الجمعة، 23 أبريل 2021

( أسطورة الأدب الغربي الرفيع )

الكاتب الفرنسي ميشيل فوكو عزز كشف فضائح مشاهير الأدب الغربي

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في منتصف القرن العشرين نشبت معركة أدبية بين الكتاب العراقي البارز الدكتور على الوردي وبين الدكتور العراقي عبدالرزاق محي الدين أستاذ الأدب العربي وكان مدار ذلك السجال في بعض مناحيه حول سلوك بعض (الأدباء) المنافي للأدب والأخلاق. ومن هنا جاء عنصر السخرية في عنوان الكتاب الشهير لعلي الوردي (أسطورة الأدب الرفيع) وبالذات عندما ناقش في جزء منه ارتباط الشعر العباسي بالشذوذ الجنسي. وكما ظهر في تاريخ الأدبي العربي موجة (شعراء المجون) ظهر في تاريخ الأدب الغربي موجات متتالية مما يسمى بزخرف القول (الأدب) المكشوف أو (الأدب) الإباحي والذي طغى طوفانه منذ القرن الثامن عشر. الطامة الكبرى ظهرت في التداخل موجة المجون العربي وموجة الشهوانية الأوروبية في مطلع القرن التاسع عشر عندما وبدافع من توسيع روافد الأدب الجنسي قام العديد من الكتاب والأدباء والباحثين الغربيين بنشر ترجمة المؤلفات والكتب العربية التي تدور حول الشهوات والشذوذ. ومن خلال ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة وما ورد فيها من مجون الخلفاء ودعارة بعض الشعراء مثل أبو نواس تشكلت في (المخيلية) الغربية خرافة أن المجتمع الشرقي والغربي ماجن ومنحل. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تقاطر العشرات من الأدباء والشعراء الأوروبيين إلى البلاد العربية لمحاولة اشباع شهواتهم وشذوذهم الجنسي.

في هذا الأسبوع أصيبت الدوائر الأدبية والمنتديات الصحفية بصدمة كبيرة بعد أن قامت جريدة الصاندي تايمز البريطانية بنشر تقرير صحفي تتهم فيه الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي المعروف ميشيل فوكو بأنه قام في فترة إقامته في تونس في نهاية الستينيات من القرن العشرين باغتصاب والانتهاك الجنسي للعديد من الأطفال. لقد بلغ الفجور والشذوذ بهذا المفكر المزعوم الذي اهتم بكتابة تاريخ الجنسانية وحب الغمان عند الرومان أنه كان يعتدي على أوليائك الأطفال الصغار جدا في مكان موحش مثل مقبرة ضاحية سيدي بوسعيد. وفي ضوء ما تم ذكره سابقا كان المفترض ألا يكون مثل هذا الخبر (صاعقا) أو مستغرباً وإنما دليل جديد وفصل آخر من فصول الكتاب المخزي (للأدباء) الغربيين وفجورهم وفسقهم وشذوذهم الذي أفرغوه في الشرق.  الإيروتيكية المثلية والتصورات الجنسية الماجنة والمتخيلة للغرب عن الشرق هي التي قادت مشاهير وأبرز كتاب القارة الأوروبية لزيارة البلاد العربية خصوصا تلك التي تقع تحت الاحتلال الفرنسي. ومن هنا نعلم مثلا لماذا لم يتورع كثيرا المؤلف الفرنسي أندرية جيد (الحاصل على جائزة نوبل في الأدب 1947م) في الاعتراف بأنه ذهب للجزائر بهدف إشباع شذوذه الجنسي مع المراهقين وهنالك تقابل مع الكاتب الإيرلندي أوسكار وايد البالغ الشهرة في الشذوذ وكانا يتعاونان معنا في اصطياد المراهقين والعبث بهم. أما مدينة طنجة المغربية فكانت تحت الاحتلال الفرنسي وكر للفساد والشذوذ ولهذا جذبت كتاب بارزين بهدف ممارسة الرذيلة من الأطفال كما هو الحال مع أندرية جيد السابق الذكر وكذلك والشاعر الفرنسي جان جينية والعديد من الكتاب الأمريكان ذوي الشهرة الأدبية البارزة مثل تينيسي وليامز وترومان كابوتي وويليام بوروز.

وإذا كان المفكر العراقي علي الوردي سخر من توصيف الأدب العربي بالرفيع بمجرد اللطخة السوداء من جراء وجود شعراء المجون مثل أبي نواس وشلته المحدودة فماذا نقول عن الأدب الغربي الزاخر بكم هائل من الكتاب والشعراء والروائيين منحلي الأخلاق. وبما إن سيرة الشذوذ انفتحت فهذا الشاعر الفرنسي الأبرز أرثر رامبو بالإضافة لشهريته الطاغية لعشقه للشرق وتجواله في اليمن والحبشة إلا أنه اشتهر بمخازيه الجنسية حيث كان شاذ جنسيا لدرجة أنه دخل في علاقة آثمة مع الشاب الشاعر الفرنسي بول فيرلين (الملقب بأمير الشعراء) تطورت لدرجة أنه هجر زوجته وطفله الرضيع من أجل الإقامة مع رامبو. وتستمر علاقة الشرق بقصص الشذوذ الجنسي لمشاهير الكتاب الغربيين ونعرج على الرمز الأشهر للأدب المكشوف وهو الروائي الفرنسي الرمز جوستاف فولبير صاحب رواية (مدام بوفاري) الذائعة الصيت. عندما قام فولبير بزيارته الشهيرة إلى مصر في منتصف القرن التاسع عشر وفي أجواء العربدة التي كان يعيشها تجرأ أن يقول لرفيقه في السفر إنه لا ملامة على الشخص أن يعترف بشذوذه الجنسي وعندما جرب الجنس مع رفيقه ذلك كتب لاحقا يقول (لقد اعتبرنا أنه من واجبنا تجربة هذا النمط من القذف).

وهذا الروائي والكاتب الفرنسي البارز ألبرت كامو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1957م الذي ولد وتعلم وعاش بالجزائر نجده بعد أن انتقل للإقامة في مدينة باريس توجد شبه أنه أقام علاقة جنسية شائنة مع الروائي الأمريكي المعروف بشذوذه نورمان كابوتي. ومن المهازل والمخازي أن أوسكار وايد المشتهر عنه شذوذه الجنسي والذي دخل السجن بسبب علاقته بشاب يدعى اللورد ألفريد دوغلاس عندما خرج من السجن حاول زملائه تحسين سمعته بأن نظموا تغطية صحفية له وهو يزور ماخور دعارة لممارسة الجنس مع مومس كي يحاول يثبت للجهور أنه شخص مستقيم (كذا زعموا) وليس شاذ. الجدير بالذكر أن الشذوذ الجنسي له نماذج وشواهد في عالم الأدب الغربي حتى مع النساء الذين اشتهرن في مجال الكتابة والرواية. فهذه الروائية الإنجليزية البارزة فرجينيا وولف كانت هي الأخرى شاذة جنسيا حيث كانت على علاقة سحاق مع كاتبة تدعى فيتا ويست. وبالرغم أن كلا من فرجينيا وفيتا هي سيدة متزوجة ومع ذلك كانت تلك العلاقة الجنسية الشائنة بينهما تتم بمعرفة زوجيهما المتحررين فكريا وأخلاقيا.

بدأنا بالحديث عن كتاب (أسطورة الأدب الرفيع) للدكتور علي الوردي ولعلنا نعرج عليه مره أخيرة قبل الختام فقد اعترض الكاتب على محاولة الدكتور عبدالرازق محي الدين تعليل أن شيوع التغزل بالذكر في الشعر العباسي كما يلاحظ في بعض قصائد أبي نواس أنما مرده لشيوع النزعة العرفانية الصوفية التي تقتضي تذكير الضمير. بمعنى أن بعض القصائد الماجنة لأبي نواس لا يقصد منها (الكلام الحرفي) للتغزل بالشذوذ الجنسي، ولكن يقصد منها طريقة أدبية خاصة لوصف المشاعر. فحوى هذا الكلام في محاولة دفع تهمة الشذوذ الجنسي عن أبي نواس استخدمت بشكل أو آخر كمحاولة بائسة وفاشلة في دفع مسبة اتهام أشهر وأهم شاعر أمريكي وهو (والت ويتمان) بأنه كان له ميول جنسية شاذة. في الديوان الشعري ذائع الصيت لويتمان (أوراق العشب) بعض القصائد التي عن الحب الرجولي للرفاق وبالرغم من أن بعض نقاد الشعر الإنجليزي يرجحون أن هذه العبارات هي فقط توصيف مجازي. إلا أن السائد لدى الغالبية العظمى من النقاد بأنها مؤشر شبه مباشر عن طباع وتصورات والت ويتمان فيما يخص القبول بالعلاقة الجنسية بين الذكور بدليل أنه من الثابت أنه في حياته الشخصية كان له علاقة شاذة مع عدد من الرجال والأطفال.

( إبرة التطعيم وتنشيط الذاكرة )

الألم والذاكرة توأمان لهذا لا عجب أن نتذكر مع تطعيم الكورونا تطعيم الجدري 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 وأخيرا قبل أيام تشجعت لاتخاذ الخطوة المنتظرة بأخذ الجرعة الأولى من اللقاح ضد مرض الكورونا بعد ترقب للتأكد من نجاعة التطعيم وبعد توتر بسبب القلق من وخز الإبر. من الطريف أن جزء من التردد بأخذ حقنة التطعيم نتائج من الخوف من الألم وإن كان مغلف بادعاء الحكمة في التريث بسلامة اللقاح الجديد وفاعليته. من العجيب أن ظاهرة تفادي الذهاب للمستشفيات والعيادات الصحية بغرض أخذ الحقن الطبية أو سحب الدم هي ظاهرة ملموسة بشكل جلي لبعض الأشخاص بسبب إصابتهم المحتملة باضطراب نفسي يدعى رهاب الإبر أو فوبيا الحقن (التريبانوفوبيا). وعلى خلاف الاعتقاد السائد من أن الأطفال هم فقط من يخاف من شكل وألم إبرة الحقن الطبية فالدراسات النفسية المتعلقة بمرض فوبيا الإبر تشير إلى أن نسبة وجوده في شريحة البالغين قد تصل إلى رقم مرتفع يبلغ 22 بالمائة لديهم هلع حاد من الحقن الطبية. فالحقيقة العارية إذا أن الجميع يخشى من وخز الإبرة فالصغار كما الكبار هم جميعا سواسية تم تخويفهم عبر القصص والحكايات من أي طرف معدني حاد. فجميع الأطفال تم غرس الخوف في نفوسهم من الإبر من خلال قصص الأطفال مثل حكاية (الجميلة النائمة) وكيف تم تفعيل اللعنة الشريرة ضدها من خلال جرح إصبعها بسن إبرة المغزل. وفي حكايات وروايات الكبار ورد في عدد من الأعمال المسرحية لشكسبير ذكر وخز الإبرة في سياق الشر والشؤم كما نجده في مسرحية هاملت وتاجر البندقية بينما في مسرحية ماكبث نجد المقطع الرهيب عندما تعلن الساحرة الثانية البغيضة قولها (عن طريق وخز إبهامي، تأتي أشياء شريرة). 

