الأربعاء، 27 ديسمبر 2017

( أصل الكتاب العربي )

غموض البدايات في تاريخ الكتاب العربي
د/ أحمد بن حامد الغامدي

سؤال سهل ومباشر ومع ذلك إجابته مربكة وغامضة
ما هو أول كتاب تم تأليفه باللغة العربية
جال هذا التساؤل في خاطري هذا اليوم بسبب تضافر وتمازج عدة قضايا ثقافية ومعرفية متداخلة أولها موافقة هذا اليوم لليوم العالمي للغة العربية (يوم الثامن عشر من شهر ديسمبر) وكما أن هذا الاسبوع يتوافق مع فعاليات معرض جدة الدولي للكتاب يضاف إلى ذلك أنني اليوم وصلت في قراءتي لكتاب (تاريخ الكتاب) للباحث البريطاني رودريك كيف إلى الجزء الذي خصصه للكتب العربية وكان يناقش فيها الكتب العربية الطبية والصيدلانية. ومن مجمل هذه المتداخلات تولد في خاطري هذا السؤال الذي أحترت في إيجاد إجابه شافية له (ما هو أصل الكتاب العربي).
كما هو معلوم كان العرب في جاهلية جهلاء وظلالة عمياء انعكست في وصف الامة العربية بأنها أمه (أُمية) كما وردفي الحديث الشريف لا تقرأ ولا تكتب ولم يهذب البداوة العربية الجافية إلا دين الاسلام الخالد ولهذا بالقطع كان (مصحف عمر بن الخطاب) وهو وحي التنزيل الكريم هو أول كتب ظهر في تاريخ العرب. لكن يبقى السؤال من منظور آخر لم يتم  الاجابة عليه فما هو (أول كتاب تم تأليفه باللغة العربية). وإذا كان القران الكريم تم بداية تدوينه في حياة الرسول صلى الله علية وسلم إلا أن تدوين المصدر الثاني لدين الاسلام وهي السنة النبوية والسيرة المحمدية تأخر كثيرا بسبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه). ومع ذلك أصبح من شبه الثابت عند الباحثين في مجال علوم الحديث وتدوين السيرة أن تقييد العلم الشرعي من غير القرآن الكريم كان موجودا في حياته الرسول الكرم وعصر الصحابة والتابعين من بعده كما قرر ذلك الحافظ أبي بكر الخطيب في كتابه (تقييد العلم). ولكن هذا التقييد كان في الغالب على شكل مجموعة من الورقات المتناثرة أو ما تسمى (الصحف أو الصحيفة) وهي تختلف عن الصورة النمطية المعروفة الآن عن كتاب حيث أنه مجموعة من الاوراق يتم حفظها في غلاف من الورق ويكون لها (عنوان خاص) يميز كل كتاب عن غيره.
غالب الظن أن أول كتاب تم تأليفه باللغة العربية كان في مجال ما يسمى بالسير والمغازي وهو موضوع قريب الصلة بالسيرة النبوية وبحكم أن تدوين الحديث كان في فجر الاسلام  ما يزال داخل دائرة الحظر الشرعي لذلك ربما تساهل البعض من العلماء في أن يجيز لنفسه تأليف كتاب خاص بمواضيع السيرة النبوية يكون مطعم بذكر الاحاديث النبوية الشريفة. وإذا كان علماء الحديث النبوي يقولون (أن تدوين الحديث الشريف لم يبدأ إلا في عصر الإمام ابن شهاب الزهري) وذلك بأمر مباشر من الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز إلا أنه من المحتمل أن ظهور (أول كتاب عربي) قائم على (التأليف والتصنيف) وليس فقط على (التدوين والتقييد) كان فضل الشرف فيه للكاتب والمؤلف العربي الأول المؤرخ والتابعي الجليل (وهب بن منبه). يشتهر عصر عمر بن عبدالعزيز بأنه (عصر التدوين) ولكن عند استعراض سيرة حياة المشاهير من علماء الحديث في ذلك العصر من أمثال أبان بن عثمان أو عروة بن الزبير أو أبن شهاب الزهري نجد أن كتب التاريخ لا تنسب لهم تأليف (كتاب أو مصنف) علمي مستقل بعنوان خاص. في المقابل نجد أن خير الدين الزركلي في كتابه الأعلام يذكر أن وهب بن منبه المتوفي سنه 110 هجري كان من كتبه التي ألفها كتاب (ذكر الملوك المتوجه من حمير) وإذا علمنا أن وهب بن منبه هو أصلا من اليمن ولقبه (الذماري الصنعاني) لذا قد تكون المفاجأة أن أحد أقدم الكتب المؤلفة باللغة العربية كان حول موضوع تاريخي عن ملوك مملكة حمير وإن كان من المحتمل أن لوهب بن منبه كتاب آخر عن المغازي.
في واقع الأمر صدق من قال أن (العرب ظاهرة صوتية) شغلت في بداية تاريخها بالخطابة والفصاحة والبيان والتبيين ومع ذلك كان للإنتاج الحضاري (في شكله المؤلف والمكتوب) أهمية قليلة نسبيا عندهم. بمقياس زمننا الحاضر أمر غريب ومحير أن أنتاج (أول كتاب أو مؤلف باللغة العربية) أمر لم يكن يثير الاهتمام للمؤرخين والادباء الأوائل أن يقفوا عنده ويحتفلوا به ويطنبوا في الاهتمام به. بل أن الاديب البارز ابن عبدربه في كتابه الموسوعي العقد الفريد أهتم ببيان تفاصيل كيفية (تأريخ الكتاب) بمعنى ما هو الاسلوب العلمي والادبي الصحيح لكيفية أن تكتب تاريخ انتهاءك من تأليف الكتاب ومع ذلك لم يلتفت ابن عبد ربه لذكر ما هو (تاريخ) أول كتاب عربي. ونفس الامر من أغفال ذكر أو كتاب عربي نجده يتكرر في كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) للقلقشندي وبالرغم من أن الكتاب في خمسة عشر مجلد سمين وشمل مقالات متعددة عن دقائق مهنة الكتابة ومتطلباتها وكيف تطورت دواوين الانشاء في تاريخ الاسلام إلا أنه مع ذلك أغفل عن ذكر ما نحن بصدده من محاولة معرفة ما هو أول كتاب تم نشره باللسان العربي المبين.
قديما قيل (أمة أقرأ لا تقرأ) وإذا بنا نكتشف أنها أيضا وللأسف لا (تؤرخ) لما تقرأ أو تكتب !!.

