الخميس، 30 أبريل 2020

العودة إلى ( رمضان خارج المألوف )

الصيام في زمن الكورونا 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

قبل عدة سنوت كتبت مقال بعنوان (رمضان خارج المألوف) رغبت فيه التطرق والنظر لهذا الشهر الفضيل من زاوية مختلفة ونافذه محتجبة مثل صعوبة الصيام في الفضاء والجدل الفقهي حول ذلك أو محاولة حصر من صام في القطب المتجمد أو من مر عليه شهر الصيام وهو على قمة افريست بجبال الهملايا. في ذلك الوقت لم يخطر في بالي على الاطلاق أن الصيام والانفراد بشهر الخير في المنزل سوف يكون يوما ما من أغرب الأمور وأكثر حالات رمضان خروجاً عن المألوف. لم يحصل قط في التاريخ الإسلامي في مثل هذا الشهر أن رابط الصوّام وتهجد القوّام في مشارق الأرض ومغاربها في دورهم وحجزوا أهاليهم بأنفسهم في بيوتهم.
ولحكمة ما يشاء الحكيم العليم سبحانه أن يغير من أحوال هذا الشهر من الرخاء إلى الشدة ومن النصر إلى الهزيمة ومن الرحمة إلى العقاب. شهر رمضان (شهر الانتصارات) والمعارك الإسلامية الخالدة كغزوة بدر وفتح مكة والقادسية وحطين وعين جالوت ولكن حصل في رمضان كذلك هزيمة المسلمين الكبرى في معركة بلاط الشهداء عام 114 هـ والتي سقط فيها أكثر من عشرة آلاف شهيد بالقرب من مدينة بواتييه الفرنسية. فاجعة هذه المقتلة العظيمة ليس لأنها أوقفت التقدم الإسلامي لقلب أوروبا ولكن لأنها كانت باكورة الهزائم المرة التي سوف نتجرعها بشكل متواصل من يد ذلك العدو الصليبي الشرس.
رمضان (شهر الخير والبركة) وفي الغالب هو موسم النماء والوفرة ولكنه قد يوافق امتحانا للأمة الإسلامية بسبب ذنوبها فيصيبها الله بالجوع والخوف والقحط كما حصل لأرض مصر في سنة 595 هـ عندما اشتدت المجاعة على الخلق في شهر رمضان بسبب نقصان مياه النيل. وبلغ بالناس المسغبة وشدة الجوع لدرجة أن المؤرخ عبد اللطيف البغدادي ذكر أن الجياع (ولا أدري هل كانوا يصومون أو لا) أكلوا الكلاب والجيف وروث البهائم والجثث بل وحتى الأطفال.
في شهر رمضان تعم (السكينة والطمأنينة) ولكن قد يحدث أحيانا أن تفزع القلوب الوجلة بسبب كارثة طبيعية حصلت فجأة كما كان شعور أهل مدينة أغادير المغربية في فجر اليوم الثالث من رمضان لعام 1960م عندما دك مدينتهم زلزال مدمر خلف حوالي خمسة عشر ألف قتيل. وفي الجزر الأندونيسية لطالما كان بركان كاراكاتوا مصدر قلق لسكان البلاد بسبب نشاطه البركاني المتجدد حيث تسبب في عام 1883م بمقتل 35 ألف نسمه. وفي هذه الأيام بالذات يدخل شهر الصوم وفوهة الحميم هذه ما زالت نشطة علما بأن هذا البركان ثار آخر مره قبل أسبوعين فقط وخلف موجات تسونامي بحرية تسببت في مقتل عدة مئات من الضحايا.
(الأجواء الروحانية) من أبرز معالم شهر رمضان المبارك لكن قد يقع في بعض السنين أن تكون تلك الأجواء مفعمة بالأعاصير وصاخبة بالعواصف الرعدية. وهذا ما مر به أهل سلطنة عمان في يوم الثاني عشر من شهر رمضان قبل سنتين حيث عاشوا ساعات عصيبة عندما ضرب إعصار مدمر سواحل السلطنة بسرعة هائلة بلغت 170 كيلومتر مما خلف خسائر كبيرة وهلع من غضب الرحمن الذي أصابهم في عصر يوم الجمعة.
وفي يوم الثاني عشر من شهر رمضان تذكر كتب التاريخ كذلك حادثة مناخية فريدة أصابت هذه المرة المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم عندما تعرضت لعواصف رعدية شديدة نتج عنها إصابة إحدى الصواعق لمئذنة المسجد النبوي وذلك في عام 886 هجري. وقد نتج عن ذلك مصرع رئيس المؤذنين الشيخ شمس الدين بن الخطيب كما انشق سقف منارة المسجد واشتعلت النيران في بعض أجزاء الحرم النبوي وتوفي في هذا الحريق عدة أشخاص. وبسبب الاضرار البالغة في سقف المسجد النبوي وسقوط حوالي 120 عامود من أعمدته ففي الغالب أن الصلوات الجامعة وصلاة التراويح ربما تغير نمطها في رمضان تلك السنة. والجدير بالذكر أن تلك الأجواء الغائمة في شهر رمضان قد شهدها المسجد الحرام في مكة المكرمة وذلك في سنة 883 هـ عندما تسببت الامطار الغزيرة في منتصف شهر رمضان بدخول السيول المتدفقة للمسجد الحرام من أغلب أبوابه بل وحتى بعض نوافذ الحرم. وتكرر هذا الأمر مرة أخرى بعد ذلك بأسبوع عندما دخل السيل في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان. ومن المحتمل أن هذه السيول الغزيرة والمتكررة على المسجد الحرام أثرت على صلاة الناس للجمعة والتراويح واعتكافهم في الشهر الكريم.

وأخيرا لا يجدر ختام ذكر النكبات والكوارث التي توافقت مع الشهر الفضيل دون التعريج على ما نحن فيه هذه الأيام من انتشار الوباء والبلاء وكما هو متوقع حصل في التاريخ الإسلامي عدد كبير من الأوبئة والطواعين التي تزامن انتشار بعضها مع شهر رمضان. ومن ذلك مثلا الطاعون الخطير الذي وقع بالعراق عام 131 هـ وساهم بشكل أو بآخر في تعجيل سقوط الخلافة الأموية بعد ذلك بسنة وتذكر كتب التاريخ أن شدة ذلك الوباء كانت في شهر رمضان من تلك السنة. وكذلك الطاعون الأسود الشهير والوباء الاعظم الذي عمّ العالم كله عام 749 هـ وقتل عشرات الاف من المسلمين في الشام ومصر وكان من جملتهم عدد كبير من مشاهير العلماء والادباء الذين توفى بعضهم في شهر رمضان مثل صلاح الدين الصفدي وابن الوردي.
وبعد فإن ما سبق كان سردا للأخبار والقصص عن النكبات والمصائب الجسام التي أصابت المسلمين أثناء شهر الصيام ثم ما أسرع أن انجلت بفضل الله وأصبحت (حديث الذكريات) وخبر السنين الغابرات وهو ما سوف يحصل بمشيئة الله مع هذه الجائحة الحالية فهي أزمة وتنجرف وغمة وتنكشف.

( الفرج بعد الشدة .. الصين أنموذجا )