وبالفعل قديما قبل اكتشاف المضادات الحيوية كان حادث خفيف مثل وخز الإبهام قد يأتي بأشياء شريرة وقد سبق الإشارة إلى إن الطفلة الألمانية هايدغارد أصيبت بالتسمم البكتيري المميت نتيجة تعرض إحدى أصابعها لوخز إبرة ملوثة وقد أنقذ حياتها اكتشاف والدها الطبيب الألماني غرهارد دوماك لأدوية السلفا التي حققت له كذلك جائزة نوبل في الطب. وكذلك خدش يكاد لا يذكر عن طريق شوكة وردة أوشك أن يتسبب في وفاة رجل شرطة إنجليزي يدعى أبرت ألكسندر الذي تعرض هو الآخر لتسمم بكتيري تم علاجه بأول كميات تم استخلاصها من عقار البنسلين. والمقصود أن حياة البشر في القديم كانت في بعض الظروف على محك الخطر المميت بسبب (وخزة إبرة) سواء كانت بسبب كائنات حية مثل لدغة العقرب أو لسعة الدبور أو كانت مجرد خدشة شوكة ملوثة أو وخزة دبوس مسمم. من مثل هذه الذكريات المؤلمة ترسب ومنذ الأزل في أغوار النفس البشرية الخوف والفزع من الإبر ولاحقا من الحقن الطبية.

للكاتبة والروائية السورية غادة السلمان عبارة متداولة تقول فيها (إن الذاكرة والألم توأمان) والعجيب في الأمر أن علماء الأعصاب الألمان توصلوا قبل عدة سنوات لاكتشاف منطقة في قشرة دماغ الإنسان يرتبط فيها الشعور بالأم مع تسجيل الذاكرة. وبالإذن من القارئ العزيز إذا أثقلت عليه بذكر الاسم العلمي الغريب لتلك المنطقة من الدماغ والتي تسمى (المركب القذالي الوحشي LOC) والمرتبطة بالإدراك والوعي ولها علاقة كذلك بالذاكرة وقد وجد العلماء أن هذه الأنشطة الذهنية في ذلك الجزء من عقل الإنسان تتأثر بالألم. قد يكون هذا اكتشاف طبي حديث، ولكن في الواقع كتب تاريخ الطب سجلت وقائع تجربة علمية طريفة ومشهورة نسبيا حملت عنوان (تجربة وخزة الدبوس) كما عرفت أيضا بالعنوان الأكثر دراما (العلاج بالصدمة). في عام 1911م كان طبيب الأعصاب السويسري إدوارد كلاباريد يحاول علاج مريضة تعاني من حالة حادة من فقدان الذاكرة. لقد كان الطبيب كلاباريد يقوم بتعرف نفسه لهذه السيدة وبعد دقائق قليلة تنسى اسمه وتنسى تماما أن تكون تعرفت عليه. وفي إحدى الجلسات العلاجية قام كلاباريد بتعريف نفسه للسيدة مرة أخرى ثم قام بمصافحتها بعد أن وضع بشكل غير ملحوظ دبوس في راحة يده وكما هو متوقع أحست السيدة بألم وخزة الدبوس فسحبت يدها بسرعة. لقد كانت تلك السيدة دائما تنسى شكل وهيئة الدكتور كلاباريد بعد دقائق معدودة ومع ذلك بعد تلك التجربة الأليمة والصادمة وعندما قابلت الدكتور في اليوم التالي ومد يده لمصافحتها رفضت السيدة أن تصافحه خوفا من تجربة الأمس وهذا عزز الفكرة العلمية لدى الأطباء أن الألم في بعض الحلات يكون (منشط) للذاكرة أو توأم لها حسب وصف الروائية غادة.

في حالة المجتمعات ما يتم تنشيطه بسبب وخز الإبر وغرز الحقن هو (الذاكرة الجمعية) وليس الذاكرة الفردية ولهذا لا عجب عندما تجتمع مع لفيف من الأقارب أو المعارف بعد أن يقوم أحدهم أو عدد منهم بتلقي تطعيمات مرض الكورونا أن تسترجع (الذاكرة الجمعية) لهذه الشلة من الأصدقاء أو الثلة من الأقرباء قصص وأخبار الطفولة مع التطعيمات المدرسية. الغالبية الكاسحة من أبناء الجيل الجديد يتلقون التطعيمات الصحية واللقاحات الطبية وهم في سن مبكر جدا قبل الدخول للمدرسة ولهذا غالبا لا ذكريات لهم من وقائع (ملحمة التطعيمات). أما أبناء جيل الطيبين والزمن الجميل كما يقال فجميعهم دون استثناء عاصروا حالة الفزع والرعب من (الحملات والغزوات) الصحية لتطعيم طلاب المدارس بالعديد من اللقاحات الطبية التي ولدت عصر الرعب والعقد النفسية. مع وخزة إبرة لقاح الكورونا تنشطت ذاكرة البعض منا لاسترجاع أحداث وأهوال حملات وحفلات التطعيم ضد مرض الجدري أو الحصبة والتي كانت تتم (ويا للهول) ليس بوخزة إبرة واحدة، ولكن عبر تشريط الساعد الأيسر مثلا بالعديد من الغرز المتتالية والمتتابعة لتشكل جرح غائر على شكل دائرة. هذه العملية الصحية لإعطاء اللقاح كانت تسمى في الزمن الغابر (بالتينة) أو التيانه وفي بعض المناطق اشتهرت باسم التوتينة ويبدو والله أعلم أن التسمية من المحتمل هي تحريف لكلمة (كرنتينه) وهي كما هو معلوم مركز الحجر الصحي وفي الغالب يكثر فيها تطعيم الأشخاص المحجوزين باللقاحات ضد الأمراض المعدية مثل الجدري والحصبة والملاريا. الجدير بالذكر أن من يتتبع الأخبار العالمية المصاحبة لانتشار حملات التطعيم باللقاح المضاد للكورونا في العديد من بلدان العالم يجد أن وخز الإبر له دور السحر في تنشيط الذاكرة الجمعية لدى الشعوب الأخرى. فتجد تلك الأخبار الدولية تستحضر في نفس الوقت الحملات الصحية القديمة للتطعيم في فترة الستينيات من القرن العشرين ضد مرض شلل الأطفال أو ما تلا ذلك في السبعينيات من التطعيم ضد الحصبة والجدري.

بقي أن أقول في الختام وقبل أن نغادر أنه من الأمانة أن أعترف لقارئي العزيز أن عنوان هذا المقال (إبرة التطعيم وتنشيط الذاكرة) ليس المقصود به بالدرجة الأولى ما سبق ذكره عن تنشيط (الذاكرة الجماعية) وإنما ما سوف يأتي ذكره عن (الذاكرة المناعية) !!. قبل عدة أيام عندما ذهبت مع غيري من مئات الآلاف من البشر على مستوى العالم إلى مراكز التطعيم لأخذ وخزة الإبرة بحقنة اللقاح ضد مرض الكورونا في الواقع ما كنا نقوم به هو باللغة الطبية (تفعيل الذاكرة المناعية) وذلك من خلال تنشيط قدرة الجهاز المناعي في جسم الإنسان على التعرف بسرعة ودقة وكفاءة على فيروس وباء الكورونا المعروف باسم (كوفيد 19). فكرة تنشيط عمل جهاز المناعة تقوم على آلية (المحاكاة) لتعرض الجسم للجراثيم والفيروسات حيث يتم حقن الجسم من خلال إبرة اللقاح بسائل يحتوي على فيروسات ميتة أو حتى أجزاء من الحمض النووي لبعض الفيروسات. وهنا يأتي دور الاستجابة المناعية المكتسبة لجسم الإنسان والتي تتم من خلال ما يسمى خلايا (الذاكرة) البائية memory B cell وخلايا (الذاكرة) التائية وهي إحدى أنواع خلايا الدم البيضاء والتي يتخصص دورها في إنتاج الأجسام المضادة والتي (تتذكر) وتتعرف على فيروس الكورونا في حال تسل إلى جسم الإنسان ومن ثم تقوم بالقضاء عليه قبل أن يتكاثر وينتشر في الجسم.


( قاعدة فيثاغورس في عشق الرياضيات )


 عشق الرياضيات تحول عند البعض لطقوس وعبادات بل وحتى قتل المخالف !!

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 وافق الأسبوع الماضي مرور ذكرى (اليوم العالمي للمرأة) وبحكم أن المرأة نصف المجتمع الذي أعيش فيه فقد كان من الملائم أن أكتب مقالا ثقافيا عن تلك المناسبة. وفي مطلع هذا الأسبوع مرت ذكرى (اليوم العلمي للرياضيات) وبحكم أن الرياضيات توصف أحينا بأنها ( أم ) العلوم وهو المجتمع الذي انتسب له لهذا كان من الملائم للمرة الثانية على التوالي كتابة مقال حيال هذا المناسبات المتكررة.

(المحاور) و (الزوايا) و (النقاط) و (الدوائر) التي يمكن من خلالها مناقشة مجال وعلم الرياضيات عديدة ومتنوعة وربما من باب الملاطفة للزملاء الأفاضل من محترفي علم الرياضيات ومن لف لفهم (من أهل الإحصاء والهندسة بل وحتى المحاسبة والاقتصاد) أن نتطرق لبعض حالات الغلو والتعصب والجنون في عشق وتقديس الرياضيات. لعلم الرياضيات مكانة مرموقة في الإرث البشري والحضارة الإنسانية لدرجة أن الفيلسوف الإغريقي البارز أفلاطون كان يعتبرها بأنها أسمى صورة للمعرفة في حين أن العالم الأسطورة جاليليو اشتهر عنه وصفه بأن كتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات وكذلك نجد أن الفيلسوف العربي الشهير الكندي ألف رسالة وكتاب خاص في أن الفلسفة لا تنال إلا بعلم الرياضيات. كل هذا سليم ولا غبار عليه ولكن الإشكال يأتي من (التعصب) المبالغ فيه والمتطرف نحو ((تقديس)) علم الرياضيات كما نجده لدى رمز علم الرياضيات الأكبر فيثاغورس وتلاميذه من اتباع المدرسة الفيثاغورسية.

