الاثنين، 20 مارس 2023

( متاحف الشعراء والذاكرة الأدبية )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الشعر .. شكل من أشكال التذكر وهذه الملحوظة مقتبسة من مقولة الشاعر الأسكتلندي المعاصر دونالد باترسون: (القصيدة بمعنى ما هي ليست أكثر أو أقل من آلة صغيرة لتذكر نفسها .. وبالتالي فإن الشعر هو في الأساس عمل تذكاري). وبحكم إننا بعد حوالي يومين سوف نشترك جميعا في (تذكر) الشعر والشعراء بمناسبة حلول (اليوم العالمي للشعر) الذي يتوافق سنويا مع تاريخ 21 من شهر مارس ومع ذلك هل يمكن أن نقبل المبالغة الزائدة عن الحد في مقولة الناقد الأدبي والفيلسوف الإنجليزي القديم وليم هازلت عندما صرح بأن (الشعر هو كل ما يستحق تذكره في الحياة !!). تذكر الشعر والاحتفاء به حق واجب مستحق على كل مثقف وبالنسبة لي فهذه ثالثة مقالة ثقافية أخصصها عن الشعر والأدب بمناسبة إعلان وزارة الثقافة عن تخصص هذه السنة الحالية لتصبح (عام الشعر العربي 2023) وإن كنت أشعر بالغصة والاستغراب أنه حتى الآن لم (أشعر) بأي اهتمام ملموس (بالشعر) في سنة الشعر فها نحن ذا على مشارف نهاية الشهر الثالث من سنة الشعر ولا أثر للشعر والشعراء وهذا ما كنت أخشى منه عندما كتبت مقال (انحسار الشعر وأزمة القصيدة).

وما زاد في (استشعار) خفوت الاهتمام بالشعراء والشعر أنني في الأسبوع الماضي كنت في دولة أذربيجان ووجدت لذلك الشعب احتفاء واضحا بالشعر وأهل القصيدة ففي كل مدينة كبرى حديقة وشارع باسم الشاعر الأذري الكبير (نظامي الكنجوي) كما له العشرات من التماثيل والمجسمات وهو أمر يتكرر مع شعراء آخرين كثر لدرجة أن تم إطلاق اسم الشاعر (فضولي) على اسم مطار حديث في أذربيجان. أما أكثر ما لفت نظري لشدة تعلق وتقدير أهل أذربيجان بشعرائهم وأدبائهم أنه تم ومنذ حوالي قرن من الزمن تدشين (متحف خاص) للشعراء في قلب العاصمة الأذرية باكو. وذلك هو (متحف نظامي للأدب الأذري) والذي يقع في نهاية شارع نظامي التجاري والسياحي الشهير في العاصمة باكو وبالقرب من أسوار المدينة القديمة ويتميز ذلك المتحف بتصميم واجهاته الجميلة التي تحمل لوحات وتماثيل لعشرات الشعراء الأذربيجانيين.

من الأمور الشائعة في العديد من البلدان والمجتمعات وجود متحف مخصص لشاعر واحد أو أديب فرد، ولكن كانت تلك أول مرة أجد فيها متحفا ضخما وبديع التصميم مخصص لكوكبة من الشعراء ولذا هذا المتحف الذي تأسس في عام 1939م يعرف أحيانا باسم: (المتحف الوطني للأدب الأذربيجاني). وفي ضوء معرفة أنه هذا المتحف الشعري يحتوي على حوالي 120 ألف مادة أدبية معروضة أو مخزنة في هذا المتحف والذي يقوم كذلك بإجراء البحوث العلمية ونشر الكتب والدراسات عن الأدب الأذربيجاني، نعلم أنه تحققت على أرض الواقع مقولة الشاعر دونالد باترسون السالف الذكر عندما نطق فقال (الشعر في الأساس عمل تذكاري). وبمعرفة أن الشعر الأذري شديد الشبه بالذات بالشعر الفارسي لدرجة أن مخطوطات الملاحم الشعرية لأعمال الشاعر نظامي مثل شرين وخسرو وليلى والمجنون وإسكندرنامه مكتوبه باللغة الفارسية كما أن ثاني أشهر شاعر أذري هو فضالي يعرف كذلك بالشاعر البغدادي لأنه عاش في العراق وتوفي ودفن في كربلاء. وعليه تعجب من الأمة والشعب الأذري وشدة اعجابه تفاخره بالشعر والشعراء بالرغم من أن أصوله أدبه هجينة وليست نقيه وفي المقابل الشعر وأهل القصيد في علمنا العربي لا يحضون بمثل ذلك (التجسيد) للاحتفاء والاحتفال بالشعراء من خلال انشاء متاحف خاصة بهم تضمن تخليد ذاكرتهم الأدبية.

وعلى حد علمي أمثلة قليلة جدا يمكن ذكرها لمتاحف أدبية تم تدشينها لتخليد ذاكرة شعراء العربية ومع ذلك ينبغي التنبيه أن أغلب هذه المتاحف هي في الأصل تلك المنازل والبيوت التي كان يسكن بها هؤلاء الشعراء المحتفى بهم والقليل عددهم. فمثلا متحف أمير الشعراء أحمد شوقي هو في الأصل إعادة استخدام لمنزله الأنيق على كورنيش النيل بحي الجيزة المسمى كرمة ابن هانئ ولهذا لم يبذل جهد حقيقي في الاحتفاء بشاعر النيل غير المحافظة على مكتبته العامرة وأثاث منزله وبعض الصور ونماذج رسائله وقصائده الشعرية. وفي كثير من الحالات لا يكفي على الإطلاق تحويل منزل الشاعر إلى متحف وخذ على ذلك مثالا الشاعر بدر شاكر السيّاب أهم شاعر عراقي في زمننا المعاصر فكل الذي حصل عليه من الاحتفاء والاحتواء هو تحويل منزل عائلته في قرية جيكور جنوب البصرة إلى متحف بسيط. والمشكلة إن هذا المنزل عتيق جدا ومبني في الأصل من الطين ونظرا لحالة الفقر المدقع كان شبه خالي من الأثاث. ولهذا على خلاف متحف ومنزل أحمد شوقي الفخم على ضفاف النيل الذي يجذب الزائرين أصبح مصير متحف ومنزل بدر شاكر السيّاب الإهمال لأنه في منطقة معزولة ومنظره لا يسر الناظرين. وبدرجة أقل نجد أن منزل الشاعر العراقي المعاصر محمد مهدي الجواهري عندما حول إلى متحف يحتاج الزائر أن يمر بين أزقة ومتاهة شوارع منطقة الكرخ في بغداد حتى يصل إلى ذلك المنزل الصغير والبسيط. وما أود الوصول إليه أن أنشاء وبناء متحف كبير ومنظم على أحدث مستوى وذلك لتخليد ذاكرة لفيف وكوكبة من الشعراء والأدباء أفضل بكثير من مجرد اجتهادات مبسترة لمجرد تحويل منزل متواضع ومعزول لفرد واحد من الشعراء إلى متحف لا يلفت الأنظار ولا يجلب الزوار.

متاحف الشعراء .. التكريم الجماعي للأدب

توجد مشكلة أخرى في التوسع في تحويل منازل الشعراء والأدباء إلى متاحف وهي مشكلة التشتت والتكرار فعلى سبيل المثال شاعرنا الكبير السالف الذكر الجواهري له متحف الآن في بغداد وقد يظهر من يطالب بفتح متحف له في منزله الذي ولد فيه في مدينة النجف أو حتى في البيت الذي أقام فيه زمن النفي والتشريد عندما سحبت منه الجنسية العراقية وعاش ردحا من الزمن في مدينة دمشق التي توفي ودفن فيها. هذا فضلا عن أن الجواهري استقر لفترة طويلة في دولة التشيك وبالتأكيد يوجد بها سكن أو شقة يمكن أن نجد من يطالب بتحويلها يوما ما إلى متحف. للوهلة الأولى يبدو (السيناريو) السابق لتعدد وتكرر المتاحف لنفس الشاعر ضرب من الخيال المبالغ فيه، ولكن لننظر لواقع حال متاحف و(مزارات) الشاعر الإنجليزي البارز ت. س. إليوت. بحكم أن الشاعر إليوت الذي أبدع قصيدة (الأرض اليباب) والذي حصل على جائزة نوبل في الأدب يعتبر حتى الآن آخر شاعر عالمي بارز ومميز ولم يأت بعده من هو أكثر شهرة وأهمية منه لذا لا عجب أن نجد له العديد من المواقع والمباني المنسوبة له، بل إن مجرد زيارته لإيطاليا أو أقامته في إيرلندا أو دراسته في جامعة السوربون الفرنسية تعتبر مصدر فخر لتلك الدول. وبحكم إن  ت. س. إليوت هو في الأصل شاب أمريكي هاجر إلى بريطانيا وحصل على جنسيتها وتوفي بها لذا نجد أن الأمريكان أكثر احتفاءً بأبنهم الشاعر وتذكير الجميع أنه ينتسب إليهم ولذا تحول المنزل الذي ولد فيه بمدينة سانت لويس الأمريكية إلى أحد المعالم التاريخية city landmark الرسمية للمدينة. بينما المنتجع والمنزل الصيفي لأسرة توماس إليوت والذي شهد مراحل مهمة من طفولة الشاعر، نجد هذا المنزل في مدينة غلوستر على الساحل الغربي لأمريكا تم تحويله إلى متحف لترسيخ وتخليد الارتباط بين هذا الشاعر البارز بين الأمة الأمريكية. أما الوضع في مدينة لندن التي هاجر إليه إليوت وتوفي بها فهي تحتضن المؤسسة الثقافية الخاصة به (T.S. Eliot Foundation) والتي من المحتمل أن تهتم في تحويل أحد المنازل أو الشقق التي تنقل للسكن بها في مدينة لندن إلى متحف خاص به بالرغم من أن هذه الشقق معروضة الآن للبيع بأسعار فلكية قد تصل إلى ستة ملايين دولار لا لشيء إلا أن هذا الشاعر البارز قد سكن فيها لفترة من الزمن.

أيه القارئ العزيز لعل الصورة الآن اتضحت والحُجة تأكدت أنه بدلا من تحويل منازل الشعراء إلى متاحف مبعثرة ربما من الأجدى والأذكى تشييد معالم عمرانية مركزية كبرى للأدب والشعراء تكون بمثابة متاحف ثقافية ومراكز بحثية لتخليد الذاكرة الشعرية خصوصا إذا كان الحديث عن جيل الرعيل الأول من رواد الشعر العربي الذين اندثرت منازلهم منذ قرون. صحيح أن بعض الدول الخليجية لها مبادرات ثقافية رائدة في خدمة الشعر والشعراء ونخص بالذكر هنا الوجيه الكويتي سعود البابطين صاحب الصرح الضخم (مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي) ومؤسسة سعود البابطين الثقافية التي تمنح عددا من جوائز الإبداع الشعري هذا بالإضافة لمجالس الشعراء المسماة (بيت الشعر) الموجودة في مدينة دبي وأبوظبي والشارقة، ومع ذلك الحاجة ما زالت ماسه لدينا في الخليج وفي كل الدول العربية لتدشين (متاحف الشعراء).

وبحكم أن أقطاب الشعر الأموي مثل جرير والفرزدق والأخطل اشتهروا بأنهم (شعراء النقائض) لأن شعر الهجاء الذي كان يقع بينهم كان يتم في الغالب في ساحة سوق المربد في مدينة البصرة ولذا نقترح على وزارة الثقافة العراقية أن تطرح مبادرة أنشاء متحف خاص لفحول الشعر الأموي يحمل اسم (متحف شعر النقائض) يتم بنائه في مدينة البصرة. وعلى نفس النسق وبحكم أننا في عام الشعر العربي يا حبذا من ينبري لتنبي فكرة تدشين متحف أدبي في سوق عكاظ بضواحي مدينة الطائف يحمل عنوان (متحف المعلقات العشر). أما منطقة الحجاز فلها ارتباط راسخ مع الشعر العربي الأصيل والفضيل ولذا يمكن اقتراح إقامة صرح ثقافي في المدينة المنورة يحمل مسمى متحف (شعراء حول الرسول) علما بأن أغلب شعراء الرسول كانوا من الأنصار رضي الله عنهم. ونجد منطقة الحجاز هي كذلك الموقع الجغرافي لتحركات شعراء الغزل العفيف من مثل قيس بن الملوح وقيس بن ذريح وكثير عزة وجميل بثينة لذا لعلنا نجد ذلك مسوغ مقبول لطرح مطلب إنشاء (متحف الشعر العذري) في المدينة المنورة مرة أخرى. ولعل الفكرة اتضحت بالمقصود من مقترح افتتاح (متاحف الشعراء) المختلفة الأنواع والأفكار وسوف أتوقف هنا قبل أن ادخل في دوامة اقترح مكان ملائم لاحتضان موقع (متحف شعراء الصعاليك) خوفا من أن أتسبب في إهانة غير مقصودة والله يعلم لأي طرف.


( أرض النار والنفط والديناميت !! )


د/ أحمد بن حامد الغامدي

قبل عدة سنوات وبفضل من الله أتيحت لي الفرصة لزيارة المدينة الساحرة سمرقند ونظرا للثراء التاريخي لها والحضور الوجداني لذكراها كتبت مقال (رحلة إلى سمرقند .. أرض الأساطير) وهذه الأيام أنا في منطقة غير بعيدة عنها ومع ذلك وجدت لها كثافة غريبة مع الأساطير أكثر من مدينة الخيال سمرقند. عند التجهيز للسفر لدولة أذربيجان ولمعرفة المواقع التاريخية والسياحية الجديرة بالزيارة تفاجأت من الكم الهائل للأساطير المرتبطة لهذه البلد شبه المجهولة لنا. طبعا يصعب التصديق أن قبر وضريح نبي الله نوح يوجد في مدينة ناخايتشيفان وأن سفينة نوح لم تهبط على جبل أرارات في تركيا وإنما ارتطمت بجبل صغير يدعى إيلانداغ وتسببت ليس في إغراق السفينة الخشبية بل في شطر قمة الجبل الصخرية إلى قسمين وبالقرب من هذا الموقع توجد بلدة اسمها قرية أحفاد نوح !!.

