السبت، 19 أغسطس 2023

( كيميائي في معسكر الإبادة النازي )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 من ناحية المهنية أنا أحترف العمل في مجال علم الكيمياء وأنا هذه الأيام في زيارة سياحية لدول أوروبا الشرقية مع الزملاء الكرام فهد أبو عوه القحطاني وعبدالكريم الخليفي وربما من أهم المعالم التي يمكن زيارتها في دولة بولندا المرور بأشهر وأشنع معسكرات الاعتقال النازية في أثناء الحرب العالمية الثانية (معسكر أوشفيتز). ومع ذلك عنوان المقال الحالي (كيميائي في معسكر الإبادة النازي) ليس عن شخصي المتواضع ولكن المقصود به الإشارة إلى الترابط الغريب (وفي الواقع الترابط الأثيم) بين العلم ومعسكرات الاعتقال والتعذيب والإبادة ممثلا في قصة عالم الكيمياء اليهودي والأديب الإيطالي الجنسية (بريمو ليفي). صحيح أن اليهود بالغوا في قضية الهولوكوست ومحارق الغاز النازية، ولكن هذا لا يعني أن كل ما يذكر عن هذه الجريمة مفبركا ومبالغا فيه. على المستوى دوائر الفكر والثقافة الغربية يعتبر الكيميائي بريمو ليفي أديبا وشاعرا وفيلسوفا مشهورا خصوصا بشهادته عن معسكرات الاعتقال النازية. بينما على المستوى الشخصي استمتعت قبل سنوات بقراءة كتابه المعنون (الجدول الدوري) والذي مزج فيه باحترافية عالية بين العلم ممثل في العناصر الكيمائية للجدول الدوري وبين الأدب والفكر والتاريخ.

في أوائل شبابه شارك بريمو ليفي في حركة مقاومة الاحتلال النازي لشمال إيطاليا وبعد أن اعتقل في نهاية عام 1943م تم شحنه في قطار مع المئات من اليهود ونقلهم إلى معسكر أوشفيتز Auschwitz الشهير في بولندا. الجدير بالذكر أنه كان للكيمياء دور بارز في المحافظة على حياة بريمو ليفي داخل هذا المعتقل الرهيب حيث كان النازيون يبحثون بين المعتقلين عن الرجال الذين لهم أي خبرة كيميائية لكي يستفيدوا منهم في العمل بالمختبرات الكيميائية في قسم البلمرة لشركة إنتاج المطاط الصناعي. في الكتاب السابق الذكر (الجدول الدوري) تعرفت قبل سنوات على شذرات متفرقة من معاناة بريمو ليفي داخل معسكر الإبادة النازي. ولكن لمئات الآلاف من القراء في المجتمع الغربي تبقى الشاهدة المصاغة بأسلوب أدبي وفكري مميز لبريمو ليفي عن سجل ذكرياته التي صاغها في كتابه (إذا كان هذا رجلا if this a man)، تبقى تلك المشاهدات والشهادات من أكثر الوثائق الأدبية أهمية عن جريمة معسكرات الاعتقال النازية والتي طالت حسب وصف بريمو ليفي نفسه الآلاف من غير اليهود من شتى الأعراق الجنسية ومن مختلف الدول.

في الواقع في نهاية الحرب العالمية الثانية قامت القوات الروسية بعد هزيمة الجيش الألماني النازي بتحرير بريمو ليفي وعشرات الآلاف من المعتقلين في معسكر أوشفتيز وفي مطلع عام 1945م غادر الكيميائي الإيطالي بريمو ليفي ذلك الموقع الشنيع. وفي هذا الأسبوع وبعد مرور حوالي ثلاثة أرباع القرن من مغادرة الكيميائي الإيطالي أدخل كسائح أولا وكيميائي عربي إلى معسكر أوشفيتز تلك المقبرة الهوائية التي حرق في أجوائها ما يزيد عن مليون ضحية. للأسف الشديد الكيمياء حاضرة بكثافة في هذا المعسكر الفظيع ليس فقط من خلال (غرف الغاز) التي كانت تستخدم لإعدام مئات الأشخاص في نفس اللحظة بواسطة غاز كيميائي يدعى Zyklon B الذي ساهم في اكتشافه لأول مرة عالم الكيمياء الألماني فريتز هابر الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1918ميلادي !!.

لعدة شهور في نهاية عام 1941م قام الجنود والعلماء الألمان في معسكر أوشفتيز بالبحث عن أنسب المركبات الكيميائية لعملية الإعدام في غرف الغاز وقاموا فعليا بإجراء (تجارب علمية) لتحديد أفضل الظروف لاستخدام تلك الغازات الكيميائية بكفاءة. في الواقع العملية التالية لاستخدام الكيمياء في تصفية المعتقلين كانت تتعلق بعملية التخلص من جثث القتلى بأسرع وأسهل عملية كيميائية. ولهذا بعد إعدام المئات دفعة واحدة في غرفة الغاز كانت تنقل تلك الجثث إلى (أفران الحرق) الصغيرة حيث يتم تحويل كل ثلاثة أو خمسة جثث إلى رماد ودخان من خلال عملية كيميائية غير متطورة تتمثل بكل بساطة في استخدام حطب أشجار الغابات البولندية المحيطة بمعسكر أوشفتيز. ولذا ومع وجود العديد من منشآت ومباني أفران الحرق crematoria كان بالإمكان حرق ألف جثة في اليوم الواحد.

معسكر إبادة أم مصنع كيميائي

ينبغي التنبيه أن معسكرات (الإبادة) النازية أو ما تسمى معسكرات الموت وإن كان من أهدافها الرئيسية تطبيق (الحل النهائي للمسألة اليهودية) من خلال خطة الإبادة الجماعية لليهود وغيرهم من الطوائف وأسرى الحرب، إلا أن بعض تلك المعسكرات المروعة كانت في الواقع كذلك (مصانع) كيميائية تتبع بالذات للشركة الألمانية العملاقة (IG Farben). والمقصود أن ليس كل من تم اعتقالهم في معسكرات (الإبادة) النازية مثل معسكر أوشفيتز كان الهدف إعدامهم والتخلص منهم بل عشرات الآلاف منهم تم (اعتقالهم) لكي يصبحوا (عمال) بالسخرة في هذه المصانع الكيميائية وغيرها من الوحدات الصناعية المختلفة. في الواقع أثبتت العديد من الشهادات التاريخية أنه بعد وصول المعتقلين من اليهود وغيرهم إلى ساحات معسكر أوشفيتز أو غيره من معسكرات الإبادة (كان للقوات النازية أربعة معسكرات إبادة أخرى منتشرة في وسط أوروبا)، يتم أولا عزل النساء والأطفال وجميع المرضى أو المصابين وهؤلاء يتم إعدامهم خلال ساعات أو في مدة أقصاها ثلاثة أيام. أما ما يتبقى من الرجال الأصحاء ومن ذوي الخبرة العلمية أو الصناعية أو الطبية من المعتقلين المدنيين ومن جنود أسرى الحرب من جميع الجنسيات فيتم الاحتفاظ بهم لفترات طويلة قد تصل لعدة سنوات داخل هذه المعسكرات لاستخدامهم كعمال وذلك بعد أن يختم على يد كل واحد منهم وشم يكتب عليه رقمه الخاص (كان الوشم على يد بريمو ليفي يحمل الرقم 174517).

يذكر صاحبنا الكيميائي المعتقل بريمو ليفي في كتابه سابق الذكر (إذا كان هذا رجلا) أنهم عندما وصلوا لأول مرة لمعسكر أوشفيتز شاهد على البوابة الكبيرة لذلك المعسكر العبارة التالية المكتوبة باللغة الألمانية (Arbeit Macht Frie). في الواقع اللوحة الحديدة المكتوب عليها تلك العبارة باللغة الألمانية أصبحت اليوم من الصور المشهورة مثل شهرة اللوحة المضيئة لمدينة لاس فيغاس مع فارق التشبيه والظروف. على كل حال الترجمة لتلك العبارة الألمانية هي (العمل يمنحك الحرية) وهذا الشعار كان موجود على العديد من مراكز الاعتقال النازية في مختلف الدول الأوروبية وهذا يعني أن (تصفية وإعدام) اليهود لم يكن الهدف الأساسي والوحيد لتلك المعسكرات وأنها بالفعل استخدمت في جزء منها لدعم المجهود الحربي من خلال استخدامها كمصانع وورش لإنتاج الذخيرة الحربية. لدرجة أن بعض الكهوف الضخمة في الدول الأوروبية مثل تلك الموجودة في التشيك استخدمها النازيون لتصنيع الطائرات ومعسكرات اعتقال في فلندا استخدمت لتطوير الصواريخ النازية.

وبالعودة لقصة الكيمياء ومعسكر الإبادة نجد أنه في كتابة (الجدول الدوريThe periodic Table) المميز في مجال الثقافة العلمية استرجع بريمو ليفي عند الحديث عن العنصر الكيميائي (السيزيوم) ذكرياته في العمل في (المختبر العلمي) في معسكر أوشفيتز وكيف أنه استطاع أن يسرق نوع من القضبان المعدنية الصغيرة (سرق كذلك مادة الجلسرين وبعض الأحماض الدهنية) وكيف أنه استنتج أنها نوع لسبيكة عنصر السيريوم مع الحديد. وأستعرض بريمو في كتابه ذاك كيف كان يقوم بتقطيع تلك القضبان من سبيكة الحديد مع السيريوم إلى أحجام صغيرة يبيعها لبقية المعتقلين مقابل بعض قطع من الخبز في حين يستخدمها المساجين كولاعة سجائر لأنه عند حكها بقطعة صلبة من الحديد تعطي شرر أصفر كثيف. أود أن أؤكد بأن معسكر أوشفيتز تم بنائه على عدة مراحل وما يهمنا في قصة الكيميائي اليهودي بريمو ليفي (وما يهمني أنا المنتسب لعلم الكيمياء) هو الفرع الثالث من هذا المعسكر والذي يعرف بأكثر من اسم منها تسميته بمعسكر بونا Buna أو معسكر (IG-Auschwitz). وسبب هذه التسميات وارتباطها الوثيق بالكيمياء يرجع إلى أن عملاق الصناعات الألمانية الشركة الكيميائية IG Farben قامت بالتكفل بتمويل وتشييد وتشغيل ذلك المعسكر الثالث لكي يستخدم في تصنيع مواد كيميائية مهمة في المجهود الحربي النازي مثل نوع خاص من المطاط الصناعي يسمى بونا (Buna).

ولهذا يرد بشكل متكرر في ثنايا كتاب مذكرات الكيميائي اليهودي بريمو ليفي (إذا كان هذا رجلا) ليس فقط أسماء المركبات والعناصر الكيميائية، ولكن أيضا يكثر الإشارة إلى أن معسكر أوشفيتز الثالث كان يحتوي مخازن وأقسام ومباني تحمل أسماء مركبات كيميائية. فمثلا كان معسكر (IG-Auschwitz) ومصنع المطاط بونا يحتوي على مبنى يسمى مستودع مركب كلوريد الماغنيسيوم ويحتوي على مبنى آخر يدعى قسم البلمرة (polymerization Department) ومبنى تصنيع كحول الميثانول. كما يوجد مدخنة كبيرة في وسط المصنع أطلق عليها اسم برج الكربيد (The carbide Tower) والكربيد هو نوع من المركبات الكيميائي يحتوي على عنصر الكربون المرتبط بعنصر معدني. وقد سمى بريمو ليفي في كتابه برج الكربيد ذاك باسم (برج بابل) ومقصودة من هذه التسمية أنه كما ورد في التوراة أن شعوبا مختلفة الأعراق واللغات اجتمعت لمحاولة بناء برج بابل فكذلك الألاف من البشر مختلفي الأعراق واللغات تم اعتقالهم في معسكر أوشفيتز والذي في وسطه ذلك البرج الكيميائي.

