبة ذكر كارل جاوس الذي يلقب في كتب التاريخ (بأمير الرياضيات) لا عجب أن يعشق ويفتتن هذا الأمير بوجوده بين يدي ملكة العلوم لدرجة أنه كان كثيرا ما ينغمس ولفترة طويلة من الزمن قد تصل لبعض الأسابيع في قضايا رياضية معقدة. وفي إحدى المرات وعندما كان مستغرقا بشكل كلي في أحد مواضيعه العلمية تم قطع خلوته العلمية بإخباره أن زوجته المريضة تحتضر وعلى وشك الموت وهنا يقال أن جاوس قال لم اخبره بذلك الأمر الطارئ جدا (أخبرها بأن تنتظر قليلا حتى أنتهي مما لدي).

وفي سياق ذكر الموت والرياضيات نجد أن العاشق المتيم بحب الرياضيات عالم الرياضيات السويسري الكبير ليونارد أويلر أحد أهم علماء الرياضيات في القرن الثامن عشر، نجده من شدة تعلقه بالعلم وهو على فراش الموت في سن السادسة والسبعين كان مشغولا لدرجة كبيرة في إجراء الحسابات الرياضية بالرغم من أصابته بالعمى. بقي أن نعرف أن أويلر كان يحاول حل مسائل علمية جديدة تماما عليه ففي يوم وفاته وذلك في نهاية عام 1783م كان يحاول حساب قوانين الإقلاع ببالون الهواء وكان ذلك اختراع حديث جدا في تلك الفترة. ولعل من الطريف أن نذكر أن وفاة أويلر كانت في مدينة سانت بطرسبرج عاصمة الإمبراطورية الروسية وذلك بعد أن استقطبته الامبراطورة كاترين عاشقة العلوم. الجدير بالذكر أن أويلر كان مشهور جدا بتدينه لدرجة أن الكنيسة اللوثرية كان تضعه في قائمتها للقديسين وبحكم أن (القديس) أويلر كان في مدينة القديس بطرس (سانت بطرسبرج) فقد سمع بزيارة الفيلسوف الفرنسي الشهير دنيس ديدرو (صاحب الموسوعة وقائد حركة التنوير بزعمهم) وأنه يقوم بإلقاء سلسلة من المحاضرات في المدن الروسية ينادي فيها بعقيدته بنشر الإلحاد وإنكار وجود الخالق. وهنا نجد أن أويلر يعلن أنه قد توصل لاكتشاف معادلة رياضية جبرية تثبت وجود الله ولهذا يطلب أن يعرضها على ذلك الفيلسوف الملحد والمتعجرف. وهنا عندما أُحرج الفيلسوف الفرنسي ما كان له إلا أن يحضر المناظرة والجدال مع العالم الرياضي حول وجود الله وعندما تقابل الرجلين تقدم (القديس) الرياضي أويلر إلى الفيلسوف ديدرو وقال له بعبارة واثقة وقوية:

سيدي a+ bn/n = x  لذا فإن الله موجود، أجب.

وهنا نجد أن الفيلسوف الفرنسي يُأخذ على حين غره ولهذا أرتج الأمر عليه فهو خبير في الأدب والفن والفلسفة ولم يكن يعلم أي شيء عن الرياضيات لهذا طلب الفيلسوف أن يسمح له بالانصراف والانسحاب من المناظرة ويقال إنه غادر مباشرة إلى فرنسا.

أمر أخير أود أن أذكره عن عالم الرياضيات الألماني العجيب أويلر وهو أنه من شدة عشقه الشديد وانغماسه في علم الرياضيات أنتج عدد كبير من الأبحاث والأوراق العلمية المنشورة بلغت حوالي 886 بحث رياضي وهذا رقم كبير جدا بمقاييس القرن الثامن عشر الذي عاش به. وهذا يقودنا إلى عالم الرياضيات المجري بول إردوس والذي بلغ من درجة انغماسه وعشقه لعلم الرياضيات أنه يعتبر أكثر علماء الرياضيات عبر التاريخ من ناحية غزارة إنتاجه العلمي حيث نشر ما يقارب 1600 بحث علمي في مجال الرياضيات. وبحكم أن بين العبقرية والجنون شعره فإن إردوس خير من يمثل العالم المجنون أو غريب الأطوار على الأقل. الغالبية العظمى من تلك الأبحاث الهائلة العدد نشرها إردوس بمفرده ومع ذلك كان في بعض الأحيان يضطر أن ينشر بعض تلك الأبحاث الرياضية مع الآخرين من زملائه وتلاميذه. السبب في ذلك أن إردوس كان لا يملك منزل خاص به ولذا عاش معظم حياته متنقلا بحقيبة ملابسه بين منازل معارفه وزملائه وتلاميذه في أوروبا أو في الولايات المتحدة. من الناحية المبدئية المفترض أن يكون إردوس شخص ميسور الحال ماديا لأنه كان يعمل في جامعة برنستون الأمريكية العريقة وذلك بعد ان استقطبه لها العالم المشهور أينشتاين الذي كان يعمل في نفس تلك الجامعة. ونظرا لأن إردوس كان لا يحتفظ بأي نقود أو أموال حيث كان يتبرع بها للفقراء ولذا كان يفضل أن يعيش حياة التشرد والإقامة في منازل زملائه وتلاميذه ولهذا ربما كان يضيف أسمائهم في أبحاثه المنشورة كنوع من الرشوة أو المقايضة لهم للسماح له بالإقامة معهم.

 في مطلع هذا المقال ربطنا بين مناسبتي اليوم العالمي للمرأة واليوم العالمي للرياضات وكان مدخلنا الحديث عن الغلو والتطرف في عشق الرياضيات ولعنا في ختام المقال أن نجمع بين ذلك الثالوث: المرأة والرياضيات والغلو. وخير مثال لدمج هذه الأمور الثالثة هو شخصية عالمة الرياضيات والكونتيسة الإنجليزية آدا لوفلايس والتي بلا جدال هي أشهر وأهم عالمة رياضيات في جميع العصور. شخصية الكونتيسة آدا لوفلايس ثرية جدا ومتشعبة فمن خلال والدها اللورد بايرون تنفتح أبعاد الأدب والشعر الإنجليزي ومن ناحية أبنتها الليدي آنا بلنت نرتبط بالرحلات لبلاد العرب وزيارة آنا الشهير لمنطقة حائل. أما من جانب ارتباطها بالعالم الإنجليزي تشارلز باباج (الذي كان يلقبها بساحرة الأرقام) فقد دخلت آدا التاريخ من أوسع أبوابه عندما ساهمت في تصنيع أول حاسب آلي وكذلك كونها أو مبرمجة كومبيوتر في التاريخ. على كل حال ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى الدرجة المفرطة في غلو وتطرف آدا في حماسها لعلم الرياضيات التي جعلتها (كما فيثاغورس وتلاميذه) دينها واعتبرت نفسها نبيه ورسول للرياضيات بل تطرفت لدرجة أنها كانت تصف نفسها بأنها اللسان الناطق للإله والرب الخاص بالرياضيات تعالى الله عما يقلون علوا كبيرا.