وعلى نفس النمط ربما يصعب من الناحية التاريخية الدقيقة قبول الزعم أن كهف أصحاب الكهف موجود على الأراضي الأذربيجانية كما يصعب قبل أسطورة الحوار المزعوم بين الإسكندر المقدوني مع معلمه الفيلسوف الإغريقي أرسطو الذي أرشده كيف يغرق تلك القلعة المغمورة تحت الماء والموجودة في طرف بحر قزوين. وإذا كان التاريخ السادر في القدم يصعب التحقق منه ففي المقابل الأساطير الحديثة يمكن تفنيدها بكل بساطة فمثلا لا سند من الوثائق التاريخية يثبت الأسطورة المتداولة في أذربيجان أن الرئيس الروسي جوزيف ستالين سجن لفترة من الزمان في أوائل شبابه في سجن برج زندان في جنوب البلاد. وإن الشاب الثائر ستالين هرب من خلال دهاليز الأنفاق الموجودة تحت سجن البرج وأن من ساعدة في الهروب ليس غير مؤسس جمهورية أذربيجان الديمقراطية محمد أمين رسول. وبالرغم من صحة اعتقال وفرار ستالين لحوالي ست مرات من قبل جهاز الشرطة في روسيا القيصرية ولكن الثابت أن ستالين اعتقل فقط لفترة محدودة في سجن العاصمة الأذربيجانية باكو وليس في سجن برج زندان وفي الواقع هو لم يستطع الهرب من السجن ولكن تم نفيه من سجن أرض النار إلى سجن أرض الجليد في سيبريا.

من الناحية السياحية قد أكون ظلمت دولة أذربيجان بافتتاح المقال بذكر الأساطير التاريخية المفبركة عن هذه المنطقة وهذا قد يعطي انطباع سلبي عنها، ولكن ما أريد أن أصل إليه العكس تماما وهو أن هذا الإقليم ذا الأهمية التاريخية والسياحية والاقتصادية النفطية هو إقليم ثري وحيوي ونقطة تجمع للحضارات والأديان والصرعات وهذا ما أثمر ظهور وتكاثر مثل تلك الأساطير المختلفة. وبالانتقال من الأساطير المتوهمة إلى الحقائق التاريخية الموثقة سوف نجد أن أبرز الأمور التي ارتبطت بأذربيجان أنها توصف في القديم والحديث بأنها (أرض النار) وسبب هذه التسمية واضح وهو ارتباطها من الناحية الاقتصادية بحقول البترول والغاز الطبيعي ومن الناحية الدينية بما يسمى (بالشعلة الأبدية) المقدسة لدى المجوس والهندوس.

وفي أغلب الكتب والمصادر الوثائقية التي تتعلق بتاريخ النفط والصناعات البترولية نجدها تذكر أن أقدم (منابع) النفط في التاريخ البشري هي تلك الموجودة بالقرب من مدينة باكو الأذربيجانية. وفي هذا الشأن تذكر المصادر التاريخية الإشارات الواردة في كتب الرحلات عن ينابيع النفط في باكو كما شاهدها الرحالة الإيطالي ماركو بولو في عام 1273ميلادي. وطبعا في تاريخنا الإسلامي نجد العديد من الرحالة والجغرافيين العرب ذكروا مشاهداتهم لهذه الآبار النفطية والنار المشتعلة منذ الأبد في باكو وفق مشاهدات الرحالة أبي الحسن المسعودي كما ذكر ينابيع النفط فيها الجغرافي البلاذري في كتابة فتوح البلدان وأيضا أبو إسحاق الإصطخري في كتاب مسالك الممالك. ومع هذا التاريخ العريق والارتباط الوثيق بين أذربيجان وبين حقول النفط ليس من المستغرب أن نجد البعض يصف أذربيجان ليس فقط بأنها أرض النار، ولكن بأنها أم صناعة النفط العالمية. وبالفعل نجد أنه بحلول أواخر القرن السابع عشر أصبح تصدير النفط من أذربيجان أمرًا شائعًا فمثلا في عام 1783م وصف الدبلوماسي السويدي إنجلبرت كايمفر النفط الذي يتم نقله بواسطة العربات إلى المدن المجاورة وعن طريق قوافل الجمال أو السفن إلى أوكرانيا وروسيا وأوزبكستان هذا بالإضافة لتصديره إلى الهند وإيران وتركيا.

وتحت تأثير (المركزية الغربية) والرؤية المتحيزة للتاريخ البشر من المنظور الأوروبي اشتهرت مقولة أن أول بئر بترول حفرت هي تلك التي وجدت في ولاية بنسلفانيا الأمريكية عام 1859م ثم إذا بنا نعلم أن أول (مصفاة بترول) هي في الواقع تلك التي أنشأت في باكو في عام 1859 ميلادي. بمعنى أنه في الوقت الذي كان الأمريكان يحفرون أول بئر نفط لهم كانت صناعة النفط في أذربيجان متقدمة لدرجة إقامة مصفاة بترول تنتج وقود الكيروسين بدلا من مجرد استخراج النفط الخام. وهذا يقودنا إلى تصحيح إضافي في تاريخ النفط وهو أن أول بئر بترول في التاريخ هي من المحتمل تلك التي حفرت في عام 1594م في باكو ووصل عمقها لحوالي 35 مترا. وليس هذا وحسب، بل أن الأذريين بلغت بهم الريادة في صناعة النفط أنهم حفروا آبار النفط داخل بحر قزوين وهذا ما حصل في عام 1803م عندما حفروا بئرين بحريين على بعد 18 و 30 كيلومترا من الشاطئ !!.

 أرض اللهب والذهب

ما سبق ذكره يبين استحقاق أذربيجان بأن توصف بأنه (أرض صناعة النفط) وهي تسمية حديثة بينما في السابق وفي التاريخ القديم اشتهرت بلاد الأذريين بلقب (أرض النار) والسبب في ذلك وجود بعض (ينابيع) النفط القريبة من سطح الأرض والتي تشتعل فيها النيران منذ فجر التاريخ. ومن هنا تعرف مدينة باكو بأنها موطن (الشعلة الأبدية) وأرض النار المستعرة منذ أربعة آلاف سنة ولأن هذه الشعلة المتأججة دوما لا تتأثر بهبوب الرياح أو هطول الأمطار، بل ولا حتى تساقط الثلج لذا تعرف باكو خصوصا في الشتاء بأنها (أرض النار والثلج). وهذا ما يمكن أن يشاهده السائح عند زيارته لموقع جبل النار (ينار داغ) في الطرف الشرقي من مدينة باكو حيث يمكن مشاهدة النار المتقدة تحت هاطل ندف الثلج المتساقطة وهو المشهد الذي يمكن رصده كذلك في ساحة (معبد النار) في ضاحية مدينة باكو. وفي مثل هذه الأجواء من الديمومة للنار المشتعلة وما يصحبها من الدفء والنور والتطهير يمكن فهم سبب انحراف اتباع الديانة الزرادشتيه المجوسية في تقديس النار. والغريب من أن الإسلام قد دخل الأراضي الأذربيجانية منذ الحملات العسكرية التي أرسلت لها زمن الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب ومع عراقة وتجذر الإسلام في أذربيجان إلى أن المجوسية و (معابد النار) المنشرة في أذربيجان كانت قائمة حتى عام 1880م وهو زمن منع اتخاذ معبد النار آتشكاه في باكو كموقع عبادة.

على كل حال للشعلة الأبدية وجود راسخ ومتجذر في الثقافة والتاريخ الأذري في القديم والحديث لدرجة أن أبرز ما يميز مدينة باكو العاصمة الأذربيجانية ويجعلها مشهورة على مستوى العالم (بالإضافة لآبار النفط التي بها) هو الاختيار المتعمد أن تكون أطول وأجمل ناطحات السحاب التي بها مصممه على شكل شعلة النار والمسماة أبراج اللهب Flame Towers والمكونة من ثلاثة أبراج زرقاء اللون تمثل ثلاثة من ألسنة اللهب المشتعلة. وبالمناسبة لا أدري لماذا لم يتم اختيار زجاج أبراج اللهب في باكو من اللون الأحمر بدل الزجاج الأزرق التقليدي فكما هو معلوم لون شعلة النار أحمر وهذا اللون أكثر توافقا وارتباطا مع (الشعلة الأبدية) وهو ما شاهدته مثلا في موسكو في الساحة الحمراء حيث نجد أمام قبر الجندي المجهول المستند على جدار الأحمر للكرملين شعلة نار صغيرة مشتعلة دائما وبهذا استحقت تسمية (الشعلة الأبدية) خصوصا لوجودها في روسيا الحمراء.

 أما وقد وصلت أيه القارئ العزيز إلى هذه (.) النقطة من المقال فأرجو أن يكون قد تبين لك لماذا تسمى أذربيجان بأرض النار وبلد أم صناعة النفط واترك لك الفرصة استكشاف علاقة هذا البلد الجميل بطريق الحرير أو حتى تجارة الشاي أو السجاد الشرقي. ولعلنا نختم بذكر العلاقة بين أذربيجان وبين الديناميات كما هو موجود في عنوان المقال ونقول بأن نظر للعلاقة الوثيقة بين أذربيجان وتاريخ صناعة النفط ونظرا لإسهام حقول النفط فيها في تجارة تصدير الذهب الأسود إلى الدول الأوروبية من نهاية القرن التاسع عشر. لذا توافدت الشركات والبنوك الغربية ورجال الأعمال للاستثمار في صناعة النفط في أذربيجان وكان من الرواد في هذا الشأن عائلة ألفرد نوبل صحاب جائزة نوبل الشهيرة. في السبعينيات من نهاية القرن التاسع عشر أنشأ الأخوة الثلاثة من عائلة نوبل (روبرت ولودفيج وألفرد) أول شركة استثمار في صناعة النفط في أذربيجان وقاموا بشراء العديد من آبار النفط وكذلك مصفاة للإنتاج وقود الكيروسين بالإضافة لبعض الصناعات الكيميائية الأخرى. ونتيجة لهذه الاستثمارات في مجال النفط أصبحت شركة الأخوة نوبل تقوم بشحن البترول عبر القطار إلى روسيا القيصرية وعبر السفن إلى الدول الأسيوية والأوروبية ويقال إن شركتهم كانت تصدر حوالي تسعة بالمائة من صادرات العالم من النفط. ولنعلم كم مقدار إسهام شركة الأخوة نوبل في سوق البترول في ذلك الزمن يكفي أن نشير إلى أن نسبة مساهمة شركة أرامكو وهي أكبر شركة بترول في العالم تبلغ حوالي 10% من صادرات العالم من النفط في حين أنه للمقارنة مثلا نجد أن عملاق شركات البترول الأمريكية إيكسون موبيل تنتج فقط أقل من واحد في المائة (حوالي 0.7%) من نفط العالم.

وما أود الوصل له هو تصحيح خطأ شائع أن الكيميائي السويدي ألفرد نوبل جمع ثروته الضخمة من فائض تصنيع وبيع الديناميت والمتفجرات بينما في الواقع كان هو وإخوته من أباطرة النفط في نهاية القرن التاسع عشر. وبهذه الثورة الباذخة تمكن نوبل من ضخ الأموال في التجارب العلمية لتحسين تصنيع متفجرات TNT بشكل أكثر أمانا وأسهل في النقل والاستخدام. وبقي أن نقول إن النفط الأذربيجاني هو من ساهم في شهرة ألفرد نوبل العالمية حيث إن المبلغ المالي الذي تركه نوبل لكي يصرف بشكل سنوي لتمويل (جائزة نوبل) جزء منه هو في الأساس من حصته في شركة البترول التي تملكها أسرته في باكو وتشير التقديرات إلى هذه نسبة هذا الإسهام قد تصل لحوالي (12%). صحيح أن ألفرد نوبل لم يسافر إلى مدينة باكو، ولكن الفيلا الفخمة (Villa Petrolea) التي كان يقيم فيها أخوة لودفيج في باكو تحولت منذ سنوات إلى متحف ومؤسسة تاريخية عن عائلة نوبل وقد استمتعت هذه الأيام بزيارة موقع هذه الفيلا السكنية الخلابة والتي ربطت بشكل أو آخر بين الديناميت والنفط على أرض النار.

 

( هل الكارثة من شدة الزلازل أم من انهيار المنازل )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 سبحان الله ما أعظم قدرت الله ولهذا لحكم يعلمها الله وجدت الزلازل. ولذا علماء الشرع يقولون إن من حكم الزلازل (بيان ضعف العباد وعجزهم) ولا أدل من أن البيوت والأكنان والملجأ الذي يسكن فيه الانسان قد يكون في لحظة ما سبب هلاكه.

بينما أهل علم الزلازل والكوارث الطبيعية لديهم قاعدة ومقولة عامة مشهورة تقول (الزلازل قد لا تقتل بحد ذاتها ولكن البيوت المنهارة هي التي تقتل). ولعل حال أهلنا في الشام في مخيمات إدلب خير شاهد فعدد الإصابات في أهل الخيام أقل بكثير من أهل العمائر.