لقد كانت فكرة فيثاغورس وتلامذته عن الأرقام الرياضية بأنها هي جوهر وروح كل الأشياء وأن الأرقام هي العنصر الأول والأبدي للكون وأنها شي نقي وسحري ومفتاح فهم الدين والفلسفة. تطور الأمر بعد ذلك لدرجة أن فيثاغورس وتلامذتها أن للرياضيات والأرقام هي بحد ذاتها (دين خاص) ومن ذلك مثلا أنهم يكنون إجلالا خاصا للأعداد التامة مثل العدد 6 والعدد 28 اللذان يساوي كل منهما مجموع قواسمه. كما خصوا العدد 10 باحترام عظيم وأطلقوا عليه اسم الرابوع الإلهي كما جعلوا العدد المربع 4 رمز للعدالة والإنصاف. وبحكم أن الأرقام في عقيدة فيثاغورس هي أساس الجمال ورمز القدسية ولهذا عندما توصل أحد تلاميذ فيثاغورس والمدعو هيبياسي إلى إثبات أن جذر العدد اثنين √2 هو رقم غير حقيقي irrational   وهذا ما تسبب في إثارة هيجان فيثاغورس وتلاميذه بالزعم بوجود شيء قبيح مثل الأعداد غير الحقيقة. يقال أن هيبياسي توصل لذلك الإثبات الرياضي لوجود الأعداد غير الحقيقة عندما كان مع فيثاغورس وبعض تلاميذه في رحلة بحرية وهنا كانت ردة فعل فيثاغورس ضد هذه (الزندقة والبدعة) الرياضية الشنيعة أن أمر تلاميذه بقذف وإغراق هيبياسي في البحر.

 لقد كانت (قاعدة فيثاغورس) هي التعصب الشديد والغلو المفرط في التعلق بالرياضيات ولو تسبب ذلك في ارتكاب الجرائم مثل القتل والاعتداء على أي عالم رياضيات يخالف في المفاهيم الرياضية السائدة أو ينتقص من المكانة الرياضية لرموز علم الحساب. عالم الفلك الدنماركي الشهير تايكو براهي وهو أحد أبرز علماء القرن السادس عشر كان له ولع وعشق كبير لعلم الرياضيات لدرجة أنه دخل في مبارزة دامية بالسيوف مع عالم رياضيات آخر وكان سبب الشجار بينهما زعم كل واحد منهما أنه هو الأفضل والأكثر عبقرية في مجال الرياضيات. هذه الحادثة أثرت كثيرا على تايكو براهي حيث أنه نجا من الموت بأعجوبة لأن القتال تم في الظلام الدامس ولكن مع ذلك خسر أنفه الذي جذع وتعرض لجرح غائر في جبهته. التاريخ الدامي في صراع علماء الرياضيات فيما بينهم البين أو مع الآخرين له العديد من الشواهد كما نجد ذلك في الحادثة الأليمة عندما قام عالم الرياضيات الفرنسي المرموق أندرية بلوخ بقتل أخيه عالم الرياضيات جورج بعد لوثة عقلية أصابته جعلته يقتنع بأن أخيه وبعض أقاربه هم عبء على البشرية ويجب التخلص منهم بقتلهم. وما زلنا في فرنسا ومع عالم رياضيات مميز هو الشاب إيفاريست غالوا والذي اشتهر بنظرية غالوا ذات الأهمية الكبرى في نظرية الزمر في الرياضيات الحديثة. في سن العشرين تورط الشاب غالوا في خصام وقتال بالمسدسات مع شاب آخر. وعندما تم تحديد موعد هذه المبارزة المسلحة duel في صبيحة يوم 29 من شهر أبريل لعام 1832م شعر غالوا بأن موعد مقتله قد اقترب ولهذا أمضى الليلة السابقة بطولها وهو يسجل أخر أفكاره الرياضية الملهمة المتعلقة بطريقة مبتكرة لحل المعادلات عن طريق الجذور وقام بإرسال تلك الأوراق إلى قريب له مع توصية له بأن يحاول نشرها في مجلة أكاديمية العلوم الفرنسية.

الجدير بالذكر أن ليس كل (المعارك) العلمية في تاريخ الرياضيات هي معارك دامية وقتال مسلح فكثير ما يكون الخصام والصراع مجرد تراشق بالسباب أو عراك بالألفاظ. ومن القصص المشهورة في تاريخ العلوم ذلك النزاع المشين والصراع المهين الذي نشب بين أشهر عمالقة الرياضيات على الإطلاق ألا وهم الإنجليزي إسحاق نيوتن والألماني غوتفريد ليبنتز. لسنوات طويلة في مطلع القرن الثامن عشر زعم كلا من نيوتن وليبنتز أنه هو من أكتشف فكرة علم التفاضل والتكامل في الرياضيات وهو المجال العلمي الذي لا يمكن تخيل تقدم البشرية الحالي لو لم يتم تطوير ذلك الفرع الإبداعي. وبالرغم من أن أغلب الرموز والمفردات في علم التفاضل والتكامل والمستخدمة حتى اليوم كان أول من وضعها هو ليبنتنز إلا أن من المشهور أن نيوتن بالفعل قد اكتشف ذلك الحقل الرياضي وهو بعد في أوائل الشباب ولكن لم ينشر هذا الاكتشاف التاريخي إلا بعد سنوات طويلة. وبسبب البلبلة التي حصلت في المجتمع العلمي حيال هذا الخصام والاتهام المتبادل بالسرقة والانتحال قامت الجمعية الملكية البريطانية بتشكيل لجنة خاصة للتحقيق والتدقيق في هذا النزاع. ولقد كان من السخف البالغ واللؤم الحقير أن نجد نيوتن وبحكم نفوذه كرئيس للجمعية الملكية البريطانية يقوم بتعيين عين نفسه رئيسا لهذه اللجنة. وكما هو متوقع خرج التقرير النهائي للجنة التحكيم باتهام ليبنتنز وإدانته بسرقة وانتحال أفكار نيوتن مما تسبب في حالة إحباط حادة له لدرجة أن نيوتن بعد وفاة ليبنتنز قال إنه شعر بمتعة كبيرة حين حطم فؤاده. وقبل حادثة الخصام الرياضية المشينة هذه بحوالي قرن من الزمن حصلت حالة خصام وشقاق وتشاحن حول الاسبقية في الاكتشافات الرياضية بين عالم الرياضيات الفرنسي المعروف رينه ديكارت وبين أستاذه عالم الرياضيات الهولندي إسحاق بيكمان حيث زعم التلميذ الفرنسي أن ليس لأستاذه الهولندي فضل عليه في توصله لأي من اكتشافاته الرياضية وهو ما عده بيكمان جحود وعدم أمانة علمية.

 دالة العشق والهيام الرياضي الا منتهي

ما سبق ذكره عن الحدة والتعصب بين علماء الرياضيات لدرجة العنف أو الفجور في الخصومة يعكس مشاعر وجدانية ووشائج نفسية شديدة التعلق والعشق بعلم الرياضيات. وكما هو متوقع ليس جميع عشاق وأنصار علم الرياضيات هم على تلك الدرجة من العدوانية مع الآخرين من المنافسين فالغالبة العظمى منهم انشغلوا بالتفرغ للتمتع بلذتهم الذهنية ومتعتهم الفكرية وهم في حضرة (ملكة العلوم) أي علم الرياضيات كما وصفها عالم الرياضيات الألماني البارز كارل جاوس الذي ربما يعرفه جميع طلاب المرحلة الثانوي من خلال ما يسمى (منحنى جاوس) في علم الإحصاء. وبمناسبة ذكر كارل جاوس الذي يلقب في كتب التاريخ (بأمير الرياضيات) لا عجب أن يعشق ويفتتن هذا الأمير بوجوده بين يدي ملكة العلوم لدرجة أنه كان كثيرا ما ينغمس ولفترة طويلة من الزمن قد تصل لبعض الأسابيع في قضايا رياضية معقدة. وفي إحدى المرات وعندما كان مستغرقا بشكل كلي في أحد مواضيعه العلمية تم قطع خلوته العلمية بإخباره أن زوجته المريضة تحتضر وعلى وشك الموت وهنا يقال أن جاوس قال لم اخبره بذلك الأمر الطارئ جدا (أخبرها بأن تنتظر قليلا حتى أنتهي مما لدي).

وفي سياق ذكر الموت والرياضيات نجد أن العاشق المتيم بحب الرياضيات عالم الرياضيات السويسري الكبير ليونارد أويلر أحد أهم علماء الرياضيات في القرن الثامن عشر، نجده من شدة تعلقه بالعلم وهو على فراش الموت في سن السادسة والسبعين كان مشغولا لدرجة كبيرة في إجراء الحسابات الرياضية بالرغم من أصابته بالعمى. بقي أن نعرف أن أويلر كان يحاول حل مسائل علمية جديدة تماما عليه ففي يوم وفاته وذلك في نهاية عام 1783م كان يحاول حساب قوانين الإقلاع ببالون الهواء وكان ذلك اختراع حديث جدا في تلك الفترة. ولعل من الطريف أن نذكر أن وفاة أويلر كانت في مدينة سانت بطرسبرج عاصمة الإمبراطورية الروسية وذلك بعد أن استقطبته الامبراطورة كاترين عاشقة العلوم. الجدير بالذكر أن أويلر كان مشهور جدا بتدينه لدرجة أن الكنيسة اللوثرية كان تضعه في قائمتها للقديسين وبحكم أن (القديس) أويلر كان في مدينة القديس بطرس (سانت بطرسبرج) فقد سمع بزيارة الفيلسوف الفرنسي الشهير دنيس ديدرو (صاحب الموسوعة وقائد حركة التنوير بزعمهم) وأنه يقوم بإلقاء سلسلة من المحاضرات في المدن الروسية ينادي فيها بعقيدته بنشر الإلحاد وإنكار وجود الخالق. وهنا نجد أن أويلر يعلن أنه قد توصل لاكتشاف معادلة رياضية جبرية تثبت وجود الله ولهذا يطلب أن يعرضها على ذلك الفيلسوف الملحد والمتعجرف. وهنا عندما أُحرج الفيلسوف الفرنسي ما كان له إلا أن يحضر المناظرة والجدال مع العالم الرياضي حول وجود الله وعندما تقابل الرجلين تقدم (القديس) الرياضي أويلر إلى الفيلسوف ديدرو وقال له بعبارة واثقة وقوية:

سيدي a+ bn/n = x  لذا فإن الله موجود، أجب.

وهنا نجد أن الفيلسوف الفرنسي يُأخذ على حين غره ولهذا أرتج الأمر عليه فهو خبير في الأدب والفن والفلسفة ولم يكن يعلم أي شيء عن الرياضيات لهذا طلب الفيلسوف أن يسمح له بالانصراف والانسحاب من المناظرة ويقال إنه غادر مباشرة إلى فرنسا.