الصين تعيد كتابة التاريخ بطمس دور أمريكا


د/ أحمد بن حامد الغامدي

لطالما كانت الصين على موعد مع الكوارث في الواقع وفي الاساطير على حدا سواء وفي كل مره كانت الأمة الصينية كما طائر الفينيق تنهض متجدده من رماد الحريق. في عالم الاساطير فجع الإمبراطور المؤسس للصين فو زي بغرق ابنته في النهر ومن هذه الفاجعة ظهرت الحضارة الصينية حيث تحولت الفتاه الغريقة إلى إلهة النهر الأصفر الذي نمت على ضفافة الإمبراطورية الصينية الممتدة في التاريخ. للحضارة الصينية خصوصية عجيبة مع التاريخ فبالرغم من توالي وتعدد الكوارث والنكبات التي أصابتها إلا أنها هي الحضارة الوحيدة المتواصل بقائها عبر العصور بينما اندثرت مع الغابرين الحضارة الفرعونية والاشورية واليونانية والرومانية والبيزنطية والمكسيكية (المايا) والعباسية والعثمانية. وبسبب هذه الديمومة والحيوية المتجددة لاقت الحضارة الصينية إعجاب الكثير لدرجة أن فولتير الحبر الأكبر لعصر الأنوار (عصر فولتير كما وصفه وول ديورانت في كتاب قصة الحضارة) كان مفتون بالحضارة الصينية حتى أنه قال عنها (لقد دامت هذه الامبراطورية أربعة آلاف عام دون أن يطرأ عليها تغير يذكر وإن نظام هذه الإمبراطورية لهو في الحق خير ما شهده العالم من نظم).
وكل هذا العز المديد والمجد التليد للأمة الصينية لم يأت صفو من الأكادر ولا خلو الانحدار بل أصابته النكبات المتتالية والجوائح المتواصلة من مثل الفيضانات والزلازل والاوبئة والمجاعات والحروب.
الإمبراطورية الصينية فريدة في امتدادها التاريخي لكنها شحيحة في بعدها الجغرافي لدرجة أنها امبراطورية بدون مستعمرات فهي امبراطورية الثروة وليست امبراطورية الثورة. الاعجب من ذلك أن الأمة الصينية عاشت لعقود طويلة وهي تخشى من جيرانها وليس العكس وبالرغم من بناء سور الصين العظيم منذ أكثر من ألفين سنة وبطول زاد عن عشرين ألف كيلومتر إلا أن ذلك لم يمنع وقوع الصين تحت الاحتلال العسكري المتكرر من الغرباء. يقول شاعرنا الجاهلي (ليس الكريمُ على القنا بمحرمِ) وعلى نفس الجناس ليست الدول الكبرى على بمحرمه على حِراب الحرب وسيوف الحُتوف ولهذا قد تقع تحتل ذل الاحتلال وهوان الاجتياح. في القرن الخامس الميلادي اجتاح برابرة الشعوب الجرمانية مدينة روما معلين بذلك سقوط الإمبراطورية العظمى وقبل ذلك بفترة اجتاحت جموع البرابرة الخمسة الإمبراطورية الصينية القديمة وتم تدمير عاصمتها القديمة لويانغ. الاحتلال الأجنبي السافر للصين أكثر ما تمثل في سيطرة قبائل المغول أحفاد جنكيز خان على كامل الصين لمدة قاربت القرن من الزمن ومع ذلك ينبغي التنبيه أن حكم هؤلاء (البرابرة) التتار للصين وخصوصا زمن الامبراطور قبلاي خان شهد ذروة التقدم التقني والحضاري للصين. بينما في المقابل زمن الاحتلال البريطاني للصين في منتصف القرن التاسع عشر شهد قاع الضعف للأمة الصينية خصوصا زمن حروب الافيون واقتحام ونهب وحرق قصور الاباطرة في العاصمة بكين. وبسبب انتشار تعاطي المخدرات في أوساط الشعب الصيني أفرز ذلك تدهور مريع في القدرة الاقتصادية والعسكرية للبلد لدرجة أن الإمبراطورية الصينية تعرضت في تلك الفترة لذل لغزو المباشر للجيوش الإنجليزية والفرنسية بالإضافة للخضوع للابتزاز والاستغلال الامريكي والروسي. وفي نهاية المطاف خارت تماما قوى التنين الصيني ليتم أخيرا الإعلان النهائي عن انهيار الإمبراطورية الصينية وعزل (الامبراطور الأخير) في مطلع القرن العشرين. وما كادت الامة الصينية تتعافى من ذلل حروب الافيون حتى وقعت في عام 1931م تحت بطش الاحتلال الياباني الشنيع لإقليم منشوريا في شمال الصين والذي لا يبعد عن العاصمة بكين إلا بمسافة قصيرة وبعد هلاك حوالي عشرين مليون شخص تم تحرير الصين من القبضة اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية.
المرحلة الأولى (للفرج بعد الشدة) في قصة الصين بدأت منذ منتصف القرن العشرين حيث بعد انتهاء زمن الاحتلال المهين دخلت مرحلة (الآن نغزوهم ولا يغزونا) ومن تحرير إقليم منشوريا إلى احتلال الصين لدولة التبت في أسيا الوسطى أعلن التنين الصين دخوله لنادي الدول العظمى. لكن في عز انفراج الشدة الأمنية وقعت الصين في واحدة من أصعب شدائدها الكبرى وهي حادثة (المجاعة الكبرى) التي هلك فيها أكثر من أربعين مليون منكوب. إذا كانت سهول الهلال الخصيب بين الشام والعراق هي مهد الزراعة قبل أكثر من عشرة الاف سنة فإن الصين وبدون منازع هي مهد صناعة الغذاء وفن الطبخ منذ آلاف السنين كما أن أرضها زراعية خصبة وغنية بالأنهار والقنوات المائية هذا بالإضافة لنظام صوامع حفظ الحبوب المعقد والضخم. تناقض الخصوبة الزراعية مع المجاعة والفقر في الصين كانت هي محور الرواية الأدبية البديعة (الأرض الطيبة) للكاتبة الامريكية بيرل بيوك التي أهلتها للحصول على جائزة نوبل في الادب عام 1938م. بسبب الكثافة السكانية المنفرطة للصين لطالما عانى الشعب الصيني من المجاعات المتكررة لدرجة أنه يقال إن الصين في الالفين سنة الماضية أصيبت بحوالي 1900 مجاعة خطيرة إي بمعدل مجاعة مهلكة كل سنة. وخلال المائة سنة الأخيرة قبل المجاعة الكبرى التي حصلت عام 1959م تشير الاحصائيات إلى أن الصين ربما خسرت ما يقارب المائة وخمسين مليون هالك جراء المجاعات والجفاف والقحط.
المثير للسخرية أن المجاعة الصينية الكبرى كانت بسبب الأخطاء الكارثية في المشروع الاقتصادي والاجتماعي الذي طرحة الرئيس الصيني الهالك ماو تسي تونغ تحت العنوان الجذاب (القفزة الكبرى إلى الامام) والذي كان يهدف إلى تحويل الصين من دولة زراعية متخلفة إلى دولة صناعية عظمى. وما كادت الصين تخرج من كارثة المجاعة تلك حتى وقعت في الشدة والكارثة الأخرى التي أفرزها الفكر الشيوعي (الماوي) وهي مصيبة (الثورة الثقافية الكبرى) التي أطلقها مرة أخرى القائد الأحمر ماو تسي تونغ عام 1966ميلادي. وكان من ثمارها المرة احتقار ركائز المجتمع الصيني ممثلة في الاسرة والتعليم والدين وغسل أدمغة شباب المدارس والجامعات لإهانة وتعذيب بل وحتى قتل والديهم ومعلميهم ورهبان المعابد وهو أمر بالغ الإثم في المجتمع الصيني القائم على تعاليم الكونفوشيوسية التي تقدس الاسرة والاسلاف. تخمين أثر هذا الزلازل المجتمعي الهائل يمكن استيعابه عندما نعلم أن هذه الثورة الثقافية المزعومة نتج عنها قتل واعدام حوالي نصف مليون شخص في حين تعرض عشرين مليون للتعذيب والسجن.

الصين .. قوة عظمى تعود
عندما طرح نبي الاشتراكية كارل ماركس أفكاره الجديدة حول الشيوعية في كتابه رأس المال (الذي أطلق عليه إنجلز لقب: إنجيل الطبقة العاملة) كان النداء أن يتحد عمال العالم في الدول الصناعية ولكن الكارثة أن من استجاب له هم المزارعين وأهل الفلاحة في روسيا والصين. ولهذا كانت الشيوعية كارثة و(شدة) خانقة بكل المقاييس على هذه المجتمعات لدرجة أنها أنهكتها وتسببت في نهاية المطاف بانهيار وتقويض المنظومة الشيوعية كما هو معلوم. وفي حين تفتت كيان الاتحاد السوفيتي بشكل كامل نجد أن الصين نجت إلى حدا ما بسبب (حيوية) الأمة الصينية وسرعة تأقلمها مع المصائب والنكبات (الاحتلال الأجنبي والافيون والمجاعات .. الخ). ولهذا من الأساس اختطت الصين لها طريق اشتراكي ذو خصوصية صينية ثم لاحقا بعد هلاك ماو تسي تونغ بدأ عهد الإصلاح والانفتاح والذي أثمر أخيرا سياسة (الحلم الصيني) والمتمثل في جعل الصين بلد شبة رأسمالي بغلاف اشتراكي ماركسي.
قبل حوالي قرن من الزمان تنبأ المفكر والفيلسوف البريطاني برتراند راسل أن الولايات المتحدة هي من سوف تكون أهم دولة في العالم لمدة قرن أو قرنين ثم قال (وبعد ذلك سوف يأتي دور الصين). مع الزخم الاقتصادي للصين في عالم اليوم أغلبنا لن يستغرب كثيرا هذا التوقع ولكن ينبغي التنويه أن هذه المقولة صدرت من برتراند رسل عام 1930 والصين على مشارف أن تقع تحت الاحتلال الياباني المهين بمعنى أنها أبعد ما تكون أن تصبح دولة عظمى. وكما هو متوقع فإن عالم الرياضيات العبقري برتراند راسل أعتمد في حساب معادلته المستقبلية تلك على الرصيد الحضاري الكبير والثري للأمه الصينية وليس على واقعها المخزي في زمنه.
قبل الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة كانت الأمة الامريكية تتميز بضخامة قدرتها الاقتصادية ولكن المال ليس كل شي في عالم السياسية الدولية ولكن الأهم (الرغبة) في الريادة والمنافسة على القيادة. لسنوات طويلة تتمتع ألمانيا الاتحادية بثروة اقتصادية وتقنية هائلة ومع ذلك توصف في عالم السياسية بأنها (عملاق اقتصادي وقزم سياسي) وأخشى أنه بعد أزمة فيروس الكورونا سوف تصبح الصين هي الأجدر بهذا الوصف الساخر والمهين إذا ركزت فقط على تضخيم قوتها الاقتصادية. (اهتبلوا الفرصة) هكذا نصح الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون في كتابه الذائع الصيت (الفرصة السانحة) عندما حث أمته الامريكية للانتهاز الفرصة بعد سقوط الكتلة الشيوعية والتفرد بزعامة العالم. فليت شعري هل يوجد من بين رجالات السياسة في الصين من يدفع قادة بلدة ويصرخ بهم: (اهتبلوا الفرصة) واغتنموا الارتباك الدولي بسبب الوباء وعززوا تحرككم السياسي والعسكري والتقني للتفرد بقيادة العالم بعد انكماش سيدة العالم ماما أمريكا.
سبق وأن ذكرت بأن الصين وهي منذ فجر التاريخ امبراطورية بلا مستعمرات بل أنها حضارة منكفئه على نفسها لدرجة أن الامبراطور الصيني المؤسس تشين شي أقام حضارة متماسكة ومملكة شاسعة وفي نفس القوت أمر بحرق الكتب ومنع انتشار الأفكار. لقد كانت الصين في القرن الخامس عشر خلال حكم سلالة المينغ مؤهلة تماما بفضل اسطولها البحري الضخم (وقائدها المسلم الهمام أمير البحر تشنغ هي أو حجي محمود شمس) أن تسيطر على العالم ولكن بدلا من اقتناص وانتهاز التنين الصيني للفرصة السانحة اتخذ حكام ومفكري المارد الصيني خيار التراجع والانغلاق. فهل سوف يعيد التاريخ نفسه مع الإمبراطورية الصينية الحديثة وتستمر حسب المعنى الحرفي لاسمها القديم (المملكة الوسطى) التي لا ترغب في مد حكمها للشرق أو للغرب. توقعي الشخص أنه هذا ما سوف يحصل وسوف تستمر الصين كعملاق اقتصادي بالغ الضخامة وكقوة دولية عظمى superpower الجميع يأخذها بعين الاعتبار لكن لا يخشى تغولها العسكري.
بالنسبة لما يهمنا في الدور الصيني في عالم الغد أنها في الغالب سوف تكون دولة مزاحمة وليست دولة ممانعة للنفوذ الأمريكي وهذا من شأنه ليس فقط تخفيف أجواء التوتر السياسي ولكن والاهم هو دورها في اشغال واضعاف نفوذ النسر الأمريكي وتحويل عالم السياسية من حالة العالم (أحادي القطب) إلى العالم (متعدد الاقطاب). لكن سؤال المليون كما يقال هو لماذا لن يكون عالم السياسية القريب ثنائي القطب (أمريكا في مواجهة الصين) وكذلك من هو القطب الثالث وهل سوف نشاهد الرايات الخفاقة (للرايخ الرابع) تنبعث من جديد من الديار الجرمانية. تعمدت أن أختم المقال (بنهاية مفتوحة) قابله لجميع الاحتمالات لأن العاقل من اتعظ بخير كما يقال ومن الحكمة ألا يقع المرء في سذاجة الكاتب الأمريكي فوكوياما الذي ألف كتاب (نهاية التاريخ) وبشر بغباء أن أمريكا والرأسمالية الغربية سوف تحكم البشرية إلى الأبد.