بالمناسبة تعرض معسكر أوشيفتز الثالث (المعسكر الكيميائي) لقصف مكثف ومدمر من قبل طائرات دول الحلفاء بهدف تخريبه وتعطيله عن خدمة الجيش النازي ولهذا بعد مرور ذكر نصف قرن على تحرير معسكر أوشفيتز طرحت الفكرة لافتتاح معرض خاص يوثق لمعسكر مصنع المطاط الصناعي الذي عمل فيه الكيميائي بريمو ليفي كمحلل كيميائي (نفس تخصصي العلمي الدقيق) في مختبرات مصنع المطاط.

 وبحكم أن الشركة الكيميائية العملاقة IG Farben المسؤولة قديما عن معسكر أوشفيتز الثالث هي في الأصل ناتجه من اتحاد سته من أكبر الشركات الكيميائية الألمانية بالغت الشهرة مثل شركة BASF وشركة AGFA وشركة الأدوية Bayer ، وعليه قامت هذه الشركات الكيميائية الألمانية قبل عدة سنوات بتمويل انشاء معرض خاص عن الجانب الكيميائي لمعسكر أوشفيتز الثالث كنوع من التكفير فيما يبدو عن تاريخها القديم في دعم النظام النازي. وفي الختام أود أن أذكر القارئ الكريم أنه كما أن شركة BASF الألمانية هي أكبر شركة موردة للمواد الكيميائية في العالم وهي مشاركة بشكل أو آخر في أثم وجريمة قتل مئات الآلاف في معسكر أوشفيتز فكذلك شركة Bayer الألمانية هي واحدة من أكبر شركات الأدوية العالمية وهي الشكرة المالكة لدواء الأسبرين الواسع الانتشار وهي باندراجها تحت شركة IG Farben فقد يكون ساهم قديما علمائها ومدراءها القدامى بشكل أو آخر في جريمة الحرب تلك.

في الحقيقة أثناء إجراء بحث الدكتوراه في مجال الكيمياء في بريطانيا كنت أجري تجارب علمية قائمة بشكل أساسي على استخدام أصباغ كيميائية من انتاج شركة BASF ومهداة بهدف البحث العلمي لجامعتي البريطانية وقد وقعت على تعهد مع شركة BASF بأن لا انشر التركيب الكيميائي لتلك الأصباغ التي كنت أعمل عليها. ومع هذا الترابط الكيميائي بيني وبين تلك الشركة الكيميائية وبعد أن سبق لي وأن قراءة كتاب (إذا كان هذا رجلا) لبريمو ليفي وحيث أنني قمت هذه الأيام بزيارة معسكر أوشفيتز الشنيع في دولة بولندا ولذا من هذا كله ظهر الدافع لكتابة مقال (كيميائي في معسكر الإبادة النازي). 

وعليه في حال قام أحد الأخوة الأطباء الكرام بعد أن يصرف لمرضاه دواء الأسبرين أو غيرة من منتجات شركة الأدوية Bayer وبعد أن يكون قرأ كتاب (ذكريات طبيب في أوشفيتز) للمسجون والطبيب الهنغاري اليهودي ميكلوس نيسزلي (الذي سجل شهادته عن اجباره على إجراء التجارب الطبية على الأسرى اليهود) ثم اتيحت لهذا الأخ الطبيب الفرصة للزيارة الفعلية لمعسكر أوشفيتز فربما نطمع أن نحظى منه بمقال يحمل عنوان (طبيب في معسكر الإبادة النازي).

( حول أوروبا في 80 ساعة )

 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 لبعض رجال السياسة في أمريكا الشمالية حساسية مفرطة من قصر التاريخ القومي لشعوبهم مقارنة مع أقرانهم في القارة الأوروبية ولهذا يشتهر عن رئيس الوزراء الكندي ويليام ماكينزي قوله (إذا كان لبعض الدول وفرة في التاريخ فنحن لدينا وفرة في الجغرافيا). صحيح أن مساحة كندا والولايات المتحدة هائلة جدا بالمقارنة بمساحة الدول الأوروبية ومع ذلك أنا شخصيا أعتبر أنه من ناحية سياحية يعتبر صغر وقرب الدول الأوروبية من بعضها البعض، مكسب هام وثراء في الجغرافيا والتاريخ معا. في الواقع سرعة وسهولة التنقل بين الدول الأوروبية مفتوحة الحدود يمكن استشفافه من مصدر أدبي فريد هو رواية (حول العالم في 80 يوما) للأديب الفرنسي المبدع جول فيرن وبالرغم من أن عنوان الرواية يشي بأن السفر حول العالم في الغالب يمر عبر عدد كبير من الدول ولذا يحتاج فترة زمنية طويلة.

ولكن حسب أحداث تلك الرواية الأدبية والسياحية الشيقة فإن رحلة السفر حول العالم تمت من خلال 11 دولة فقط (و 23 مدينة). وما يهمنا هنا أن عدد الدول الأوروبية من مجمل تلك الدول كان أربع دول أوروبية وزمن تنقل بينها كان في حدود أربعة أيام (يعنى في حدود 80 ساعة). ويمكن أن يكون ذلك مؤشرا في القديم (أحداث الرواية حصلت خلال عام 1872م) وفي الحديث بأن قارة أوروبا كانت وما زالت أسرع قارة يمكن التنقل بين دولها (ثلث دول رواية حول العالم في 80 يوم تمت زيارتها خلال أربعة أيام فقط بينما بقية الدول السبعة الأخرى حصل السفر عبرها في مدة شهرين ونصف).

من الناحية السياحية وجود دول صغيرة متعددة ومتقاربة جغرافيا ومتباينة من ناحية الثراء التاريخي والحضاري مع ما يضاف لذلك من التنوع في التضاريس والمناظر الطبيعية والتباين في أجواء المناخ، كل ذلك مغر سياحيا ومكسب حقيقي للرحالة وعشاق السفر. خذ على ذلك مثال التمتع بمشاهدة المناظر الطبيعية أليس من الجميل أن تسافر من خلال رحلة نهرية وتزور عددا كبيرا من الدول بينما في أغلب دول العالم السفر عبر الأنهار قد يكون عبر تضاريس دولة واحدة فقط أو دولتين.

بينما في الحالة الأوروبية نجد أن نهر الدانوب وبكل جدارة يستحق لقب (نهر العواصم) فهو يمر عبر أربع عواصم دول أوروبية هي النمسا وسلوفاكيا والمجر وصربيا (يمر عبر مدن: فيينا وبراتيسلافيا وبودابيست وبلغراد) بل إن هذا النهر الفريد يمر أو يحاذي عشر دول أوروبية .صغر مساحة القارة الأوروبية وتقارب دولها يعطي تشكيل جغرافي فسيفسائي لقطع موزاييك متنوعة من الشعوب والدول التي يسهل الانتقال بينها في سويعات بالطائرة حاليا أو خلال أيام برحلة نهرية عبر الدانوب ملك أنهار أوروبا أو بدلا من ذلك يمكن السفر بالقطار عبر المسار الشهير لقطار الشرق السريع.

لعشاق الأدب لا شك أنهم قد استمتعوا بقراءة رواية (جريمة في قطار الشرق السريع) لملكة الجريمة الإنجليزية أجاثا كريستي، بينما لعشاق السفر والرحلات لا شك أنهم سوف يستمتعون بالسفر عبر محطات سكة القطار التاريخية وبالغة الأهمية المسماة: قطار الشرق السريع (Orient Express) والتي يمكن ان نسميها على نسق نهر الدانوب (سكة قطار العواصم). ما بين الفترة الزمنية من 1883 ميلادي (سنة تدشين رحلات قطار الشرق السريع) وحتى عام 2009م كان بالإمكان التنقل عبر سكة القطار التاريخية هذه عبر العديد من العواصم والمدن الأوروبية بداية من مدينة باريس ونهاية بمدينة إسطنبول ومرورا بمدن عريقة مثل ستراسبوغ وميونخ وفيينا وبودابيست وبوخاريست. ومرة أخرى الرحلة بالقطار عبر سهول القارة الأوروبية مثلا من أقصى الغرب في لندن إلى أقصى الشرق في بوخاريست يمكن أن تتم في حدود أربعة أيام وهذا يعني أنه مرة ثانية يمكن السفر (حول أوروبا في 80 ساعة).من جانب آخر ولعشاق رحلات الكروز البحرية sea cruises فبالتأكيد لا يوجد موقع يمكن أن ينافس شواطئ البحر الأبيض المتوسط والتي يمكن أن تتيح لك الفرصة لزيارة أكبر عدد من الدول في نفس الرحلة البحرية. على سبيل المثال يمكن خلال أربعة أيام (80 ساعة) التنقل بالرحلات البحرية عبر عباب أمواج شرق البحر الأبيض المتوسط بين المدن الساحلية في جنوب إيطاليا واليونان وجزيرة قبرص وكريت وسواحل شرق تركيا.

 إعادة إحياء الجولة الكبرى عبر أوروبا

مما سبق ذكره يتبين لنا ميزة اختيار القارة الأوروبية بهدف السياحة والترحال وخصوصا في زمن اتفاقية (تأشيرة الشنجن) التي تتيح الدخول من دون الحاجة للمرور عبر منافذ الجوازات البرية بين حوالي 26 دولة أوربية وهذا من شأنه تسهيل الانتقال لعدد كبير من الدول والمدن في رحلة سياحية واحدة وهذه ميزة فريدة لا توجد بهذا المستوى في أي موقع جغرافي آخر. وعليه يمكن خلال أربعة أيام أو 80 ساعة التنقل (باستخدام السيارة أو القطار أو الباخرة) بين عدد ل بأس به من هذه الدول المتنوعة في تضاريسها ومناخها وثقافاتها وتاريخها وطبائع شعوبها.

من الناحية الجسدية والنفسية قد يكون التنقل السريع بين عدد كبير من الدول والمدن مرهق ويتعارض مع مبدأ (سياحة الاسترخاء) القائمة على ركيزتين أساسيتين وهما: طول الإقامة في موقع واحد وتجنب المدن الصاخبة والهروب إلى المنتجعات الطبيعية الجبلية أو الجزر المنعزلة.ومع ذلك يبقى لثقافة (سياحة الاستكشاف) وهجها وجاذبيتها الثقافية والمعرفية المحفزة والدافعة لتحمل مشاق ووعثاء السفر والانتقال المتكرر والسريع في سبيل الظفر بمشاهدة والتعرف على أكبر عدد من المعالم السياحية والتاريخية والطبيعية في أقصر وقت ممكن. وبالمعذرة من القارئ الكريم ربما احتاج أن أرجع إلى التاريخ القديم فيما يتعلق بالسفر عبر دول القارة الأوروبية وأن هذا الترحال كان من أهم وسائل التعليم والتثقيف في القرون الماضية. كلنا يعلم دور البعثات العلمية إلى أوروبا في عصر محمد علي باشا والي مصر وما تلى ذلك مما يسمى بزمن النهضة العربية وتأثير ذلك على رواد الفكر العربي مثل رفاعة الطهطاوي وطه حسين وعلي مبارك وأحمد زكي باشا وغيرهم كثير. ومع ذلك ينبغي التنبيه أن (البعثات العلمية) كان تتم في أوروبا قبل ذلك بقرون فيما يسمى (الجولة الكبرى Grand Tour) والتي كان من خلالها يتم تعليم أبناء الطبقة الثرية في المجتمعات الغربية من خلال سفرهم وتنقلهم عبر المدن الأوروبية.

وهذا ما كان يحصل في أوروبا حتى القرن التاسع عشر حيث كان يتم ارسال صغار الشباب من الأسر الأرستقراطية من بريطانيا وألمانيا وحتى أمريكا وكندا ليتعلموا بطريقة غير مباشرة من خلال تجولهم بين مكتبات ومتاحف وآثار المدن الأوروبية وخصوصا في إيطاليا وفرنسا. وبحكم أن هذه البعثات التعليمية التي كانت تتم في هيئة رحلات سياحية كانت تركز أكثر على تعريف الشباب بالإرث الثقافي اليوناني وكذلك أرث عصر النهضة وأرث بدايات الثورة العلمية. لهذا لا غرابة أن نعلم أن مشاهير الأدباء والفلاسفة والعلماء الغربيين قاموا في بواكير شبابهم برحلة (الجولة الكبرى) من مثل الفيلسوف الفرنسي ديكارت والشاعر الإنجليزي اللورد بايرون والكيميائي البريطاني هنري كافنديش والقائمة تطول.