الزلزال الأليم الذي أصاب تركيا وشمال سوريا اليوم بلغت درجته 7.9 قد تسبب حتى الآن بمقتل وإصابة عشرات الآلاف وغالبا سبب كثرة الضحايا راجع للعدد الهائل في المباني المنهارة. في حين أن أقوى زلال في التاريخ وهو الذي ضرب دولة تشيلي عام ١٩٦٠ وبلغت درجته رقما مرعبا 9.5 ومع ذلك عدد القتلى كان منخفضا بشكل مذهل حيث بلغ ٤٠٠٠ شخص فقط بسبب أن أغلب المنازل كانت خشبية وصغيرة الحجم في ذلك البلد الفقير.

وتقريبا في نفس السياق الزلزال الهائل الذي أصاب ولاية ألاسكا الأمريكية عام ١٩٦٤ وبدرجة 9.2 ومع ذلك لم يحصد من الأرواح إلا ١٣١ شخصا لنفس سبب البيوت الخشبية الصغيرة. أمر آخر فيما يتعلق بزلزال الاسكا أنه وقع في منطقة خالية بشكل كبير من السكان ولهذا انخفض مستوى الكارثة بشكل ملموس. قارن ذلك مثلا بالزلزال الأليم الذي وقع في الصين ١٩٧٦ وبالرغم من أنه زلزال ليس بالغ الشدة ( درجته 7.8 ) إلا أنه يقال إن عدد القتلى بلغ حوالي٨٠٠ ألف شخص ولا حول ولا قوة إلا بالله بسبب سقوط المنازل على الضحايا.

 وختاما أهل التصوف والزهد ربما فضلوا الستور (أقمشة الخيام) على القصور وأنها أكثر (طمأنينة) وسبحان الله هذا ما لمسناه من زلزال اليوم. والله يرحم ويغفر لمن قتل وتوفي من أهلنا في تركيا والشام والله يعجل بشفاء الجرحى والمصابين ويلطف بالمشردين والمفجوعين.


( الأطباق الطائرة ووهم غزو الأرض )

/ أحمد بن حامد الغامدي

لكثرة التحريف في التاريخ البشري عادةً ما يقال: (التاريخ وهميhistory is delusional) أو يمكن صياغة ذلك بعبارة أوضح: التاريخ هو المكان الذي تبرز فيه الأوهام. وما أكثر أوهام وخيالات التاريخ الكاذبة والمحرفة وقت الأحداث العظمى مثل الحروب العالمية الكبرى. وعليه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فيمكن تحوير وإعادة صياغة العبارة السابقة من: التاريخ هو المكان الذي تبرز فيه الأوهام إلى صياغة (الفضاء هو المكان الذي تبرز فيه الأوهام). والدافع لهذا التحوير والتغيير أن ظاهرة رصد (الأطباق الطائرة UFOs) أو الالتقاء بالكائنات الفضائية (الفضائيون Aliens) انتشرت بشكل مفاجئ وغريب بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية حيث إن ما سببته من أحزان ومخاوف ولدت تلك الأوهام والأباطيل.

في صيف عام 1947م زعم الطيار المدني الأمريكي كينيث أرنولد أنه شاهد تسعة أجسام طائرة تحلق معا في سرب ووصفها بأن كل واحدا منها له شكل طبق الطعام ومن هنا بدأت الصحف ووسائل الإعلام تتداول تسمية (الأطباق الطائرة) في أخبار هذه الظاهرة الغريبة. وهذه الخلطة السامة التي ُطبخت في تلك الأطباق وذلك عند اجتماع حالة الخوف والترقب من غزو الأعداء مع تلاعب أهل الصافة والإعلام باقتناص الأخبار الغريبة والشيقة ومن هذا كله يظهر ويتولد (الوهم delusion). ومن الغرائب أن زخم الاهتمام الشعبي والإعلامي والأمني بموضوع الأطباق الطائرة (أو بتسمية أدق الأجسام الطائرة المجهولة UFO) بدأ في القديم وفي الحديث بأخبار ووقائع مرتبطة بمناطيد وبالونات التجسس أو الأرصاد الجوية. ونحن ما زلنا في زخم التوتر السياسي بين أمريكا والصين ووهج الاهتمام الإعلامي بقضية إسقاط بالون التجسس الصين فوق الأراضي الأمريكية وما تلا ذلك من زيادة مخاوف البعض من الأجسام الطائرة وغزو الكائنات الفضائية، ومع ذلك يجدر التنبيه إلى حادثة مشابه وقعت قبل حوالي 76 سنة. مرة أخرى في صيف 1947م وبعد أسبوعين فقط من قصة مشاهدة سرب الأطباق الطائرة سابقة الذكر حصلت ما تسمى (حادثة روزويل) والتي هي بكل اختصار حادثة تحطم (بالون) مراقبة عسكري كان يحمل أجهزة تنصت حساسة لأي أصوات محتملة للانفجارات النووية التجريبية التي قد يقوم بها الاتحاد السوفيتي.

وهنا بالفعل قد نجد أن التاريخ يعيد نفسه، فبعد إسقاط البالون الصيني ادعت الحكومة الصينية أنه كان مجرد منطاد علمي يستخدم في إجراء القياسات البحثية وأنه ليس بالون تجسس وتنصت. وهذا بالضبط ما قالته الحكومة الأمريكية قبل 75 عام بأن البالون الذي سقط على أطراف مدينة روزويل بصحراء نيو مكسيكو كان كذلك بالون علمي لإجراء قياسات الأرصاد الجوية وليس أداة علمية للتجسس والتنصت. والطريف في الأمر أن أمريكا وحلفائها قبل أيام أثاروا موجه من الرعب والترقب عندما صرحوا بشكل رسمي أنهم أسقطوا عدد من الأجسام الطائرة المجهولة (أي UFOs) وهو نفس الأمر الذي حدث مع ملابسات حادثة روزويل. فبالعودة لصيف عام 1947م نجد أن الحكومة الأمريكية سبق لها وأن تسببت في نفس حالة الرعب والقلق والحيرة التي نشهدها الآن لأنها في ذلك الزمان وبعد سقوط البالون على ضواحي مدينة روزويل صرّح الجيش الأمريكي في مؤتمر صحفي تصريح غريب ذكر فيه بأن جنود القاعدة الجوية الأمريكية استعادوا طبق طائر flying disc هبط في مزرعة بالقرب من روزويل !!.

بلا شك ما حدث معقد ويصعب فهمة بشكل دقيق، ولكن يبدو أن الجيش الأمريكي نظرا لخطر انكشاف أبحاثه السرية جدا عن تطوير أجهزة التنصت العلمية ضد الاتحاد السوفييت والتي يمكن أن تطلق في السماء عبر البالون، حاول أن يصرف أنظار الشعب الأمريكي والجواسيس الروس من خلال استحضار الحداثة التي انتشرت قبل ذلك بأيام في الصحف فيما يتعلق بالأطباق الطائرة. وهذا ربما ما تكرر هذه الأيام فالحكومة الأمريكية أرادت أن تتحايل على فضيحة وجود مناطيد وبالونات تجسس صينية فوق أجوائها من خلال نشر أخبار عن إسقاط أجسام طائرة مجهولة. وفي جميع الحلات ففي القديم قبل 75 سنة وفي الأسبوع الماضي تسبب هذا التصريح والحديث غير المسؤول عن وجود الأجسام الطائرة بانتشار حالة الوهم والأباطيل والمغالطات من حقيقة وجود غزو وشيك من الكائنات الفضائية.

تزامن الأوهام من أرض الزلزال إلى سماء الأطباق الطائرة

كما هو معلوم أن الخوف يشل التفكير ويعيق الإدراك والحكم السليم ولهذا بيئة الخوف هي أرض خصبة لظهور ونمو الأوهام ولهذا بعد الحرب العالمية الثانية وفي زمن الحرب الباردة والقلق من احتمالية نشوب حرب عالمية كبرى ثالثة أو حرب نووية، في مثل هذه الأجواء ينتشر الخوف الممزوج الوهم. الجدير بالذكر أنه لتأمين المجتمع الأمريكي من (الغزو) الجوي السوفيتي حاول الجيش الأمريكي تطوير طائرات مقاتله متطورة لكي تحمي أجواء ذلك البلد وأخذ يجرب هذه الطائرات المتطورة الجديدة في القاعدة الجوية لسلاح الطيران الأمريكي في صحراء نيفادا. هذه المنطقة العسكرية المحظور الاقتراب منها لمنع التجسس على الطائرات الأمريكية المطورة أصبحت تعرف في الإعلام والثقافة الشعبية الأمريكية بـ المنطقة 51 (Area 51) والتي سوف تصبح لاحقا كموقع وكعبارة مرادفة للغموض والكائنات الفضائية. المشكلة أنه انتشرت إشاعة تزعم أن بقايا البالون أو الطبق الطائر الذي سقط في منطقة روزويل بصحراء نيو مكسيكو تم نقله إلى مباني ومستودعات الهناجر المعدنية hanger store الموجودة في موقع (Area 51). ولهذا أصبح السذج وأهل الأوهام يعتقدون أن موقع (المنطقة 51) هو المكان الذي يتم فيه تخزين الأطباق الطائرة التي تسقط على الأرض وكذلك يتم فيه إجراء الدراسات العلمية والتشريح الطبي لكائنات الفضاء التي يتم أسرها أو توجد ميتة داخل تلك الأطباق الطائرة. وكما ذكرت بحكم أن موقع Area 51 أصبح مكان للتجريب والتدريب على الطائرات المقاتلة المطورة جدا وغريبة الشكل مثل طائرة الشبح F-117 وقبلها طائرات التجسس U-2 وكذلك طائرة A-12 ولهذا أصبح الأشخاص المهووسون بالأطباق الطائرة يتخيلون أو (يتوهمون) أن هذه الطائرات الجديدة وغير المألوفة هي الـ UFO أو الأجسام الطائرة التي يقودها الفضائيون. وهكذا عبر السنوات أصبحت المنطقة رقم 51 هي (محط الأنظار) حرفيا لعشاق الأطباق الطائرة والكائنات الفضائية لأنها بكل بساطة أصبحت مزار سياحي لمن يرغب أن يوهم نفسه أنه سوف يشاهد أحد الأطباق الطائرة. كما إن موقع Area 51 أصبح محل رصد ومراقبة دائمة من قبل أصحاب (نظرية المؤامرة) الذين يعتقدون بأن الحكومة الأمريكية تخفي عن الشعب الأمريكي معلومات مؤكد عن وجود كائنات فضائية Aliens يحتفظ بها ميتة في (هناجر المستودعات) في المنطقة الواحدة والخمسون. أو أن ذلك المكان الغامض أي Area 51 أصبح يستخدم كقاعدة للقاء بين البشر وبين الكائنات الفضائية التي تأتي لهذا الموقع بالذات لعقد اتفاقات بينها وبين قادة الحكومة الأمريكية الممثلين للشعوب البشرية حسب زعمهم المريض وأوهامهم السخيفة.

وبالعذر من القارئ الكريم وبحكم أن خبر إسقاط بالون التجسس الصيني وكذلك إسقاط الأمريكيان لبعض الأجسام الطائرة المجهولة، تزامنت هذه الأخبار مع الحادث الأليم في الفترة الماضية عن زلزال تركيا وسوريا، ولذا لعلي أربط الخبرين مع بعض في سياق واحد. في الأيام التالية لحدوث زلزال تركيا الهائل تتابعت الأخبار بشكل (غريب) عن حدوث هزات أرضية في عدد كبير من دول العالم وهذه التزامن في حدوث هذه الزلازل قد يتوقع البعض أنها خطيرة و(مريبة). ومع ذلك ينبغي ألا نغفل عن حقيقة أن كوكب الأرض بالمجمل هو نشط جيولوجيا فمثلا وفق بيانات المركز الأمريكي لمعلومات الزلازل ففي المتوسط يحصل في اليوم الواحد حوالي 55 زلزال في مختلف أنحاء الأرض. طبعا الغالبية العظمى من هذه الزلازل خفيفة ولهذا في العادة لا يتم (الإعلان) عنها، ولكن بعد زلزال تركيا الرهيب أصبح الجميع متحفز و(قلق) وكالعادة في مثل أجواء الخوف هذه يزداد .... الوهم. وعندما بدأت وسائل الإعلام وهيئات الرصد الجيولوجية في أغلب دول العالم تعلن بسرعة عن أي هزة أرضية تقع ونتيجة لكثرة أخبار الزلازل في الأسابيع الماضية بدأ البعض يتبنى ويتقبل (نظرية المؤامرة) وأن زلزال تركيا لم يكن زلزالا طبيعيا وإنما بسبب سلاح سري يمتلكه الأمريكيان يدعى هارب HAARB بالرغم من أنه هذا الأخير هو مشروع علمي متخصص في دراسة الفضاء وليس التأثير على جوف الأرض.

والمقصود أن حالة الخوف والارتباك تتسبب في نمو الوهم وسهولة تحريف المعلومات، بل وتقبل الأخبار الزائفة والكاذبة فكما أصبح البشر حساسين بعد الزلزال لأي خبر أو معلومة عن وجود هزة أرضية فكذلك أثناء الحرب الباردة وحول القاعدة الجوية في موقع Area 51 أصبح المهووسون بأخبار الأطباق الطائرة على درجة عالية من الحساسية والاستعداد لتقبل وتصديق أن أي طائرة شكلها غريب أو حتى أي سحابة صغيرة مفلطحة الشكل هي طبق طائر يقوده كائن فضائي قصير ورمادي اللون.