دور (المريض) العربي في علاج البشرية

المرضى العرب أكثير تأثيرا في الطب من الأطباء العرب !!

 
د. أحمد بن حامد الغامدي
للأسف الشديد منطقتنا العربية تستحق بجدارة التوصيف السياسي الدولي لها بأنه (حزام الازمات) وذلك لتجذر الثلاثي النكد في جنباتها منذ قرون طويلة (الجهل والمرض والفقر) وفي أزمة وباء الكورونا الأخيرة أكملنا الضلع المفقود وربعنا المثلث. البعد الجديد في منظومة الكوارث العربية هو ضلع العبث والعبثية والتي هي وليدة تزاوج وتمازج الجهل مع القهر. فبعد مهزلة اكتشاف جهاز الكفتة الطبي للواء عبدالعاطي التي حصلت قبل سنوات تشهد الساحة الإعلامية العربية هذه الأيام تزايد تداول (الخلطات والمتبلات) وليس الوصفات الطبية المزعومة لعلاج الوباء القاتل. المشهد العبثي المنتشر حاليا هو اقتراح وصفات طبية لعلاج مرض الكورونا بالغ الخطورة باستخدام الفول والشلولو والكركم والسماق وعصير الليمون والشاهي الساخن !!.
مرة أخرى نتأسف بشدة أنه ليس للعرب في العصر الحديث أي دور ملموس في تقديم أي نفع للبشرية في الجائحة الوبائية الأخيرة بل من العجائب (والعجائب جمة كما قال الأول) أننا في وقتنا الحالي أقل نفعا للبشرية عما كنا قبل قرن من الزمان. والمهزلة الكبرى أننا في تلك الفترة لم تكن منفعتنا للإنسانية أننا تقمصنا دور (الطبيب) بل لأننا أتخذنا دور (المريض).
يعتبر الطبيب الألماني وعالم الاحياء الدقيقة روبرت كوخ أحد أهم علماء الجراثيم والامراض المعدية على الاطلاق ولهذا استحق بكل جدارة الحصول على جائزة نوبل في الطب عام 1905م نظير اكتشافه وعزله للبكتيريا المسببة لمرض السل كما إن له أبحاث مهمة تتعلق بالميكروبات المسببة لأمراض وأوبئة الملاريا والطاعون والجمرة الخبيثة وغيرها. ومن هنا ندخل لدور (المريض) العربي في علاج البشرية حيث انتشر وباء خطير لمرض الكوليرا في مصر في عام 1882م وبحكم أن روبرت كوخ كان في تنافس شديد مع أسطورة العلم الفرنسي لويس باستور في اكتشاف المكروب المسبب لمرض الكوليرا لهذا سارع كوخ للسفر إلى مصر. وفي مستشفى اليوناني بالإسكندرية بدأ روبرت كوخ أبحاثه المتواصلة لعزل الميكروب وهنالك توصل إلى نتائجه الأولية بأن هذا المرض القاتل يتسبب به مكروب يدعى بكتيريا الضمة vibrio  وليس هذا وحسب بل أن كوخ أثناء إقامته في مصر أجرى كذلك بعض الأبحاث الطبية لمحاولة تحديد سبب مرض الدوسنتاريا. الجدير بالذكر أن روبرت كوخ في بحثه المنشور حول دراسته عن وباء الكوليرا في مصر يشكر الاثنا عشر مريضا الذي طبق أبحاثه عليهم كما لم يفته أن يذكر أهمية جثث الموتى العشرة التي ساعدته كثيرا في عزل الميكروب القاتل.
ومن وباء الكوليرا بالديار المصرية إلى وباء الملاريا في البلاد الجزائرية ومن مدينة الإسكندرية إلى مدينة عنابة نلتقي مرة أخرى بطبيب أجنبي ومريض عربي غيروا وجه التاريخ الطبي. لقد دخل الطبيب الفرنسي شارل لافران التاريخ من أوسع أبوابه ليس فقط لحصوله على جائزة نوبل في الطب عام 1907م ولكن أيضا لإسهامه في اكتشاف سبب أحد أكثر الامراض تأثيرا في تاريخ البشرية الا وهو مرض الملاريا. طريق المجد الذي سار عليه لافران بدأ في عام 1878م عندما وصل إلى مدينة عنابة الجزائرية ولقد ساهمت دماء الجزائريين (المرضى وليس المجاهدين للاحتلال الفرنسي) في تمكينه من اكتشافه الطبي الكبير. لاحقا أنتقل لافران للعمل في المستشفى الفرنسي العسكري في مدينة قسنطينة الجزائرية واهتم كثيرا بتحديد سبب مرض الملاريا المتفشي في صفوف جنود الاحتلال الفرنسي وكذلك بين السكان. وهنا استطاع لافران أن يكتشف بعد تشريحه لجثث العديد من المرضى بالملاريا أن دماءهم تحتوي على ميكروب طفيلي يدعى Plasmodium والذي تم تعريبه ليعرف باسم المُتصوِّرة. وللتأكد من صدقية هذا الاكتشاف قام لافران في مرحلة تالية بفحص عينات دماء 192 شخص من مرضى الملاريا (جلهم من الجزائريين وبعض الجنود الفرنسيين) ووجد أن 148 مريض منهم تحوي دمائهم على هذا الميكروب الطفيلي.
وما زلنا مع دور المرضى العرب في تقدم الطب الحديث وأحداث قصتنا هذه المرة تقع في البلد الجميل تونس الخضراء ومع الطبيب الفرنسي شارل نيكول الحاصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1928 ميلادي. منذ عام 1903م تولى هذا الطبيب الفرنسي إدارة فرع معهد باستور المقام في مدينة تونس العاصمة واستمر في منصبه ذاك لمدة جاوزت الثلاثة عقود لدرجة أنه توفي وهو مقيم في الديار التونسية. ما يهمنا هنا أنه في عام 1909م انتشار وباء خطير وقاتل لحمى التيفوئيد (التيفوس) في الأراضي التونسية لدرجة تكدس جثث المرضى على مداخل المستشفيات. لفترة من الزمن عمل الدكتور شارل نيكول في المستشفى الصادقي (حاليا هو مستشفى عزيزة عثمانة الجامعي) بساحة القصبة بمدينة تونس وهنا لاحظ أن المرضى المصابين بوباء التيفوئيد عند مخالطتهم للمرضى الاخرين في غرفة الانتظار بالمستشفى ينقلون لهم الوباء. بينما لو تم تغيير ملابس المرضى بالتيفوئيد وجعلهم يستحمون لحظة دخولهم للمستشفى تقل كثيرا احتمالية تسببهم في نقل عدوى المرض بل أن ملابس المرضى المغسولة بالماء الساخن لا تنقل المرض. من هذا وذاك استنتج شارل نيكول بشكل سليم أن النقال لمرض التيفوئيد هي حشرة القمل المجودة بملابس المرض ولهذا توصل لمعلومة مهمة لتقليل انتشار المرض عن طريق فقط رفع مستوى النظافة الشخصية في المناطق الموبئة. وهذا الاكتشاف البسيط منح شارل نيكول جائزة نوبل في الطب حتى ولو لم يساهم في اكتشاف الميكروب المسبب للمرض أو اكتشاف مصل علاجي له أو لقاح وتطعيم يمنع حصوله ابتداءً مما يدل خطورة ذلك الوباء وسعادة الأطباء في التخفيف بأي قدر من غلوائه وهو ما كان للمريض العربي بشكل أو آخر شرف المساهمة فيه.
ونختم بذكر رابع طبيب يحصل على جائزة نوبل في الطب وله ارتباط بنا ولكن هذه المرة مع إخوتنا في الدين والعقيدة حيث ننتقل إلى أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان وهو إندونيسيا وبالتحديد جزيرة جاوة وعاصمة البلاد جاكرتا. لقرون طويلة خضعت إندونيسيا للاحتلال الهولندي حيث كانت إحدى أهم المستعمرات الاقتصادية لها ومن باب الاستفادة القصوى من مواردها الزراعية والبشرية اهتم الهولنديين بتقصي أسباب مرض البري بري الذي يضعف بشدة الحيوية الجسمانية والحركية للشخص مما يضعف انتاج المزارع. ولهذا تم في عام 1897م ارسال الطبيب الهولندي كريستيان أيكمان والذي ليس فقط اكتشف سبب هذه المرض وأنه يعود إلى نقص فيتامين ب 1 الذي يوجد في قشر الأرز ولكن الأهم من ذلك اكتشافه لأول مره مفهوم (الفيتامينات). وبسبب تعرف أيكمان للفيتامينات ووجودها في المواد الغذائية وارتباطها الكبير بصحة الانسان، لذا استحق بجدارة أن يحصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1929 ميلادي.
بقي أن نقول إنه في الختام نحتاج أن نذكر بكتاب حمل اسم (تذكرة داوود) وسبب التذكير بهذا الكتاب بالذات لأنه آخر اسهام علمي عربي كبير في مجال العلاج الطبي والأدوية الصيدلانية وهو من تأليف الطبيب المسلم المشهور داوود الانطاكي والذي توفي بمكة المكرمة عام 1008 هجري وهو بهذا آخر علماء الطب العرب ذوي الشهرة العالمية المرموقة. ومنذ وفاة داوود الانطاكي وحتى الان وبعد مرور أربعة قرون كاملة لا يوجد لأهل الإسلام إسهام حقيقي بارز ومميز في تقدم علم ومهنة الطب. للأسف الشديد أمتنا الإسلامية والعربية أصابها الوهن الشديد وأصبحت بالفعل عالة على العالم لدرجة أن (أهل المرض) منها وليس (أهل الطب) هم من ساعدوا بشكل أو آخر في تحقيق بعض أهم الاكتشافات الطبية الحديثة.
ومع ذلك كلمة حق يجب أن تقال وهي أن أهل الطب في عالمنا الإسلامي وإن كانوا لم يتوصلوا لاكتشافات مبهرة وتاريخية ولكنهم في الغالب على درجة عالية من (المهنية) الصحية و(الخبرة) الطبية والتميز السلوكي والتفاني في الإخلاص. وفي زمن الكورونا الحالي الجميع وبجميع اللغات البشرية يلهج بالدعاء ويصدح بالثناء على جهود الأطباء وجميع العاملين في القطاع الصحي على دورهم البطولي في التصدي لهذه الجائحة المريعة.