وبعد هذه التحويلة (detour) في مساق المقال بالحديث عن ظاهرة الجولة (tour) الكبرى في التاريخ الأوروبية وأثرها في الثقافة الغربية من حيث دمج التعليم مع السياحة والسفر نعود في نهاية المقال للتأكيد على أن صغر مساحة بعض الدول الأوروبية وقربها من بعضها البعض تعتبر في نظر عالم الرحلات والسياحة غنيمة باردة. أود أن أنبه كذلك بأن ما يعرف في مجال الجغرافيا بالنقطة الحدودية الثلاثية (tri-border area) وهي الموقع الجغرافي الذي يمثل نقطة التقاء حدود ثلاث دول مختلفة هي كذلك من المناطق التي تسهل المرور على أكبر عدد من الدول في نفس الرحلة السياحية. والجدير بالذكر أنه بالرغم من أن عدد الدول الأوروبية قليل نسبيا مقارنة بالقارات الأخرى حيث إن عدد البلدان الأوروبية 47 دولة إلا أن عدد النقاط الثلاثية الحدود في تلك القارة يصل إلى حوالي 51 نقطة وهذا من شأنه أن يعزز سهولة الانتقال من دولة إلى دولة خصوصا في حال عدم وجود نقاط الجوازات والجمارك بين حدود دول اتفاقية الشينغن.

قبل أيام وكجزء من رحلتنا السياحية إلى دول أوروبا الشرقية توقفت أنا ورفقاء السفر الأعزاء الأستاذ فهد القحطاني والدكتور عبدالكريم الخليفي في نقطة الحدود الثلاثية بين هنغاريا وسلوفاكيا والنمسا الفريدة في موقعها وتصميمها بحيث جلسنا جميعا على طاولة واحدة مثلثة الشكل كان في الواقع كل واحد منا يجلس على كرسي في دولية مستقلة. هذا التقارب المذهل بين الدول في أوروبا الشرقية أتاح لنا في فترة زمنية تزيد قليلا عن الأسبوعين ليس فقط الزيارة السياحية الكافية لتلك الدول الثلاث على تلك الطاولة العجيبة، ولكن أيضا زيارة ثلاث دول إضافية هي التشيك وبولندا ثم الانتقال بالطائرة إلى العاصمة الرومانية مدينة بوخاريست.

وسياق هذا الحديث يفتح المجال للتسويق والإرشاد للرحلات الأوروبية (متعددة الجنسيات) فمثلا مع نفس المجموعة الكريمة من رفقاء السفر تجولنا قبل عدة سنوات في دول غرب أوروبا فبعد جولة في المدن الفرنسية توجهنا شمالا إلى بلجيكا وهولندا. وعلى نفس النسق وخلال فترة زمنية معقولة (ليس شرطا أن تكون أربعة أيام أو 80 ساعة كما هو عنوان المقال) يمكن التخطيط الذكي للسفر المتنوع بين العديد من دول وسط أوروبا. وأنا شخصيا أقترح التالي: يمكن التنقل السلس والشيق بين مدن جنوب ألمانيا (مثلا ميونخ وشتوتغارت). ثم النزول من جهة الغرب إلى المدن السويسرية مثل بازل وزيورخ وبعد تخطي جبال الألب الخلابة يمكن زيارة مدن الشمال الإيطالي وخصوصا ميلانو والبندقية وأخيرا يمكن إكمال هذه الرحلة الدائرية المذهلة في قلب أوروبا بالاتجاه شمالا والتمتع بسحر المنتجعات النمساوية الساحرة في مدن سالزبورغ وأنسبروك.

حقا لقد كانت قبل قرون رحلات (الجولة الكبرى Grand Tour) عبر الدول الأوروبية مصدرا زاخر للتعليم والثقافة والتحضر واليوم تستمر المسيرة فما زالت المخططات المختلفة للجولة الكبرى في شرق أو وسط أو غرب أوروبا مصدر مميز لسياحة الاستكشاف الثرية بالمعرفة والتاريخ مع شيء من الاسترخاء والاستجمام.

( خيانة المجتمع العلمي .. مؤامرة الاحتباس الحراري نموذجا !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 الروائي الأمريكي المعاصر مايكل كرايتون أكتسب شهرته وثروته المالية الوافرة من بيع حوالي 200 مليون كتاب كلها روايات أدبية ذات طابع علمي وأهمها رواية (الحديقة الجوراسية) التي تحولت إلى فلم سينمائي شهير عن عالم الديناصورات. إحدى آخر الروايات التي نشرها مايكل كرايتون قبل وفاته تلك التي حملت عنوان (حالة الخوف) ويدور محور أحداثها عن تعاون مجموعة من العلماء من جامعة MIT الأمريكية العريقة، في إثارة الذعر في العالم من مخاطر (ظاهرة الاحتباس الحراري) وذلك من خلال تعمدهم حصول كوارث طبيعية (مصطنعة) مثل إحداث موجة تسونامي تقتل عشرات الآلاف من البشر. ملحوظة بسيطة تلك الرواية عنوانها باللغة الإنجليزية (State of Fear) وبالرغم من صحة ترجمة العنوان للعربية إلى (حالة الخوف) ولكن كذلك يمكن ترجمته إلى (دولة الخوف) وهذا المعنى قد يلخص ويبلور الهدف من تلك (المؤامرة) والتي من خلال بث الذعر وخلق حالة من الفوضى يمكن لمجموعة من الأشخاص أو المنظمات القفز على السلطة والسيطرة على الدول والشعوب.

طبعا لا يخفى أن (الحبكة) الدرامية لهذه الرواية ضعيفة كما إن (الخلفية والركيزة) العلمية لرواية (الخيال) العلمي هذه مضحكة وسخيفة فيكيف يستطيع عدد محدود من علماء المناخ إحداث تسونامي بحري هائل يغرق أجزاء من ولاية كاليفورنيا وكذلك كيف يمكن لذلك العدد القليل من العلماء أن يستطيعوا خداع بقية المجتمع العلمي المشارك في مؤتمر المناخ المذكور في الرواية.

على كل حال في أي طرح يدور حول (نظرية المؤامرة) ينبغي ألا يغيب عن البال دائما أن ركائز أي مؤامرة هي ثلاثة أشياء: نحن وهم ومخطط المؤامرة الخبيثة. فمثلا في أثناء انتشار وباء فيروس الكورونا ظهرت نظرية المؤامرة السخيفة المسماة (المليار الذهبي) والتي تدور بأن (نحن we) أي عدد السبعة مليار نسمة من البشر يجب أن يتم تصفية وإهلاك ستة مليار مننا وذلك لكي ينعم (هم them) أي قادة حكومة العالم الخفية بالرخاء من دون مزاحمة الرعاء من البشر. أما مخطط المؤامرة الخبيثة تلك للمليار الذهبي فلن يتم إلا من خلال النشر الواسع جدا للأمراض والأوبئة القاتلة وهذا قطعا لن يحدث بكفاءة عالية إلا بضمان خيانة مجموع الأطباء والقطاع الصحي ومنظمة الصحة العالمية ومشاركتهم جميعا في ذلك الهدف الشرير من خلال عدم مقاومتهم لانتشار تلك الأوبئة الفتاكة.

سبق في مقال نشر في زمن وباء كورونا وحمل عنوان (طوبى للأطباء) أن أثنيت على جهود الأطباء والقطاعي الصحي (الجيش الأبيض) في حماية شعوب العالم في حربها الضروس والمتواصلة ضد الأوبئة حتى وإن كان أولئك الأطباء هم أول الضحايا وخط الدفاع الأول للإنسانية. وفي السنوات الأخيرة ومع تنامي ظاهرة الاحتباس الحراري وزيادة (حرارة) النقاش والجدال حول هل هذه الظاهرة المناخية موجودة بالفعل أم هي مجرد (مؤامرة علمية) تعالت الأصوات من البعض في اتهام علماء المناخ بأنهم مشاركون في تمرير تلك المؤامرة ولهذا وجب من جانبي الذّب والمنافحة عنهم كما سبق الاحتفاء والاحتفال بالأطباء.

في الواقع من يقتنع بوجود مؤامرة الاحتباس الحراري يجب عليه أن يحدد ما هو الطرف الذي وصفناه بـ (هم them) ففي مؤامرة الاحتباس الحراري لا يكفي أن ينخرط علماء المناخ في هذه المؤامرة الكبرى، بل يجب حتى يحكم نسج تلك المؤامرة وألا تفضح أو تعارض يشترط أن ينضوي (المجتمع العلمي) الدولي في خطيئة حبك خيوط تلك المؤامرة. بشكل مباشر وصريح أي شخص يقتنع بحقيقة وجود ما يسمى (نظرية مؤامرة) الاحتباس الحراري فهذا يعني أن يقبل الاتهام الموجه لشريحة واسعة من علماء المناخ في عدد كبير من البلدان والمنظمات الدولية بأنهم يشاركون بشكل أو آخر في (التزييف) والتلاعب في النتائج والقياسات العلمية للطقس بهدف إثارة الرعب (نفس فكرة رواية: حالة الخوف) في المجتمعات والشعوب والحكومات الدولية. علما بأن الهدف من هذه المؤامرة العلمية الخبيثة حسب اعتقاد أصحاب نظرية المؤامرة ومن شايعهم ولف لفهم هو هدف مالي اقتصادي (لابتزاز الدول بحجة تقليل التلوث) أو لأسباب فكرية وأيدلوجية مثل التطرف في مفهوم المحافظة على البيئة وحماية الحياة الفطرية.

الجدير بالذكر أن قبول اتهام الجمع الغفير من العلماء بالمشاركة في مؤامرة الاحتباس الحراري هذا يعني ليس فقط التشكيك في أمانتهم العلمية ونزاهتهم المهنية بل يصل الأمر إلى قبول اتهامهم بالانزلاق في سلوك إجرامي إذا كان الدافع لهم للمشاركة في تلك المؤامرة لأسباب مالية كما ذكرنا.

 العلم يصحح نفسه بنفسة فلا مكان للخونة

من الأقوال الحكيمة لفضيلة الشيخ الألباني رحمة الله (طالب الحق يكفيه دليل واحد، وصاحب الهوى لا يكفيه ألف دليل) وعليه لن أدخل في جدال عن مدى صحة نظرية الاحتباس الحراري والتغير المناخي بالرغم من أن جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1995 كانت عن علاقة المركبات الكيميائية بالتغيرات في تركيب جو الأرض. وكذلك جائزة نوبل في الفيزياء في عام 2012 منحت عن الأبحاث المتعلقة بدراسة التغير المناخي، بل أن جائزة نوبل في السلام لعام 2007 كانت من نصيب اللجنة الدولية للتغيرات المناخية. ومع أن هذه الأمثلة للجوائز العلمية المرموقة تشير إلى أن نظرية التغير المناخي في الغالب صحيحة إلا أنني سوف أركز أكثر على قضية (المجتمع العلمي) وكيف يحصل توافق عام فيه على قبول نظرية ما ومن هذا الإجماع تحصل الحالة التي يقال عنها : استحالة اتفاق جمع غفير من العلماء وتواطؤهم على الكذب.

الإشارة السريعة في الأعلى لبعض جوائز نوبل (في الكيمياء والفيزياء) المرتبطة بشكل أو آخر بنظرية التغير المناخي ترشدنا إلى تنوع فروع ومجالات العلم التي تساهم في أبحاث الاحتباس الحراري وأن العلماء الذين يقومون بتلك الدراسات ليسوا فقط من المتخصصين في علم المناخ، بل القائمة تشمل في أدنى حد لها علماء الكيمياء والفيزياء والأحياء وعلماء المحيطات وهندسة الأقمار الصناعية والاستشعار عن بعد بل وحتى مجال الجغرافيا المناخية وتطبيقات الكمبيوتر في نمذجة الطقس. والمقصود أن هذا الجمع الغفير من العلماء الذي تزيد أعدادهم حرفيا عن عشرات الألوف هم الذين نطلق عليهم (المجتمع العلمي) والذي بالإذن من فرع مصطلح الحديث في العلوم الشرعية نقول إن ما يعلنه هؤلاء العلماء يعتبر (خبر متواتر) وإجماع علمي لأنه يستحيل تواطؤهم كلهم على الكذب المتعمد.