ونختم الحديث بالتنبيه مرة أخرى أن حمى الاهتمام بالأطباق الطائرة بدأ تقريبا قبل حوالي 75 سنة مع بالون الأرصاد الجوية المحلق فوق سماء مدينة روزويل وتجدد هذا الزخم لأخبار الكائنات الفضائية الأسبوع الماضي بعد إسقاط بالون آخر لأرصاد الجوية كان يحلق في أجواء ولاية كارولينا الجنوبية. وهذا يقودنا للحديث عن الظواهر الجوية في السماء وارتباطها الوثيق مع (الوهم) في رصد ومشاهدة الأطباق الطائرة. في الواقع توجد العديد من الظواهر الجوية النادرة والتي ينتج عنها وجود أشكال أو أضواء غريبة في السماء من مثل نوع من البرق يسمى أضواء العفاريت sprites أو تجمع سحب يحتوي فراغ بداخله ولهذا يسمى ثقب لكمة الغيوم وكذلك أنوع غريبة من الغيوم مثل الغيوم المموجة وغيوم الأنابيب وكذلك الغيوم العدسية. هذا بالإضافة للأجسام المضيئة المتحركة في السماء مثل الشهب والنيازك والمذنبات والبرق الكروي وظاهرة الشمس المتعددة وأقواس قزح القمر.

ومن هذا وذاك وأعداد أخرى إضافية من الظواهر الجوية والفلكية أُصيبت المخيلة البشرية بمرض (الوهم) والانحراف الإدراكي منذ فجر التاريخ عندما نظر الرجل البدائي إلى السماء وشاهد بعض تلك الظواهر الجوية وبدأ يتخيل أنه يشاهد في السماء التنين الناري الطائر أو يتوهم أنه رصد طائر العنقاء الضخم أو حتى بساط الريح الطائر ومن هنا ظهرت الأساطير والخرافات. وما زلنا مع حديث الهواء والسماء، ولكن نحن الآن في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي عندما ظهر لأول مرة في السماء اختراع بشري جديد هو المنطاد بينما على الأرض كانت المحركات البخارية تبدأ لأول مرة تهدر بصخب. ولهذا في ذلك الزمن أصبح وصف شهود العيان لأجسام الطائرة المجهولة (أي UFO القرن التاسع عشر) أنها تشبه المناطيد والبعض يتوهم أنها تصدر بخار مثل القطار وتتحكم فيها محركات بخارية تحرك مراوح ضخمة لولبية.

والمقصود مما سبق واضح للقارئ الفهيم أن (الوهم) وانحراف المخيلة البشرية المتعلقة بالأطباق الطائرة والكائنات الفضائية (يتطور) عبر الزمن من التصورات الساذجة (التنين الطائر) إلى الطائرات المروحية والصواريخ النارية. ثم أخيرا وصلنا إلى مركبات الكائنات الفضائية UFO التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية بالذات لأن البعض يزعم أن الفضائيين كانوا منذ القدم يراقبون كوكب الأرض وعندما وصل البشر إلى القدرة على تفجير القنابل الذرية وتهديد سلامة بيئة الأرض.  كان لزاما على الفضائيين أن يتدخلوا الآن للإيقاف تهور البشر من اللعب بالنار وكأنهم أطفال يحتاجون للتوجيه من الكائنات الذكية التي سبقتهم بالتقنية المتطورة والحكمة في إدارة الكواكب !!.


( انحسار الشعر وأزمة القصيدة )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في العقود الزمنية الأخيرة ومع انتشار المذاهب الجديدة في الأدب مثل الحداثة والبنيوية والتفكيكية تهلهلت طبيعة الشعر ودخل في حالة من الاحتضار كما يقول الأديب المصري جمال الغيطاني الذي يزعم أنه في مناسبات متعددة نبه وحذر مشاهير شعراء الزمن المعاصر من مثل الفلسطيني محمود درويش والعراقي عبدالوهاب البياتي والسوري أدونيس والمصري أحمد عبدالمعطي حجازي، حذرهم بأن الشعر العربي يحتضر. والجميع تقريبا يلمس بصور ما (أزمة الوجود) وظاهرة انحسار الاهتمام بالشعر وعزلة الشعراء.

وبحكم أنني من عشاق الأدب العربي فسوف أذكر تجربتي الشخصية ورصدي لمظاهر الصدود عن الشعر العربي في وقعنا المحلي فمثلا في نهاية مرحلة الدراسة الجامعية حضرت مع بعض الأصدقاء أمسية شعرية للشاعر السوري نذير العظمة رحمة الله والذي وقتها كان يعمل كأستاذ للأدب الحديث في قسم اللغة العربية بجامعتي جامعة الملك سعود. وفي أثناء الأمسية الشعرية تحسر الدكتور نذير العظمة من قلة الحضور وذكر أنه في شبابه عندما كان يشارك في الأمسيات الشعرية في مدن الريف السوري كان يحضر جميع أهل القرية حتى النساء والأطفال لمشاهدة ذلك العرس الأدبي. إقبال المجتمع قديما على الشعر والشعراء يذكرنا بالحادثة التي حصلت مع نزار قباني عندما تم استضافته في مدينة الخرطوم وتزاحم الناس على مبنى دار الثقافة وعندما ضاقت بهم الساحة تسلقوا الأشجار وحسب وصف نزار نفسه فإن جمهوره من أهل السودان الكرام كانوا: يجلسون كالعصافير على غصون الشجر وسطوح المنازل.

وبالعودة لشريط الذكريات مع الأمسيات الشعرية فبعد حادثة الدكتور نذير العظمة بحوالي عشرين سنة توليت مهام وكالة عمادة شؤون الطلاب للأنشطة الطلابية وكمحاولة لتعزيز المناخ الثقافي بالجامعة طرحنا فكرة ملتقى (إثنينية الجامعة). وفي إحدى اللقاءات الثقافية والفكرية التي رتبناها نظمنا أصبوحة شعرية عن الأدب الإسلامي استضفنا فيها الشاعر السوري الكبير عبدالقدوس أبو صالح رحمة الله رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية. ومع بداية (أصبوحة) الشعر تلك بدأت الكارثة فالشاعر شخصية مشهورة وموضوع الأدب الإسلامي موضوع شائك ومع ذلك كانت قاعة المحاضرات الواسعة خالية تماما إلا من عدد قليل جدا جدا من الحضور بالرغم من أن القاعة كانت تقع مباشرة أمام كلية الآداب وهنا عبّر الدكتور عبدالقدوس عن صدمته واستغرابه من عدم حضور أي من أستاذته أو طلاب الجامعة.

ومن ذكريات المرحلة الجامعية مع الأمسيات الشعرية إلى الموقف المحرج مع قاعة المحاضرة الخاوية وقت إثنينية الجامعة إلى الأيام القليلة الماضية وبمناسبة إعلان وزارة الثقافة أن السنة الحالية سوف تخصص لقصائد الشعر لفت انتباهي أن أول فعاليات الاحتفاء بـ (عام الشعر العربي 2023) كانت من تنظيم الموسوعة العالمية لأدب العربي (أدب). في الواقع طبيعة تلك الفعالية كانت اشبه بمنتدى أو أمسية شعرية عبر شبكة الإنترنت شارك فيها شعراء من 11 دولة عربية ومن المخجل أن أعترف للقارئ العزيز أنني بعد استعراض أسماء هؤلاء الشعراء لم أعرف ولا واحدا منهم وهذا وإن كان خلل جسيم في ثقافتي الأدبية إلا أنه ربما يعكس أن شريحة من الشعراء بالفعل صوتهم خافت وقد مضى زمنهم كما قال جرير في بداية حكم عمر بن عبدالعزيز رحمة الله.

وبالانتقال من الإقليمي إلى الدولي يبدو أن أزمة الشعر شاملة لجميع الثقافات فالشعراء مجهولون والقصائد في عزلة عن المشهد الأدبي فمثلا الشعراء الذين حصلوا على جائزة نوبل في الأدب بالكاد يصل عددهم ثلث عدد أقرانهم من الروائيين وكتاب القصة. بل حتى الشعراء الذين حصلوا على جائزة نوبل في الأدب في السنوات الأخيرة هم في الغالب من الشخصيات الأدبية غير المشهورة على نطاق واسع. وإذا كان الكاتب المصري جمال الغيطاني قد حذّر وأنذّر من أن الشعر العربي (يحتضر) فإننا نجد في الأوساط الأدبية الغربية ومنذ سنوات العديد من النقاد، بل وحتى من الشعراء أنفسهم من يقول بأن الشعر قد مات بالفعل (poetry is dead). قبل أكثر من ثلاثين سنة أثار الشاعر الأمريكي دانا جويا (شغل منصب الوقف الوطني للفنون وهي أهم جهة داعمة للثقافة في أمريكا) لغطا كبيرا عندما نشر مقالا يعلن فيه عن موت الشعر وأن الشعراء غير أصبحوا مختفين، بل تهكم عليهم وصفهم وكأنهم مهمشين في المجتمع مثل هامشية القساوسة في مدينة كل سكانها من الملحدين.

وبما أن المصائب لا تأتي فرادي حتى في دنيا الأدب فقد دخل على الخط كتّاب الرواية الأدبية والقصص القصيرة وأخذوا يلمزون ويهمزون من الشعراء وكساد بضاعتهم فهذا الروائي الأمريكي جوزيف إبشتاين يكتب مقالة نقدية قبل سنوات حملت عنوانا غريبا (من قتل الشعر ؟!!). وبحكم أن مثلث الحركة الشعرية زواياه مكونه من الشاعر والمتلقي (القارئ) والناقد الأدبي نجد أن جوزيف إبشتاين بكل بساطة يلقى اتهام التسبب في قتل الشعر على الشعراء أنفسهم على قاعدة طيب الذكر المتنبي (فمن المُطالبُ والقتيلُ القاتلُ) بسبب غموض قصائد الشعر التي يكتبونها وبسبب انعزالهم عن الجمهور وتلمس احتياجاته.

أين الشعر والشعراء من المشهد الثقافي

صحيح إن فكرة موت الشعر في الغرب واجهت مشاكل واعتراضات كوكبة من الشعراء والنقاد لكن في المقابل تطرف بعض نقاد الأدب في الغرب لدرجة أنهم ليس فقط تقبلوا فرضية (موت الشعر) بل زعموا أن الشعر (مات وشبع موت) بمعنى أن مرحلة وفاة الشعر هي في الأصل قديمة وأنها قد بدأت من تاريخ الرابع من يناير لعام 1965م وهو توقيت وفاة الشاعر الإنجليزي البارز ت. س. إليوت الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1948م وصاحب قصيدة (الأرض اليباب) الفائقة الشهرة. والمعنى واضح أنه بوفاة الشعراء الكبار من مثل الفرنسي آرثر رامبو والإسباني فيديريكو لوركا والألماني راينر ريكله والأرجنتيني خورخي بورخيس والأمريكي ويستن أودين والتشيكي بابلو نيرودا والروسية آنا أخماتوفا فإن مملكة الشعر انهارت وتلاشت مع الزمن وأصبح هي الأرض القفر أو الأرض اليباب. للشاعر الإنجليزي صموئيل تايلور كوليردج مقولة حكيمة تنص على (يرى القزم أبعد من العملاق، عندما يكون لديه أكتاف العملاق ليصعد عليها) وهذا ما يحصل ففي زمن سقوط عمالقة الشعر ليس من المستغرب أن نجد أقزام الشعراء يتقافزون على ظهور العمالقة ويتخطونهم. مع تلاشي جيل الرواد من الشعراء الأقحاح تصبح الساحة الأدبية متاحة لأشباه الهواة من الشعراء والأدباء وبحكم أن الشعر يعتمد على (ذائقة) المتلقي له أكثر من كونه نظم شعري (موزون) خصوصا في الشعر الحر وشعر التفعيلة وقصيدة النثر ومن هنا قد يحصل ومن باب المصادفة أن ديوان شعر لأديب مجهول يحظى فجأة بقبول وانتشار واسع غير متوقع.

في تاريخ الأدب الأمريكي لا يوجد شاعر حظي بالمكانة المرموقة التي نالها صحب ديون (أوراق العشب) الشاعر والت ويتمان ومع أنه نشر قصائده قبل 167 سنة إلا أنه من المحتمل أن عدد النسخ التي بيعت من هذا الديوان لم تبغ خانة مئات الآلاف إلا قليلا. قارن ذلك مع الواقعة الغريبة التي حدثت مع الشابة روبي كور وهي شاعرة كندية من أصول هندية بدأت في عام 2015م وهي في سن 23 بنشر بعض قصائدها من خلال تطبيق (إنستغرام) بعد أن كسبت جمهورا واسعا وذلك بعد الضجة الكبيرة التي حصلت لها لأنها نشرت صورا لها وعلى ملابسها وأغطية سريرها بقع دم الحيض. على كل حال استطاعت تلك الشابة التي أصبحت تلقب بـ (شاعرة إنستغرام) أن تبيع عددا هائلا جدا من ديوان شعرها المطبوع باسم (حليب وعسل) وصل حتى الآن في حدود ثلاثة ملايين نسخة ربما لتصبح أكثر الشعراء (أو في الواقع المستشعرين) انتشارا من ناحية بيع دواوين الشعر. بالمناسبة أحد أكثر الشعراء شهرة في أمريكا هو الشاعر اللبناني جبران خليل جبران (بالإضافة للشاعر جلال الدين الرومي فله هو الآخر شهرة طاغية في الغرب) ومع ذلك لم يباع في الولايات المتحدة من كتابه المشهور (النبي) المكتوب باللغة الإنجليزية إلا حوالي 11 مليون نسخة بالرغم من أنه طبع قبل مائة سنة بالتمام أي في عام 1923ميلادي. على كل حال سبب المبيعات العالية لكتاب جبران خليل جبران ليس لأنه ديوان شعر ولكنه كتاب حكمة وفلسفة ورومانسية بينما دواوين الشعر الخالص لا يكتب لها الذيوع والانتشار. وهذا يؤكد بالفعل أن الشعر في حالة انحسار وعزلة عن المجتمع بالمقارنة مع الأشكال الأخرى للأدب مثل الرواية فمثلا الرواية ذائعة الصيت (الخيميائي) للكاتب البرازيلي باولو كويلو قد بيع منها حتى الآن أكثر من 165 مليون نسخة. وسبب انتشارها الكبير أنها رواية مكتوبة بأسلوب أدبي رفيع وتحتوي على الحكمة الفلسفية والتشويق القصصي على خلاف قصائد الشعر السطحية كما هو ديوان الشاعرة سابقة الذكر روبي كور.