أمر أخير أود أن أذكره عن عالم الرياضيات الألماني العجيب أويلر وهو أنه من شدة عشقه الشديد وانغماسه في علم الرياضيات أنتج عدد كبير من الأبحاث والأوراق العلمية المنشورة بلغت حوالي 886 بحث رياضي وهذا رقم كبير جدا بمقاييس القرن الثامن عشر الذي عاش به. وهذا يقودنا إلى عالم الرياضيات المجري بول إردوس والذي بلغ من درجة انغماسه وعشقه لعلم الرياضيات أنه يعتبر أكثر علماء الرياضيات عبر التاريخ من ناحية غزارة إنتاجه العلمي حيث نشر ما يقارب 1600 بحث علمي في مجال الرياضيات. وبحكم أن بين العبقرية والجنون شعره فإن إردوس خير من يمثل العالم المجنون أو غريب الأطوار على الأقل. الغالبية العظمى من تلك الأبحاث الهائلة العدد نشرها إردوس بمفرده ومع ذلك كان في بعض الأحيان يضطر أن ينشر بعض تلك الأبحاث الرياضية مع الآخرين من زملائه وتلاميذه. السبب في ذلك أن إردوس كان لا يملك منزل خاص به ولذا عاش معظم حياته متنقلا بحقيبة ملابسه بين منازل معارفه وزملائه وتلاميذه في أوروبا أو في الولايات المتحدة. من الناحية المبدئية المفترض أن يكون إردوس شخص ميسور الحال ماديا لأنه كان يعمل في جامعة برنستون الأمريكية العريقة وذلك بعد ان استقطبه لها العالم المشهور أينشتاين الذي كان يعمل في نفس تلك الجامعة. ونظرا لأن إردوس كان لا يحتفظ بأي نقود أو أموال حيث كان يتبرع بها للفقراء ولذا كان يفضل أن يعيش حياة التشرد والإقامة في منازل زملائه وتلاميذه ولهذا ربما كان يضيف أسمائهم في أبحاثه المنشورة كنوع من الرشوة أو المقايضة لهم للسماح له بالإقامة معهم.

 في مطلع هذا المقال ربطنا بين مناسبتي اليوم العالمي للمرأة واليوم العالمي للرياضات وكان مدخلنا الحديث عن الغلو والتطرف في عشق الرياضيات ولعنا في ختام المقال أن نجمع بين ذلك الثالوث: المرأة والرياضيات والغلو. وخير مثال لدمج هذه الأمور الثالثة هو شخصية عالمة الرياضيات والكونتيسة الإنجليزية آدا لوفلايس والتي بلا جدال هي أشهر وأهم عالمة رياضيات في جميع العصور. شخصية الكونتيسة آدا لوفلايس ثرية جدا ومتشعبة فمن خلال والدها اللورد بايرون تنفتح أبعاد الأدب والشعر الإنجليزي ومن ناحية أبنتها الليدي آنا بلنت نرتبط بالرحلات لبلاد العرب وزيارة آنا الشهير لمنطقة حائل. أما من جانب ارتباطها بالعالم الإنجليزي تشارلز باباج (الذي كان يلقبها بساحرة الأرقام) فقد دخلت آدا التاريخ من أوسع أبوابه عندما ساهمت في تصنيع أول حاسب آلي وكذلك كونها أو مبرمجة كومبيوتر في التاريخ. على كل حال ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى الدرجة المفرطة في غلو وتطرف آدا في حماسها لعلم الرياضيات التي جعلتها (كما فيثاغورس وتلاميذه) دينها واعتبرت نفسها نبيه ورسول للرياضيات بل تطرفت لدرجة أنها كانت تصف نفسها بأنها اللسان الناطق للإله والرب الخاص بالرياضيات تعالى الله عما يقلون علوا كبيرا.

 

( توظيف المرأة الأجنبية في الأدب العربي )

المرأة غير العربية لها تأثير ملموس في الأدب العربي


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 من تعلق بشيء أكثر من ذكره وأدام الانشغال به وهذا ولا شك ديدن العلاقة بين الرجل والمرأة ولهذا نجد للأنثى حضور طاغي في أرض الواقع ودنيا الخيال على حدا سواء. في الزمن المعاصر يتهم دهاقنة التيار النسوي المجتمعات العربية والإسلامية بتجاهل وتحقير المرأة بينما تراثنا القديم حتى في أكثر رموزه محافظة وتشددا نجدهم اهتموا بقضايا النساء كما نجد ذلك في عدد من الكتب التي تحمل عنوان (أخبار النساء) وينسب تأليفها لعلماء السلف مثل ابن قيم الجوزية أو أبو الفرج ابن الجوزي وجلال الدين السيوطي وابن حزم الأندلسي. يكذب جلاوزة تيار النسويات من الرجال والنساء بقولهم إن التراث الإسلامي القديم تجاهل المرأة ولم ينصفها أو ينصرها بينما في استعراض سريع لكتاب (الفهرست) لابن النديم يمكن أن نستخرج مئات الكتب عن قضايا النساء وصلت حتى لدراسة واقع الأنثى في العصر الجاهلي كما في كتاب (الموءودات) للمؤرخ هشام الكلبي بينما الإمام الجليل الشافعي وقف في صف المرأة عندما ألف كتابه المميز (عشرة النساء).

والمقصود أن المرأة حاضرة قديما وحديثا في الوجدان العربي ولذا وبمناسبة مرور احتفاليات (اليوم العالمي للمرأة) لعل من المناسب الإشارة لحضور ودور المرأة غير العربية وتأثيرها في الأدب العربي ما دام الحديث في تلك الاحتفالية الدولية عن نساء العالمين بشكل عام.

بالجملة للنساء الأجنبيات وغير العربيات تأثير غير مباشر في الحركة الأدبية والفكرية العربية بينما في بعض الحالات الخاصة لهن تأثير وإسهام عميق جدا كما في حالة السيدة الأمريكية ماري هاسكل التي اكتشفت المواهب الفنية والأدبية للفتى اللبناني الصغير جبران خليل جبران وكانت أكبر داعم له لدرجة أنها منحته المال للسفر إلى باريس لدراسة الفن. ولاحقا كانت مرشدته الأدبية فلم يكن ينشر كتبه وأشعاره التي باللغة الإنجليزية قبل أن تصححها له بل أنه قال (لو لاك لما كتبت (المجنون)) أما أهم إنتاجه الأدبي الذي حقق له الشهرة العالمية وهو كتاب (النبي) فيقول عن دور ماري فيه (لم يكن بوسع أحد أن يكتب (النبي) بدونك أنتِ). ومن نساء أمريكا إلى نساء بني الأصفر في أوروبا حيث نجد المناضلة الدنماركية آني هوفر تثير إعجاب الروائي والكاتب الفلسطيني غسان كنفاني فيسارع في الزواج منها وتنتقل للعيش معه ودعم مسيرته النضالية والأدبية لدرجة أنها فجعت باستشهاده بعد تفجير سيارته أمام منزلهم.

ومنهن السيدة الفرنسية سوزان بريسو زوجة الأديب العربي طه حسين والتي عاش معها لمدة تجاوزت نصف القرن وهي التي كان تقرأ له الكتب وتخط له مقالاته ولذا قال عنها (بدونك أشعر أني أعمى حقا أما وأنا معك فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء). كما هو معلوم كان موعد اللقاء الأول بين طه حسين والسيدة سوزان عندما سافر عميد الأدب العربي للدراسة في فرنسا وفي نفس سياق البعثة والدراسة هذا سوف نجد أن الأدب العربي سوف يلتقي مع العديد من النماذج النسائية الأوروبية من خلال كبرى الروايات العربية التي ناقشت العلاقة بين الشرق والغرب. ثنائية الصراع – والوئام بين العالم العربي والعالم الغربي نجد للمرأة الأجنبية دور محوري في نسج أحداثها كما نجدها في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للكاتب لسوداني المعروف الطيب صالح وبطل روايته مصطفى سعيد الذي صارع الاحتلال الإنجليزي لبلادة من خلال غزو قلوب خمس من نساء الإنجليز تسبب في انتحار اثنتين منهن وقتل بيده الثالثة. علاقة الأنا بالآخر ورحلة البحث عن الذات نجدها في روايات عربية مفصلية في تاريخ الأدب العربي مثل رواية (عصفور من الشرق) لأديب الكبير توفيق الحكيم وبطلها الشاب المصري محسن والحسناء الباريسية الشابة سوزي. وعين هذه الثيمة الأدبية والحبكة القصصية نجدها في رواية الأديب البديع يحي حقي والتي اختار لها عنوان ذي إيحاء صوفي (قنديل أم هاشم) وتدور أحدثها في جزء منها عن طبيب العيون إسماعيل ودراسته في مدينة لندن وعلاقته بزميلته في الدراسة الفتاة الإنجليزية ماري. أبعاد اللقاء الحضاري بين الرجل العربي والعالم الغربي من خلال محور وبوابة المرأة نجدها في ثنايا الرواية الإبداعية (الحي اللاتيني) للأديب اللبناني سهيل إدريس والذي جسد سيرته الذاتية في قصة شاب لبناني قدم إلى مدينة باريس للدراسة في جامعة السوربون والذي تعرف على الحسناء الفرنسية جانين مونترو التي تدرس الصحافة ورفضت الزواج منه والانتقال معه إلى بلده العربي.

 الحوار الشعري مع نساء الشرق والغرب

وبعد ذلك المدخل السردي عن ارتباط المرأة الأجنبية وصورتها في عالم النثر الأدبي نصل الآن إلى (بيت القصيد) واستعراض توظيف المرأة غير العربية في الشعر العربي. المرأة هي مرآة الرجل وهي التي تعكس له حقيقته ومجاهيل نفسه ولهذا وفق للصواب الكاتب والنشار اللبناني المعروف سعيد فريحة عندما قال (المرأة في نظري هي من تجعلني كرجل أشعر بكياني). الشاعر العربي المعاصر نشأ وفي وجدانه غصة مريرة لحال الأمة العربية التي ضاع مجدها التليد. ولهذا عندما يحاول بعض الشعراء استنهاض الهمم وتحريك الذمم للشعور بكيان الأمة الضائع واسترداد أمجاد الغد نجدهم يستخدمون تقنية (الحوار) مع الآخر مجسدا في المرأة الأجنبية. خذ مثلا على ذلك شاعر العربية الكبير نزار قباني عندما زار الأندلس السليب وحاول استنطاق المكان والزمان لتحفيز أبناء العروبة لاستلهام أرث الأجداد من خلال الحوار الذي جرى بينه وبين المرأة الأسبانية التي كانت ويا للعجب مرشدته السياحية لتعريفه على أرث أجداده في قصر الحمراء:

في مدخل الحمراء كان لقاؤنا           ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد

عينان سوداوان في حجريهما           تتوالـد الأبعاد مـن أبعـاد

هل أنت إسبانية؟ ساءلـتها               قالت: وفي غـرناطة ميلادي

غرناطة؟ وصحت قرون سبعة         في تينـك العينين.. بعد رقاد

ما أغرب التاريخ كيف أعادني         لحفيـدة سـمراء من أحفادي

ومـشيت مثل الطفل خلف دليلتي        وورائي التاريـخ كـوم رمـاد

قالت: هنا “الحمراء” زهو جدودنا     فاقـرأ على جـدرانها أمجـادي

أمجادها؟ ومسحت جرحاً نـازفا        ومسحت جرحاً ثانيـاً بفـؤادي

يا ليت وارثتي الجمـيلة أدركـت        أن الـذين عـنتـهم أجـدادي

 ومن المرأة الغربية ننتقل للمرأة الشرقية ومن شاعر المرأة نزار قباني نتحول إلى شاعر النيلين حافظ إبراهيم نجده هو الآخر يحاول أن يشعل جذوة الإباء والكرامة والاستقلال في الأمة العربية. ولهذا يرشد بني قومه من أهل مصر أن بإمكانهم مقاومة العدو والاحتلال باستلهام قصة نجاح الدول والشعوب الأخرى. في مطلع القرن العشرين وفي عام 1904م استطاعت الأمة الشرقية الناهضة في اليابان أن تنتصر في الحرب التي نشبت بينها وبين الإمبراطورية الروسية العظمى. ولهذا كتب حافظ إبراهيم قصيدته الرائعة (غادة اليابان) والتي يجري فيها حوار وسجال مع فتاه يابانية غادرت أرض مصر لتعود لبلادها لتحارب الأعداء ولهذا يحاول حافظ أن يستلهم منها معالم القوة والنصر والإباء:

 لا تَلُم كَفّي إِذا السَيفُ نَبا           صَحَّ مِنّي العَزمُ وَالدَهرُ أَبى

أَنا لَولا أَنَّ لي مِن أُمَّتي            خاذِلاً ما بِتُّ أَشكو النُوَبا

كُنتُ أَهوى في زَماني غادَةً       وَهَبَ اللَهُ لَها ما وَهَبا

ذاتَ وَجهٍ مَزَجَ الحُسنُ بِهِ          صُفرَةً تُنسي اليَهودَ الذَهَبا

إِنَّ قَومي اسِتَعذَبوا وِردَ الرَدى    كَيفَ تَدعونِيَ أَلّا أَشرَبا

أَنا يابانِيَّةٌ لا أَنثَني                  عَن مُرادي أَو أَذوقَ العَطَبا

أَنا إِن لَم أُحسِنِ الرَميَ وَلَم        تَستَطِع كَفّايَ تَقليبَ الظُبا

أَخدِمُ الجَرحى وَأَقضي حَقَّهُم     وَأُواسي في الوَغى مَن نُكِبا

هَكَذا الميكادُ قَد عَلَّمَنا              أَن نَرى الأَوطانَ أُمّاً وَأَبا

مَلِكٌ يَكفيكَ مِنهُ أَنَّهُ                 أَنهَضَ الشَرقَ فَهَزَّ المَغرِبا

بَعَثَ الأُمَّةَ مِن مَرقَدِها             وَدَعاها لِلعُلا أَن تَدأَبا

فَسَمَت لِلمَجدِ تَبغي شَأوَهُ          وَقَضَت مِن كُلِّ شَيءٍ مَأرَبا

 وبعد هذا الحديث مع الغادة اليابانية نعود مرة أخرى لحوار شعري مع غادة أخرى من نساء الغرب يساجلها الحديث هذه المرة الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة فعندما كان مسافر من الأرجنتين إلى دولة تشيلي جلست بجواره على مقاعد الطائرة حسناء على درجة عالية من الثقافة. وعندما سألها شاعرنا باللغة الاسبانية عن جنسيتها قالت له بفخر حسب وصفه (إن الدم العربي يجري في عروقي) ولما لم تعرف أن من يحدثها هو في الأصل عربي أخذت هذه الفتاة تحدثه بكل كبرياء وعنفوان عمن سمتهم (جدودها العرب) ودورهم في حضارة الأندلس. وعندما أخذت الطائرة في الهبوط وجهت الحسناء الإسباني السؤال لمحدثها المجهول لها وقالت (فمن جدودك أنت؟). ولاحقا عرفت تلك الفتاة أن محدثها هو سفير عربي ومن أرض الشام وقد قام شاعرنا الكبير بتأليف قصيدة شهيرة حملت عنوان (في الطائرة) كتبها أولا باللغة الإسبانية للرد على سؤال الغادة الاسبانية ثم أعاد صيغتها باللغة العربية ليخرج لنا واحدة من أجمل القصائد العربية المعاصرة:

 وثبتْ تَستقربُ النجم مجالا            وتهادتْ تسحبُ الذيلَ اختيالا

وحِيالي غادةٌ تلعب في                 شعرها المائجِ غُنجًا ودلالا

طلعةٌ ريّا وشيءٌ باهرٌ                  أجمالٌ؟ جَلَّ أن يسمى جمالا

وتجاذبنا الأحاديث فما انخفضت     حِسًا ولا سَفَّتْ خيالا

قلتُ يا حسناءُ مَن أنتِ ومِن           أيّ دوحٍ أفرع الغصن وطالا؟

فَرَنت شامخةً أحسبها                  فوق أنساب البرايا تتعالى

وأجابتْ: أنا من أندلسٍ                جنةِ الدنيا سهولاً وجبالا

وجدودي، ألمح الدهرُ على           ذكرهم يطوي جناحيه جلالا

حملوا الشرقَ سناءً وسنى            وتخطوا ملعب الغرب !! نِضالا

فنما المجدُ على آثارهم               وتحدى، بعد ما زالوا الزوالا

هؤلاء الصِّيد قومي فانتسب ْ        إن تجد أكرمَ من قومي رجالا

أطرق القلبُ، وغامتْ أعيني       برؤاها، وتجاهلتُ السؤالا

 وبما إن سيرة الشعراء ودردشة الطائرات قد انفتحت فلعلنا نختم ببعض الأخبار الخفيفة فيما يتعلق بقصص وأحداث الشعراء مع النساء الأجنبيات العاملات في مهنة مضيفات الطيران. ومن ذلك مثلا نذكر أن الأديب الكبير اليمني الأصل على أحمد باكثير كان في عام 1958م في زيارة ثقافية مع وفد أدبي مصري إلى الاتحاد السوفيتي. وفي رحلة طيران من موسكو إلى مدينة طشقند جلست بجواره في الرحلة مضيفة طيران روسية تبين له من ثنايا الحديث معها أنها في الأصل فتاة مسلمة ولكنها أصبحت ملحدة. وهنا دار الحوار بينهما حول أهمية الإيمان بالله وضرورة الدين في حياة الإنسان وبذا كان للأديب الكبير دور مأجور وجهد مشكور في الدعوة إلى الله. ولكن بعد ذلك بعام واحد وفي حادثة أخرى كان فيها أديبنا الكبير على أحمد باكثير مع وفد آخر من أدباء وشعراء مصر في سفر بالطائرة إلى مدينة دمشق لحضور مهرجان للشعر العربي وهنا أثبت شاعرنا صحة مقولة أن (للجد أوقات وللهزل مثلها). فبعد أن كان رحمة الله داعية للإيمان مع المضيفة الروسية نجده ينخرط في حالة مزاح مع مضيفة طيران أجنبية حسناء فاتنة تدعى فاندا قام أغلب أعضاء وفد الشعراء بالتغزل بها. وقد ابتدأ ذلك المهرجان الغزلي الشاعر المصري محمد فوزي فكتب عدة أبيات على قصاصة ورقية تناقلتها أيد الشعراء في الطائرة وكل واحد منهم يزيد فيها بعض الأبيات وقد اشترك في هذا العبث على باكثير وعلي الجندي وعبدالرحمن صدقي وغيرهم.

 

( المريخ وإثارة الجدل )

لماذا في القديم كان المريخ سبب العديد من الجدل والخوف 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

ليس من فراغ جاءت تسمية كوكب المريخ بالكوكب الأحمر فمنذ زمن البابليين وقدماء الاغريق تم الربط بين هذا الكوكب وبين مظاهر الخصام والصراع ولهذا يرد ذكر المريخ في الأساطير القديمة مع المزاج السيئ والحرب والاعتداء والاغتصاب. وبحكم أن مجال علم الفلك من المواضيع العلمية المحببة لدي سواءً من خلال قراءة الكتب أو مشاهدة الأفلام الوثائقية فقد شد انتباهي عبر السنين كثرة الأمور الجدلية المرتبطة بكوكب المريخ. الطريف في الأمر أنه في واقعنا العربي وبالرغم من بعدنا عن دنيا الفلك وعالم المريخ ومع ذلك ما تكاد تأتي سيرة ذلك الكوكب الأحمر حتى تحتدم المشاكل. عالم الفضاء المصري عصام حجي الذي يعمل بوكالة الفضاء ناسا كانت بداية شهرته نتيجة لخبرته البحثية في مجال دراسات اكتشاف المياه تحت سطح الأرض باستخدام أجهزة الرادار المثبتة على الأقمار الصناعية. وكجزء من مهام التجهيز لمسبار الفضاء الأمريكي فينيكس الذي أطلق نحو المريخ عام 2007م والذي أرسل لاكتشاف المياه على المريخ ولهذا قام عصام حجي بتدريب مجموعة من علماء الفضاء على هذه المهمة العلمية في الصحراء الغربية بجمهورية مصر العربية والتي تشبه البيئة الجيولوجية على سطح القمر. وعندما سأل ضابط مصري عند نقطة التفتيش في منطقة الواحات عن طبيعة عمل الدكتور عصام حجي رد عليه بقوله (بدور ميه في المريخ) وبسبب بساطة تفكير الرجل العسكري وعنجهيتة ظن أنه يسخر منه فرد عليه بقوله (شكلك قليل الأدب وعايز تتربى).

وقبل حوالي عشر سنوات من تلك الحادثة أي في عام 1997م عندما نجحت الولايات المتحدة وفي يوم عيد الاستقلال الأمريكي من إنزال مركبة الفضاء باثفايندر على سطح القمر بلغ بي العجب مبلغه وأنا أتابع خلال ذلك الصيف ولعدة أشهر (الجدال) العربي في زاوية القراء في جريدة الشرق الأوسط والردود المتبادلة حول المشككين لحقيقة قدرة الأمريكان من الهبوط بأجهزة علمية على سطح المريخ. وعليه لا غرابة هذه الأيام أن نجد نفس عينة وطبيعة (الجدل) العربي حول مدى إمكانية الإخوة الكرام في الإمارات العربية المتحدة بتصنيع مركبة فضائية (مسبار الأمل) تصل للمريخ. الإشكال يظهر من أن المهمة العلمية لمسبار الأمل هي دراسة الغلاف الجوي لكوكب المريخ والتي تأتي دون خبرة علمية ملموسة سابقاً للأشقاء في هذا الجانب. في حين أنه قبل ذلك بأربع سنوات فقط أي في عام 2016م ولأداء نفس تلك المهمة العلمية المعقدة لدراسة غازات علاف المريخ اشتركت جميع الدول الأوروبية بالتعاون مع روسيا في تصنيع مركبة الفضاء (مسبار تقصي الغازات TGO).