 من أبرز سمات العلم science أنه تراكمي بطبيعته حيث يبني على ما سبق أن توصل إليه العلماء وكذلك من أسرار استمرارية نجاح العلم science أن من أهم خصائصه مبدأ أن (العلم يصحح نفسه بنفسه science is self-correcting). وهذا يقودنا إلى أن أغلب الأفكار العلمية الكبرى يتم في البداية غربلتها وتعريضها للفحص والنقد بل وحتى السخرية والاستنقاص. ومن الطرائف أن الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور بالرغم من تشاؤمه الدائم إلا أنه كان حكيما في ملاحظته ذات النهاية السعيدة عندما قال: (كل الحقائق تتعرض للتالي: فأولا يتم السخرية منها وثانيا يتم معارضتها بعنف ثم ثالثا يتم قبولها على أنها واضحة بذاتها ولا تحتاج إثبات). وهذا تقريبا ما حصل مع النظريات العلمية القريبة من مجال علم التغير المناخي فمثلا نظرية (العصور الجليدية) ونظرية (ثقب الأوزون) مرت في البداية بمراحل من التشكيك والنقد العنيف إلى أن وصلت إلى مرحلة التسليم التام بصحتها.

مما سبق ليس من المستغرب ظهور بعض الأصوات والمواقف من لفيف من العلماء ينتقدون فيها نظرية التغير المناخي والاحتباس الحراري وهذا يعني أنهم ما زالوا بعد في المراحل الأولى من قانون شوبنهاور السالف الذكر. بالمناسبة ربما يذهل البعض عندما يعرف المراحل المتعددة والمتكررة التي يتم فيها فحص وتدقيق النظريات العلمية والفرضيات البحثية حيث يجب أن تُقيّم وتُحكّم من قبل خبراء قبل أن يسمح بنشرها في المجلات العلمية المُحكّمة. ثم بعد ذلك الأفكار العلمية الثورية يجب في الغالب أن يتم مناقشتها بشكل مباشر في اجتماعات المؤتمرات العلمية ولقاءات الندوات المتخصصة وبعد ذلك يحصل أن تلك الأفكار العلمية الإبداعية تُقيّم بشكل نهائي عن مدى جدارتها في الحصول على جائزة علمية مرموقة. وبهذه الخطوات والمراحل وعمليات التدقيق المتتالية نعلم بحق أن العلم بالفعل هو في حالة حركة وفعل ونشاط (science in action). بينما في المقابل بعض القلة من العلماء بقبولهم الأفكار السخيفة عن العلم حولوه من العلم المتحرك والنشط (science in action) إلى العلم الخيالي الضحل (science fiction).

وكما قد يتقبل بعض الأطباء فكرة مؤامرة المليار الذهبي نجد أنه حتى ألمع العلماء يمكن أن يتحدث بالسخيف من القول كما حصل قبل أيام مع عالم الفيزياء الأمريكي جون كلوزر الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء العام الماضي. عندما يصرح عالم الفيزياء جون كلوزر ويقول (في رأيي لا توجد أزمة مناخ حقيقية) فهذا أمر لا اعتراض عليه حيث إن فرضية التغير المناخي ما زالت (نظرية) وهي لم تحسم بشكل كامل ولا مشاحة في الانتقاد والاعتراض. أما عندما يتهور ذلك العالم (أي جون كلوزر) ويهرف بالقول بأن أزمة المناخ (هي خدعة hoax من قبل النخب العالمية لإخلاء depopulate الكوكب) فهنا تبلغ الحماقة أقصى حد لها فما هو المقصود من إخلاء كوكب الأرض من سكانه هل هذا يعني أن (مؤامرة) الاحتباس الحراري سوف تقود إلى (مؤامرة) المليار الذهبي. اتهام جون كلوزر (النخب العالمية) يعني بالضرورة أن النخب (العلمية والبحثية) وكذلك المجتمع العلمي مشارك بهذه المؤامرة وهو أمر يخالف الحقيقة شكلا ومضمونا كما سبق أن بيناه.

وبمختصر العبارة نقد نظرية الاحتباس الحراري مسموح وحق مشاع أما التساهل في قبول نظرية (مؤامرة الاحتباس الحراري) فهو بكل بساطة يعني أن الشخص المتقبل لتلك الفكرة لا يفهم طبيعة العلم ودور المجتمع العلمي ليس فقط في تقدم العلوم بل ضمان عدم شططها وانحرافها.

 

( الشعر ودراما الحيوانات في الصيف !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في كتب الأدب أو في الحديث الدارج أحيانا يوصف لهيب حر الصيف بأنه جمرة القيظ والبعض يصفه بأنه (حَمَارّة القيظ) كما ورد ذلك في المقولة الشهيرة للإمام علي رضي الله عنه في كتاب نهج البلاغة (فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ .. وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر).

وبالرغم من أن (حمّارة القيظ) التوصيف هنا مأخوذ من أن (حَمرة) كل شيء أشده إلا أن الطريف في الأمر أن البعض يربط بشكل خاطئ بين (حَمَارّة القيظ) مع المورث الشعبي المرتبط بخرافة (حمارة القايلة). فكنوع من التحذير الأسري للأطفال من الخروج للعب في شدة لهيب الشمس وهي في كبد السماء يحذر الأهل الأبناء من أن تختطفهم (حمارة القايلة) التي لا تخرج إلا في شدة القيظ.

حمار القايلة أو حمارة القايلة في الأساطير الشعبية المعاصرة لها نوع ارتباط بنوع آخر من الحيوانات والأساطير العربية القديمة ونقصد بذلك (حمار الوحش) الذي أُتخمت دواوين الشعر العربي القديم بوصفه وذكر أخبار صيده. من الأساطير العربية التراثية أنه كان في أرض اليمن نارا عظيمة تسمى نار ضروان وكان لها سدنة يقومون عليها وإذا حصل خلاف بين قبيلتين أو بين شخصين يأتون إلى هذه النار وعندها يقوم سادن النار بوضع الكبريت والملح فيها فيزداد لهيبها وشدة حرارتها.  وهنا يطلب من المتخاصمين كل على حدة أن يحلف أمام تلك النار شديدة الحرارة ولذا يزعمون أن الشخص البريء لا يصيبه ضرر نار ضروان بينما الشخص الآخر إذا كان ظالما فإنه يبتعد ويصد ولا يحلف أمام هذه النار المهولة.

ومن هنا أخذ هذه الأسطورة العربية القديمة الشاعر الجاهلي أوس بن حجر ووصف في قصيدة بديعة مشاهد الصراع في رحلة الصيد ولكن بدلا من أن تقتنص وتلتهم حمارة القايلة الأطفال نجد أن الفارس العربي هم من يقتنص ويلتهم صيد الحمار الوحشي. وما يهمنا من تلك القصيدة الطويلة هو وصف الشاعر لحمار الوحش وشدة معاناته من حر الشمس وجمرة القيظ ولهب الظهيرة فهذا الحيوان إذا وقف أمام الشمس الحارقة صد بوجهه عنها وكأنه رجل وقف لكي يحلف أمام النار المهولة المتأججة أي نار ضروان في اليمن:

إذا استقبلته الشمس صدّ بوجهه           كما صدّ عن نار المُهوّلِ حالفُ

 تخويف الأطفال من اللعب المنفرد وقت الظهيرة وشدة القيظ أمر منطقي بسبب أن أغلب الناس لا يخرجون إلى الرمضاء ويقيلون وينامون في منازلهم ويهجرون الخروج للطرقات وبالتالي لا يوجد شخص ينقذ الطفل حال تعرضه للأذى أو الاعتداء. ولهذا وقت (القايلة) يسمى كذلك وقت (الهاجرة) أو الهجيرة وقال الفيروز آبادي في كتاب القاموس بأن الهاجرة هي نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر لأن الناس يستكنون في بيوتهم كأنه قد تهاجروا.  والمقصود أن في وقت الظهيرة يكون الحر على أشده وهذه الفترة قد يتأذى منها الحيوان كما يتأذى الإنسان، ولكن البشر يلوذون بالجلوس في منازلهم أما (دراما) معاناة الغزلان والظباء من قيظ الرمضاء فيصفها الشاعر والزاهد الأموي مسكين الدارمي بقوله:

وهاجرةٌ ظلت كأنّ ظباءَها          إذا ما اتقتها بالقرونِ سجودُ

تلوذ لشؤبوبٍ من الشمس فوقها    كما لاذ من حر السنانِ طَريدُ

 والمعنى أن شاعرنا الكبير يقول لممدوحه الخليفة الأموي إنه في سبيل تحصيل بعض الخير لمن يعول فهو قد سافر إليه في وقت الظهيرة وزمن الهجير والهاجرة الذي من شدة حر القيظ فيه كانت الظباء لا تجد ما تحمي نفسها من وهج الشمس إلا أن تتقي بما لا يكاد أن يغني شيئا. لقد وصف مسكين الدارمي كيف أن مساكين الظباء والغزلان تسجد وتطأطئ لكي يصب أبدانها بعض الظل الذي تشكله قرونها على جسده وهذا أقصى ما يمكن أن تفعله هذه الظباء لكي تلوذ من حر الشمس.

وإذا كان القارئ الكريم قد استوعب حالة اليأس والضعف التي تجده الحيوانات وقت القيظ وأنها لا تجد ما تقي وتحمي نفسها منه إلا أقل القليل من الظل فربما من الملائم التذكير بمعاناة البشر والحيوان من قيظ الظهير وحر الهاجرة والذي وصفه الشاعر الأموي ذو الرمة بوصف قريب من وصف معاصره مسكين الدارمي:

وهاجرةٌ حرّها واقدٌ            نصبت لحاجبها حجابي

تلوذ من الشمس أطلاؤها     لياذ الغريم من الطالبِ

 في كتاب المنجد في اللغة مذكور أن معنى (حواجب الشمس) أشعتها وبهذا نجد أن ذا الرمة يقول إن من شدة حر وهج الشمس وقت الهاجرة والظهيرة فإنه لم يجد ما يحجب عن جسمه أشعة الشمس إلا أن يتظلل بحواجبه. والمعنى أنه كما لن ينفع ظل قرون الظباء من الوقاية من حر الشمس فكذلك لن تنفع حواجب ذي الرمة من لهيب الرمضاء. وبسبب جمرة القيظ وحرارة الشمس يذكر ذو الرمة أن الغزلان والظباء والمطالي (كلمة أطلاؤها في بيت الشعر) تلوذ وتحتمي من الشمس كما يحتمي ويختفي المدين من الدائن.

 وصف الشعراء لمعاناة زواحف الصحراء

الوقوف الطويل في عز الهاجرة وقيظ الظهيرة أمام الأبواب أمر شائع الاستخدام في الشعر العربي القديم كوسيلة لبيان الخضوع للمخاطب بالقصيدة من ذي جمال محبوب أو ذي مال مرغوب. ومن الطرائف أن العدوى بتقليد الشعراء في أساليب (الخيال الشعري) التي يؤلفون بها قصائدهم الشعرية يمكن أن تنتقل من المادح (الشاعر) إلى الممدوح (الخليفة أو السلطان). تذكر كتب الأدب أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور انصرف في إحدى السنوات من الحج وعندما كان مع حاشيته في الطريق إلى العراق أصابهم يوم شديد الحر وقد قابلته الشمس فقال أبو جعفر المنصور لمن حوله من الشعراء: إني أقول بيتاً من الشعر فمن أجازه (أي جاء ببيت شعر مكمل له) فله جبتي، وعند ذلك انشد الخليفة البيت المشهور التالي:

وهاجرةٌ وقفت بها قلوصي      يُقطّع حرُّها ظَهرَ العِظايه

 ولا يهمنا هنا من استطاع بسرعة بديهة من الشعراء أن يجيز بيت شعر الخليفة وهل نال الجائزة على ذلك الشاعر بشار بن برد أم أبا العتاهية ولكن ما له سياق بموضوع المقال هو التنبيه على عجز بيت الشعر الجعفري: بأن شدة الحر زمن الهاجرة كان من أثر سموم القيظ أن تسببت في تقطيع جلد ظهر حيوان العظاءة وهو نوع من السحالي.