وفي الختام لا بد من أن أعرج على ذكر بعض أسباب كتابة هذا المقال في هذا التوقيت بالذات فبالإضافة إلى أنه يأتي في سياق ملائم لاختيار هذه السنة لتصبح (عام الشعر العربي 2023) ومع ذلك معالم البرنامج الثقافي لفعاليات هذه السنة ما زالت باهتا وغير محددة بشكل كاف مما يعزز الشعور بوجود أزمة حقيقة للشعر وانحسار تأثيره. عنوان المقال الحالي (انحسار الشعر وأزمة القصيدة) ولا أدل من انحسار الشعر وخفوت وهج الشعراء من أن الشاعر السوري والناقد الأدبي البارز الدكتور نذير العظمة الذي ذكرناه خبر أمسيته الشعرية في أول المقال، هذا الرمز الأدبي توفي قبل أيام معدودة ومع ذلك مر خبر وفاته رحمة الله دون أن نشعر به بالرغم من أنه من رواد التطوير في الشعر العربي الحديث فهو كما يقول أول من ابتكر ما يسمى القصيدة المدورة.

أما فيما يخص (أزمة القصيدة) في عنوان المقال فلا أدلّ عليها من الغياب شبه التام عن القصيدة في الأزمة الأليمة الناتجة من الكارثة الطبيعية الكبرى التي حصلت من جراء زلزال تركيا وسوريا. ما حدث في الأسبوع الماضي هو واحدا من أكبر المآسي في تاريخنا المعاصر ومع ذلك لم نجد أيا من قصائد الشعر تواكب هذا الحدث الجلل. بينما في المقابل وقبل قرن من الزمن وبالتحديد في عام 1908م عندما حصل زلزال هائل في جزيرة صقلية الإيطالية المسيحية نجد أن شاعر النيل حافظ إبراهيم يكتب واحدة من أشهر قصائده وأكثرها عاطفة صادقة. لقد كان لقصيدة حافظ إبراهيم (زلزال مسينيا) صدى طيب بأن الشاعر مواكب للأحداث الدولية الكبرى فضلا عن أحداث عالمة العربي والمحلي. وهذا يحمد لحافظ إبراهيم والذي تميز كذلك بقصيدة (غادة اليابان) التي ناصر فيها الشعب الياباني في حربه ضد الحكومة الروسية ونحن الآن يمكن أن نجد من بني جلدتنا من يؤازر الجيش الروسي في قصفه لمدينة حلب السورية وقتله وترويعه للشعب العربي الشقيق.

الشعر العربي في عام الشعر العربي وفي عزّ الحزن العربي في سوريا وفلسطين ينبغي أن يكون حاضرا و(ديوان العرب) الذي نوثق من خلاله أحداث اليوم لذاكرة جيل المستقبل.


( دليل عالمية الشعر العربي )



د/ أحمد بن حامد الغامدي

 من الأنواع والأساليب المختلفة للأدب نجد أن فن الشعر له حالة خاصة نظرا لكونه في الغالب انعكاس للحالة الوجدانية والروحية للأديب ولهذا ليس فقط يصعب ترجمته للغات الأخرى لكن في الغالب ونظرا لأن الشعر ينبع من السليقة اللغوية لذا يصعب أن يؤلف الشاعر القصائد بأكثر من لغة. وعلى الرغم من التأثير الكبير للثقافة الفرنسية على أغلب أدباء روسيا القيصرية إلا أننا لا نجد أي من الأدباء الروس من ألف قصائد باللغة الفرنسية باستثناء الروائي ألكسندر بوشكين الذي تعلم منذ صباه على يد مدرسون خصوصيون فرنسيون ولهذا كتب في أوائل شبابه باللغة الفرنسية قصائد غير مشهورة. وعلى نفس النسق نجد أنه باستثناء الشاعر الهندي البارز طاغور يصعب جدا أن نجد شاعرا آخر يستطيع أن يكتب قصائد مشهورة باللغة الإنجليزية وبلغته القومية علما بأن سبب نبوغ طاغور في الكتابة باللغة الإنجليزية أن بلاده كانت محتلة من قبل الإنجليز والتعليم العام في القارة الهندية كان بلغة المستعمر.

والمقصود أنه في حال يصعب أن نجد شاعرا فرنسيا يكتب قصائد باللغة الألمانية أو شاعرا إنجليزيا يؤلف دواوين شعر باللغة الأسبانية أو الإيطالية بينما نجد أنه فيما يتعلق بـ (عالمية الشعر العربي) فإن الأدلة من هذا النوع متعددة ومتكررة عبر العصور. حقا وصدقا عالمية الشعر العربي تتجاوز التاريخ وتخترق الجغرافيا وتتخطى الأعراق البشرية والأديان السماوية وهذا يعني بالضرورة أن شعر العرب ليس فقط للعرب. صحيح أن الشعر العربي له ارتباط وثيق بالدين الإسلامي ومع ذلك بكل سهولة يمكن أن نكتشف أن بعض أشهر شعراء العربية كانوا من الأديان الأخرى فمثلا الشاعر الجاهلي السموأل كان يهوديا وكذلك شاعر بني النضير كعب بن الأشرف وبالجملة عدد شعراء العربية اليهود قليلا جدا. في حين أن الراهب اليسوعي الأب لويس شيخو بالغ في الشطط عندما ألّف كتاب (شعراء النصرانية قبل الإسلام) ونسب أغلب وأشهر شعراء الجاهلية للديانة النصرانية وهو الأمر الذي كرره في كتابه الثاني (شعراء النصرانية بعد الإسلام) لدرجة أنه تهور واعتبر شاعر العربية الأبرز أبا تمام الطائي شاعرا نصرانيا. وعلى كل حال يبقى أن بعض شعراء العربية البارزين هم بالفعل من النصارى مثل الأخطل التغلبي والأخطل الصغير (بشارة الخوري) وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وخليل مطران وميخائيل نعيمة ورشيد الخوري (الشاعر القروي) وبطرس البستاني وإلياس قنصل والقائمة تطول.

وبمناسبة ذكر فيض شعراء العربية من النصارى وأن هذا دلالة على عالمية الشعر العربي الذي كما قلنا إنه يتخطى الأديان، نجد كذلك أن الشعر العربي يتجاوز الجغرافيا ودليل ذلك أن الغالبية العظمى من شعراء النصارى العرب أقاموا وعاشوا كما هو معلم في غير أرض العرب والإسلام ولهذا يوصفون بأنهم (شعراء المهجر). وهذه الظاهرة الأدبية برزت بشكل كبير في النصف الأول من القرن الماضي عندما هاجر عدد كبير من أدباء الشام المسيحيين وخصوصا من لبنان إلى الأمريكيتين الشمالية والجنوبية وأنشئوا أندية شعرية مشهورة مثل الرابطة القلمية التي تأسست في نيويورك والعصبة الأندلسية ومقرها مدينة ساو باولو البرازيلية وكذلك الرابطة الأدبية ومقرها العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس.

طبعا شعراء المهجر كانوا ينظمون ويكتبون قصائد الشعر ويتبادلونها بينهم وربما ألقوها على مسامع بعضهم البعض وهم في أرض الغربة ومع ذلك افإن لظاهرة (الجغرافية) الأكثر دلالة على عالمية الشعر العربي أنه في فترات من التاريخ كانت القصائد العربية تصدح في بلاد النصارى وعلى مسامع ملوك وأمراء الفرنجة. كما هو معلوم استمر الحكم الإسلامي على جزيرة صقلية الإيطالية لعدة قرون ولهذا ليس فقط ازدهرت الحضارة العربية في هذه الجزيرة المسيحية بل كذلك استوطن الشعر العربي لدرجة أن ملوك صقلية بعد جلاء العرب عنها استمروا على عادة سماع قصائد المديح من الشعراء العرب. ولهذا تذكر كتب التاريخ وكتب الأدب على حد سواء أن بلاط ملوك باليرمو من مثل ملك صقلية روجر الثاني وابنه ويليام الأول وحفيده ويليام الثاني وكذلك الإمبراطور فريدريك الثاني (قيصر الإمبراطورية الرومانية المقدسة) أن كلا من هؤلاء الملوك اشتهر عنه معرفته بلغة العرب وإعجابه بالثقافة العربية. ولهذا توالى عبر السنوات عدد من الشعراء العرب على نظم قصائد المديح في هؤلاء الملوك كما هو حال الشاعر ابن بشرون وعبدالرحمن المالطي وعمر النحوي وعبدالرحمن البثيري وأبي الضوء سراج وغيرهم. والجدير بالذكر أن الرحالة الكبير ابن جبير عندما زار جزيرة صقلية في مطلع القرن السابع الهجري ذكر أن ملكها غيوم الثاني (أي ويليام الثاني) كان يتكلم العربية ويكتب بها وكان يكافئ الشعراء ذهبا على مدحهم له كما فعل مع الشاعر العربي ابن قلاقس الإسكندراني. والغريب في أمر إعجاب ملوك النصارى قديما بلغة العرب وبالثقافة العربية وقت زمن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية أننا نجد ظاهرة مشابه لإعجاب ملوك صقلية ولكن هذه المرة مع ملوك أسبابنا. ونذكر هنا بالخصوص ملك قشتالة ألفونسو السادس وسيد طليطلة الملك ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم والذي كان مهتما بالأدب ويرعى الشعراء الأسبان والعرب أيضا ويقال إنه كان ينظم الشعر باللغة العربية.

 هل شعر العرب للعرب فقط ؟

إذا صح الخبر أن الملك الإسباني الحكيم ألفونسو العاشر كان بالفعل يستطيع نظم الشعر باللغة العربية فهذا يفتح لنا المجال للحديث عن الملوك والسلاطين غير العرب الذين تمكنوا من كتابة القصيدة العربية وهذا دليل إضافي هام على عالمية الشعر العربي. عدد كبير من الملوك والأمراء العرب كانوا بالفعل شعراء وهذا ليس بمستغرب فهذا الوزير والشاعر الكبير الصاحب بن عباد كان يقول: بُدئ الشعر بملك وختم بملك، يعني امرأ القيس وأبا فراس الحمداني. أما أمثلة الملوك والحكام من غير العرب الذين كتبوا ونظموا الشعر العربي فمنهم عدد من سلاطين الدولة العثمانية من مثل سليم الأول ومراد الثالث وعبد الحميد الأول وسليم الثالث. وفي مجال الشعر يجب أن نفرد بالحديث السلطان التركي سليمان القانوني ليس فقط أنه أحد أغزر الشعراء في الأدب التركي حيث تشير المصادر أن له رقما هائلا من القصائد يبلغ 2779 قصيدة، ولكن تميزه الشعري كذلك يعود إلى أن عددا كبيرا من هذه القصائد ألفها باللغة الفارسية وبعضها باللغة العربية. وعلى قاعدة (الناس على دين ملوكهم) فلا غرابة إذاً أن نعلم أن أحد أبرز شعراء الدولة التركية ورائد الأدب التركي الشاعر فضّولي المعاصر للسلطان سليمان القانوني كان يكتب الشعر باللغات التركية والعربية والفارسية. أما أهم شاعر أقام في تركيا وتوفّى بها فهو بلا جدال (سلطان) العارفين الشاعر المتصوف جلال الدين الرومي الذي كتب الدواوين الشعرية باللغة الفارسية والعربية والتركية أيضا. وبالطبع إذا ذكر مولانا الرومي فلا بد أمن ن يذكر شيخه ومعلمه الروحي الشاعر شمس الدين التبريزي والذي هو الآخر نظم قصائد الشعر باللغة الفارسية وأيضا باللغة العربية.

في بداية المقال سبق التلميح أنه نادر جدا أن نجد شاعرا فرنسيا يكتب الشعر باللغة الألمانية أو أن يُطبع ديوان شعر باللغة الإيطالية من تأليف أديب إنجليزي ولكن وبحكم أن حديثنا عن (عالمية الشعر العربي) فليس بمستغرب في ضوء ما سبق أن نذكر أن أشهر وأبرز شعراء الأدب الفارسي لهم بالإضافة لدواوينهم الفارسية (مثل ديوان: مثنوي لجلال الدين الرومي وديوان العشق للتبريزي) لهم قصائد متعددة باللغة العربية. وهذا الأمر يتكرر كذلك مع نجوم ورواد الأدب الفارسي الكبار من مثل حافظ الشيرازي وعمر الخيام (صاحب الرباعيات التي فتن بها الأوربيين) وفريد الدين العطار (صاحب ملحمة منطق الطير) وسعدي الشيرازي الذي كتبت أبياته الحكيمة في مدخل مبنى الأمم المتحدة. وعلى كل حال كل واحد من هؤلاء الشعراء الكبار كتب الدواوين الشعرية باللغة الفارسية وكذلك نظم الشعر والقصائد باللغة العربية، بل أن حافظ الشيرازي كان يؤلف القصائد التي كان يدمج فيها صدر البيت العربي بعجز البيت الفارس ويعكس ذلك الترتيب في البيت الذي يليه مع مراعاة وزن بحور الشعر وثبات حرف الروي.