ومن خلال هذا المدخل عن ثنائية (المريخ - الجدل) في واقعنا العربي ربما نتفهم نوعا ما حالة الاختلاف حيال ما يتعلق بأخبار المريخ إذا علمنا أن هذا الأمر متكرر منذ القدم في تاريخ الرصد العلمي لذلك الكوكب الناري المثير للجدال والخصام. كما هو معلوم في منتصف القرن السادس عشر تسبب عالم البولندي نيكولاس كوبرنيكوس في زلزلة علم الفلك عندما توصل لنظرية أن الشمس وليس الأرض هي مركز الكون (النظام الشمسي). بالطبع قاومت الكنيسة هذه البدعة العلمية لأن الإله المخلص بزعمهم يجب أن ينزل في مركز الكون وليس في كوكب عادي وبعد ذلك بحوالي نصف قرن تسببت البيانات التي رصدها عالم الفلكي الدنماركي تيكو براهي عن حركة كوكب المريخ في هزة فلكية ودينية إضافية. باستخدام نتائج الأرصاد الفلكية تلك توصل عالم الفلك الألماني يوهانس كيبلر إلى أن مدار كوكب المريخ إهليجي وليس دائرة تامة وأن الشمس تقع على إحدى بؤرتي (القطع الناقص) لذلك المسار. في الواقع منذ عهد الإغريق كان للإشكال الهندسية تقديس معنوي وكانت الدائرة تعتبر رمز الكمال ولهذا ثار (الجدل) عندما اكتشف الناس أن المريخ وغيره من الكواكب لا تدور حول الشمس في مدار دائري تام وإنما في شكل فراغي أقل سمو ومثالية.

الغالبية العظمى من كواكب المجموعة الشمسية لها أقمار تدور حولها وبحكم إن أغلب هذه الأقمار هي في الأصل كويكبات صغيرة الحجم تقع في أسر جاذبية تلك الكواكب كان من المفهوم نسبيا عدم وجود أقمار لكوكبي عطارد والزهرة ولقربهما من الشمس سوف يتم جذب هذه الكويكبات نحو الشمس بدل أن تدور حولهما. الإشكال الوحيد لفترة طويلة من الزمن كان كوكب المريخ فلم يكن يظهر له أي أقمار ولهذا دار الجدل الفلكي حول أسباب ذلك. وبالرغم من أن علماء الفلك استطاعوا في عام 1846م رصد قمر ترايتون لكوكب نبتون البعيد جدا جدا منا إلا أنهم لم يستطيعوا رصد أقمار المريخ (فوبوس وديموس) إلا عام 1877م وذلك ربما بسبب صغر حجمهما. الإحراج الكبير لعلماء الفلك أنه قبل اكتشاف أقمار المريخ بقرن ونصف من الزمن ذكر الأديب الإيرلندي جونثان سويفت في روايته الشهيرة (رحلات جاليفر) وعند حديثه عن علماء فلك الجزيرة الطائرة أنهم اكتشفوا لكوكب المريخ قمرين أحدهما اسمه فوبوس والآخر ديموس (على اسم كلبي الصيد لإله الحرب مارس/المريخ). ليس هذا وحسب بل أن جونثان سويفت ذكر في روايته تلك المسافة التي يبعدها كل من قمر فوبوس وديموس عن سطح المريخ وسرعة دورانه حول كوكب المريخ والعجيب في الأمر أن الأرقام التي ذكرها قريبا نسبيا من الواقع. ولهذا ثار (جدل) بين علماء الفلك والمؤرخين ما زال قائم حتى اليوم عن كيفية توصل الروائي جونثان سويفت لهذه الأرقام العجيبة في الوقت الذي لم يعرف علماء الفلك بوجود هذه الأقمار أصلا. ولهذا وكنوع من التكريم لذلك الأديب الملهم قام علماء الفلك بإطلاق اسم (جونثان سويفت) واسم بعض الشخصيات القصصية في رواية رحلات جاليفر على بعض الفوهات الموجودة على سطح المريخ وكذلك على قمر فوبوس.

المريخ كوكب الخوف والرعب

في نفس العام الذي تم فيه اكتشاف أقمار المريخ فوبوس وديموس سوف تبدأ قصة جديدة (مثيرة للجدل) تغير نظرة البشر للمريخ من كوكب يثير الفضول إلى كوكب يثر الخوف والرعب (بالمناسبة معنى كلمة فوبوس باللغة الإغريقية الخوف فحين معنى ديموس الرعب). في تلك السنة أي عام 1877م وضع مدير المرصد الفلكي لمدينة ميلان جوفاني شكياباريلي خرائط لسطح المريخ تظهر وجود خطوط مستقيمة فهم من الترجمة الخاطئة للغة الإيطالية أنه أطلق عليها اسم القنوات. ومن هنا نشأ (وهم عقلي) وخداع بصري لعدد كبير من علماء الفلك في بريطانيا وأمريكا وفرنسا استمر لحوالي ثلاثين سنة حيث أوهموا أنفسهم بأنهم يشاهدون قنوات مائية ضخمة في خطوط طويلة جدا ومتقاطعة محفورة بشكل اصطناعي على سطح المريخ. وكان من ضمنهم أحد أشهر علماء الفلك في نهاية القرن التاسع عشر وهو الأمريكي بيرسيفال لويل الذي بلغ من مهارته الفلكية ليس فقط تنبؤه باحتمالية وجود الكوكب التاسع في المجموعة الشمسية وهو كوكب بلوتو ولكن أيضا تنبؤه بدقة عالية للمكان الذي يمكن أن يعثر فيه على ذلك الكوكب المتوقع. ومع ذلك وقع لويل في الخطأ القاتل عندما انتقل من العلم إلى الوهم والتخمين وقام بالزعم أن هذه القنوات حفرها كائنات حية أكثر ذكاء وقدرة من البشر وأن هدفهم نقل المياه من الأقطاب المتجمدة شمال وجنوب المريخ إلى وسط الكوكب. ومن هنا ظهرت القصة المثيرة للجدل والهلع حول المريخ وهي أنه كوكب على وشكل الجفاف وأن سكان كوكب المريخ Martians سوف يقومون قريبا بغزو كوكب الأرض وتدمير الحضارة البشرية.

لقد تسببت هذه الأفكار العلمية المزعومة في انتشار حالة هلع وخوف شديدة في أوساط العالم الغربي وخصوصا في أمريكا وبريطانيا. وفي هذه الأجواء المرعبة ظهرت في عام 1897م رواية الخيال العلمي ذائعة الصيت (حرب العوالم) للكاتب البريطاني المعروف هـ ج ويلز وتدور أحداث هذه الرواية كما هو معلوم عن تعرض الأرض لهجوم من قبل سكان المريخ. الطريف في الأمر أنه حصل في عام 1938م وفي حادثتين منفصلتين قيام إذاعة BBC البريطانية وإذاعة CBS الأمريكية ببث معالجة درامية لرواية حرب العوالم وأن سكان المريخ قد بدءوا بالفعل بغزو مدينة لندن وولاية نيوجيرسي الأمريكية. وهذه (التمثيلية) الإذاعية التي صدقها المستمعون تسببت في موجة هلع حادة في بريطانيا أما في أمريكا فبسبب حالة الهستيريا تخندق المئات في أقبية بيوتهم وتسلحوا بالبنادق بينما حاول الآلاف الهرب من المدن التي وقع عليها الغزو المريخي المزعوم.

ربما يتوقع البعض أن هذه الحالة المضحكة والمخزية من الخوف والوهم من غزو سكان المريخ (اشتهر توصيفهم ورسمهم بالرجال الخضر القصار القامة) قد انتهت في عصر العلم والتقنية الحديثة ولكن الواقع أن (موجات) الهلع والجدل حول سكان المريخ تتكرر كل فترة وحين. من ذلك مثلا أنه في عام 1976م ميلادي عندما كانت المركبة الفضائية الأمريكية فايكنغ واحد تدور حول المريخ وتلتقط الصور لسطحه إثارة إحدى الصور جدل علمي وإعلامي هائل حيث أنه أظهرت جسم ما يحمل معالم وجهة بشري طوله ثلاث كيلومترات. ومن هنا تجددت وانبعثت حاله الجدل حول حقيقة وجود حضارة متقدمة على سطح المريخ ووجود كائنات ذكية (وربما شريرة) استطاعت أن تبني ذلك الوجه الضخم (تبين فيما بعد أنه مجرد هضبة صخرية عادية) وكذلك أن تقوم بنحت مجسمات أخرى على صخور المريخ تظهر على شكل أهرامات أو عمود شاهق الارتفاع أو منحوتات على شكل أجسام بشرية. وبالرغم من إن وكالة الفضاء الأمريكية ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية وحتى وكالة الفضاء الهندية واليابانية (وحاليا الصينية والإماراتية) قاموا بإرسال أقمار ومركبات فضائية مزودة بكاميرات تصوير دقيقة جدا قامت بمسح كامل لجميع تضاريس المريخ ولم تثبت وجود هذه الأجسام المتوهمة إلا أن البعض ما زال ينساق وراء نظرية المؤامرة وأن ناسا بالذات تعلم بوجود حضارة متقدمة وتخفي عن العالم هذه الحقيقة المذهلة.

وفي مثل هذه الأجواء المشحونة بالوهم والخوف (والجدل) ليس من المستغرب ظهور خرافة مريخية جديدة بدأت في الانتشار في السنوات الأخيرة تعرف إعلاميا باسم (لعنة المريخ). بلا جدال يعتبر كوكب المريخ أكثر جسم سماوي تم إرسال 75 مركبة فضائية لسبر أغواره ودراسته أغلبها كانت عبارة عن أقمار اصطناعية مهمتها الدوران حول الكوكب في حين أن 19 من تلك المسابير العلمية هبطت على سطح المريخ. ونظرا لقوة جاذبية المريخ يوجد احتمال كبير عن هبوط هذه المسابير الفضائية أن تتحطم أو تتعطل وهذا ما حصل مع أول مركبة فضائية حطت على سطح المريخ وهو المسبار السوفيتي مارس 2 والذي تحطم مباشرة على السطح في حين أن المسبار مارس 3 تعطل بعد أن بث بينات مختصرة استمرت لمد 14 ثانية فقط. ومع تكرر مثل هذه الأعطال انتشرت شائعة تزعم أن سبب هذه الأعطال أو التحطيم لهذه المركبات الفضائية أن سكان المريخ من الكائنات الذكية هي من يقوم بتحطيمها أو تخريبها. وخلال العقود الماضية أصابت لعنة المريخ المزعومة حوالي ستة مركبات فضائية كان أخرها قبل أربع سنوات المركبة الفضائية الأوروبية التي تحطمت على سطح القمر وكانت تحمل اسم عالم الفلك الإيطالي شكياباريلي السالف الذكر والذي تسبب في زوبعة الخوف وكذلك والاهتمام البالغ بالكوكب الأحمر.