في زمن العلم الحديث يقال لنا إن حيوانات الزواحف متكيفة مع البيئة الصحراوية القاسية وإذا بنا مع (الخيال الشعري) لأدباء العصر الذهبي للشعر العربي نجدهم يبالغون في ذكر معاناة الحيوانات مع هجير الصيف لدرجة أن الجلد القاسي للسحلية يتشقق ويتقطع. بينما نجد أن الشاعر الأموي الطرماح يطلق الوصف المتردد كثيرا في كتب الأدب في بيان شدة حرارة نار وأوار الظهيرة وأنه (يذيب دماغ الضب) ولهذا يقول في بيته الشعري:

يلاوذن من حرّ يكاد أواره       يذيب دماغ الضب وهو خدوع

 ومن معاناة السحالي والضُبان مع هجير الرمضاء ننتقل إلى نوع آخر من الزواحف والحيوانات الصحراوية ومع الأخذ في عين الاعتبار أن فصل الصيف يتوافق من الناحية الفلكية مع ظهور نجم (الشعرى اليمانية). ومن الخيال الشعري عند الشعراء إلى الرصد العلمي لسلوك الحيوانات ومعاناتها مع حر الصيف فهذا الشاعر الجاهلي الشنفرى يرصد في قصيدته المشهورة (لامية العرب) كيف أنه في أيام الحر الشديد وقت ظهور نجم الشعرى تتقلب الأفاعي على الرمضاء وتتململ:

ويومٍ من الشّعرى يذوب لُوابُهُ        أفاعية في رمضائه تتململُ

 قديما كان العرب وغيرهم من الشعوب البائدة يحددون دخول وقت الصيف بظهور نجوم الجوزاء وهي متعددة وأشدها لمعانا نجم الشعرى اليمانية المذكور في شعر الشنفرى. وبدخول موسم الجوزاء يشتد الحر ويكاد من لهيبه أن يوقد النار حتى في صم الحصى وهنا تكمل معاناة ودراما ليس فقط الحيوانات بل وحتى الحشرات. ويصف الشاعر الحكيم أبو مالك الشريف بركات كيف أن صغار الجراد والجنادب (تسمى جخادب) تلوذ وتحتمي من لهيب الحر بأن تختبأ تحت أكتاف وسواعد الإبل وهي رابضة:

بيومٍ من الجوزاء يستوقد الحصى     وتلوذ باعضاد المطايا جخابده

 وهنا نصل من رمضاء تراب الصحراء إلى فيحاء سموم السماء ومن الحيوانات الزاحفة إلى الكائنات الطائرة ومعاناتها هي الأخرى مع فوح ولهيب أشعة الشمس.

وإذا كان الشاعر (الشريف) بركات يقول إن حر الشمس يتسبب حتى في اشتعال الحصى فهذا الشاعر (الشريف) ابن النقيب يصف معاناة الطيور والنسور وأنها لا تطير في زمان الهجير وحر السعير الذي يذيب لهيبه الصخور:

في زمانٍ يشوي الوجوه بحرٍ      ويُذيبُ الجسوم لو كنّ صخرا

لا تطيرُ النسورُ فيه إذا ما          وقفت شمسهُ وقارب ظُهرا

 وفي الختام، أود أن أشير أن من دوافع كتابة هذا المقال بالذات إنني أطلعت على صورة فوتوغرافية تبين مجموعة كبيرة من الجمال تتقي حر الشمس بالاختباء خلف ظل إحدى اللوحات المعدنية على جانب طريق السفر السريع. العديد من شعراء العرب القدامى تفاخروا بأنهم قطعوا الفيافي القاحلة على ظهور الإبل ومشهورة أبيات وصف الناقة في معلقة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد. في حين أن معلقة الأعشى تعطي تفاصيل أكثر عن شدة المخاطرة بالسفر في الرمضاء المقفرة والبراري الموحشة والتي يكثر بها الجن ويشتد فيه حر القيظ ومع أن ناقة الأعشى بالرغم من أنها (طليح) أي مهزولة وذات عياء إلا أنها استطاعت تعبر به تلك الصحاري المهلكة.

والسؤال الآن لماذا أبل وجمال اليوم لا تحتمل القيظ كما في زمن الجاهلية وهل ذلك من تغير ظهر في سلوك الحيوان عبر الزمن أم بسبب زيادة شدة الحر في الوقت الحالي مع موجة الاحتباس الحراري. وإذا كانت الإجابة العلمية ربما غير ممكنة فهل يمكن من الناحية الأدبية أن ينبري أو يتصدى أحد من الشعراء المعاصرين ويصف في أبيات شعرية جديدة معاناة تلك الجمال مع الحر والقيظ كما تصدى الشعراء الرواد القدامى في تصوير معاناة دراما الظباء والجنادب في الاختباء من حر أشعة الشمس !!. هذا الطلب من باب المباسطة مع السادة معاشر الأدباء والشعراء يشفع له كذلك أننا في أشهر الصيف من (عام الشعر العربي 2023). 

 

( الرحلة زمن الحر والقيظ !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

كالعادة ومع اشتداد درجة الحرارة وازدياد لهيب حمارة القيظ في عز الصيف تصلنا جميعا صور التغريدات الطريفة التي تزعم أن ابن بطوطة قال (مررت بأرض في وسط نجد لا تسكنها الجن من شدة الحر). من المفترض أن (مرور) ابن بطوطة على أرض نجد حصل أثناء إحدى رحلاته المتعددة لأداء مناسك الحج ففي أحدها حج مع العراقيين وهنا يمكن أن نلتقي مرة أخرى مع أرض اللهيب التي لا تسكنها الجن فعين تلك المقولة المكذوبة عن ابن بطوطة يتم أحيانا ذكرها بصيغة بديلة هي (مررت على موقع جنوب البصرة يقال له كاظمة لا يسكنها حتى الجن من شدة حرها ولهيبها !!).

في الواقع أن ابن بطوطة وثّق في كتاب رحلاته مروره على أرض نجد في مرتين مختلفتين الأولى أثناء عودته من رحلة الحج الثانية له والتي تمت في عام 727هـ  عن طريق المدينة المنورة فبعد أن غادر محطة للحجاج في شمال شرق المدينة المنورة تسمى وادي العروس قال (ثم رحلنا من وادي العروس ودخلنا أرض نجد وهو بسيط من الأرض على مد البصر فتنسمنا نسيمه الطيب الأرج). أما المرة الثانية التي ذكر فيها ابن بطوطة خبر أرض نجد فهي أثناء ذهابه في رحلة الثالثة للحج نجده بعد أن مر بمنطقة إقليم البحرين والأحساء وقت القيظ ووصفها بالوصف الذي نعرفه اليوم عنها بأنها (هي شديدة الحر كثيرة الرمال وربما غلب الرمل على بعض منازلها). وبالرغم من حر الصيف الذي ذكره ابن بطوطة عن إقليم البحرين إلا أنه يذكر وصفا حسنا عن موقع مدينة الرياض حاليا والمعروفة قديما بأرض حَجر اليمامة فقال (ثم سافرنا منها إلى مدينة اليمامة وتسمى أيضا بحجر، مدينة حسنة خصبة ذات أنهار وأشجار يسكنها طوائف من العرب أكثرهم من بني حنيفة وهي بلدهم قديما، وأميرهم طفيل بن غان ثم سافرت منها صحبة هذا الأمير برسم الحج وذلك في سنة 732 فوصلت إلى مكة شرفها الله تعالى).

والمقصود أنه يحصل كثيرا في كتب أدب الرحلات أن يصف الرحالة أو المغامر البلدة أو المنطقة التي يمر بها بأنها شديدة الحرارة والقيظ أو شديدة البرودة والزمهرير (الحرّ والقرّ). وفي حين كانت كتب الأدب العربي مشحونة بذكر صبا نجد ونسيمها العليل ومع ذلك يجب أن نعترف أن أرض الخزامى يمكن أن يرد ذكرها في كتب أدب الرحلات مرتبطا بلهيب الحر وجمرة القيظ فمن ذلك مثلا أن الرحالة البريطاني تشارلز داوتي يذكر في كتابه (رحلات في الجزيرة العربية) أنه عندما غادر منطقة القصيم ووصل إلى وسط هضبة نجد إلى موقع مدينة عفيف حاليا تعرض هو ومرافقيه من البدو لموجة حر شديدة. فبعد أن وصف داوتي عفيف بأنها مورد ماء لقبائل البادية وبعد أن وصف التضاريس الطبيعية للمكان تكلم عن المناخ فقال (وكانت حرارة الشمس شديدة على رؤوس رعاة الإبل لأن حرارة الشمس التي يمكن للمسافر أن يتحملها وهو يتحرك في الهواء لا تطاق بالنسبة للبدوي في حالة التوقف واشتكى لي أحد الملاحيق من أشعة الشمس التي صار يغلي منها دماغه).

الجدير بالذكر أن سفر داوتي من القصيم مرورا بمدينة عفيف الذي تم في عام 1876م كان بهدف الحج فهو قد أدعى اعتناق الإسلام وزعم أن اسمه خليل ولهذا انضم لقافلة الحج المنطلقة من منطقة القصيم. وعلى كل حال هذا يقودنا إلى أن أفضل المصادر لمعرفة (الأحوال الجوية) لمدن ومناطق الجزيرة العربية في القديم يمكن استخلاصها من كتب رحلات الحج كما لاحظنا مع وصف رحلات حج ابن بطوطة الثانية والثالثة ورحلة الحج المزعومة للإنجليزي تشارلز داوتي.

 محطات طريق الحج بين التاريخ وعلم الطقس

من المشهور اهتمام وحرص علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر بكتب رحلات الحج وفي سبيل تحصيلها والاطلاع عليها قام برحلاته المتعددة بهدف زيارة عشرات المكتبات في العديد من الدول العربية والأوروبية. ونجده في مقدمة كتابه (رحلات حمد الجاسر للبحث عن التراث) يقول: وكنت قد بدأت بدراسة كتب الرحلات المتعلقة بالحج مما استطعت الحصول عليه، فرأيت في تلك الكتب من المعلومات المتعلقة عن تاريخ بلادنا وجغرافيتها ومختلف أحوالها ما لا يوجد في غيرها من المؤلفات. ومن ذلك أن بعض الباحثين اهتم بالذات بدراسة شهادات ومشاهدات الرحالة العرب والأجانب لمحطات قوافل الحج والتي تسمى بدروب الحجيج مثل طريق الحج المصري أو طريق الحج العراقي واليمني وهكذا. وبحكم أننا الآن نحاول رصد (أجواء) الجزيرة العربية من خلال ذكريات ومذكرات الرحالة الذين سافروا زمن الحر والقيظ فسوف نركز أكثر على محطات طريق الحج الشامي الذي يبدو أنه اشتمل على بعض أكثر المناطق الجغرافية سخونة وقيظا في جزيرة العرب قديما وحديثا.

وبالعودة للرحالة الإنجليزي تشارلز داوتي السالف الذكر فقد مر أثناء سفره من الشام إلى أرض الحجاز بمنطقة (حالة عمار) المنفذ الحدودي البري المشهور بيننا وبين مملكة الأردن الشقيقة. طبعا توجد عدة روايات تاريخية عن سبب تسمية هذه البقعة الجغرافية بحالة عمار ومنها ما ذكره داوتي فقال: (مررنا بحالة عمار وهناك خرافة أن عمار كان مقوم للحجاج ذهب لهذه المنطقة في عز القيظ بحثا عن الماء فلم يجد غير أرض تغلي وتدخن من الحرارة ولم يرجع). وبالاتجاه جنوبا في طريق الحج الشامي وبعد أن نتعدى منفذ حالة عمار نصل إلى منطقة تبوك وكما هو معلوم اشتهرت غزوة تبوك في السيرة النبوية بأن جيشها يسمى (بجيش العسرة). وبالرغم من أن ذلك الجيش المسلم كان أكبر تجمعا عسكريا في تاريخ الجزيرة العربية حيث بلغ عدد الصحابة رضوان الله عليهم الذي جاهدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة حوالي ثلاثين ألف مجاهد إلا أن تسميته بجيش العسرة كان بسبب المشقة البالغة التي تكبدوها بسبب قلة المؤونة والسفر في زمن الحر والقيظ ولهذا قال المنافقون أخزاهم الله (لا تنفروا في الحر).