ومن إيران والشعر الفارسي سوف ننتقل عبر التاريخ والجغرافيا إلى القارة الهندية لنتابع مسيرة عالمية الشعر العربي وللأسف ربما سوف أصيب البعض بالإحباط عندما أذكر حقيقة أن أشهر شاعر مسلم غير عربي في الوقت المعاصر وهو الشاعر الهندي الكبير محمد إقبال الملقب بـ (شاعر الإسلام) لم يكتب أي من قصائده المشهورة باللغة العربية (حتى فائقة الشهرة منها مثل: حديث الروح، كنا جبالا في الجبال، قصر التاريخ ومسجده) وإنما ترجمت من اللغة الفارسية أو اللغة الأوردية. ومع ذلك ومنذ زمن الجاحظ رصد نقاد الأدب عشرات الشعراء ممن أصولهم من القارة الهندية من أبرزهم الشاعر القاضي الدهلوي والذي له قصيدة قوية وفصيحة تدعى (لامية الهند) تقارع لامية العرب للشنفرى ولامية العجم للطغرائي. بالمناسبة لقب (الدهلوي) هو نسبةً إلى مدينة (دهلي أو دلهي) عاصمة الإمبراطورية المغولية المسلمة التي حكمت الهند لعدة قرون وبحكم التأثير الحضارة الإسلامية والحضور الملموس للغة العربية لدى طبقة العلماء والأدباء في ذلك العصر الذهبي الهندي لهذا لا غرابة أن نجد البعض من شعراء الهنود القدامى ممن ينتهي اسمهم بلقب (الدهلوي) يستطيع أن يكتب الشعر باللغة العربية. وغير بعيد عن العاصمة الهندية نيودلهي وبالتحديد في مدينة لكناو نجد مدرسة إسلامية عريقة تدعى (ندوة العلماء) خرج منها المئات من العلماء والمشايخ والأدباء وأغلبهم ينسب لها فبقال له (الندوي). وهذا يقودنا لذكر العشرات من شعراء الهند الذين يحملون اسم الندوي وأغلبهم يكتب الشعر باللغة العربية ولا شك أن أبرزهم على الإطلاق العلامة أبو الحسن الندوي والذي كان له جهود كبيرة في الاهتمام بالأدب العربي فهو من ساهم في تأسيس رابطة الأدب الإسلامي ورئاسة تحرير مجلة الأدب الإسلامي. وللفقيه الشاعر أبي الحسن الندوي قصائد عديدة منشورة باللغة العربية وهو من قام في الأصل بترجمة بعض القصائد الطنانة لمحمد إقبال من اللغة الأردية والفارسية إلى اللغة العربية لعل أبرزها قصيدة مسجد قرطبة المذهلة.

وبعد المرور بالدول الإسلامية غير العربية التي انتشر بها أدباء الشعر العربي مثل تركيا وإيران وأفغانستان والهند نصل إلى أقصى غرب إفريقيا وأكاد أجزم أن عدد الشعراء من غير العرب الذين يكتبون القصيدة العربية الفصيحة في السنغال ومالي ونيجيريا ربما يفوق عدد الشعراء العرب في أرض جزيرة العرب وما حولها فبفضل الحضارة الإسلامية الطاغية أصبح شعر العرب ليس للعرب فقط. بل نجد نفس هذه الظاهرة في أقصى بلاد الإسلام من جهة الشرق وبالتحديد في إندونيسيا حيث سهام نسل الجالية العربية من حضرموت المقيمون في اندونيسيا منذ قرون في استمرار وجود شعراء من أهل تلك الديار يكتبون الشعر العربي الفصيح.

بل وصل الأمر في الدلالة على عالمية الشعر العربي أنه وجد من يكتب القصائد العربية هو غير عربي ولا مسلم أصلا فهذا مثلا المستشرق الفرنسي المعاصر أندريه ميكيل بلغ من شغفه بالشعر العربي أن قام بتأليف عدد من القصائد باللغة العربية ثم قام لاحقا (بترجمتها) للغة الفرنسية ونشرها مع أصلها العربي في كتاب مستقل حمل عنوان (أشعار متجاوبة). الطريف في الأمر أن ليس فقط المستشرقين الذين أفنوا أعمارهم في دراسة الثقافة العربية مما أهّل بعضهم لنظم الشعر العربي بل نجد حتى بعض الرحالة الأوروبيين له اهتماما بالشعر العربي خصوصا الشعر النبطي لدرجة أن المغامرة والرحالة الإنجليزية الليدي جين ديغبي التي تزوجت من أحد شيوخ قبائل البدو السورية يقال إنها كانت تجيد نظم الشعر النبطي.

 وبعد هذا التطواف التاريخي والجغرافي لمحاولة تلمس عالمية الشعر العربي أود بمناسبة الإعلان قبل حوالي أسبوع من قبل وزارة الثقافة عن اختيار السنة الحالية لتكون (عام الشعر العربي 2023)، أود أن أشير إلى أن الشعر العربي الفصيح وإن كان منبعه ومركزه جزيرة العرب إلا أنه له امتداد جغرافي عميق وتاريخ عريق جدير بأن يسلط عليه الضوء وتدبج وتنظم فيه قصائد الفخر والمديح.


 

( في ذكرى محرقة الهولوكوست اليهودية )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

يوافق يوم (27) من شهر يناير من كل سنة ما يسمى اليوم العالمي لذكرى الهولوكوست وإن كان يقصد به التذكير بجرائم النازية ضد ضحايا شعوب متعددة مثل اليهود والبولنديين والغجر بل والمعاقين إلا أن مصطلح (الهولوكوست Holocaust) أصبح يقصد به في الغالب المحرقة والتصفية بالغازات السامة لليهود داخل معسكرات الاعتقال أثناء الحرب العلمية الثانية. ومن هنا يظهر التناقض فبدلا من التعاطف مع (جميع) الضحايا من كل الأجناس أصبح الأمر مقصورا على ضحايا الشعب المختار. المغرر بهم من المتعاطفين مع بني صهيون ربما احتفلوا معهم يوم الجمعة الماضي الموافقة (27) يناير بذكرى المحرقة النازية للضحايا الشعب اليهودي ولكنهم للأسف لم لن يهتموا في الغالب بالمحرقة التي سبقت ذلك بيوم واحد أي يوم الخميس (26) يناير عندما نفذت شرذمة من الجيش الاحتلال الصهيوني مجزرة دامية في مخيم جنين الفلسطيني استشهد على أثرها عشرة من إخوتنا في العروبة والإسلام.

الجدير بالذكر أن الجمعية العمومية للأمم المتحدة كما تعترف باليوم العالم لذكرى ضحايا الهولوكوست هي كذلك تعترف قبل ذلك بسنوات طويلة بما يسمى (اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني) والذي يحتفل به سنويا في يوم (29) من شهر نوفمبر. وما يستحق الذكر هنا أنه في آخر مرة لهذه الذكرى أي قبل حوالي شهرين تجددت جرائم الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل فتم في ذات يوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني قتل أربعة من الشهداء. وهذا مؤشر ولا شك أن جرائم المحارق والمذابح الصهيونية على أهل فلسطين متواصلة ومتزايدة لدرجة أنه في شهر يناير الحالي اغتالت الأسلحة الآثمة للعدو الغاشم أرواح حوالي35 شهيدا فلسطينيا.

وعلى ذكر شهر يناير الذي يقع فيه اليوم العالمي لذكرى محرقة الهولوكوست لعل من الواجب استرجاع ذكرى (ضحايا المحرقة) من العرب والفلسطينيين وليس فقط من اليهود الصهاينة. وللأسف نظرا للكم الهائل للمجازر والجرائم الإسرائيلية المستمرة بالقطع سوف يستحيل استعراضها في مقال مختصر، ولكن سوف نركز فقط وبشكل سريع على الإشارة إلى محارق الهولوكوست الصهيونية ضد أهل فلسطين في أيام يناير القريبة من توقيت اليوم العالم لذكرى الهولوكوست في (27) يناير. فمثلا في يوم (28) من يناير تكررت فيه جرائم العدو من مذبحة حيفا في عام 1948م التي ذهبت ضحيتها 20 بريئا فلسطينيا إلى مجزرة حي الزيتون بمدينة غزة عام 2004م عندما توغلت قوات الاحتلال واغتالت 13 شهيدا. أما يوم (26) يناير فهو الآخر قد شهد محرقتين وجرائم إسرائيلية في سنتين مختلفتين هما مذبحة بيت لحم التي وقعت في عام 1952م وذهب ضحيتها عشرة شهداء وكالعادة يشهد حي الزيتون المجازر المتكررة منها تلك التي وقعت في يوم 26 يناير من عام 2003م وأسفرت عن مقتل 13 ضحية من الأبرياء.

ومن المذابح وجرائم القتل الجماعية للمدنيين الفلسطينيين التي حدثت في شهر يناير (شهر ذكرى الهولوكوست) نذكر مثلا مذبحة مدينة يافا (عام 1948م) ومجزرة القدس (1948م) ومجزرة بيت جالا (1952م) ومذبحة بيت لاهيا (2005م) ومجزرة بوابة يافا (1948م) ومجزرة مدينة حيفا (1948م) ومجزرة قرية يازور جنوب يافا (1948م). وربما لاحظت أيه القارئ العزيز كثرة توالي وتتابع جرائم القتل الجماعي ومجازر تصفية الشعب الفلسطيني التي حصلت في عام 1948م بالذات. وللوهلة الأولى يمكن تفسير كثافة هذه الجرائم الصهيونية في عام 1948م على أنها متزامنة مع إعلان قيام الكيان الصهيوني الغاشم على أرض فلسطين السليبة وأن سياسية الترويع والقتل والمذابح كانت متعمدة من قبل الصهاينة لتشريد الشعب الفلسطيني وتدعيم قيام أركان دولتهم محل الحكم العربي.

وما نود الوصول له أنه يوجد ترابط وثيق ما بين جرائم النظام النازي ومحرقة الهولوكوست ضد الجالية اليهودية في أوروبا وبين نكبة فلسطين واحتلال أرضها بجحافل الناجين من المحرقة النازية بعد فرارهم وهجرتهم غير الشرعية إلى أرض الميعاد المزعوم. كما هو معلوم وافق هتلر في عام 1942م على الخطة النازية المسماة (الحل الأخير) للقضية اليهودية وذلك بالترحيل القسري المنظم لجميع اليهود إلى معسكرات الاعتقال ثم لاحقا تطور الأمر إلى تصفيتهم بالقتل بالغاز ثم حرق الجثث. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية واندحار النازية واجهت حكومات دول الحلفاء مشكلة مشابهه مع (الناجين) اليهود من محارق الهولوكوست ماذا يفعلون بهم وبدل من محاولة (إعادة تأهيلهم) واستيعابهم في المجتمع الأوروبي كما هو حالهم لقرون طويلة كان (الحل الأخير) في نسخته الجديدة للمشكلة اليهودية الأزلية أن يتم ترحيل اليهود مرة ثانية، ولكن هذه المرة من أوروبا إلى أرض الإسراء العربية أرض فلسطين. وفي الواقع قبل نهاية الحرب ذلك كانت الحكومة الأمريكية قد بدأت بالفعل في عمليات إخراج اليهود من الأراضي التي تحتلها ألمانيا النازية وأقامت لهذا الغرض مكتبا خاصا أطلق عليه (مكتب مهاجري الحرب). ومباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية طالب الرئيس الأمريكي هاري ترومان من حكومة الانتداب البريطاني على أرض فلسطين أن تسمح بدخول وهجرة مائة ألف يهودي إلى فلسطين.

 ذكرى خروج القتلة وهجرة العلماء من بني إسرائيل

وفق المصادر التاريخية وصلت إلى سواحل فلسطين ما بين عامي 1945-1948م حوالي 65 سفينة مهاجرين يهود غير شرعيين بلغ عددهم نحو 79 ألف يهودي. ونخص بالذكر هنا السفينة المسماة (إكسودوس 1947) والتي كانت تحمل مهاجرين غير شرعيين يهود معظمهم كانوا ممن نجو من محرقة الهولوكوست النازية وتم نقلهم إلى أرض فلسطين. ومن هنا جاء تسمية السفينة بذلك الاسم: إكسودوس The Exodus وهي كلمة عبرية تعني (الخروج) ويقصد بها تاريخيا ودينيا خروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض الميعاد في فلسطين زمن نبي الله موسى عليه السلام ولهذا حصل تشبيه خروج يهود أوروبا هربا من محرقة هتلر بخروج يهود مصر هربا من طغيان فرعون. وبالعودة إلى السفينة البخارية المسماة إكسودوس 1947 نجد أنها كانت مكتظة بالنازحين اليهود المرحلون من أوروبا والناجين من معسكرات الاعتقال النازية أي معسكرات الهولوكوست ونظرا لأن تلك السفينة الصغيرة نسبيا كانت تحمل 4515 مهاجرا يهوديا في ظروف صعبة فقد تعاطف الغرب معهم بشكل كبير لدرجة أنه تم انتاج عدد من الأفلام السينمائية الهوليوودية عن دراما رحلة (الخروج) اليهودية تلك. وبما أن هؤلاء اليهود المهاجرين وصلوا بتلك السفينة في المراحل الأولى لظهور دولة العدو الصهيوني لهذا أصبحت تلك السفينة توصف بأنها (السفينة التي أطلقت أمة the ship that launched a nation) بمعنى أنها السفينة التي ساهمت في نشوء وظهور الأمة والدولة الإسرائيلية.