الجمعة، 10 أبريل 2020

( الحجر المنزلي والاصابة بمرض الكتابة )

العزل المنزلي أثمر أروع الأعمال الأدبية في الشرق والغرب

د. أحمد بن حامد الغامدي

قبل سبعة قرون ماضية أُلفت موسوعة أدبية ضخمة من أربعة الاف صفحة حملت عنوان (نهاية الأرب في فنون الأدب) حاول فيها الأديب والمؤرخ شهاب الدين النويري استقصاء غالب مواضيع ومجالات الأدب العربي حتى عصره. وبعد هذا الفارق الزمني الطويل لابد وإن تقسيمات (وفنون) ومواضيع أدبية حديثة استجدت عبر العصور ومن أشهرها في زمننا الحالي: الأدب المسرحي وأدب الخيال العلمي والأدب النسوي وأدب الرحلات وأدب السيرة الذاتية وأدب الطفل وغيرها كثير جدا.
الأديب العربي في الجملة شديد الاعتزاز بموطنه وشديد التعلق بحريته ولهذا في العصر الحديث بالذات كان من أبرز الأنواع الجديدة في الأدب العربي ما يسمى (أدب المهجر) للشعراء المغتربين خارج الوطن العربي و (أدب السجون) للأدباء المعتقلين داخل زنزانة الوطن العربي. في هذه الأيام نحن نعيش حالة استثنائية بجميع المقاييس فأغلب شعوب العالم في حالة هجرة شعورية عن المألوف واعتقال حقيقي داخل منازلهم بسبب الاحتياطات الصحية للحد من انتشار وباء وبلاء الكورونا. وبهذا من الناحية الأدبية يبدو أننها نتحول من (أدب المهجر) إلى (أدب المحجر) بحيث يصبح الطاغي على الاعمال الأدبية المختلفة تسيد ما استجد في حياتنا من (الحجز المنزلي) و (الحجر الصحي).
للمؤرخ البريطاني البارز أرنولد توينبي نظرية مشهورة لمحاولة تفسير التاريخ تسمى (نظرية التحدي والاستجابة) استلهمها من علم النفس السلوكي وتدور ببساطة حول فكرة أن الشخص أو الدولة أو الأمة إذا تعرضت لصدمه ما تستجيب لهذا المؤثر القوي بعدة طرق قد يكون منها استجابة تحفيزية تثمر نتائج إيجابية تطويرية. وبالأذن من أهل السياسة وفلسفة التاريخ سوف نستعير نظرية التحدي والاستجابة لتوضيح كيف أنه حتى في الأدب والفنون محنة الإقامة الجبرية في المنزل أو الحجر الصحي في المستشفى قد تكون منحة لإبداع أروع الاعمال الأدبية.
خذ على ذلك مثلا ما حصل مع شاعر العربية المبجل أبي تمام الطائي فأثناء رجوعه من خرسان مر على صديقه أبي الوفاء ابن مسلمة في مدينة همذان فأكرم مثواه وأبقاه عنده لعدة أيام. ما حصل بعد ذلك أنه نزل الثلج بكثافة على همذان لدرجه أنه (حجر) ومنع أبي تمام من إكمال سفره فقال له صاحبه (وطن نفسك على البقاء، فإن الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان) وحتى يقوم ابن مسلمه بتسلية أبي تمام وتخفيف أمر (العزل المنزلي) الطويل عليه فتح له خزانة كتبه الضخمة الموجودة بداره. بعض أهل الأدب يقولون إن أبي تمام في اختياراته الشعرية أشعر وأجود منه في نظمه للشعر وإن صدق هذا النقد الأدبي فلنا أن نشعر بالامتنان لذلك الشتاء الثلجي الذي أجبر شاعرنا النحرير على العزل المنزلي في دار ابن سلمه ومطالعة نوادر الكتب واكتشاف شوادر الاشعار لينتج لنا خمسة كتب أدبية مهمة في الشعر من أبرزها ديوان (الحماسة) الذائع الصيت والفائق التأثير.
ولننتقل من زمهرير خرسان إلى كآبة ليالي الشتاء السويسري ومن مبجل الشعر العربي أبي تمام إلى مبجل الشعر الإنجليزي اللورد بايرون والذي نستدعيه هنا ليس لأنه توفي نتيجة انتشار وباء التيفوئيد في اليونان عام 1824م ولكن بسبب دور الحجر المنزلي في تحفيز روائع الأدب. في شتاء عام 1816م كان الشاعر المنبوذ اللورد بايرون يقيم في منزله الفخم على ضفاف بحيرة ليمان السويسرية ويستضيف في بيته الشاعر الانجليزي الشاب العبقري بيرسي شيلي وزوجته الروائية ماري شيلي. في تلك السنة وبسبب من ثورة بركانية هائلة في اندونيسيا نتج عنها رماد كثيف غطى سماء الأرض وعكس اشعة الشمس ولهذا أصاب أوروبا شتاء كاتم في ظلمته وبرودته. سوء الأجواء الخارجية اضطرت اللورد بايرون وضيوفه على البقاء لفترات طويلة في المنزل ولهذا اقترح اللورد بايرون في إحدى الامسيات على إقامة مسابقة بينهم من يستطيع أن يؤلف قصة رعب تحاكي الأجواء المظلمة والفظيعة التي يعيشون فيها. ومن ذلك العزل المنزلي الشتوي جاء الالهام للشابة الرقيقة ماري شيلي لإبداع رواية المعروفة (فرانكشتاين) والتي تدور عن مخلوق بشع ومرعب تم تجميع اجزائه من الجثث وهذه الرواية قد تكون أول رواية في مجال أدب الرعب والجريمة وذات تأثير كبير في انتاج تيار أدبي غربي جديد يسمى الأدب القوطي.
مرارا وتكرارا في تاريخ الأدب أنتجت مثل هذه الفترات الزمنية المركزة والمكثفة أثناء الحجز المنزلي العديد من أبرز الاعمال الأدبية وكدليل إضافي خذ على سبيل المثال خبر الروائي البريطاني ذو الأصول اليابانية كازو إيشيغورو والحاصل على جائزة نوبل في الادب عام 2017 الذ حصل على شهرته ومكانته الأدبية المرموقة نتيجة تأليفه لرواية (بقايا النهار) والتي يعترف بأنه كتبها خلال أربعة أسابيع فقط عندما (حجز) نفسه في شقته الصغيرة جنوب لندن وعمل بشكل مكثف ولساعات طويلة يوميا حتى ينجزها.
إذا كان الحجر المنزلي القصير لعدة أسابيع أو أشهر أثمر نماذج متعددة من روائع الادب العالمي فما بالك بالسنوات الطويلة التي يقضيها بعض الادباء والشعراء في العزلة المنزلية الاختيارية. جميعنا يعلم أن شاعر العربي الكبير أبي العلاء المعري يحمل لقب (رهين المحبسين) لأنه كان حبيس العمى وحبيس قعر منزله ولكن ليت شعري هل كان لتك الإقامة المنزلية والعزلة المجتمعية دور في عبقريته المشهورة. الجدير بالذكر أن أبا العلاء المعري لم يحبس نفسه في بيته إلا بعد أن تخطى سن الأربعين وحتى تلك الفترة لم يكن بعد قد أنتج أياً من أعماله الأدبية والفكرية الكبرى مثل رسالة الغفران وشرح ديوان الحماسة وكتاب معجزة أحمد واللزوميات ويبدو أن للعزلة المنزلية دور كبير في تشكيل فكره الفلسفي وأرثه الأدبي. ونفس هذه الظاهرة يمكن أن نسقطها بشيء من التجوز على عملاق اللغة العربية الحديثة إلا وهو الاديب الكبير عباس محمود العقاد فهو في بداية حياته الفكرية أشتهر فقط بمقالاته الصحفية وببعض معاركه الأدبية المفتعلة لكن مرحلة النضج الفكري البارز له كان في آواخر عمره عندما أقام في شبه عزله في شقته الشهيرة في مصر الجديدة والتي انشاء فيها صالونه الأدبي المعروف. وخلال هذه الفترة من شيخوخة العقاد بدأ في كتابة أهم وأبرز انتاجه العلمي والمتمثل في سلسلة كتب (العبقريات) والعديد من كتبه الفلسفية والفكرية وكتب مقارنة الأديان.
وقبل مغادرة مجال العزل المنزلي وتحفيزه للإبداع الادبي تجدر الإشارة السريعة (لضيق فضاء المقال) لموضوع ذو صله وهو فرض (الإقامة الجبرية) على العديد من الشعراء والادباء والمفكرين وما كان أثر ذلك فيما نحن فيه. الحضارة الغربية تفتخر بعصر النهضة في القرن الخامس عشر وعصر الانوار في القرن الثامن عشر وأحد أهم رموز حركة التنوير الأوروبية هو الأديب والمفكر الفرنسي دينس ديدرو صاحب فكرة ورئيس تحرير الموسوعة الفرنسية ذات التأثير البالغ الأثر في تشكل الفكر الغربي الحديث. في سن السابعة والثلاثين وبسبب انحرافاته الفكرية الصادمة للمجتمع تم اعتقال ديدرو لفترة من الزمن ثم أطلق سراحه بشرط أن يخضع للإقامة الجبيرة في منزله وخلال ذلك الحجر المنزلي بدأت بواكير تنفيذ مشروع حياته الكبير في انتاج موسوعة الادب والعلوم والمهن.
ومن الأمور التي يجدر الإشارة إليها ولو بعجالة أنه قد تضطر الظروف البعض إلى (الاختباء المنزلي) وعليه قد تتاح الفرصة لهم إما لكتابة مذكراتهم خلال فترة الاختفاء البيتي أو تأليف كتب أو روايات فريدة. خير مثال على ذلك الفتاة المراهقة اليهودية آن فرانك Anne Frank والتي توارت هي واسرتها في علية أحد المنازل في هولندا وذلك للفرار من الاضطهاد النازي لليهود. لقد قامت تلك الفتاه بكتابة مذكراتها اليومية عن مرحلة الاختباء التي استمرت لمدة سنتين ونشرت لاحقا في كتاب واسع الانتشار جدا حمل عنوان (مذكرات فتاه صغيرة) وتحول لفلم سينمائي كما تم تحويل مخبأ الاسرة السري إلى متحف مشهور في مدينة أمستردام.