بقي أن نقول في الختام أنه في نفس الوقت التي تثار فيها حالة من الهلع والترقب من وجود كائنات مريخية ذكية توجد حالة (جدال) محتدم بين العلماء بأن كوكب الأرض بالفعل قد تعرض لغزو من جهة المريخ قبل حوالي ثلاثة مليارات سنة. بعض النظريات العلمية المتداولة حاليا في الأوساط البحثية تزعم أنه قبل بلايين السنين كان كوكب المريخ يعج بمحيطات من المياه ومن المحتمل أنه ظهر فيها أنواع معينة من الكائنات المجهرية. ثم لاحقا وبطريقة ما بعد سقوط نيازك على سطح المريخ تم نزع بعض الصخور المحتوية على هذه الأحياء الدقيقة والتي قذفت إلى الفضاء ثم لاحقا سقطت على كوكب الأرض. هذا السيناريو العلمي الخيال يقال إنه حدث قبل ثلاثة مليارات سنة ومن هنا انتشرت الحياة على سطح الأرض بمعنى أنه في الماضي السحيق تم غزو الأرض بكائنات حية مجهرية قادمة من المريخ. نظرية (الجيل الثاني) التي تزعم أن الحياة بدأت في المريخ وانتشرت وتنوعت في الأرض تشهد حماس غريب من بعض العلماء من ضمنهم الدكتور عاصم حجي ومع ذلك ينبغي التنبيه على عدم (التهور العلمي) والاستعجال في الإعلان عن (اكتشافات) علمية خيالية لا تخلو من الجدل. في عام 1996م قام الرئيس الأمريكي السابق بل كلينتون بنفسه بالإعلان عما زعم بأنه أعظم اكتشاف علمي معاصر وهو اكتشاف علماء ناسا أن أحد النيازك التي عثر عليها عام 1984م في القطب الجنوبي هو في الواقع قطعة صخرية قادمة من المريخ وأنها كانت تحتوي على بكتيريا متحجرة وهذا أول إثبات أن الحياة يمكن أن توجد خارج الأرض. وبمجرد صدور هذا الإعلان الرئاسي المتسرع نشب جدال علمي حاد حول هذا الاكتشاف المزعوم والذي قام في حينه فريق بحثي بريطاني بتفنيده ورفضه.

الغريب أن كوكب واحد للمريخ وبعيد جدا عنا عرضنا ولفترات طويلة لكل هذا الجدل فما بالنا لو قبلنا بالنظريات الحديثة في علم الفلك التي تزعم أنه في بداية نشوء المجموعة الشمسية كان يوجد بها حوالي 30 كوكب بحجم المريخ. وفي نظريات أخرى أن مدار كوكب المريخ (وكذلك بعض الكواكب الغازية) تتغير وتتحرك عبر الزمن لدرجة أن مدار المريخ مع الزمن يزداد قربا من الشمس وبالتالي حسب طريقة تفكير بعضهم هذا من شأنه أن يسهل أكثر عملية قفز وغزو رجال المريخ الخضر لكوكب الأرض !!.


( الحنين للسفر ومرض هوس التجوال )

أنا عندي حنين .. يزداد مع السنين


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 الشاعر الإيطالي المعروف دانتي (صاحب كتاب الكوميديا الإلهية) بعد أن نفي من مدينته المحبوبة فلورنسا قضى العشرين سنة الأخيرة من حياته وهو في (سفر دائم) وتنقل مستمر بين المدن الإيطالية والعواصم الأوروبية. لذا أشتهر عن دانتي قوله وهو يصف حالة مع الغربة (لا توجد حسرة أكبر من تذكر الأوقات الجميلة عندما تكون بائساً). وبدوري فقد استرجعت مقولة دانتي (المسافر) عندما أعلن في الفترة الماضية تمديد المنع من السفر الخارجي لعدة أشهر إضافية ذلك لأنه في الماضي عندما كانت أعراض الحنين للسفر تقلق راحة البعض منا كان العلاج حجز أقرب رحلة طيران أما في الوقت الحالي وفي زمن الحظر البئيسة فإنه بحق (لا توجد حسرة أكبر من تذكر الأوقات الجميلة عندما تكون بائسا).

الغريب أن البعض يربط حالة الحنين للسفر بالمفهوم والمصطلح اللغوي (النوستالجيا) المستخدم بكثرة لإبراز الحنين للماضي والذكريات القديمة ومع ذلك نجد أن ذلك المصطلح المبهرج يعود في أصله إلى الكلمة اليونانية المزدوجة nostalgia التي تعني حرفيا ألم الرجوع للبيت أو الوطن ولهذا عربها بعضهم بلفظة (الأبابة : من الأوبة والرجوع) وهذا بالقطع خلاف السفر والارتحال.

مما يزيد في الربكة حيال الحنين للسفر وعلاقته بالتوق بماضي الزمن الجميل أنه في واقعنا الحالي كانت جائحة الوباء هي الحاجز لتجديد ذكريات الارتحال نتيجة للمنع من السفر في حين أن جائحة الوباء في ظروف أخرى قد تكون هي سبب نشوء ذكريات السفر في المقام الأول. في رواية (الحب في زمن الكوليرا) نجد أن الأديب الكولومبي المعروف غابرئيل ماركيز يوظف الرومانسية في سياق الموت عندما جعل بطل الرواية العجوز فلورينتينو يحتال في الاستفراد بمحبوبته فرمينيا عندما خدع ركاب أحد القوارب بأنه توجد بينهم إصابات بوباء الكوليرا مما يجعلهم يهرعون لمغادرة القارب.  وبحكم أن القوانين في تلك الفترة تلزم أصحاب القوارب الموبوءة أن تبقى في عرض النهر وأن ترفع على ساريتها راية العلم الأصفر. وبهذا تمكن فلورينتينو الكهل بعد مرور نصف قرن من الحب اليائس والبائس أن يحظى بالخلوة الطويلة مع محبوبته الأرملة المكلومة. وفي نهاية الرواية وفي خاتمة حياة تلك المحبوبة تعاودها النوستالجيا وتحن لذكريات تلك الرحلة النهرية والتي تسبب بها الوباء وهذا ما يفرق بيننا وبين شخصيات ماركيز القصصية فحنينا للسفر بعد الوباء وهم قبله.

(السفر قطعة من العذاب) أمر صدق وحق كما ورد في الأثر الشريف ولكن بعد (الأبابة) والرجوع كثراً ما يصبح (السفر قطعة من الشوق) وبحكم أن الشوق هو مزيج من العشق والذكريات ولهذا نجد أن القوة الدافعة لتكرار فعل السفر قوية وملحة وكأننا نتعرض (للغواية والإغراء). والرحالة العرب في القديم والحديث شعروا بهذه الغواية وانساقوا وراء هذا العشق مما انعكس في عناوين كتبهم عن ذكريات السفر. فقديما نجد الرحالة الكبير محمد الإدريسي يختار عنوان كتابه: نزهة (المشتاق) في اختراق الآفاق وحديثا نجد الرحالة والأديبة السورية جمانة طه يعكس عنوان كتابها عن الرحلة والسفر ذات أجواء العشق والإغراء ولذا كان عنوان الكتاب (غواية الذكريات من أدب الرحلات).

الشوق والحنين للسفر هو المحفز لتخليد الرحلة من خلال استحضار واسترجاع حديث الذكريات وهو الفعل أثمر في نهاية أهم كتب الرحلات في كل الثقافات وبجميع اللغات. على خلاف الرحالة الأندلسي لكبير ابن جبير وعميد الرحالة العرب المعاصرين الشيخ محمد بن ناصر العبودي الذين استخدما تقنية توثيق أحداث رحلاتهم من خلال التسجيل اليومي لمجريات السفر نجد أشهر وأهم كتب الرحلات سجلت من الذاكرة وبعد سنوات طويلة من انتهائها وطوي شراعها. فهذا الرحالة الإيطالي الأشهر ماركو بولو بدأ رحلاته للشرق عام 1290م ولم يشرع بشكل فعلي في كتابة وتوثيق رحلته الأسطورية تلك إلا بعد ذلك بثلاثين سنة والعجيب في الأمر أنه لم يكتبها بنفسه وإنما سردها بشكل شفهي على زميلة في سجن مدينة جنوى الكاتب الإيطالي رستيشيللو الذي يقال إنه أضاف من عنده على المعلومات التي أملها عليه ماركو باولو. التوثيق من خلال الذاكرة كان حال الرحالة العربي الأبرز ابن بطوطة فنجده هو الآخر لم يبدأ في تدوين تفاصيل رحلته إلا ثلاثة عقود من بداية رحلته العجيبة والتي من عجائب الصدف استهلها تقريبا في الفترة الزمنية التي كان ماركو بولو يقص رحلته على صاحبه في السجن. وعلى نفس نسق ماركو بولو عندما أملى على رفيقة الأديب ذكرياته في السفر يقال إن ابن بطوطة لم يؤلف كتاب (تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) بخط يده وإنما قام بسرد أخبارها على الأديب الأندلسي ابن جُزي الكلبي الذي صاغها بأسلوبه الخاص. سؤال المليون كما يقال ما هي مشاعر ماركو بولو وابن بطوطة أثناء سرد أخبار تلك الرحلات وإملاء أحداث هاتيك السفريات وهل غامرهم شعور الحنين للسفر مرة أخرى وهل عانوا من الأثر العاطفي للنوستالجيا.

 وفي الختام لا بد من تقرير أن السفر من مباهج الحياة الكبرى لبعض الأشخاص وللبعض الآخر قد يكون السفر المتواصل والمتكرر نوع من أعراض المرض النفسي الذي يعرف بهوس التجوال (الدرومومانيا) تؤُزّ المصاب به رغبة جامحة للحركة والانتقال. وقريب منه الظاهرة المعروفة في العلوم الإنسانية بلذة وعشق التجوال wanderlust وهنا مرة أخرى نجد الشخص مدفوع باضطراب نفسي يتسبب في كثرة الترحال والطواف والتسكع وكأنه هو المقصود بالوصف الذي جاء في ثنايا القصيدة المذهلة للشاعر العباسي المسافر دوما ابن زريق البغدادي:

ما آبَ من سفرٍ إلا وأزعجهُ         رايُ إلى سفرٍ بالعزم يزمعهُ

كأنما هو في حلِّ ومُرتحلٍ           مُوكّل بفضاء الله يذرعهُ

 بقي أن نقول قبل أن نغادر إن ربط المشي والتسكع ببعض الأمراض النفسية ذات الأسماء الغريبة (مثل الدرومومانيا/ هوس التجوال) قد تجعل بعضنا يعزف عن السفر والترحال ولكن ينبغي أن نوضح ونقرر إن المشي والسفر هو عادة العباقرة والعظماء عبر التاريخ. أشهر الفلاسفة والمفكرين أرسطو أُطلق عليه لقب (المشّاء peripatetic) وانتقل اللقب لتلاميذه ومدرسته الفلسفية التي عرفت باسم المدرسة المشائية أو الرواقية لأن أرسطو وتلاميذه كانوا يتناقشون ويتحاورن وهم يمشون تحت أروقة مدرج ملعب أثينا. ولقد استعرضت عدد كبير من سير وأخبار المشاهير من العلماء والفقهاء والأدباء والفلاسفة والمفكرين ولم أجد إلا القلة القليلة منهم التي كانت تكره السفر والتجوال كما هو حال الأديب نجيب محفوظ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانت. ومنذ سنوات طويلة والأبحاث الطبية تبين فوائد المشي والحركة على الدماغ والصحة النفسية والذهنية وشحذ القدرات العقلية والإبداعية حيث أن المشي يتسبب في زيادة ضخ الدم للدماغ وتحفيز إفراز مواد كيميائية هامة مثل هرمون الإندروفين أو بروتينات التغذية العصبية.