الأمر البالغ الأهمية ذكره الآن أن هذه السفينة البخارية الأمريكية الأصل تم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية شرائها بواسطة المنظمة الصهيونية الإرهابية الشنيعة (الهاجاناه Haganah) التي ليس فقط مثلت نواة جيش العدو، ولكنها نفذت كذلك سلسلة المجازر والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في عام 1948م. وهذا يعني أن أكثر الجماعات الصهيونية إرهابا وقسوة هي من تولت تنفيذ تهجير يهود أوروبا من طائفة الأشكناز إلى أرض فلسطين في عملية منظمة متشعبة حملت اسما رمزيا هو (عاليا بت). وبالتأكيد بعد وصول عشرات الآلاف من اليهود انخرط الشباب منهم في العمليات القتالية ضد عرب فلسطين وكذلك عمليات الإبادة الجماعية الإرهابية ضد الأبرياء من سكان المدن والقرى الفلسطينية. الجدير بالذكر أن في سنة 1948م لوحدها قامت عصابة الهاجاناه الإرهابية المطعمة بالمقاتلين اليهود الناجين قريبا من محرقة الهولوكوست النازية بتنفيذ مذابحها الشنيعة مثل مذبحة دير ياسين التي ذهبت ضحيتها حوالي 350 من الأبرياء العرب ومذبحة بلد الشيخ التي خلفت أكثر من 17 قتيلا فلسطينيا ومذبحة قرية الخصاص الفلسطينية والتي قتل فيها حوالي عشرة مدنيين على يد عصابة الهاجاناه.

 وفي الختام أود أن أذكر أنه في حين تمت تسمية إحدى السفن التي نقلت المهاجرين والفارين اليهود إلى فلسطين باسم (الخروج Exodus) تشبيها لخروج العبرانيين من أرض مصر الفرعونية إلى أرض الميعاد وأن هذه العملية جلبت النكبة للعرب من جراء تجمع مئات الآلاف من أوباش اليهود. نجد في المقابل أن الدول الغربية وخصوصا بريطانيا وأمريكا نالت نصيبها من هجرة مميزة من اليهود وذلك فيمل يسمى في كتب تاريخ العلوم بـ (خروج العلماء Exodus of scientists). والمقصود أنه منذ أن تم تولي هتلر لزمام السلطة في ألماني تم التضييق على جميع اليهود لدرجة انه تم فصل جميع العلماء اليهود من الجامعات الألمانية مما اضطر المئات منهم للهجرة و(الخروج) حيث يقدر أنه غادر ألمانيا والنمسا حوالي ثمانية آلاف رجل يهودي من العلماء والأكاديميين والأطباء. ونزيف العقول هذا من ألمانيا هو ما ساهم في انتصار الحلفاء في الحرب العلمية الثانية حيث إن كوكبة من أبرز علماء الفيزياء النووية كانوا من أولائك اليهود الخارجين من ألمانيا ولهذا تعرف عملية خروجهم أحيانا باسم (خروج علماء الكوانتم the quantum exodus) وهؤلاء العلماء بالذات - والعديد منهم ممن حصل على جائزة نوبل - هم من طور القنبلة الذرية التي حققت النصر النهائية للولايات المتحدة وحلفائها.

والمقصود أن الغرب ومن لف لفهم ربما وهم يتذكرون جرائم هتلر النازي وفظائع محرقة الهولوكوست هم في نفس الوقت يذكرون المكاسب التي نالوها من تهجير ألمع العقول العلمية إلى بلدانهم. في حين أننا وفي ذكرى (اليوم العالمي لضحايا الهولوكوست) نعلم أنه هذه اللحظة التي تم توقيتها بمناسبة تاريخ اقتحام معسكر أوشفيتس الشنيع في بولندا و(تحرير) اليهود هي بداية لحظة (اعتقال) الشعب الفلسطيني وتصفيته وتهجيره على يد المجرمين من بعض ضحايا الهولوكوست الذين انخرطوا في الأعمال الإجرامية لعصابات الهاجاناه الإرهابية.


( الأحضان وكيمياء السعادة !! )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 البحث عن السعادة سلوك بشري طبيعي ومن وجهة نظر البعض هو (حق إنساني) يجب أن يحصل عليه الجميع ولهذا حرص المفكر والسياسي الأمريكي بنجامين فرانكلين إن يضع في وثيقة إعلان استقلال أمريكا عبارة أن من الحقوق الراسخة لكل الرجال (السعي وراء السعادة pursuit of happiness). وعلى خلاف الحكمة الشائعة (المال لا يجلب السعادة) نجد أن الغالبية العظمى من البشر في مسعاها وراء السعادة حصرت الموضوع كله في جانب المادي البحت: كثرة المال تصنع السعادة. وفي المقابل نجد طوائف من المفكرين والفلاسفة وأهل التصوف والسلوك تركّز أكثر على (السعادة الداخلية) والطمأنينة الجوانية ومن ذلك مثلا أن حجة الإسلام الأمام الغزالي أّلف كتابا حمل عنوان (كيمياء السعادة) ركز فيه على السعادة بمفهومها الروحاني وسبل تحصيلها من خلال تهذيب الأخلاق ورياضة النفس وعلاج الشهوات. الجدير بالذكر أن هذا العنوان الجذاب (كيمياء السعادة) استخدمه كتابا آخرين في أسماء مصنفاتهم كما نجده عند شيوخ الصوفية مثل محي الدين ابن عربي ومشابهه في الاسم محي الدين بن يحي المقدسي. والسعادة من المنظور الكيميائي هي مجرد تدفق للمواد والمركبات الكيميائية التي تؤثر على الدماغ والإدراك وهي بذلك تؤكد العبارة الشائعة في قواميس اللغة الإنجليزية (كل شي في العقل all in the mind) وهي العبارة المختصرة للحكمة التي قررها الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت عندما قال: ليس ثمة سعادة أو شقاء في المطلق، وإنما تفكيرنا هو الذي يشعرنا بأحدهما. وهذا يقودنا أن موارد السعادة متعددة فبعضها جسدي مادي ومالي وبعضها روحي وبعضها كيميائي وهذا هو موضع حديثنا اليوم.

في عالم الجسد كما أن المال يجلب السعادة فكذلك الكيمياء تجلب السعادة وليس من فراغ أُطلق على بعض المربكات والمواد الكيميائية بأنها (هرمونات السعادة). وبالاستناد مرة أخرى لملحوظة أن (كل شي في العقل) يمكن نختصر ونحوّر عبارة (وزن معادلة كيمياء السعادة) لنركز فقط على (كيمياء الدماغ). ببساطة يمكن أن نقول إن كيمياء الدماغ تدور حول أن المركبات الكيميائية في جهازنا العصبي هي التي تشكل وتؤثر في مشاعرنا وعواطفنا ومن ذلك الإحساس بالسعادة والنشوة. صحيح أن أهم كيماويات السعادة وهرمونات البهجة هي تلك المركبات الكيميائية المسماة بالناقلات العصبية neurotransmitters والتي هي أساس كيمياء الدماغ من مثل مركب والإندروفين (هرمون النشوة) والسيروتونين (هرمون المزاج) والأدرينالين (هرمون الاستثارة) والدوبامين (هرمون المتعة)، إلا أننا سوف نأخذ بالأحضان ومزيد من الاحتفاء مركب كيميائي فريد يدعى (الأوكسيتوسين Oxytocin).

هرمونات السعادة وكيماويات المشاعر السابقة الذكر لها توصيفات شيقة مثل هرمونات النشوة أو المتعة أو الاستثارة في حين أن مركبنا الكيميائي الذي نحن بصدد الحديث عنه له توصيف غريب (هرمون المعانقة Hug Hormone) والبعض يصفه بهرمون الثقة. السبب في هذه التسمية الغريبة أنه في حالة الرغبة في تحفيز إفراز هرمون السيروتونين مثلا يمكن ذلك من خلال أداء بعض التمارين الرياضية في الهواء الطلق بينما هرمون الإندروفين السالف الذكر يكمن الحصول على المزيد منه من خلال عمل الأشياء الممتعة مثل مشاهدة مسرحية مضحكة أو تناول قطعة شكولاتة في حين أن أحد أفضل أسباب تحفيز (هرمون المعانقة) أن تحضن شخصا ما حتى ولو كان شخصا غريبا. من نواحي بيولوجية ونفسية واجتماعية يفرز جسم الإنسان مركب الأوكسيتوسين كوسيلة لتعزيز العلاقات الاجتماعية بين الكائن الحي وما يحيط به من بشر وحتى الحيوانات ولهذا يمكن زيادة إفراز هذا الهرمون من خلال مداعبة قطتك المدللة.

هرمون الأوكسيتوسين هل هو عطر أم عقار

أحد أشهر الهرمونات الكيميائية الشائعة الذكر هو مركب الأدرنالين والذي من تأثيراته على الجهاز العصبي أنه يزيد التوتر ويقوي الاستعداد للمخاطر والحذر من الغرباء في المقابل نجد أن هرمون الأوكستوسين يقوم بعكس ذلك تماما فهو يساعد على الاسترخاء وهو يعزز العلاقات الاجتماعية وتقبل الآخرين ولهذا البعض يطلق عليه هرمون الثقة أو (الهرمون الاجتماعي) وبالتأكيد هو يحفز العلاقات الرومانسية والزوجية ولهذا لا غرو أن يلقب كذلك بكل بساطة بـ (هرمون الحب). وبالرغم من تعدد تسميات وتوصيفات هرمون الأوكستوسين كما لاحظنا إلا أن أغرب التسميات له وأكثرها إثارة للجدل تسمية الأوكستوسين بـ (الجزيء الأخلاقي the moral molecule). وهي التسمية التي أطلقها عليه عالم الاقتصاد العصبي الأمريكي باول زاك الذي طرح نظرية أن هذا الهرمون يجعل شعورنا تجاه الآخرين أكثر ثقة وأكثر تعاطفا وبالتالي أكثر سلوكا أخلاقيا بفضل مشاعر الفضيلة والثقة ومحبة الغير. في عام 2012م نشر باول زاك كتاب بيع على نطاق واسع على مستوى العالم (وأنا شخصيا اشتريت نسختي منه من مدينة سايغون الفيتنامية) حمل عنوان: الجزيء الأخلاقي وعنوانه الفرعي العلم الجديد لتحديد ما الذي يجعلنا صالحين أو أشرار. وبعد أن أشترك باول زاك مع مجموعة بحث طبية لتحليل مستوى المركب الكيميائي الأوكستوسين في دم مئات الأشخاص في حالات نفسية متعدد مثل حضور حفل زواج أو لعب الكرة أو القفز من الطائرة أو أثناء البيع والشراء توصل إلى أن إحدى أسهل الطرق لتحفيز إفراز الأوكستوسين في جسم الإنسان والتأثير على كيمياء الدماغ يمكن أن يتم بكل بساطة من خلال معانقة وحضن الآخرين. ولهذا أخذ باول زاك ينصح زملاءه ومشاهديه في البرامج التلفزيونية الحوارية التي يظهر فيها بأن يعانق الشخص الواحد منا الأفراد الآخرين حتى لو كانوا غرباء ثماني مرات على الأقل في اليوم لمدة ثلاثين ثانية في كل مرة حتى نحصل على كيمياء السعادة وبحكم إن باول زاك كان يطبق هذه النصيحة ويحرص على معانقة جميع من يقابله ولهذا لا غرابة أن الدكتور باول زاك أصبح يُلقّب بـ (دكتور الحب Dr Love).

في الواقع ما استلزم استحضار خبر الأحضان وكيمياء هرمونات السعادة أن يوم السبت الماضي كان يوافق (اليوم العالمي للمعانقة) والذي يُحتفل به سنويا في توقيت يوم 21 من شهر يناير وذلك منذ عام 1986 ميلادي. وفي الواقع يبدو أن الهدف الرئيس من تشجيع أخذ الآخرين بالأحضان ومبادرتهم بالعناق والطبطبة على ظهورهم هو أن ذلك وسيلة لتعزيز التجانس المجتمعي وتوثيق الأواصر الإنسانية وتبادل المشاعر الإيجابية. ومن الغريب أن هذا ما أثبته العلم والطب الحديث من أن المعانقة والأحضان بالفعل تزيد من مستويات هرمون الأوكستوسين في الدم الواصل للدماغ وبالتالي تعزيز محبة الآخرين وهذا موجود في شرعنا الحنيف من إباحة المعانقة والحث على المصافحة وما شابه ذلك من أمور إظهار المودة بين البشر. ومن الطرائف في موضوع أن مركب الأوكستوسين يشع ويبث (أجواء) المحبة والثقة في الآخرين أنه نتج عن ذلك أن من تقليعات الموضة الحديثة أن يستخدم بعضهم زجاجة عطر من نوع خاص تحتوي على كمية من مادة الأوكستوسين (هرمون الحب). وحاليا في الأسواق بإمكان الواحد منا شراء زجاجة عطر هرمون باريس بخلطة الأوكستوسين (Hormone Paris Oxytocin) والذي يباع بمبلغ 767 ريالا لمن يريد أن يخدع نفسه أنه بمثل هذه الرائحة الكيميائية التي تفوح منه سوف يكسب محبة الآخرين وثقتهم به.