الحجر الصحي ومرض الكتابة
 بحق المرأة كائن غريب فعلى الرغم من كونها أكثر مخلوق ملازم للمنزل إلا أنها يبدو لم تتأثر كثيرا من الفرضية التي سقناها بأن البيت يحفز الابداع بل أن الادب النسوي لا ينتفش إلا في لحظة مغادرة المرأة لحصنها البيتي. ولهذا في الغالب تحتاج المرأة أو الفتاه إلى محفز ودافع أقوي لإطلاق شحنتها الابداعية ومواهبها الأدبية وهذا يتمثل أحيانا في تعرض المرأة لمؤثر إضافي أثناء اقامتها في المنزل مثل أن تتعرض لمرض أو وعكة صحية تتوجب (حجر) إضافي لها في المنزل.
في أوائل مراحل الشباب تعرضت الفتاة الشقية أجاثا كريستي لمرض أجبرها على ملازمة سريرها في المنزل لعدة أيام وتحت توجيهات ونصائح والدتها السيدة كلارا بدأت تلك الشابة في تجزيه الوقت بكتابه قصة قصيرة حملت عنوان (بيت الجمال). ومن هذه الوعكة الصحية تسلل مرض الكتابة للسيدة أجاثا كريستي (المشهورة بملكة روايات الجريمة) لتصبح واحدة من أكثر الكتاب انتشارا وشهرة لدرجة أنه يتوقع أن عدد مبيعات رواياتها بلغ أكثر من بليونين نسخة. ومن أشهر روائية بريطانية أجاثا كريستي إلى أشهر روائية أمريكية مارغريت ميتشل صاحبة الرواية البارزة (ذهب مع الريح) حيث نجدها هي الأخرى تتسبب وعكة صحية في ملازمتها للبيت. في سن السادسة والعشرين تعرضت السيدة مارغريت ميتشل لجرح في كاحل رجلها أجبرها على البقاء في سريرها بالمنزل حتى تتعافى وبنصيحة من زوجها هذه المرة أخذت تسري عن نفسها بالتجهيز لروايتها الوحيدة والفريدة والتي استغرقها تأليفها ستة سنوات كاملة.
وفي أوائل بواكير الشباب أصيب الأديب العربي الكبير على أحمد باكثير بمرضى الحمى الذي اقعدته تماما في منزله وكان غاية أمنياته أن يستطيع المشي ليخرج ولو للحظات من المنزل ومن هنا جادت قريحته الشعرية قصيدته (دعيني أيتها الحمى) والتي لفتت الأنظار لملكته الأدبية الجيدة. وما أن تعافى باكثير من الحمى حتى أصيب بمرض الكتابة وبدأ المشاور الطويل في كتابة الاعمال الروائية والمسرحية الخالدة.
وفي مقابل أجاثا كريستي ومارغريت ميتشل وعلى أحمد باكثير الذين بدأوا مشوار الادب بالحجر الصحي المنزلي نجد العديد من مشاهير الادباء والشعراء في فترات متعددة من حياتهم أجبروا على الإقامة في منازلهم بسبب تفاقم شدة المرض عليهم. من ذلك مثلا الشاعر الإنجليزي الشاب جون كيتس (أحد أبرز رموز حركة الشعر الرومانتيكية مع اللورد بايرون وبيرسي شيلي السالفين الذكر) الذي أصيب بمرض السل وتوفي في سن السادسة والعشرين. وكذلك الاديب الفرنسي البارز مارسيل بروست (صاحب رواية البحث عن الزمن المفقود) والذي عانى طوال عمره من مرض الربو ولهذا كان يتجنب الخروج للمنزل لدرجة أنه في آخر ثلاث سنوات من عمره لم يكن حتى يغادر غرفة نومه المقفلة بستائر كثيفة.
وختاما أنا ما زلت في حيرة من عبارة الشاعر الإنجليزي توماس إليوت (صاحب قصيدة الأرض اليباب والحاصل على جائزة نوبل في الادب) عندما قال: البيت هو المكان الذي يبدأ منه المرء (Home is where one starts from)، فهل كان يقصد بداية الولادة أم بداية الكتابة !!!.

( النياحة على الكتب )

إذا فقد الكتاب فذاك خطبٌ       عظيم قد يجلّ عن العظيم

 
د/ أحمد بن حامد الغامدي


كل من أحب ولم يقع في ثنائية (شوق الانتظار وفجيعة الغياب) فاتهمه في صدق وعمق مشاعره في الصبابة والغرام. وبالأذن من دنيا العشاق سوف نستعير (معيار الغرام) ذاك لقياس مقدار الهيام بالكتب وعشق الأوراق من خلال ثنائية الشوق والفجيعة. لهفة الشوق للقاء الكتب أفضح وأفصح ما تكون خلال معارض الكتب فكم منا يعلم أن معرض الرياض الدولي للكتاب كان من المفترض أن يبدأ في الأيام القريبة القادمة وكم منا تمتم مع شاعر الاطلال إبراهيم ناجي لهفته للقاء الحبيب:
أغدا قُلتَ؟ فعلمني اصطبارا          ليتني أختصر العمر اختصارا

أما وقد تأجل افتتاح معرض الكتاب بسبب جائحة الوباء القادم من الشرق فهل فعلا استشعرنا فجيعة غياب الكتب لأن حرقة الفراق تثبت صحة مقولة شكسبير (من نحبهم بشدة .. يختارهم الغياب بدقة). يقولون سلوة المحب الذكرى وأقول إن عزاء ومواساة المحب في فقد حبيه ليست حصرا أن تكون من خلال استرجاع ذكرياته هو فقط ولكن قد تكون أخبار مصارع العشاق في محبة الأوراق رافد آخر لتسلية الأشجان وتعزية الأحزان.

أجارنا الله وأياكم من بلاء الوباء فلم تسلم من جائحته حتى الكتب ففي الزمن الحالي أغلقت المكتبات وأوقفت المعارض الدولية بينما في العصر القديم غالبا ما تصبح الكتب في زمن الطاعون من سقط المتاع. في نهاية القرن الثامن الهجري أصابت الديار المصرية كارثة انتشار وباء الطاعون وهنا أضطر أحد رجال الحديث إلى بيع مكتبته وقراطيسه العلمية وكان ممن استغل تلك الفرصة الامام الحافظ ابن الملقن (أحد أبرز شيوخ الحافظ ابن حجر العسقلاني) الذي اشترى منها عدد كبير بسعر زهيد لدرجة أن مسند الأمام أحمد الضخم تم بيعه بمبلغ ثلاثين درهم فقط. المأساة لم تنته هنا فإن ابن الملقن كان مما اشتهر عنه ولعه الشديد في جمع الكتب وعنايته بها. إلا أن تلك المكتبة الشاملة والخزانة العامرة احترقت في آواخر عمره مما تسبب في تغير حال الشيخ بأن اختلط ذهنه واختل عقله لدرجة أن ولده حجبه عن الناس إلى أن مات.
وفقدُ الكتاب كفقد الصوابِ         فيا هول من قد أضاع الكتب

مصيبة فقدان الكتب وخسارتها بالحرق أو الغرق أو السرق وقعها عنيف وأثرها كثيف على عشاق الكتب وقد تكررت في التاريخ العربي حوادث متعددة لأشخاص أصيبوا بصدمة نفسية حادة جراء فقدهم لكتبهم وكراريسهم. فهذا الكاتب الصحفي المصري المعروف أنيس منصور يذكر في كتابه (كل معاني الحب) أن الشريف إبراهيم العياشي أحد أبرز مؤرخي المدينة المنورة في العصر الحديث عندما زاره في القاهرة أخبره عن قصته الحزينة عندما تعمدت زوجته بعد خلاف بينهما إلى إحراق كتاب له أمضى زمنا طويلا في تأليفه مما تسبب له بإصابته بالشلل.  ويبدو أن الشيخ العياشي كان يسير على خطى العديد من السلف الصالح في تفضيل الكتاب على أعز الاحباب (الزوجة) فهذا عالم العربية الأبرز سيبويه عندما غارت زوجته من كتبه أحرقتها في غيابه وعندما شاهد سيبويه كتبه وهي رماد مذرور وهباء منثور فقد وعيه وأغشي عليه. وممن فجع بحرق كتبه أبو علي الفارسي وهو من أعلام علم النحو في القرن الرابع الهجري والذي خسر كتبه مع من خسر في الحريق الكبير بمدينة بغداد الذي ذهب فيه عدد كبير من كتب علم البصريين في النحو. وعندما أحترق صندوق كتب أبي علي الفارس فقد وعيه وغشي عليه من هول الصدمة وبقي يوم وليلة لا ينطق وعدة أيام لا يأكل ولا يشرب. وعندما سأله تلميذه ابن جني لاحقا عن سلوته وعزائه عن ذلك نظر إليه معجبا ثم قال (بقيت شهرين لا أكلم أحدا حزنا وهما ... وأقمت مدة ذاهلا ومتحيرا).
إذا فقد الكتاب فذاك خطبٌ           عظيم قد يجلّ عن العظيم
وكم قد مات من أسفٍ عليها         أناس في الحديث وفي القديم