 

( هُويّات مسروقة )


 هل فعلا اللص الحقيقي هو من يسرق وجودك

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في عز الاحتياطات والحذر من الإصابة بالفيروس الكوروني الطبي غفلت وأهملت كحال البعض منا أخذ الاحتياطات اللازمة لتجنب الإصابة بعدوى الفيروسات التقنية التي تسببت أحدها هذا الأسبوع في اختراق وانتهاك حسابي بوسيلة التواصل الاجتماعي (الواتساب). شعور كئيب أصابني حيال هذا الاعتداء الأثيم والإجرامي اللئيم يتمثل في الحنق والقهر وقلة الحيلة لدرجة أنني تمنيت أن أصرخ بغضب وصخب عبر الأثير الإلكتروني في وجهة ذلك المحتال: أعطني (هويتي) .. أطلق يديّا. الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن (احتل وانتهك) العراق عام 2003م وفي نفس تلك السنة صدر في عهدة قانون تجريم سرقة وانتحال الشخصية ومن الغرائب أنه استشنع (احتلال وانتهاك) ممتلكات الغير. في خطابه للإعلان عن القانون الجديد قال الرئيس جورج بوش (مثل الأشكال الأخرى للسرقة، سرقة الشخصية تجعل الضحية فقيراً مع شعور فضيع بالانتهاك).

الانتهاك المتشابه بين احتلال أرض الأوطان وانتحال شخصية الإنسان ومرارة هذه التجربة يمكن استشفافها من أحداث مسرحية (الضيف الثقيل) التي كانت أول الأعمال الإبداعية للأديب العربي الكبير توفيق الحكيم والتي كتبها في عام 1919م وكانت من وحي الاحتلال الإنجليزي لأرض مصر المحروسة. في ذلك العمل الأدبي الرمزي يسرد الحكيم قصة ضيف خبيث ينزل على محامي شاب فيقيم إقامة دائمة في شقته ويتدخل في عمله لدرجة أنه ينتحل شخصية ذلك الشاب المحامي ويقابل الزبائن الجدد ويستلم منهم مبالغ مقدم الاتعاب للترافع القانوني عنهم. 

كم هو مؤلم شعور القهر من استغلال المجرمين لشخصيتك والاحتيال على الآخرين لسلب أموالهم من خلالك ولهذا لحظة شعوري بالمرارة من سرقة هويتي وشخصيتي تفهمت أنه لا مبالغة في قول القائل (اللص الحقيق ليس هو من يسرق بيتك وإنما هو من يسرق وجودك). الدراما الوجدانية في لحظة (الانتحال والانتهاك) كانت الحبكة القصصية الإبداعية لإنتاج أشهر الروايات العالمية والأعمال الأدبية المميزة لما في الانتحال الهويات وتبديل الشخصيات من صراع الغضب والرغبة في التصدي وثوران المشاعر الملازمة بالإحساس بالقهر والظلم والاستغلال. في الواقع حبكة (انتحال الشخصية) أو تبادل الشخصيات كانت مغرية لعدد كبير من مشاهير الأدباء والكتاب ولهذا نجدها بشكل أو بأخرى في أعمال أدبية كبرى مثل مسرحية (كوميديا الأخطاء) لشكسبير ورواية (قصة مدينتين) لتشارلز ديكنز والرواية البوليسية (الفتاة الثالثة) لأجاثا كريستي ورواية (الأمير والفقير) لعملاق الأدب الأمريكي مارك توين ورواية (الكونت دي مونت كريستو) للأديب الفرنسي ألكسندر دوما الأب. وعلى ذكر ألكسندر دوما ربما من غير اللائق في مجرى الحديث عن الهُويّات المسروقة ألا نعرج على ذكر روايته المشوقة (الرجل ذو القناع الحديدي) وهي وإن كانت من نسج الخيال إلا أن شخصية السياسي المقنع حقيقة وثابتة في التاريخ الفرنسي بدلالة ذكر فولتير لها. على كل حال ما يهمنا هنا هو التوظيف الأدبي لفكرة (سرقة وانتحال الشخصية) فالملك الفرنسي لويس الرابع عشر الظالم والطاغية يتم خطفة وإخفاء شخصيته بوضع قناع حديد على وجهه ويكون البديل له شقيقة التوأم الطيب الأمير فيليب الذي كان في الأصل مسجوناً لفترة طويلة وهو مخفي الشخصية تحت نفس ذلك القناع.

 يُشتهر عن الأديب الكولومبي الكبير غابرييل ماركيز (الحاصل على جائزة نوبل في الأدب) تطويره لمنهج السردية الغرائبية كما في رواية مائة عام من العزلة وعندما استنكر البعض عليه تلك الشطحات القصصية كان ردة أن قال: إن الواقع بالفعل أغرب من الخيال. ومن هذا المنطلق لا غرابة أن نعلم أن قصص وحكايا مؤامرات (انتحال الشخصية) في قصور الملوك والأباطرة ليست حكراً على دنيا الأدب ولكنها موجودة في عالم السياسة والتاريخ. خذ على سبيل المثال ما حدث في مطلع القرن السابع عشر عندما استطاع الراهب الروسي غريغوري أوتربييف انتحل شخصية الأمير الروسي ديمتري ابن القيصر الروسي البارز إيفان الرهيب. في منتصف الفترة الزمنية المشهورة في التاريخ الروسي باسم زمن الاضطرابات نتيجة لحصول سلسلة من الصراعات الدموية على وراثة العرش زعم الشاب غريغوري أنه في الواقع ليس إلا الأمير ديمتري الذي شاع القول عنه أنه تم اغتياله وهو ما زال طفلاً في الثامنة من العمر. لقد زعم الراهب غريغوري أن جدته المزعومة (أم إيفان الرهيب) علمت بمؤامرة محاولة اغتياله ولهذا تم إخفائه في دير للرهبان وبعد ذلك بسنوات هرب إلى الأراضي البولندية. ومن تلك الديار استطاع الأمير المزيف استقطاب العديد من النبلاء والجنود حوله ثم قام بغزو روسيا القيصرية واحتلال موسكو والسيطرة على العرش. وبالرغم من إن العديد لم يكونوا مقتنعين بصدق رواية ذلك الراهب إلا أنهم وافقوا على مساعدته لأطماع سياسية مختلفة ولهذا يعرف هذا الشخص في التاريخ الروسي باسم (القيصر ديمتري الدجال).

التاريخ يعيد نفسه حتى في أعجوبة إن الواقع أغرب من الخيال فيما يتعلق بانتحال وسرقة شخصيات الملوك والأباطرة. وبالانتقال من روسيا إلى الجزر البريطانية نجد أنه في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي قام شاب إنجليزي يدعى بيركن واربيك بالادعاء بأنه في الواقع الأمير ريتشارد الابن الأصغر للملك الإنجليزي إدوارد الرابع. وكما تم محاولة اغتيال الأمير الروسي ديمتري وهو طفل زعم بيركن أنه تم نجاته (أي الأمير ريتشارد) من محاولة الاغتيال له وهو طفل عندما كان محبوسا في سجن برج لندن الشهير. بعد وفاة الملك الإنجليزي إدوارد الخامس كان يفترض أن ينتقل الحكم لهذا الأمير المزعوم ولكن لأنه تم في الواقع تصفيته اعتلى العرش الإنجليزي الملك الجديد هنري السابع. ومن هنا جاءت مغامرة انتحال وادعاء شخصية الأمير ريتشارد لأنه لو كان ما زال على قيد الحياة فهو أحق بالملك ولهذا سرعان ما تلقف ملك إسكتلندا جيمس الرابع الفكرة ووجدها فرصة لإضعاف الملكية البريطانية فقام بمساعدة الشاب بيركن الدّعي للوصول للحكم كما ساعد نبلاء بولندا ديمتري الدجال على حكم روسيا. وبالفعل قام الأمير ريتشارد المزيف بغزو بريطانيا أكثر من مرة لكن محاولاته باءت بالفشل وتم اعتقاله ومحاكمته بتهمة الخيانة والاحتيال.

الجدير بالذكر أن تاريخنا الإسلامي شهد بعض هذه الأحداث الغريبة المتعلقة بانتحال الشخصية في سبيل الوصول للعرش والحكم ومن ذلك مثلا أنه عندما قام السلطان سليمان القانوني بقتل أبنه البكر وولي عهده شاهزاده مصطفى (نتيجة مؤامرة زوجة أبية السلطانة روكسانا لتولية أبنها الأمير بايزيد) لم تنتهي قصة الأمير المغدور عند هذا الحد. لقد كان للأمير العثماني مصطفى محبة كبيرة لدى الشعب والعلماء وحتى جنود الإنكشارية ولهذا سرعان ما اندلعت ثورة شعبية ضد السلطان سليمان في الروملي من أرض البلقان قادها رجل ادعى أنه الأمير مصطفى الذي نجا من القتل. وبعد أن سيطر هذا الأمير المزيف على بعض الأقاليم العثمانية مثل مقدونيا وتراقيا وشرق رومانيا استطاع أخيرا السلطان سليمان القانوني (كما استطاع قبله الملك هنري السابع) من إخماد الثورة وقتل الآلاف من جنود التمرد.

وفي الختام تجربة (سرقة هويتي وانتحال شخصيتي) عبر ذبذبات الفضاء الإلكتروني كانت تجربة مريرة من جهة ومفيدة من جهة أخرى (لمست شيء من محبة الناس واهتمامهم بي) وأكبر عزاء لي أنني كنت فقط أحد الآلاف من الناس الذين تخترق حساباتهم الإلكترونية يوميا حيث يتوقع أنه في كل ختام كل يوم تتم تقريبا مائة مليون محاولة اختراق بشكل أتوماتيكي. كما إنني ولله الحمد لم أفقد أي خسارة مادية من جراء انتحال شخصيتي مقارنة بمن خسر أمواله أو سمعته أو صحته أو حياته.