وفي الختام نعود من الهزل إلى الجد لكي نؤكد أن هذا العقار السحري وهرمون المحبة وإكسير الثقة أي المركب الكيميائي المسمى (الأوكستوسين) هو أحد أبرز وأغرب المواد الكيميائية شبه المجهولة للغالبية العظمى منا بالرغم من دوره الفريد في بث سعادة البشر والمجتمعات. هل يمكن تخيل حياتنا من دون هذا الهرمون السعيد الذي يكون أعلى أفرز له في جسم الإنسان وقت قمة النشوة الجنسية أثناء الجماع وهو كذلك يتم إفرازه لكي يسهل ويسرع عملية الولادة ولاحقا إدرار حليب الأم ولهذا ربما يصح أن نضيف له لقب جديد (هرمون الأمومة). في عام 1906م عندما اكتشف العالم البريطاني السير هنري ديل مركب الأوكستوسين لأول مره لاحظ تأثيره على تقلص عضلات الرحم ولهذا أطلق عليها ذلك الاسم المشتق من كلمتين من اللغة اللاتينية تعني (الولادة السريعة oxus tokos). الجدير بالذكر أن السير هنري ديل حصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1936م على أبحاثه على مجموعة من المركبات الكيميائية المؤثرة على الجهاز العصبي (الناقلات العصبية) والتي منها الأوكستوسين. بينما في عام 1955م حصل عالم الكيمياء الأمريكي فنسنت دو فينيود على جائزة نوبل في الكيمياء نظير دراساته وابحاثه التي توصل من خلالها لتحديد طبيعة التركيب الكيميائي الجزيئي لمركب الأوكستوسين وكذلك تحضيره في المختبر وهذا أمر له فوائد طبية كبرى لأنه يعتبر عقار صيدلاني يستخدم في العديد من العلاجات الطبية، بل وحتى النفسية مثل مرض التوحد.


( من وفاة الكاتب إلى موت المكتبات )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في الفلم الأمريكي (لديك بريد) المستوحى من مسرحية للكاتب الهنغاري ميكلوس لاسزلو المهاجر إلى مدينة نيويورك تدور الأحداث حول مكتبة صغيرة في ركن الشارع تتعرض للإفلاس والإغلاق بعد دخولها في منافسة شرسة من أحد فروع سلسلة مكتبات فوكس (Fox Books) التي يملكها رجل ثري يدعى جوزيف فوكس. الطريف في الأمر أنه بالفعل توجد في أمريكا مكتبة تجارية في مدينة فيلادلفيا تحمل اسم (مكتبة جوزيف فوكس) تعرضت للإفلاس وأغلقت أبوابها (وصفحات كتبها) بشكل نهائي العام الماضي ولذا ليس فقط المكتبات الصغيرة كما في الخيال السينمائي هي فقط من يجور عليها الزمان. الغريب في الأمر أن مكتبة جوزف فوكس (الحقيقة) التي استمرت لمدة سبعين سنة كانت قد تعرضت في فترة التسعينيات من القرن العشرين لهزة اقتصادية طاحنة وذلك بعد المنافسة التجارية التي تعرضت لها من جراء افتتاح فرع لأحد أشهر سلاسل المكتبات التجارية في أمريكا: مكتبة بارنز آند نوبل (Barnes and Noble Booksellers) والتي لها حوالي 614 فرعا في مختلف الولايات والمدن الأمريكية. بقي أن نقول إن سلسلة المكتبات التجارية العملاقة (B&N books) تعرضت بدورها هي الأخرى في السنوات الأخيرة لمشاكل مالية بسبب انحسار سوق الكتاب الورقي مما جعل هذه المكتبة ليست فقط تتجه للتجارة الإلكترونية للكتب (eBooks) ولكن أيضا لإغلاق العشرات وربما المئات من فروعها ومنافذ البيع التقليدية.

في الواقع المنافس الحقيقي لشركة سلسلة مكتبات B&N Books هي شركة أمازون عملاق قطاع التوزيع مع فارق جوهري بينهما ففي حين نجد أن سلسلة مكتبات B&N بدأت مشوارها كمتاجر كتب تقليدية ثم تحولت للتجارة الإلكترونية نجد في المقابل أن شركة أمازون بدأت مسيرتها كما هو معلوم كمتجر إلكتروني لبيع وتوزيع الكتب، ولكن منذ عام 2015م اتجهت أمازون لفتح العشرات من المكتبات الفعلية التقليدية وليس الافتراضية عبر شبكة الإنترنت. وخلال سنوات قليلة اتخذت أمازون قرار اقتصادي متسرع وغير مدروس بفتح سلسلة من المكتبات التقليدية حملت اسم (مكتبات أمازون Amazon Books) بلغ عددها 68 فرعا في مختلف المدن الأمريكية. وكما اضطرت سلسلة مكتبات B&N خلال العام الماضي أن تغلق العشرات من فروعها نجد أن جميع فروع مكتبات الأمازون الثمانية الستين تم إغلاقها العام الماضي مما أعطى انطباع كئيب ومخيف لمستقبل المكتبات والكتاب الورقي المطبوع.

الجدير بالذكر أنه في الوقت الذي بدأت فيه شركة أمازون في فتح سلسلة مكتباتها التقليدية في عام 2015م نجد أنه قبل ذلك التاريخ بقليل بدأ عندنا عملاق تجارة الكتب وأقصد بذلك (مكتبة العبيكان) في الإغلاق المتدرج لفروع سلسلة المكتبات التابعة لها. وبعد أن كانت تلك المكتبة رائدة في طباعة ونشر وتوزيع الكتب من خلال فروعها داخل وخارج المملكة التي وصلت لحوالي ثلاثين فرع تلاشت جميعا تلك المكتبات ولم يعد لمكتبة العبيكان من وجود حقيقي في عالم الكتب إلا من خلال المشاركة في معارض الكتب أو من خلال موقعها الإلكتروني.

في ضوء ما سبق من الكوارث المتجددة منذ سنوات في إغلاق كبيرات المكتبات التجارية عبر العالم كان من المستغرب نسبيا حالة الصدمة التي صاحبت الإغلاق النهائي لواحدة من أشهر المكتبات العربية ألا وهي مكتبة الساقي بلندن. قبل حوالي أسبوعين تم إغلاق مكتبة الساقي بعد مصاعب مالية أصابت سوق تجارة الكتب في مختلف البلدان خصوصا بعد فترة الحضر الطويلة بسبب جائحة كورونا وارتفاع تكلفة المعيشة من جراء الحرب الروسية الأوكرانية. الجدير بالذكر أن مكتبة الساقي التي أغلقت أبوابها بعد 44 سنة هي بالقطع أكبر مكتبة عربية في أوروبا وكما أنها من أكبر المكتبات العربية خارج الوطن العربي. مكتبة (دار الساقي) تحمل شعار مرسوم على هيئة رجل يحمل قربة ويسقى بعض الأطفال وهذا ما كان يحصل لنا أثناء سنوات البعثة لدراسة الدكتوراه في بريطانيا فتقريبا في كل زيارة لمدينة لندن كنّا يجب أن نمر على مكتبة الساقي لكي نروي عطشنا في تلك الصحراء الباردة والخالية من ثمار الثقافة العربية. كما أن مكتبة الساقي كانت محور الحركة الثقافية والأدبية العربية في بريطانيا فكم حصل فيها من حملات تدشين الكتب الجديدة أو استضافة رموز ومشاهير الأدباء والمفكرين العرب.

(ليست مجرد مكتبة) هو الشعار الشهير لمكتبة جرير وهذا في جانب منه يوحي بالدور الحضاري والثقافي للعديد من المكتبات العريقة وكيف أنها بالفعل كانت محور وبؤرة الحراك الثقافي في المجتمعات العربية. ومن هنا نتفهم لماذا يصبح خبر (إغلاق مكتبة) خبر صحفي وحدث إعلامي هام تتداوله وسائل التواصل الإعلامي الحديثة والتقليدية على حد سواء. العالم الماضي تناقلت الصحف وتبادل رواد منصات التواصل الاجتماعي خبر إغلاق مكتبة نوبل البارزة في مدينة دمشق ومثل ذلك حصل مع إغلاق مكتبة إنطوان في بيروت وإغلاق مكتبة الشبكة العربية للأبحاث والنشر في القاهرة ومصادرة كتب فرعها في اسطنبول. ولا شك أن ظاهرة إغلاق المكتبات بسبب الضائقة المالية موجودة في جميع الدول العربية وخصوصا في مواقع تجمع المكتبات العربية في منطقة وسط البلد وسور الأزبكية في القاهرة أو شارع المتنبي في بغداد أو منطقة الحبوس في الدار البيضاء أو مكتبات شارع السلط في وسط العاصمة عمان.

وبالجملة ظاهرة إغلاق المكتبات التجارية في العقود الزمنية الأخيرة هي اشبه بالوباء العلمي الذي عمّ الجميع دون استثناء ويكفي أن نشير إلى أنه في بريطانيا وفي عام واحد فقط أي سنة 2020م تم إغلاق نهائي لحوالي 44 مكتبة تجارية علما بأن أعداد هذه المكتبات التجارية البريطانية في عام 1995م كانت 1894 مكتبة وهي حاليا فقط في حدود 1072 مكتبة. تناقص المكتبات التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي ليس كارثة كبرى، ولكن ما هو ملموس في سوق الكتب في أمريكا هو انخفاض الدخل المادي من عمليات بيع الكتب الآن مقارنة قبل حوالي عشر سنوات حيث انخفضت قيمة مبيعات الكتب من أكثر من 30 بليون دولار إلى حوالي 20 بليون دولار. وهذا يعني أنه مع الزمن ليس فقط المكتبات هي من تموت، ولكن أيضا من المحتمل موت الكتب وربما كذلك موت الكاتب.

في المستقبل لا عزاء للكتاب والكاتب

أما (موت الكتب) فهي فكرة خبيثة أرّقت وأفزعت الكتّاب والأدباء من قديم ولهذا لها انعكاساتها في بعض الأعمال الأدبية وخصوصا تلك التي تدور حول أدب الدستوبيا (المدينة الفاسدة أي خلاف المدينة الفاضلة: اليوتوبيا). فمثلا في رواية (فهرنهايت 451) للكاتب الأمريكي راي برادبري يتم في دولة المستقبل الشمولية حرق جميع الكتب وقتلها بالنار حيث إن درجة حرارة 451 فهرنهايت هي درجة اشتعال الورق. بينما في رواية (1984) للأديب البريطاني جورج أورويل ففي المستقبل وفي دولة الأخ الأكبر بعض الكتب قد تكون موجودة لكنها تحتوي على أوراق بيضاء وفارغة تماما. أما الموت الحقيقي للكتب فقد ورد في الرواية الخيالية (الترتيب الأبجدي) للكاتب الإسباني خوان ميلاس حيث ورد في تلك الرواية أن الكتب قد تطير وتموت وتسقط جثثها فوق رؤوس المارة. وعلى ذكر الروايات الخيالية ففي بعض أعمال رائد أدب الخيال العلمي هربرت جورج ويلز نجد مستقبلا فارغا للكتاب الورقي فمثلا في رواية (النائم يستيقظ) والتي تدور رجل من سكان لندن ينام لمدة 103 سنه ليستيقظ ويجد العالم قد تغير تماما ومن ذلك أنه لا وجود للكتب في العالم المستقبلي الدستوبيائي.

هذا يا سادة ما كان وربما سوف يكون من موت المكتبات وموت الكتاب أما عن موت ووفاة (الكاتب) ونهاية (المؤلف) فهي كذلك فكرة مطروحة ومتداولة منذ عقود كما نجد ذلك في دراسات النقد الأدبي التي تدور حول أن الكتابة والمؤلف غير مرتبطين وأن النص الأدبي يمكن قراءته وتفسير بصور متعددة في معزل عن المؤلف بمعنى أن القارئ هو أهم من الكاتب. ومع الوقت تحولت نظرية (موت المؤلف) في المنهاج الأدبية البنيوية والتفكيكية كما طرحها بعض النقاد الفرنسيين مثل رولان بارت وجاك دريدا وميشيل فوكو، تحولت إلى حقيقة شبه ملموسة في الزمن الحالي مع التطور المذهل والمخيف في ذات الوقت لتقنية (الذكاء الاصطناعي). الجدير بالذكر أنه في الأسابيع الماضي حصلت ضجة واسعة عندما تم إطلاق أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المخصصة لكتابة المحتوى والتأليف حمل اسم: شات جي بي تي (ChatGPT) والذي بإمكانه بدرجة مقبولة محاكاة العقل البشري في طريقة كتابة المقالات وصناعة المحتوى المعرفي، بل وحتى الكتابة الإبداعية. وهذا يعني أنه في المستقبل قد يصعب معرفة ما إذا كنت أنا من أقوم بالتواصل معكم من خلال سلسلة المقالات هذه أم هي ممنتجه من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

نظرية (نهاية المؤلف) أو موت الكاتب حصلت بالفعل قبل سنوات قليلة ماضية عندما طرح لأول مرة في التاريخ البشري كتاب لم يتم تأليفه من قبل أي مؤلف بشري وإنما من قام بكتابته (مؤلف إلكتروني) يحمل اسم الكاتب بيتا (beat writer). ذلك الكتاب التاريخي المهم الذي هو من تأليف الخوارزميات البرمجية هو كتاب علمي يحمل عنوان (بطاريات أيون الليثيوم) ويمكن شرائه من موقع أمازون بمبلغ 69 دولار وهو مبلغ كبير على كتاب من تأليف برنامج إلكتروني. بقي أن نقول إن برنامج (الكاتب بيتا Beta Writer) هو أشبه بآلة ذات ذكاء اصطناعي مطور في معامل اللسانيات الحاسوبية التطبيقية بجامعة غوته الألمانية وهذا يعني أن الماكينة الألمانية المبدعة دوما كما غيرت شكل العالم باختراع المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر سوف تغير شكل العالم في مطلع القرن الواحد والعشرين باختراع المؤلف الإلكتروني وبهذا يمكن أن تبدأ نهاية عصر الكاتب البشري. الطريف في الأمر أن تطوير البرنامج الأعجوبة (الكاتب الإلكتروني) في جامعة غوتة الألمانية كان خيارا موفقا لأن ذاك الفيلسوف الألماني هو من قال (أنا أحب أولئك الذين يتوقون للمستحيل).