على كل الحال اشتهرت منطقة تبوك ومنذ القدم بشدة حرها وسموم أجوائها وبالعودة إلى رحلة ابن بطوطة وكما استشهدنا بذكرياته عن طقس هضبة نجد في رحلته الثانية والثالثة للحج نجد أن ابن بطوطة في رحلته الأولى للحج التي تمت عام 726هـ وكانت عن طريق الحاج الشامي. ويذكر ابن بطوطة أن قوافل الحجاج تستعد بشكل خاص لما يصفه (بالبرية المخوفة) ولهذا يسجل في رحلته أن حجاج الشام بعد أن يتخطوا تبوك يجدّون السير ليلاً ونهاراً خوفا من هذه البرية وفي وسطها الوادي الأخيضر والذي وصفه بقوله (كأنه وادي جهنم). ثم يذكر ابن بطوطة أنه حصل في هذا الوادي القاحل: أن أصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح السموم التي تهب فانتشفت المياه وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار ومات مشتريها وبائعها. ثم بعد ذلك يذكر ابن بطوطة من محطات درب الحاج الشامي موقعا آخر سماه بوادي العطاس وذكر أنه شديد الحر تهب فيه السموم المهلكة وأنها هبت في بعض السنين على قافلة حجاج فهلك أغلبهم ولم يخلص منهم إلا اليسير.

ومن منازل الحجاج على طريق الحج الشامي ننتقل إلى محطات الحجيج على درب الحج المصري فبعد أن ينحدر الحجاج من السويس يتجهون نحو الجنوب بمحاذاة مدن الساحل حتى يصلوا إلى موقع في درب الحج يسمى (أكرا) جنوب مدينة الوجه في زمننا الحالي. لقد ذكر علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر عن تلك المنطقة بأنها من أشد مناطق تهامة الحجاز حرا في الصيف ولا شك أن له خبرة واسعة بتلك المنطقة بعد أن عمل فيها لعدة سنوات معلم في مدينة ينبع أو قاضيا في مدينة ضبا. وموقع أكرا بعضهم ينطق الاسم ويحرفه إلى (أكره) ويصفون تلك المنطقة المجدبة بأنها لا ترتاح بها النفوس ولا يضحك بها العبوس. وقد ذكر الرحالة المغربي أبو عبدالله الناصري أنه في سنة 1109 هـ في منطقة أكره هبت على الناس ريح السموم من نضيج اليحموم واشتد الحر وتوالى الكرب .. وهلك من الناس كثير ومن الإبل أكثر .. ومات من المغاربة زهاء الستين بالشوب والعطش.

 وفي الختام لعل المقصود من عنوان المقال (الرحلة في زمن الحر والقيظ) قد اتضح الآن للقارئ الكريم وتبين بأن وعثاء السفر لبعض الرحالة في زمن الصيف وفر ذلك لنا نافذة للإطلالة على طبيعة الأجواء الخانقة والقتلة أحينا في ربوع الجزيرة العربية. كما نحب أن نشير إلى أن كتب أدب الرحلات وخصوصا رحلات الحج سجلت بالفعل تعرض الحجيج في منطقة الحجاز في أوقات ومواضع متعددة لموجات شديدة من الحر والقيظ. ومن الأمثلة الإضافية على ذلك حديث الرحالة الأندلسي ابن جبير عن حر مدينة جدة عندما حج في عام 579هـ أو أخبار الرحالة المغربي أبي سالم العياشي عن قيظ المدينة المنورة الذي أهلك عددا من الحجاج في سنة 1072هـجري.

وبالمناسبة ارتبطت المدينة المنورة بالذات بشدة الحر في فصل الصيف ومن هنا ظهرت الطرفة المشهورة عن الوالي العثماني على المدينة المنورة عندما تأفف من شدة الحر فقال له أهل المدينة إن (جمرة) القيظ هذه هي (طباخ التمر) وهنا تزعم القصة أن الوالي التركي أمر بقطع النخيل حتى لا تهب سموم طباخ التمر. في الواقع الوالي التركي معتاد على الأجواء الباردة ولهذا كان لديه حساسية زائدة من الحر وهذا ما حصل مع الرحالة والجراح البريطاني هيرمان بيكنيل الذي تنكر في صورة حاج مسلم وذهب إلى مكة المكرمة في موسم حج عام1279هـ. ولكن عندما غادر رفقاؤه الحجاج إلى المدينة المنورة رفض هيرمان أن يسافر معه بحجة أنه لا يستطيع مقاومة موجة الحر. والجدير بالذكر أن الرحالة والمستكشف البريطاني ريتشارد بيرتون زار المدينة المنورة في موسم حج عام 1269هـ ووصف هو الآخر تأثير شدة حرارة الجو على سوء أخلاق وسلوك الحجاج فيما بينهم.

من هذا وذاك لن نستغرب الآن عندما نعلم أن الأمير شكيب أرسلان عندما أدى مناسك الحج ووثق ذلك في كتابه الماتع (الرحلة الحجازية) وضع فصل كامل حمل عنوان (الحر في الحجاز) وفيه يذكر أنه شاهد علماء من العراق فسألهم عن نسبة حر العراق إلى حر تهامة الحجاز فقالو إن حرّ الحجاز أشد. وبالرغم من أن الأمير شكيب أرسلان قدم بالباخرة إلى ميناء جدة وذلك في موسم حج عام 1348هـ ومع هذا لم يذهب مباشرة بعد الحج إلى المدينة المنورة كعادة أغلب الحجاج. لقد كانت وجهة الأمير شكيب أرسلان بعد الحج أن ارتحل إلى جبال الطائف مبتعدا عن الحر الذي لا يطيقه وربما لا غرابة في ذلك فهو في الأصل كان قادما من مدينة لوزان السويسرية التي عاش بها سنوات طويلة وبذا هو متعود على الأجواء الباردة فقط. قبل ذلك بسنوات قام الأديب والمؤرخ الكبير خيرالدين الزركلي بنفس هذا الفعل حيث توجه لعروس المصايف بعد أن قام بأداء العمرة وكل من شكيب أرسلان والزركلي قام بتقريض ومدح أجواء ومناظر مدينة الطائف بما لا مزيد عليه. وأنا وإذا أكتب هذه الصفحات في هذا الصيف القائظ أحمد المولى عز وجل أنني حاليا أقيم بين الأحباء في مدينة الورد والنسيم الطائف المأنوس وإن كنت لا محالة مرتحلا بعد زمن إلى الموقع الذي زعموا بالكذب أن ابن بطوطة قال فيه ما قال.

 

( مسائل رياضية للاستمتاع بالإجازة الصيفية )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 توقيت موعد اليوم العالمي للرياضيات واضح ومنطقي بأن يتم اختياره في تاريخ اليوم الرابع عشر من شهر مارس من كل سنة لأن هذه الأرقام (3.14) تشكل قيمة ثابت باي Pi (π) ذو الأهمية القصوى في علم الرياضيات. ولكن يجب أن نعترف أن علم الرياضيات للغالبية العظمى من الناس هو تخصص جاف وممل بالإضافة لصعوبته وعدم إدراك البعض بشكل واضح لاستخدامات المعادلات الجبرية وحساب التفاضل والتكامل في حياتنا اليومية. ولهذا تبنى بعض علماء الرياضيات أن يكون (الاحتفال والاحتفاء) بعلم الرياضيات في (أجواء) أكثر بهجة من وقت أواخر الشتاء وتحويل ذلك إلى زمن بداية فصل الصيف لعل ذلك يكون أدعى لضمان تقبل عدد أكبر من الناس لفكرة المشاركة في هذه الفعالية والمناسبة العلمية. ولهذا يتوافق اليوم السبت الثامن من شهر يوليو مع (النسخة الثانية) من يوم الرياضيات (Math 2.0 Day) وكما سبق أن ساهمت قبل عدة سنوات بكتابة مقال للإشادة باليوم العالمي للرياضيات حمل عنوان (قاعدة فيثاغورس في عشق الرياضيات) حاولت فيه أن أحشد أخبار وقصص هيام وغرام كبار العلماء بهذا الفرع المعرفي البارز، ولهذا أجد أنه من الملائم وربما من الواجب كتابة (مقال رقم 2) بمناسبة (اليوم رقم 2) في الاحتفاء بعلم الرياضيات.

وكنوع من توفير جو المرح والتسلية عند مناقشة علم جاف وصارم مثل علم الرياضيات لعل من المناسب أكثر إعطاء نماذج شيقة وخفيفة عن أخبار علماء الرياضيات عبر العصور تدور أغلبها عن حل مسائل رياضية معقدة تم التوصل لحلها في ظروف طريفة وغريبة. وبما إننا ما زلنا في أجواء الحرب الروسية والأوكرانية لعلنا نبدأ بقصة وقعت أحداثها قبل حوالي قرن من الزمن في تلك البقعة الجغرافية الملتهبة دوما. بعد الثورة الروسية البلشفية في نهاية الحرب العالمية الأولى احتل الجيش الروسي الأراضي الأوكرانية ومباشرة ظهرت المقاومة الشعبية الأوكرانية لمحاربة الاحتلال الروسي. في تلك الفترة كان عالم الرياضيات الروسي إيقور تام يدرس علم الرياضيات في جامعة أوديسا الأوكرانية ونظرا لقلة المواد الغذائية بسبب الحرب العالمية ذهب إلى إحدى القرى لشراء المواد الغذائية وهنالك تم اعتقاله بسبب الاشتباه به أنه يتعاون مع الجيش الروسي. وعندما تم أخذ الشاب الروسي إيقور إلى قائد المقاومة الأوكرانية لكي يحقق معه سأله ماذا يعمل وما هي مهنته فرد بأنه يدرس الرياضيات لطلبة الجامعة وأن اعتقاله حصل عن طريق الخطأ. وهنا كان رد قائد المقاومة أن قال إذا كنت كما تدعي بأنك عالم رياضيات فأعطني إجابة السؤال الرياضي التالي وإلا سوف تقتل في الحال. المسألة الرياضية المعقدة المطلوب حلها كانت (أعطني تقديرا للخطأ الذي يرتكبه المرء بقطع متسلسلة ماكلورين عند الحد رقم n). إذا علم أن متسلسلة ماكلورين Maclaurin's series فرع شبه مجهول في علم الرياضيات لأنها حالة خاصة مما يسمى متسلسلة تايلور لذا احتمالية أن يستطيع عالم رياضيات حل تلك المسألة الرياضية الخاصة جدا وفي جو الخوف من الإعدام أمرا نادرا جدا. ولكن الشاب الروسي إيقور فعل ذلك ونجا من القتل ليس فقط ليروي تلك القصة الفريدة، ولكن أيضا ليحصل على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1958 ميلادي.

في الواقع صعوبة وندرة تلك المسألة الرياضية جعلتها أشبه ما تكون بـ (لغز رياضي) محير وهذا يقودنا للقصة الرياضية الطريفة التالية. في كتاب يوناني مُؤلف في القرن الخامس الميلادي ويحتوي على مجموعة من الألغاز والأحاجي من ضمنها واحدة عن عالم الرياضيات الروماني ديوفانتوس الإسكندري. كانت تلك المسألة الرياضية (أو اللغز) عبارة عن نص كتب على شاهد قبر ورد فيه العبارة التالية: هذا قبر ديوفانتوس الذي ظل صبيا لمدة سدس عمره وإذا أضيف لذلك اثني عشر جزء من حياته وصل هذا الفتى لمرحلة البلوغ وظهر له شارب، ثم تزوج بعد الجزء السابع من حياته وبعد ذلك بخمس سنوات وهب له ولدا. ولكن هذا الولد لم تكتب له طول الحياة حيث توفي عندما بلغ نصف عمر أبية ونتيجة لحزن هذا الأب بدأ يسلي نفسه بدراسة الأعداد لكنه مات بعد ذلك بأربع سنوات).

