الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

( طواف التباعد الاجتماعي .. مشهد للتاريخ )

طواف الدوائر المتماثلة هل يمكن أن يتكرر في التاريخ

( طواف التباعد الاجتماعي .. مشهد للتاريخ )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

شعائر الإسلام الكبرى من دلائل ومظاهر عناية هذا الدين الحنيف بالنظام والانضباط ولهذا كان شعار (البنيان المرصوص) هو حال توصيف المسلمين سواء في وقوفهم للصلاة أو لحظة مواجهتهم للعدو في ساحة القتال. لكن الغالب في شعيرة الحج أن يختلط الناس ويتزاحمون ولا يشملهم نظام واحد أو تشكيل جامع ولهذا ورد في صحيح الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهية أن يُضرب عنه الناس). والمعنى أنه لاشتداد تزاحم الناس حول الركن لم يرغب نبي المرحمة عليه الصلاة والسلام أن يدفع الناس بالقوة حتى يخلى له المجال لاستلام الركن ولهذا قام بالطواف حول البيت وهو مرتحل على بعيره ليسهل له استلام الركن اليماني بمحجنه وهي عصا معوجة الرأس. وعلى ذكر أم المؤمنين الصديقة عائشة نجد في موقفها رضي الله عنها بالحرص على ألا تطوف بالبيت إلا في أوقات آخر الليل إشارة لكراهتها لحالة الازدحام والاختلاط الذي قد يقع بين الرجال والنساء في صحن المطاف.

في الواقع منظر صفوف المصلين الدائرية المتحلقة حول البيت الحرام مشهد يأخذ بالقلوب والأفئدة والدائرة شكل هندسي متماثل وأعتبره الإغريق الشكل الأسمى ورمز الكمال ومع سهولة الالتزام بحرفية الدائرة في الصلاة في أرض الحرم إلا أن هذا الأمر يستحيل تحقيقه في حالة الطواف للعشوائية الشديدة في حركة الحجيج.

من الغريب أن حالة العشوائية في طواف الحاج قد تصل إلى التزاحم والتدافع الشنيع الذي قد يتسبب في مقتل العديد من الحجاج كما تذكر ذلك كتب التاريخ وبالذات الكتب المخصصة لأخبار البيت الحرام مثل كتاب أخبار مكة للأزرقي أو كتاب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين لتقي الدين الفاسي. من ذلك استقراء بعض الباحثين أن حوادث التدافع المميتة في ساحة الحرم تسببت في مقتل 34 حاج في عام 581 هجري هذا على قلة عدد الحجيج النسبية في ذلك الزمن وحصل أمر مشابه في حج عام 881 هجري حيث توفي 25 حاجا داخل صحن الطواف أما التدافع والتزاحم عند أبواب الحرم الشريف فقد تسببت في مقتل 80 حاجا بالمسجد الحرام عند باب العمرة.

 وصباح هذا اليوم يوم الثامن من ذي الحجة تناقل الجميع المناظر الفريدة والصور التاريخية لجمال ونظام طواف الحجيج في يوم التروية في مشهد فريد سوف يسجل في الذاكرة الجمعية للأمة الإسلامية لسنوات طويلة وعقود مديدة. بسبب الاحتياطات الصحية للوقاية من مرض وباء الكورونا تم تنظيم طواف الحجيج في دوائر متكاملة وحركة سير متزامنة أنتجت مشهدا يستحيل أن يتكرر في التاريخ والعلم عند الله.

وفي التاريخ الإسلامي القديم لحظات مميزة حدثت في ساحة المسجد الحرام يوم التروية بالذات وأثناء أداء طواف القدوم فقد ورد في كتاب أخبار مكة للأزرقي أنه وقع في فجر يوم التروية من عام 80 هجري أن دخل سيل جارف اجتاح طرقات مكة حتى دخل المسجد وأحاط بالكعبة بعد أن هدم الدور وقتل الكثير من الناس ولهذا سميت هذه الحادثة بسيل الجاحف. من المحتمل أنه لكثافة مياه السيل حول الكعبة في تلك السنة أن طواف القدوم تم لبعض الحجاج سباحة وليس على الأقدام.

وإذا كان بعض الحجاج طاف حول البيت يوم التروية وهو يخوض في الماء والطين فإن البعض الآخر فر في نفس ذلك اليوم من برك الدماء التي سفكت في الحادثة الشهيرة والشنيعة التي قام بها القرامطة. فكما يذكر ابن الأثير أن أبا طاهر القرمطي وعصابته الأثيمة وافت الحجيج يوم التروية من عام 317 هـ فقتلوا الحجاج في صحن الطواف وقلعوا الحجر الأسود وباب البيت الحرام وطرحوا القتلى في بئر زمزم ودفن الباقين في المسجد الحرام حيث قتلوا بغير كفن ولا غسل ولا صلاة.

 على كل حال نحن الآن في لحظة تاريخية مميزة وأحداث أهل الطواف حول البيت الحرام غريبة ومتعددة في التاريخ ابتداء من أول الزمان عندما كان بعض الرجال والنساء يطوفون بالبيت عراة وهم يثيرون الجلبة بتصفيقهم وصفيرهم ووصلا لآخر الزمان كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بانقطاع الحج وأنه لا تقوم الساعة حتى لا يُحج البيت بعد أن يهدم الحبشي ذو السويقتين الكعبة حجرا حجرا.