في زمن الفجيعة يقوم البعض بإقامة صيوان العزاء وقد يتطرف البعض الآخر برفع صوت العويل وهذا ما حصل مع أحد أغرب عشاق الكتب إلا وهو الوزير جمال الدين القفطي والذي كان لا يحب من الدنيا غير الكتب ومن شدة تعلقه بجمع الكتب والمحافظة عليها انتشرت اخباره في كتب التاريخ فذكر قصصه المؤرخين الذين عاصروه وشاهدوا رأي العين شدة تعلقه بمكتبته مثل ياقوت الحموي. وما يهمنا هنا في النياحة على الكتب أن صلاح الدين الصفدي ذكر عن الوزير القفطي أنه كان يبحث لفترة طويلة عن كتاب الأنساب لابن السمعاني وعندما علم أخيرا أن نسخة من ذلك الكتاب استخدم ورقها لعمل قوالب القلانس (جمع قلنسوة) حدث للأمير القفطي ما لا يمكن التعبير عنه من الهم والغم والوجوم. وانقطع الأمير عن الذهاب إلى مقر الوزارة وأحضر من نَدَبَ على الكتاب كما يُندب على الميت والفقيد ولهذا حضر عند هذا الوزير الأعيان يسلونه ويعزونه ويواسونه في مصابه الأليم.
إذا فجع الدهر امرءاً بخليله           تسلّى ولا يُسلى لفجع الدفاتر

الجدير بالذكر أن بعض عشاق الكتب والمتعلقين بهم ربما بالفعل أحزنهم وعظم عليهم فقد كتبهم مثل أو أكثر من فقد أبنائهم وأحبائهم ومما يذكر في هذا الشأن أنه أثناء هجوم التتار على مدينة بغداد قتل ولد العلامة عبدالصمد البغدادي وأعدمت كتبه ولهذا كان يقول بعد ذلك (في قلبي حسرتان .. ولدي وكتبي). مأساة الفقد المزدوج للكتب والولد تكررت مع علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر وفق ظروف توافقيه عجيبة حيث إنه أقام لعدة سنوات في مدينة بيروت وأنشأ له فيها مكتبة عامرة وفي منتصف السبعينات الميلادية كان أبنه الأكبر محمد عائدا من بعثته الدراسية من أمريكا إلى المملكة عن طريق مدينة بيروت. وهنا تحصل الكارثية الفريدة أن يتم حرق ونهب مكتبته وشقته المطلة على ساحة البرج في وسط بيروت أثناء الحرب الاهلية اللبنانية ثم بعد ذلك بفترة يتم قصف الطائرة التي كانت تقل أبنه محمد وهي تستعد للهبوط في مطار بيروت مما نتج عنه القضاء على جميع من فيها. لسنوات طويلة جمع الشيخ الجاسر في مكتبته البيروتية عدد كبير من نفائس الكتب ونوادر المخطوطات ولهذا أصابته حرقة كبيرة على فقدها لدرجة أنه يتردد أن الشيخ الجاسر قد قال (لفَقدُ كتبي أشد على نفسي من فقد ولدي).
ومن غزو المغول لبغداد والحرب الاهلية في بيروت ننتقل لقصة غريبة عن التفجع لفقد الكتب حصلت في القرن الأول الهجري وصاحب المأساة فيها هو التابعي الجليل عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة. في السنة الثالثة والستين من الهجرة النبوية الشريفة وقعت الكارثة الشنيعة المسماة (يوم الحرة) والتي حصل فيها استباحة المدينة المنورة من قبل جيش يزيد بن معاوية. الغريب في المر أنه في تلك الوقعة ولسبب غير مفهوم تماما قام عروة بن الزبير بشكل متعمد بحرق بعض كتبه الفقهية وحسب ما ينقل عن أبنه هشام أنه ندم على ذلك وكان يقول عن تلك الكتب (لوددت أنني كنت فديتها بأهلي ومالي).
 الشاعر والفارس العربي أسامة بن منقذ كان أحد قادة صلاح الدين وكان له صولات وجولات في الجهاد ضد الصليبيين وحصل أن كانت عائلته تقيم في مصر ولهذا عبر الوساطات الدبلوماسية نجح في أن يأخذ الأمان لأهلة أن يخرجوا من مصر. إلا أن نكبته الكبرى حصلت عندما حصل الاستيلاء ومصادرة مكتبه العامرة بالكتب الفاخرة ولهذا قال أسامة بن منقذ عن فاجعة خسارة تلك الكتب (فان ذهابها حزازة في قلبي ما عشت فهذه نكبات تزعزع الجبال). وهذا حجة الإسلام الامام الغزالي وهو في شبابه يتعرض هو الآخر للسرقة وقطع الطريق ومع ذلك كاد أن يضحي بحياته في سبيل أن يرجع كتبه العزيزة على قلبه والتي سرقت مع أغراضه. ويذكر الغزالي كيف أنه تتبع تلك العصابة وبالرغم من تحذير كبير اللصوص له بالرجوع وإلا قتل إلا أنه تجرأ في الالحاح عليهم أن يرجعوا له كتبه وأوراقه التي ما هي بشي ينتفعون به وهنا رق قلب مقدم قطاع الطرق لطالب العلم المتعلق بالكتب ورد عليه كراريسه.
نهاية سعيدة بعودة الكتاب للحجة الامام فعسى كذلك أن يكون فرجنا قريبا فنأمن بعد خوف ونجتمع بمن نحب ويفك أسر الكتب من صناديقها في معارض الكتاب ويكون الحال كما قال الأول:
عسى الكربُ الذي أمسيت فيه       يكون وراءه فرجٌ قريبُ
فيأمن خائف ويُفك عانٍ               ويأتي أهله النائي الغريبُ


الجمعة، 3 أبريل 2020

( حبات الكرز ونظرية المؤامرة !!! )

هل فعلا الروايات الأدبية دليل على المؤامرات الكونية

د/ أحمد بن حامد الغامدي

من لطائف الاستنباط أن المفكر العراقي المعروف علي الوردي ذكر في كتابه خوارق اللاشعور أنه ليس هناك حد واضح بين الوهم والحقيقة وأن الوهم (كثيرا ما يؤدي إلى خلق الحقيقة). ولا أدل من احتمالية تسبب الوهم والخيال في خلق الواقع ما أنتشر مؤخرا لدى شرائح واسعة من المجتمعات من التصديق بنظرية المؤامرة وأن أعمال روائية متخيلة يمكن أن تفرض نفسها على الواقع لتصبح حقيقة ملموسة. الأعمال القصصية والروايات الأدبية مبنية على التخيلات ومرتكزة على التوهمات فهل بالفعل يمكن أن يتحول الخيال إلى واقع أم أن الأمر لا يعدو أن يكون (خداع ذهني) وانحراف في البصر والبصيرة.
في الواقع مع تفشي وباء الأمراض المعدية تفشى أيضا بلاء اختلالات التفكير الذهنية لدرجة أننا أصبحنا أكثر تقبل لتصديق نظرية المؤامرة بسبب فقرة في كتاب أو عبارة في خطاب. ومن ذلك مثلا اقتناع الفئام من الناس أن الوباء الفيروسي الأخير مؤامرة محبوكة من الغرب ضد الشرق وكل سندهم في ذلك فقرة واحدة واشارة عابرة وردت في رواية (عيون الظلام) للروائي الأمريكي دين كونتيز تشير بأن مدينة ووهان الصينية سوف تكون هي بؤرة انطلاق وباء قاتل يتسبب به فيروس خبيث يحمل أسم Wyhan 400 (ووهان - 400). وبحكم أن هذه الرواية منشورة منذ أربعين سنة لذا فكيف تحول (الوهم والخيال) الادبي في الرواية إلى (حقيقة) واقعية في الزمن الحالي الذي يشهد زخم هائل للاقتصاد الصيني إلا إذا كان وراء الأمر مؤامرة أمريكية تريد عرقلة انطلاق التنين الصيني المندفع. يقال إن العين لا ترى إلا ما يراه العقل وإذا كان الذهن تسيطر عليه فكرة مضللة فإنه سوف يخدع البصر بمشاهدة أشياء ليست موجودة في الواقع.
صحيح أنه في تلك الرواية المذكورة تم النص على أسم الفيروس المرتبط باسم المدينة الصينية ولكن لا يوجد على الأطلاق في تلك الرواية ان هذا الفيروس سوف ينتشر في العالم في سنة 2020م وهنا تلاعب الذهن بالنظر وأصبح البعض يؤكد أن الرواية مكتوب فيها كذلك سنة انتشار الوباء وهو أمر غير صحيح. الخداع البصري بسبب التضليل الذهني يجعل البعض لا يرى الحقيقة الصارخة أن الطبعة الأولى لرواية عيون الظلام لم يرد فيها أسم مدينة ووهان الصينية ولا فيروس ووهان 400 ولكن بدلا من ذلك ورد أسم المدينة الروسية غوركي في حين أن أسم الفيروس كان غوركي 400 (Gorki 400). ما حدث كالتالي: عندما نشرت الرواية أول مرة عام 1981م كان الاتحاد السوفيتي هو العدو الأخطر على الأمريكيين ولهذا كانت المدينة واسم الفيروس من أرض العدو الروسي. أما عندما سقط الاتحاد السوفيتي عام 1989م ولم يعد هو الخطر الأول ظهرت النسخة الثانية من الرواية في تلك السنة وتم تغيير اسم المدينة والفيروس إلى عالم العدو الجديد: الصين.