غموض البدايات .. من الكتاب المخطوط إلى الكتاب المضغوط 
كما أحترنا في تحديد ما هو أول كتاب تم تأليفه باللغة العربية لعلنا ننتقل لطرح سؤال لا يقل ضبابية وغموض (ما هو أول كتاب مطبوع باللغة العربية). كما هو معلوم غالب التاريخ الحضاري العربي والاسلامي المتمثل في الكتابة كان يتم من خلال الكتب المطبوعة والمنسوخة باليد ولم تظهر الكتب المطبوعة من خلال الآلات والمطابع إلا في أزمنة متأخرة. السبب في ذلك أنه في زمن الانحطاط الفكري لأمة الاسلامية تدهور الأمر (بأمة أقرأ) أن يتم تحريم طباعة الكتب بواسطة المطبعة الميكانيكية.
في تاريخ الحضارات لحظات محيرة غير مفهومة من ذلك مثلا أن الامبراطور فردريك الثاني الذي استولى عن طريق الصلح على مدينة القدس بعد تحريرها بواسطة صلاح الدين وكان له علاقات حميمية مع الملك الكامل الايويبي ويقال أنه أعجب بالثقافة العربية وشجع على ترجمة كتبها ومع ذلك تصفه كتب التاريخ الأوروبية بأنه رفض دخول الورق إلى أوروبا لارتباط الورق بالحضارة الاسلامية. ولهذا اصدر ذلك الملك قرار امبراطوريا يعتبر أن أي وثقيه حكومية مكتوبة على الورق بأنها لاغية ولا قيمة لها. وفي الطرف الآخر نجد أنه بعد ذلك بحوالي ثلاثة قرون يصدر الخليفة العثماني بايزيد الثاني في عام 1493 فرمانا سلطانيا يقضي بتحريم طباعة الكتب على رعاياه المسلمين ربما بحجة أن المطبعة من اختراع الاعداء المسيحيين أو لأنه كان من عشاق فن الخط العربي وحصل على إجازات في الخط من كبار الخطاطين العثمانيين. يقول البعض أن من أسباب تحريم الطباعة عند الأوائل أن فيها عدم تقدير للنصوص الدينية عندما يتم ضغطها بالمكابس. وكما قلت هذا الفكر السقيم تم في زمن التخلف الفكري للمسلمين اثناء عصور الانحطاط والجمود بدليل أنه في زخم الحضارة العربية ولثلاثة قرون من الزمن تم انتاج العديد من الكتب (( المطبوعة )) بواسطة القوالب الخشبية المنحوتة. وهذا ما كشفته بعض التنقيبات الاثرية في منطقة الفيوم بمصر حيث اكتشفت نصوص حوالي خمسين كتابا مطبوعا مؤلفة جميعا في مواضيع دينية وهذه الكتب المطبوعة محفوظة حاليا بالمكتبة الوطنية في فيينا.
من هذا وذاك نعلم براءة الدين الاسلامي من التشدد الديني الذي منع وحرم استخدام المطابع في البلدان العربية لفترة قاربت الثلاثة قرون منذ اختراع الطباعة الشهير علي يد المخترع الالماني المعرف يوهان غوتنبرغ في منتصف القرن الخامس عشر. وكما هو معلوم أن أول كتاب تم طباعته في التاريخ كان (الانجيل) وذلك علي يد غوتنبرغ فكذلك للأسف الشديد كان أو كتاب مطبوع (باللغة العربية) هو كتاب ديني مسيحي. في واقع الأمر ظهرت المطبعة في ألمانيا في عام 1447م  تقريبا ثم سرعان ما انتشرت في أغلب الدول الأوروبية وفي العالم الاسلامي تم دخولها بالفعل عام 1493م إلى مدينة اسطنبول على يد بعض اليهود المشردين من إسبانيا المسيحية ثم حصل ردة الفعل المتشنجة ضد الطباعة الكتب بالحروف العربية من قبل المسلمين. وعلية بدل أن يكون أول كتاب عربي مطبوع مرتبط بالثقافة الاسلامية أصبح أو كتاب طبع بالحروف العربية هو كتاب (صلاة السواعي) والذي يعرف أيضا بكتاب (الأجبية أو كتاب صلاة الساعات) وهو كتاب الصلوات والادعية اليومية التي يتلوها المسيحيين في صلاوتهم. الجدير بالذكر أن طباعة هذا الكتاب تمت على الارجح عام 1514م في مدينة البندقية الايطالية وبتمويل مباشر من البابا يوليوس الثاني وارسلت آلاف النسخ من هذا الكتاب إلى الطوائف المسيحية في البلدان العربية. والأغرب من ذلك أنه حتى بعد التساهل في انشاء المطابع في العالم العربي كان أول كتاب عربي طبع في داخل الدول العربية هو كتاب ديني مسيحي. وبحكم أن تحريم الطباعة في الدولة العثمانية كان محصورا فقط على رعايا السلطان من المسلمين إلا أن ذلك الفرمان السلطاني خول الاقليات الدينية المسيحية واليهودية أن يكون لهم مطابعهم الخاصة ومن مجمل هذه الظروف العجيبة أصبح اول كتاب مطبوع باللغة العربية هو كتاب (سفر المزامير) والذي طبع عام 1610م في المطبعة المارونية في لبنان على يد رهبان دير مار أنطونيوس.
تشير بعض المصادر التاريخية إلى أنه قبل ظهور أول كتاب عربي مطبوع باللغة العربية في البلاد العربية كانت المطابع في المدن الاوروبية الكبرى قد نشرت حوالي 167 كتاب باللغة العربية غالبيتها العظمى كانت لخدمة الدين المسيحي بل حتى الطبعة الأولى للقران الكريم في عام 1516م في مدينة البندقية أو طباعة كتب قواعد اللغة العربية كانت لأهداف تنصيرية بالدرجة الاولى ولفهم كيفية الرد على الدين الاسلامي. مع نهايات القرن السادس عشر أخذت بعض الجهات المعرفية في الدول الغربية في نشر الكتب المطبوعة باللغة العربية في المعارف الثقافية المختلفة غير تلك المرتبطة بخدمة العقيدة المسيحية ومن ذلك مثلا إعادة أحياء نشر الكتب العربية الكلاسيكية في الطب والجغرافيا والأدب والفلسفة.