على كل حال وبتوظيف علم الرياضيات يمكن أن نحسب أن عمر صاحبنا ديفانتوس عند وفاته بأنه كان 84 سنة وهذا الرقم حسب كالتالي:

X = 1/6 x + 1/12 x + 1/7 x + 5 + 1/2 x + 4 = 84

 ومن هذا اللغز الرياضي اليوناني إلى لغز رياضي جاهلي لطيف أبدعه بنبوغ رياضي الشاعر العربي النابغة الذبياني وخلده في معلقته الشعرية البديعة وفي أبياتها يسوق قصة فتاة زرقاء اليمامة المشهورة كما هو معروف بقوة النظر وحدة البصر والبصيرة. في الأبيات الشعرية اللطيفة يقول النابغة الذبياني على لسان زرقاء اليمامة أنها شاهدت سرباً من الحمام يطير بسرعة بين جبلين وبالرغم من سرعة طيران الحمام وكثافته إلا أن الفتاة النابهة استطاعت (حساب) عدد طير الحمام وتمنت من كثرته أن يكون لهم لأنه يشكل ثورة: في الواقع تقول الفتاة ليت لنا من الحمام عدد ذلك السرب الطائر ونصفه كذلك ولو أضيف لها حمامه واحدة لاكتمل عدد مجموع الحمام 100 حمامة:

قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا        إلى حمامتنا ونصفهُ فقدِ

فحسبوهُ فألفوهُ كما حسبت           تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزدِ

فكملت مئةً فيها حمامتها             وأسرعت حِسبةً في ذلك العددِ

 المعادلات الرياضيات من الألغاز إلى العقائد

اللغز الشعري السابق قد يصعب نسبيا حله بمجرد التفكير الذهني، ولكن عند تحويل النص الأدبي إلى معادلة جبرية يمكن لأي طالب مدرسة عادي أن يحسب عدد سرب الحمام الذي شاهدته زرقاء اليمامة إذا استخدم المعادلة الرياضية التالية:

X + 1/2 X +1 = 100

 ومن العجيب أنه حتى تلاميذ المدرسة الصغار يمكن أن يتوصلوا لحل أصعب المسائل الرياضية وهذا ما سوف يقودنا من حل مسألة المئة حمامة إلى حل مسألة جمع المئة رقم. تقول القصة إن عالم الرياضيات الألماني كارل جاوس (أحد أبرز علماء الرياضيات في كل العصور) عندما كان في المدرسة الابتدائية في نهاية القرن الثامن عشر كان معلم الفصل في أحد الأيام يشعر بالملل ولا يرغب في التدريس. ولهذا لكي يشغل التلاميذ الصغار بمسألة رياضية مطولة تتيح له فترة من الهدوء طلب منهم أن يقوموا بجمع كل الأرقام الرياضية من (1) وحتى الرقم (100) ولكن بعد فتره قصيرة جدا تقدم التلميذ الصغير جاوس بالحل النهائي وأن مجموع هذه الأرقام يبلغ (5050).

بلغة المعادلات الرياضية يمكن حل هذه المسألة الرياضية من خلال المعادلة التالية:n (n +1)/2   ولكن في الواقع التلميذ (النابغة) كارل جاوس حل تلك المسالة الرياضية بإتباع أسلوب منطقي أكثر من استخدام الأسلوب الرياضي التقليدي بالجمع المتتالي للأرقام. فهو بعقله الذكي واللمّاح توصل إلى أن قائمة الأرقام المئة يمكن أن تطوى من منتصفها بحيث يقترن الرقم 1 مع الرقم 100 في حين يمكن ربط الرقم 2 مع الرقم 99 وجمع الرقم 3 مع الرقم 98 وهكذا مع بقية الأرقام وأن مجموع كل واحد من هذه (الأزواج) الخمسين من الأرقام سوف يكون (101). وأخيرا بتوظيف مهارة اساسيات الحساب ومن خلال ضرب الرقم (50) في الرقم (101) توصل النابغة الألماني جاوس إلى الحل بشكل سريع (5050) ولهذا أعتقد أنه يستحق بلا خلاف اللقب الذي سيعرف به في المستقبل (أمير الرياضيات).

بعض الطلاب يظهرون نبوغا وعبقرية عجيبة وهم في فصول المدارس وقد يتمكن بعضهم من حل أعقد وأصعب المسائل الرياضية حتى تلك التي يقال إنه يستحيل حلها ويعجز أذكى علماء الرياضيات عن حلها. في الواقع توجد عدة قوائم لهذا النوع من المسائل الرياضية مستعصية أو مستحيلة الحل (unsolved mathematical problems) ومن أشهرها (مسائل الميلينيوم السبعة) وهي تلك المسائل الرياضية السبعة المعقدة والتي خصص لها جائزة بمبلغ مليون دولار لمن يستطيع حلها فيما يسمى بجائزة مسائل الألفية السبعة.  وعلى كل حال ما يهمنا هنا أن أحد طلاب الجامعة استطاع وفي قصة طريفة أن يحل واحدة من هذا النوع من المسائل (المستحيلة) الحل بزعمهم.

في أحد أيام عام 1939م وصل الشاب جورج دانتزيغ متأخراً إلى قاعة المحاضرات بجامعة كاليفورنيا، بيركلي ووجد مكتوب على لوح السبورة مسألتين رياضيتين توقع أنها الواجب المنزلي المطلوب منهم حله. ونظرا لأن الشاب جورج حضر متأخرا فلم يسمع من أستاذه الجامعي وصف هذه المسائل بأنها غير قابلة للحل عند علماء الرياضيات. على كل حال بعد عدة أيام قام الطالب الجامعي جورج بتسليم أستاذه حل واحدة من تلك المسائل مع اعتذاره عن التأخير في تسليم الواجب المنزلي لأن تلك المسألة كانت أصعب من المعتاد.

والمقصود أن تلك الحادثة الطريفة التي حصلت للطالب جورج أثبتت أن (عقيدة) علماء الرياضيات بأن بعض المسائل الرياضية غير قابلة للحل أو مستحيلة الحل أمر يرجع للوهم النفسي الذي قد يشل التفكير العميق. وهذه قصة أخرى لطالب مدرسة مع محاولة حل مسألة رياضية مستحيلة الحل بزعمهم وبطل الحادثة الفريدة هذه هو الطالب الإنجليزي أندرو وايلز والذي سمع وهو في العاشرة من عمرة أن علماء الرياضيات ومنذ ثلاثة قرون عجزوا عن حل مسألة رياضية تعرف باسم (مبرهنة فيرما الأخيرة). وعبر عقود من الزمن أصبح أندرو وايلز مهووسا بهذه المعضلة الرياضية البالغة الصعوبة حتى تمكن أخيرا وبعد أن أصبح أستاذ لعلم الرياضيات بجامعة أكسفورد وبعد سبع سنوات من الجهد المكثف من التوصل إلى حل رياضي لهذا المسألة الرياضية مستحيلة الحل وهو الحدث الذي تناقلته وسائل الإعلام بحماس كبير في عام 1995 ميلادي.

وقبل سنوات قليلة فقط تمكن عالم الرياضيات الروسي غريغوري بيرلمان من التوصل للحل الرياضي لإحدى المسائل الرياضية السبع مستحيلات الحل التي أشرنا لها قبل قليل. وبتضافر وتزايد مثل هذه الأخبار والحوادث (مثل زعم عالم الرياضيات الإنجليزي مايكل عطية ذي الأصول العربية أنه استطاع حل فرضية ريمان الرياضية) تهتز (عقيدة) علماء الرياضيات بحقيقة وجود مسائل الرياضية مستعصية الحل وهذا يقودنا أخيرا للربط بين علماء الرياضيات والاعتقاد والمعادلات الرياضية. في أواخر حياته تم استقطاب عالم الرياضيات السويسري البارز ليونارد أويلر للعمل في عاصمة الإمبراطورية الروسية مدينة سانت بطرسبرج. ونظرا لتدين أويلر الشديد (في الواقع كان يسمى القديس أويلر) فقد استاء عندما سمع بزيارة الفيلسوف الفرنسي الشهير دنيس ديدرو (صاحب الموسوعة وقائد حركة التنوير بزعمهم) وأنه يقوم بإلقاء سلسلة من المحاضرات في المدن الروسية ينادي فيها بعقيدته بنشر الإلحاد وإنكار وجود الخالق. وهنا نجد أن أويلر يعلن أنه قد توصل لاكتشاف معادلة رياضية جبرية تثبت وجود الله ولهذا يطلب أن يعرضها على ذلك الفيلسوف الملحد والمتعجرف. وعندما أُحرج الفيلسوف الفرنسي ما كان له إلا أن يحضر المناظرة والجدال مع العالم الرياضي حول وجود الله وعندما تقابل الرجلان تقدم الرياضي أويلر إلى الفيلسوف ديدرو وقال له بعبارة واثقة وقوية:

سيدي a+ bn/n = x  لذا فإن الله موجود، أجب.

طبعا تلك المعادلة الرياضية ليس لها أي علاقة بإثبات الخالق العظيم ولكن أراد عالم الرياضيات أويلر أن يسخر من عجرفة الفيلسوف الفرنسي الذي انسحب من المناظرة ويقال أنه غادر روسيا مباشرة بعد تلك الهزيمة المنكرة. هذه الحادثة حصلت في عام 1773م والجدير بالذكر إنه قبل ذلك بحولي ست سنوات وبالتحديد في عام 1767م تقدم عالم رياضيات بريطاني يدعى ريتشارد برايس بطرح تعديل لمعادلة رياضية مشهورة تسمى مبرهنة بايز Baye's theorem وأنه يمكن استخدمها لإثبات وجود الله اعتمادا على مبادئ علم الاحتمالات الإحصائية. وهنا تكمن المفارقة فبعض الملاحدة والفلاسفة قد لا يقتنعون بوجود الخالق من خلال النظر في عجائب مخلوقات الله في الكون المنظور وفي المقابل بعضهم قد يقتنع بالنظر في معادلة رياضية صماء مثل معادلة مبرهنة بايز التالية:

P(A/B) = P(B/A)PA/P(B)

 

( المرتزقة بين الشرق والغرب )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 المرتزقة mercenaries كلمة قبيحة في كل لغة ولفظة سيئة السمعة في تاريخ كل أمه وللأسف للشعوب العربية والدول الإسلامية أوفر النصيب من هذا البلاء المسلح والشر المسرح. وأقرب دليل لبيان أن نكبة الأمة العربية مع كارثة عساكر المرتزقة لا تماثلها نكبة بالمقارنة مع الشعوب الأخرى أنه خلال هذا الأسبوع ترددت كثيرا أخطار وأخبار الجيوش المرتزقة في الشرق والغرب ومع ذلك كانت مصيبتنا بهم أشنع وأفظع. فبعد تمرد محدود وخاطف انتهت بسرعة عجيبة كارثة ثورة وانقلاب مرتزقة فاغنر في روسيا وقارن ذلك بخطورة وطول نكبة إخوتنا في السودان مع مرتزقة جيش حميدتي المتجددة حتى في أجواء العيدين.

منذ فجر التاريخ وكل القوى السياسية الكبرى والإمبراطوريات والممالك العظمى استعانت بالجيوش غير النظامية والميليشيات القتالية (المرتزقة) وذلك لتثبيت حكمها على المستوى الداخلي أو القتال في صفوفها ضد أعدائها على المستوى الخارجي وهذا متكرر بشكل واضح في تاريخ اليونان والرومان والفرس وفي تاريخ أرض الفراعنة وبلاد الصين وغيرها. ولكن من مظاهر الاختلاف بين مرتزقة العرب ومرتزقة الغرب أن عسكر السيوف والبنادق المستأجرة في تاريخنا العربي كثيرا ما تسببت في سقوط الممالك والدول الإسلامية كما سوف نذكر له شواهد متعددة بعد قليل. وفي المقابل نجد أنه من النادر أن ينجم عن هذه جحافل الجيوش المرتزقة إحداث قلاقل سياسية خطيرة في الغرب.