غالبا من يكون الوهم أشد رسوخا من الحقيقة ولهذا تكون نظرية المؤامرة جذابة ومغرية للتصديق لأنها تريح العقل من كد التفكير في تفسير الأمور الغريبة والوقائع المعقدة. والملاحظ أن مسار التفكير التأمري دائما يكون مبني على الرجوع للماضي وإعادة اعتساف تفسير الأشياء بحيث تتماهى مع الحكم المسبق الذي يريد أن يصل له أصحاب نظرية المؤامرة. وكدلالة على هذا الأمر خذ أيها القارئ العزيز المثال التالي: في العام 1923م نشر عالم الكيمياء الأمريكي البارز هربرت لويس (صاحب قانون تركيبات لويس الذي يعرفه جميع طلاب المرحلة الثانوية) رواية أدبية حملت عنوان (البرق الأبيض) تنبأ فيها بظهور سلاح القنبلة الذرية. الاشكال أن نظرية الانشطار الذري واحتمالية إطلاق كمية هائلة من الطاقة من تفكك أنوية الذرات لم تظهر في المجتمع العلمي إلا عام 1939م فكيف تنبأ العالم لويس باستخدام السلاح النووي. وليس هذا فحسب بل إن العالم لويس حدد بالضبط من هم الأعداء الذين سوف يوجه لهم هذا السلاح حيث كتب في تلك الرواية الأدبية (البرق دون الذري وحده هو الذي سيعلم الألمان) كما تنبأ بحصول صراع مع اليابان وتفجير قنبلة في هذه الحرب.
كما يعلم الجميع أسباب ومسار أحداث الحرب العالمية الثانية معقدة وتحكمت بها عوامل متداخله ولهذا من السذاجة أن يجنح أصحاب نظرية المؤامرة إلى أن الحرب كان مخطط لها سلفا وتم افتعالها للقضاء على القوة النامية للأمتين الألمانية واليابانية. وطبعا لا يكفي لهذا الاستنتاج الساذج أن نقول إن عالم كيميائي أمريكي (تنبأ) بتدمير الالمان واليابانيين بالقنابل النووية قبل تصنيعها بعشرين سنة كما يقال حاليا بأن الامريكان خططوا لتدمير الاقتصاد الصيني بنشر الفيروس وأن المؤامرة هي تنفيذ لرواية نشرت قبل ذلك بعدة عقود من الزمن. 
يا سادة يا كرام إن شرح وتعليل حالة التوافق بين الخيال والوهم وبين الحقيقة والواقع أمر صعب ولا يتفق الجميع في قبول التعليل العلمي حول هذه الظاهرة وإن كان يمكن اختصار الأمر بإن الاحتمالات الإحصائية تشير إلى أن الأمر هو مجرد مصادفة وليست مؤامرة. النظرة الإحصائية لبعض الظواهر تقول إنها بالرغم من غرابتها وكون احتمالية probability حدوثها منخفضة إلا إن هذا لا يعني بالضرورة استحالة إمكانية possibility حصولها. من أطرف الأفكار التي تطرح في مجال الاحتمالات الإحصائية نظرية (لامتناهية القرد infinite monkey) والتي تفترض أنه لو أتيح لقرد أن يطبع على آلة كاتبة بشكل عشوائي لفترة زمنية غير منتهية فسوف توجد احتمالية احصائية أن ينتج بالصدفة المحضة إحدى فصول مسرحيات شكسبير.
وبعيدا عن هذه المبالغة الفجة لنفترض أن شخصا عالي الثقافة والمهارة الأدبية ولدية خبرية متعمقة في علم البحار والسفن البحرية مثل الكاتب الأمريكي مورغان روبرتسون فهل سوف يكون مستغربا من الناحية الإحصائية أن يكتب رواية أدبية تتنبأ بحصول كارثة غرق السفينة الشهيرة التيتانك. في عام 1898م نشر مورغان روبرتسون روايته العجيبة المسماة (العبث Futility) والتي تنطبق أحداثها بشكل غريب جدا مع مجريات أحداث غرق سفينة التيتانك والتي تمت في عام 1912م. بكل الصدق أمر محير جدا تفسير التطابق العجيب بين أحداث الرواية (الوهم) وبين الأحداث الفعلية لغرق سفينة التيتانك (الحقيقة). فمثلا اسم السفينة في الرواية تيتان وفي الواقع تيتانك وكلا منهما زعم أنها سفينة غير قابلة للغرق ومع ذلك كلا منهما (في الرواية وفي الواقع) تغرق حول منتصف الليل من شهر أبريل على مسافة 400 ميل من الساحل الشرقي لكندا نتيجة لتضرر ميمنة السفينة بسبب الاصطدام بجبل جليدي عندما كانت السفينة تندفع عبر مياه المحيط الاطلسي بسرعة حوالي 22 عقدة بحرية. من ناحية علم الإحصائية احتمالية التطابق المذهل بين الخيال الروائي والمأساة الحقيقة لسفينة التيتانيك ضئيل جدا لكنه غبير مستحيل إحصائيا ومع ذلك الموقف صعب جدا لأصحاب نظرية المؤامرة أن نقبل منهم اقتناعهم وقبولهم أن غرق تلك السفينة الشهيرة كان مدبر ومتعمد لا لشيء إلا لأن تفاصيل الحادثة كانت منشورة قبل ذلك بأربع عشرة سنة.

من الإحصاء إلى علم النفس لتفسير نظرية المؤامرة
علم الاحتمالات الإحصائية يخبرنا أنه لو وجد أديب أو كاتب مهتم بمجال ما ومطلع عليه بشكل جيد (مثل علم الاقتصاد أو علم الأمراض المعدية) فإنه يمكن أن ينتج رواية أدبية توجد بها بعض الفقرات أو بعض التوقعات (الوهم أو الخيال) التي يمكن أن تتنبأ بشكل ملحوظ بحصول أحداث فعلية. مثل توقع إفلاس شركة كبرى أو انهيار سوق الاسهم والبورصة أو حتى حدوث وباء فيروسي مريع. الاحتمالية الإحصائية لهذه السيناريوهات والحبكات الأدبية في الغالب ضعيفة جدا (ولهذا قيل قديما كذب المنجمون ولو صدقوا) ولكن ما يفسر سبب تضخيمها وارتفاع ضجيجها هو سيكولوجية التفكير لدي العقل البشري وهنا يأتي دور علم النفس في تفسير ظاهرة (نظرية المؤامرة). ما ينبغي التنويه عليه أننا كبشر في العادة في حكمنا على أشياء والظواهر نتأثر بدرجة أو أخرى بالأحكام المسبقة والانحيازيات المعرفية. قد تكون عبارة (دماغك يخدعك) التي يستخدمها البعض هي عبارة فجة وصادمة لكن هذا الواقع وقد توصل علماء النفس والتعليم لعدد كبير من أنواع الانحيازيات المعرفية ما يهمنا منها هنا هو ما يسمى الانحياز التأكيدي (confirmation bias).
في هذا الانحياز الادراكي يميل الذهن البشري إلى تفضيل المعلومات التي (تؤكد أفكاره المسبقة) وهذا من شأنه أن يجعل الشخص منا يقبل صحة ادعاء ما ليس بسبب صحة البراهين في ذاتها ولكن لأن هذا الادعاء يلائم أفكارنا وافتراضاتنا المسبقة. وبالرجوع لرواية (عيون الظلام) واستخدامها لتعزيز نظرية المؤامرة يمكن أن نقول إن موضوع الوباء والامراض المعدية منتشر في عدد كبير جدا من الروايات الأدبية والتي بها توقعات وأحداث كثيرة لم تقع لكن بسبب (الانحياز التأكيدي) تم اصطفاء وانتقاء تلك العبارة الواحدة فقط من رواية (عيون الظلام) وتضخيمها لتصبح دليل حاسم عند البعض على وجود مؤامرة في حين تم اهمال ذكر كل الروايات الأخرى التي تحدثت عن الوباء والامراض وفشلت في التنبؤ بأحداث حقيقة.
قريب من طريقة التفكير الانحيازية هذه نجد كذلك مفهوم (الالتقاطية Cherry picking) وهي كمن يلتقط ويتناول حبات الكرز البراقة الشهية من الطبق ويترك الحبات الداكنة بمعنى أن الشخص أو الذهن البشري يقوم بالتقاط واختيار picking البيانات والمعلومات التي تعزز رؤيته وأفكاره المسبقة مع تجاهل جزء كبير من البيانات والمعلومات التي لا تؤيد أو تعارض تلك التصورات المسبقة.
في هذا السياق قد يكون من الملائم ربط نظرية المؤامرة بظاهرة هوس البعض على إثبات أن كوكب المريخ قد سبق وأن عاشت عليه كائنات ذكية ودليلهم الوحيد في ذلك هو استخدام صور أشكال الصخور كما تستخدم حبات الكرز في ظاهرة الالتقاطية السابقة الذكر. في الواقع تقوم وكالة الفضاء الامريكية ناسا بتحميل الاف الصور لسطح المريخ التي التقطتها الأقمار الصناعية ونشرها على شبكة الانترنت. وهنا يقوم أدعياء نظرية غزو الكائنات الفضائية (بفرز) هذه الصور وانتقاء (والتقاط) الصور التي بسبب الخداع البصري تبدو وكأنها تشبه شكل بناء هرمي أو وجه أنسان أو شكل جسم أبو الهول ويستخدمون هذا (الوهم) لمحاولة اثبات أن كوكب المريخ مسكون بكائنات حية ذكية. نفس هذه الظاهرة تتكرر كثيرا في حياتنا اليومية من خلال (التوهم) أن بعض السحب تحمل اشكال حيوانات أو أن شكل ظلال القمر تحمل صورة انسان أو أن البقع السوداء المنتشرة على البلاط قد تحمل صورة المغنية أم كلثوم كما هي الطرفة التي انتشرت مؤخرا مع هواجس الحجز المنزلي.