وفي الختام كنت قد نشرت نهاية الصيف الماضي مقال بعنوان (المكتبات .. وجهة سياحية منسية) أشرت فيه إلى أن من عناصر الجذب والتشجيع على زيارة المكتبات أن يرغب الشخص في مشاهدة أوائل النسخ التاريخية من كتب مشهورة ومؤثرة في التاريخ البشري. فمثلا قد تزور مكتبة الكونجرس الامريكي في واشنطن أو المكتبة البريطانية بلندن لا لغرض إلا لمشاهدة أول نسخة مطبوعة من الانجيل (نسخة إنجيل غوتنبرغ) بينما وجهتك السياحية قد تكون لمكتبة القديس مارك في مدينة البندقية لمشاهدة المخطوط الاثري لأحد أهم الاعمال الادبية في جميع العصور إلا وهو كتاب الملحمة الشعرية الاغريقية (الإلياذة) التي تحكي قصة حروب طروادة.  وعلى نفس النسق في العالم العربي إذا رغبت في مشاهدة أقدم كتاب عربي مطبوع فيجب ان تكون وجهتك الثقافية إلى الصرح الثقافي الرائع مكتبة عبدالعزيز البابطين بمدينة الكويت والتي تحوي النسخة الاصلية من الكتاب الجغرافي الهام (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) للإدريسي وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة مديتشي بمدينة روما عام 1592 ميلادي. أما في مجال الكتب العلمية العربية ذات الأهمية الحضارية الكبرى فيمكن أن تشاهد في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بمدينة دبي كتاب القانون في الطب للأبن سينا والمطبوع في مدينة روما عام 1593 ميلادي. بقي أن نقول أن من غرائب المصادفات أنك لو رغبت في مشاهدة أول نسخة (مطبوعة) من القرآن الكريم فلن تجدها في مكتبة الازهر بالقاهرة ولا المكتبة الظاهرية بدمشق ولا المكتبة السليمانية بإسطنبول ولكن في مكتبة ديرالفرنسيسكان بمدينة البندقية الايطالية.