وها نحن ذا في هذا الأسبوع نجد أن من المحللين السياسيين من يقول إن مسرحية انقلاب مرتزقة جيش فاغنر سوف ترسخ في النهاية أساسات حكم القيصر الجديد فلاديمر بوتين حكما حصل سابقا مع القيصر القديم بطرس الكبير. في العقد الأخير من القرن السابع عشر الميلادي حصلت محاولة تمرد وانقلاب على الإمبراطور الروسي بطرس الكبير ومع هذا الاسم الفخيم والمنصب العظيم إلا أن هذا القيصر لم يتمكن من تثبيت حكمه إلا بمعونة كتائب مجموعة من المرتزقة المستجلبة من إسكتلندا كانت تعرف باسم الأقزام الحمر (redshanks) كان لهم تواجد ملحوظ في تاريخ أوروبا في تلك الفترة.

وبسبب أن للمرتزقة في تاريخنا وتاريخهم أدوارا متناقضة في تثبيت دعائم الحكم أو التسبب في سقوط الدول لهذا لا غرابة أن نجد أهل الفكر والسياسة في العالم العربي والعالم الغربي تختلف وجهات نظرهم حول الاستعانة بالمرتزقة. في الشرق نجد المفكر الكبير ابن خلدون يحذر أشد التحذير من التسلح بمثل هذه الجيوش غير المأمونة بينما في الغرب نجد بعض مفكريهم من مثل توماس مور يعتبرون وجود كتائب جنود المرتزقة من ركائز تدعيم الملك. أما ابن خلدون فمعروفة نظريته السياسية في مفهوم (العصبية) ودورها ليس فقط في نشوء الدول، ولكن في استدامة بقائها ولهذا يحذر ابن خلدون الحكام من خلخلة العصبية عن طريق اتخاذ مرتزقة أو ما سماهم (أولياء آخرين من غير جلدتهم) يستظهر بهم الحاكم على أهل عصبته ويتولاهم دونهم ويكونوا من خواصه دون قومه. وهنا ينبه ويحذر ابن خلدون الحاكم المستبد أنه إذا اتخذ العنصر الأجنبي والمرتزقة بحيث يكونون أولياءه الأقربون ونصحاؤه المخلصون فإن ذلك مؤذن بخراب دولته ويعود ذلك وبالا على البلد أو كما قال (اهتضام الدولة) وأشار بشكل مختصر كيف تسبب ذلك في ضعف الخلافة الأموية والعباسية.

قديما قيل في المثل الشعبي (ما يمدح السوق إلا من ربح فيه) وبحكم أن بعض مرتزقة الغرب ساهموا في تثبيت الدول ولهذا نجد المفكر والفيلسوف البريطاني البارز توماس مور ليس فقط ينصح الحكام باتخاذ كتائب المرتزقة بل يجعل ذلك من دعائم (المدينة الفاضلة). في ضوء معرفة السير توماس مور لدور المرتزقة الألمان والمرتزقة السويسريين (ومن بعدهم المرتزقة الأسكتلنديين) ودورهم الحاسم في الحروب الأوروبية لم يتردد توماس مور في كتاب (اليوتوبيا) من طرح فكرة استخدام المرتزقة في الدفاع عن الجمهورية الفضالة وقت الحرب بدلا من استخدام جيش من المواطنين.

 عندما يحكم المرتزقة

بخلاف التاريخ العربي والإسلامي لم أجد فيما بحثت خيانة واضحة في التاريخ الأوروبي لكتائب المرتزقة وجحافل المليشيات المسلحة وانقلابها على من قام بتوظيفها وخلعه من الحكم إلا مثال واحد حصل عام 1450م عندما قام المرتزق الإيطالي فرانشيسكو سفورزا بالوثوب على عرش مملكة ميلانو بعد أن قام لسنوات طويلة قبل ذلك في مساندة حكامها في حروبهم ضد أعدائهم التاريخيين: مملكة البندقية. ونظرا لأن التاريخ الإيطالي شهد لقرون طويلة وجود العشرات من الممالك المتعددة والصغيرة (المدينة/الدولة) المتطاحنة والمتصارعة فيما بينها ولهذا كثر استخدام جيوش المرتزقة في حروبهم. ونظرا لاحتمالية (شراء ولاء) زعماء هؤلاء المرتزقة وانتقالهم من طرف إلى طرف لم يكن من المستغرب أن نجد رجل السياسة والكاتب الإيطالي ميكافيلي الذي ولد في تلك الفترة التي انتشر فيها استخدام كتائب المرتزقة، يستشعر خطرهم ويحذر في كتابه الشهير (الأمير) من الركون إليهم.

ينص ميكافيلي في كتاب الأمير بشكل صريح على أن خراب إيطاليا في زمنه لم يكن سببه سوى اعتماد أمراء المدن على المرتزقة لسنوات طويلة بالرغم من أنهم عديمو الفائدة وخطرون. وقد علل ميكافيلي سبب خطورة الاعتماد على المرتزقة أنهم طموحون وبلا انضباط وخائنين وفي حال أصبح جيش المرتزقة أقوى عسكريا من الأمير الذي استعان بخدماتهم ربما انقلبوا عليه. الجدير بالذكر أن زعيم فرقة المرتزقة يسمى في اللغة الإيطالية كوندوتييرو Condottiero وهي كلمة مشتقة من المفردة ذات الأصول اللاتينية contractor أي العقد الذي يكتب بين المرتزق وطالب الخدمة منه. وما يهمنا هنا أن هذه الخلفية اللغوية لكلمة (الكونتراكتور) هي التي سوف يقوم عرب الأندلس في نهاية القرن الخامس الهجري بتحوير نطقها إلى كلمة El campeador أو (القمبيطور).

لقد كان للمرتزق الإسباني رودريغو دياث المعروف في المصادر العربية باسم رذريق القمبيطور (يعرف كذلك بلقب السيد El Cid) دور بارز في حروب ملوك الطوائف في تاريخ الأندلس. وبعد تاريخ حافل بالعمل كمرتزق في خدمة ملوك قشتالة مثل ألفونسو السادس وسانشو الثاني استطاع ملوك طوائف الأندلس أن يستقطبوه للقتال إلى جانبهم كما فعل حاكم طليطلة ولاحقا حاكم بلنسية. وبالفعل وقع ما حذر وأنذر منه ابن خلدون وميكافيلي بأنه لا يؤمن جانب المرتزقة وأن في ذلك (اهتضام الدولة) فما أسرع ما انقلب القمبيطور على بني هود ملوك بلنسية وانتزعها منها ونصب نفسه حاكما على مملكة بلنسية حتى وفاته منهيا بذلك حكم العرب والإسلام على تلك المنطقة العريقة.

 وهذا يقودنا إلى أن نستعرض بشكل سريع كيف تسببت كتائب المرتزقة في (اهتضام) الحكم والملك في مواقف متكررة ومتتالية من التاريخ الإسلامي:

في زمن الخليفة المعتصم كثرت الاضطرابات الداخلية المزلزلة لحكمة ولهذا نقل عاصمة الخلافة من مدينة بغداد إلى مدينة سُرّ من رأي (سامراء) وكذلك اتخاذ الخطوة الأخطر وهي استجلاب جنود مرتزقة من الأتراك لحماية عرشه. مع الوقت تزايدت سلطة وهيمنة أولئك الجنود المرتزقة لدرجة أنهم بدوءا يتدخلون في شؤون الملك ويقررون من سوف يتولى منصب ولاية العهد من أبناء الخليفة المتوكل.

وعندما شعر قادة عسكر الترك أن الخليفة المتوكل على وشك الفتك بهم انقلبوا عليه وأعدموه هو ووزيره الفتح بن خاقان. وبهذا بدأ مسلسل قتل وتعذيب وسجن خلفاء بني العباس على يد العسكر الذي اُستجلبوا أصلا لكي يكون حماية ودرع لهم ضد الفتن الداخلية. الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية والتعذيب والتنكيل وقعت على كوكبة من الخلفاء العباسيين مثل الخليفة المنتصر الذي خلع وقتل وهو ما تكرر مع الخلفاء: المستعين بالله والمعتز بالله (الشاعر الأديب الذي نال لقب خليفة المسلمين لمدة يوم واحد فقط) والمهتدي بالله والقاهر بالله والمتقي لله والمستكفي بالله.

هذه الفوضى والخراب المتواصل التي نتجت من عسكرة الخلافة تسببت في اضعاف هائل للدولة الإسلامية أثمر في خاتمة المطاف سقوط الخلافة بعد أن ساهم جنود البويهيون وعسكر السلاجقة في مزيد من تهميش دور ونفوذ الخلفاء في الحكم. وكما تسبب عسكر الترك في زوال ملك وحكم الخلافة العباسية تسبب عسكر المماليك وجنود الشراكسة في زوال ملك الدولة الأيوبية. وهنا نجد أن آخر سلاطين بني أيوب وهو الملك الصالح نجم الدين أيوب يكرر نفس الخطأ القاتل الذي وقع فيه الخليفة المعتصم عندما استجلب جنود الترك لحمايته. وكما ضايق عسكر الترك أهل بغداد فأخرجهم الخليفة المعتصم إلى مدينة سامراء نجد أن جنود المماليك يضايقون أهل القاهرة ولذا أخرجهم نجم الدين أيوب إلى جزيرة الروضة في طرف النيل. وحذوا القذة بالقذة كان سلوك أهل العسكر في الوقوع في شهوة السيطرة والحكم وكما تدخل أسلافهم في اختيار خلفاء بني العباس تدخل جنود المماليك في اختيار ملوك بني أيوب. ثم حصل أخيرا القفز والاستيلاء الصريح على الملك وانهاء الدولة الأيوبية على يد المملوك الظاهر بيبرس.

وكما حصل وأن ُقتل عدد من الخلفاء على يد العسكر في بغداد حصل نفس الأمر مع سلاطين القاهرة الذين قتلوا على يد جنودهم ومنهم السلطان صلاح الدين خليل الملقب بالأشرف والسلطان بدر الدين بيدرا والسلطان حسام الدين لاجين والسلطان فرج بن برقوق ومن هذا وذاك لم يكن مستغربا أن تتأكل قوة ونفوذ المماليك في مصر المحروسة حتى انتهى حكمهم على يد السلطان العثماني سليم الأول. وعلى ذكر سلاطين بني عثمان تجدر الإشارة إلى أن زوال ملكهم هم كذلك تسبب في حصوله اعتمادهم على جيوش المرتزقة أو ما تعرف في التاريخ العثماني باسم (جنود الإنكشارية). كانت فكرة سلاطين الدولة العثمانية من إيجاد قوات الإنكشارية أنه يتم من خلالهم ضمان الولاء المطلق للسلطان وذلك لأن أفراد الإنكشارية هم في الأصل أطفال وغلمان أسرى الحرب الذين يفصلون عن عوائلهم ويتم تربيتهم على أن يكون السلطان هو والدهم الروحي ورب أسرتهم الوحيد. وكما حدث مع عسكر الترك في بغداد وجنود المماليك في القاهرة حصل مع عسكر الإنكشارية في إسطنبول فعندما ضعفت الدولة العثمانية بدأوا في التدخل في الحكم من خلال الانقلابات العسكرية. وكما حصل في السابق من عزل وخلع وقتل خلفاء بني العباس وبني أيوب حصل نفس الأمر مع سلاطين بني عثمان فخلع وقتل على يد جنود الإنكشارية السلطان عثمان الثاني والسلطان إبراهيم الأول والسلطان سليم الثالث والسلطان مصطفى الرابع.

وبالعودة في الختام لمرتزقة فاغنر الروسية وكيف أن أثر جحافل المرتزقة يختلف ما بين الشرق والغرب فها نحن ذا نشاهد أن ثورتهم في بلادهم تلاشت انتهت تقريبا بينما وجودهم وتدخلهم السافر في الشرق والبلاد الإسلامية ما زال متواصلا ومتجذرا فهذه الكتائب الخبيثة ما زال لها وجود مؤثر في سوريا وليبيا ومالي بل وحتى السودان والله المستعان.