( صفقة القرن الثالث عشر الميلادي )

تكرار قصة تسليم من لا يملك لمن لا يستحق

في الواقع نحن الآن في مطلع القرن السابع الهجري لكي نستنطق التاريخ لمعرفة من هو الجدير بتوصيف (إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق). للولهة الأولى قد يتوقع البعض أننا نسترجع ذكرى الوعد المشؤوم قبل مائة سنة عندما وعد أرثر بلفور (من لا يملك) بأن الحكومة الإنجليزية سوف تمنح ممثل الحركة الصهيونية حاييم وايزمان (من لا يستحق) أحقية أنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. لكن ما نقصده هنا أنه قبل سبعة قرون بالتمام والكمال من تاريخ ذلك الوعد السيء الذكر قام من لا يملك (السلطان الايوبي الملقب بالكامل) بمنح من لا يستحق (فريدريك الثاني ملك صقلية) أحقية السيطرة وامتلاك مدينة القدس في واحدة من أغرب الصفقات السياسية في التاريخ.
 قبل حوالي ثلاثين سنة ألف الدكتور الأردني ماجد عرسان الكيلاني كتابه التربوي الفريد (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) استعرض فيه عوامل التجديد ومراحل الإصلاح للمجتمع المسلم. المأساة أن عوامل البناء قد لا تصمد كثيرا أمام عوامل الهدم فبمجرد ما أثمر (جيل صلاح الدين الفريد) دحر الصليبين في معركة حطين واستعادة مسجد الأقصى الشريف سرعان ما أصاب الوهن الامة الإسلامية لدرجة أن أقرباء صلاح الدين أنفسهم هم من قام بإعادة تسليم القدس للصليبين من دون سيف ولا دمٍ مهراق !!!. جيل صلاح الدين المجاهد سرعان ما ورثه واستخلفه جيل مثخن بالتشظي والانقسام والخنوع لدرجة أنه بعد أربعين سنة فقط من استرجاع القدس عام 1187م تم التنازل الأليم عنها في عام 1228م ليس هذا وحسب بل تم اجبار جميع سكان القدس من المسلمين على الجلاء والخروج منها لتبقى في ملك وحكم الصليبيين لمدة عشر سنوات كاملة.

ما حصل يا سادة يا كرام أن خامس سلاطين الدولة الأيوبية وحاكم مصر السلطان الكامل (أبن أخ صلاح الدين) ليس فقط فرط فيما لا يملك لكنه أيضا فضل مصالحه الشخصية في مقابل التضحية بمقدسات المسلمين. وذلك أنه عرض التنازل عن مدينة القدس (التي يملكها في الواقع ويسطر عليها أخوه المعظم عيسى حاكم دمشق) للصليبين في مقابل انصرافهم عن غزو مدينة دمياط وذلك في خضم حروب الحملة الصليبية الخامسة التي كانت تستهدف احتلال أرض مصر. كان ذلك في عام 1218م (الموافق 615 هجري) أي قبل عشر سنوات من مصيبة التسليم الفعلي للقدس مما يدل على الاستعداد النفسي والمنهجي لذلك السلطان مقايضة بقائه في الحكم ولو بدفع ثمن التنازل عن الكرامة القومية والأمانة الدينية.
 وبعد انكسار موجة الحملة الصليبية الخامسة بسبب فيضان نهر النيل واجتياحه لمعسكر النصاري في دلتا مدينة دمياط نشب الصراع وتجدد بين (الإخوة الاعداء) السلطان الكامل حاكم مصر وأخية المعظم عيسى حاكم دمشق. وفي مشهد مألوف في دنيا السياسة العربية لا عجب أن نعلم أنه لحسم هذا الصراع الداخلي بين الاشقاء أستعان حاكم دمشق بملوك الشرق ممثلين بالسلطان جلال الدين الخوارزمي في حين أستغاث حاكم مصر بملوك الغرب من خلال عميدهم الامبراطور فريدريك الثاني صاحب صقلية وملك الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
 يشير بعض أهل التاريخ إلا أن هدف السلطان الكامل حاكم مصر من دعوة الصليبيين إلى أرض الشام مرة ثانية أن هذا من شأنه إقامة منطقة عازلة مسيحية تحمية من الاطماع التوسعية لأخيه المعظم عيسى حاكم دمشق. وبحكم أننا الآن في عام 1228م وبحكم أن بيت المقدس ما زال أصلا تحت سيطرة حاكم دمشق فهذه هي المرة الثانية التي يتنازل فيها من لا يملك (السلطان الكامل) لمن لا يستحق (الامبراطور الضعيف فريدريك الثاني).
 كانت صفقة القرن الثالث عشر الميلادي هذه تنص على أن يقوم الامبراطور فريدريك الثاني بنجدة ومساعدة السلطان الكامل في حربه وصراع ضد أخية المعظم عيسى في مقابل أن يسلمه بيت المقدس وجميع المدن التي استرجعها صلاح الدين بالساحل الشامي مثل صيدا وعسقلان واللاذقية. حديثا قيل (الرجل الصبور لا يستعجل التاريخ) وربما لو سمع السلطان الكامل بهذا المثل لما قام بفعلته العجيبة تلك حيث تذكر كتب التاريخ أنه عندما وصل الامبراطور فريدريك الثاني بجيشه الهزيل إلى مدينة عكا كان حاكم دمشق المعظم عيسى قد مات فجأة مما جعل السلطان الكامل ينعم بمد نفوذه وسيطرته على القطرين مصر والشام وبهذا انتفت الحاجة لخدمات الامبراطور الصقلي وأصبحت (صفقة القرن) في مهب الريح.
لكن قبل إكمال ذكر مئال ومصير هذه الصفقة العجيبة دعونا نرجع للوراء قليلا ونستنطق التاريخ عن حجم الحملات الصليبية الثلاث التي عاصرت تلك الصفقة. وكما هي الصورة النمطية عن شراسة الحروب الصليبية وخطرها البالغ على الامة الإسلامية لا عجب أن نعلم أن الحملة الصليبية الخامسة شارك فيها عدد من ملوك وأباطرة أوروبا وأكثر من مائتي ألف مقاتل.
 بينما الحملة الصليبية السابعة كانت بقيادة ملك فرنسا المتعصب لويس التاسع ومعه أسطول بحري ضخم يشمل 1800 سفينة محملة بحوالي ثمانين ألف مقاتل. ما يهمنا هنا ذكره أن صفقة القرن الثالث عشر الميلادي كانت متوافقة مع الحملة الصليبية السادسة التي كانت بقيادة الامبراطور سالف الذكر فريدريك الثاني والذي وصفنها بأنه (لا يستحق) استلام وحكم القدس ليس فقط لأنه غاصب ومعتدي ولكن لأنه أيضا كان خصم وعدو ضعيف جدا لا يشرف أحد أن ينهزم أمامه.
 في واقع الأمر كان تسليم القدس من قبل السلطان الكامل إلى الامبراطور فريدريك كان تسليم سياسي (ضمن صفقة القرن) وليس تسليم عسكري حقيقي بدليل أن فريدريك عندما نزل على سواحل مدينة عكا لغزو بلاد المسلمين لم يكن معه إلا ثلاثة الاف مقاتل فقط.
 والأدهى من ذلك أن هذه الحملة الصليبية لم تكن ُشنت بموافقة بابا الفاتيكان ولهذا حرم أسقف روما الأعظم المشاركة فيها ووصف البابا الامبراطور فريدريك بأنه قرصان يريد أن يسرق مملكة القدس. في هذا السياق نستشعر الآن أن تنازل السلطان الكامل لقائد الصليبيين البالغ الضعف أمر بالغ الغرابة ولا يكاد يصدقه العقل فضلا عن أن يقبله الضمير.
بلغة الفرنجة اليوم عندما يريدون التأكيد على ضرورة المحافظة على أبرام الصفقات فهم يقولون: deal is a deal (الاتفاق هو الاتفاق) بينما في غابر الازمان كان العرب يفصحون عن ذلك بقوله: لا نقيل ولا نستقيل (لا نفسخ البيعة ولا نقبل فسخها). وهذا ما كان من الامبراطور فردريك الثاني أن تمسك بالتعهد السابق من السلطان الكامل له بأن يسلمه القدس ولهذا تذكر المراجع التاريخية العربية أن الامبراطور كتب رسالة للسلطان يستعطفه ويستعطيه ويقول فيها (أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمر به خروج وأنت تعلم أني أكبر ملوك البحر. وقد علم البابا والملوك باهتمامي فإن رجعت خائبا انكسرت حربتي بينهم فإن رأى السلطان أن يُنعم عليّ بقبضة البلد والزيارة فسيكون صدقة منه).
بالنسبة للبعض (جبر الخواطر مقدم على كسر المخاطر) وبهذه الاريحية في السياسة الشرعية صعق السلطان الكامل الامة الإسلامية بموافقة على الاستمرار في تنفيذ بنود صفقة القرن الثالث عشر الميلادي وتسليم الفرنجة الصليبيين بيت المقدس بالإضافة إلى البلدات ذات الأهمية المسيحية مثل بيت لحم والناصرة وميناء صيدا الاستراتيجي. ويذكر المقريزي في كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك (إن الملك الكامل أرسل رجاله فنودي بالقدس بخروج المسلمين منها لتسليمه إلى الفرنج، فاستعظم المسلمون ذلك وأكبروه ووجدوا من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه وعظم الصراخ والعويل). وفي موضع آخر يشير المقريزي إلى تشنيع الشيخ الحافظ سبط ابن الجوزى على ما حصل وخطبته العصماء في الجامع الأموي في دمشق ورثائه للمسجد الأقصى لدرجة أنه علت أصوات الناس بالصراخ وأشتد بكاؤهم (فلم ير بدمشق أكثر بكاء من ذلك اليوم).
تراجيديا ومأساة عجيبة حصلت للإسلام والمسلمين في ذلك العصر، وكان الله في العون والله يجنبنا الحتمية التاريخية التي عبر عنها يوما كارل ماركس بقوله (التاريخ يعيد نفسه مرتين، مره على شكل مأساة ومره على شكل مهزلة).