السبت، 15 يناير 2022

( الذاكرة والتاريخ ومستقبل النفوذ الشيعي )

التاريخ يؤكد أن كماشة الهلال الشيعي ليست دائمة 

د/ أحمد بن حامد الغامدي


لعشاق البلد الجميل لبنان يكثر تداولهم توصيفه بسويسرا الشرق في حين أنني قد أفضل استرجاع لقب قديم ونادر هو (فاكهة العرب) ليس فقط لجمال طبيعة لبنان، ولكن لأن (الذاكرة السياسية) العربية ما زالت تربط ويلات الانشقاق والاحتراب الأهلي بما حصل في أحياء لبنان الشهيرة من مثل: عين الرمانة وإقليم التفاح وعين التينة.

قبل أيام وعند اندلاع الاشتباكات المسلحة في منطقة عين الرمانة في ضواحي بيروت استرجع الجميع في لبنان الجريح (ذكريات) الحرب الأهلية الشنيعة. قبل أربعة عقود وبالتحديد في يوم 13 أبريل من عام 1975م انطلقت شرارة الحرب الأهلية في هذه المنطقة بالذات وبعد خمسة عشر سنة توقفت القتال بعد أن خلف حوالي 150 ألف قتيل و20 ألف مفقود وتشريد ونزوح مئات الآلف من المهجرين.

من الأقوال الحكمية للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي قولها (الذاكرة أحسن خادم للعقل) وبعد تلك المآسي والكوارث من الحرب الأهلية المنبعثة من بؤرة (عين الرمانة) هل مال أهل السياسة في بيروت لصوت العقل وغلبوا الحكمة بدل رعونة الاقتتال. في (عين) المكان أي عين الرمانة، ولكن في زمن مختلف (بعد مرور 15 على انتهاء الحرب الأهلية) كادت حادثة (قنص) أن تعيد حالة الإحتراب والاقتتال عندما قُتل شاب مسيحي في منطقة عين الرمانة على يد أحد عناصر حزب الله. كما هو معلوم حالة الانقسام والاستقطاب في المجتمع اللبناني بلغت مداها في شهر مارس من عام 2005م فيما عرف بمظاهرات 8 آذار و 14 آذار وكان من المحتمل أن تكون حالة القنص والقتل تلك في عين الرمانة نطقه شرارة جديدة لحرب جديدة. صحيح أن المجتمع اللبناني منقسم بحدة ومتشظي بشدة، ولكن يبدو انه حصل فيه نوع من (توازن الرعب) فجميع الفرقاء ما زالوا يتذكرون مصائب وويلات الحرب الأهلية ولهذا هم يهوشون ويهددون ولكن شيء من العقل يلجم ويشكم تصرفاتهم. وبهذا (ذاكرة) الحرب الأهلية الأليمة السابقة أصبحت تستخدم (كسلاح ردع) يجعل (زعران) وبلطجية الأحزاب المتصارعة يتورعون عن الاندفاع في القتال المتهور. وهذا ربما يفسر إلى حدا ما لماذا بلع حزب الله (الموس) ولم يبادر برد مزلزل لمهانة مقتل ستة من عناصره بالقرب من منطقة عين الرمانة وعلى يد خصومه من المليشيات المسيحية لحزب لقوات اللبنانية.

كالعادة القوة المفرطة المتلبسة بالغرور بالنفس تورد الأشخاص والجمعات والدول المهالك ولهذا توقع حزب الله والتيار الشيعي في لبنان أن لهم الكلمة العليا وأن قوتهم لا تقهر. ولذا تهور أتباع حسن نصر الله في البداية في محاولة الدخول لحي عين الرمانة ذو الأغلبية المسيحية الكاسحة وهنا حصلت الكارثة والصفعة المنكرة ضد المليشيات الشيعية. غرور القوة ظاهرة متكررة في جميع الكيانات والتيارات السياسية ذات التعصب الديني أو القومي أو الفلسفي الفكري. وهذا الغرور أحيانا يصطدم بأرض الواقع ويتبن أن وهم السيطرة ليس مبني على أسس حقيقة ولهذا في نفس الأسبوع الماضي عندما انكشف لحزب الله الشيعي أن ليس له سيطرة نافذة على الأراضي اللبنانية تبين كذلك لملالي إيران أن نفوذهم ليس نافذ وطاغي في العراق بدلالة خسارة الأحزاب الموالية لهم في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بأرض الرافدين.

وهذا يقودنا إلى موضوع ذي صله فكما إن الذاكرة قد تكون (سلاح ردع) هي كذلك قد تكون (سلاح دعم معنوي) فالتاريخ كثيرا ما يكرر نفسه وبهذا يمكن بث حالة من التفاؤل والأمل بأنه كما اندحر العدو في الماضي البعيد سوف يندحر العدو في المستقبل القريب. قبل عدة سنوات تفاخر رئيس الاستخبارات الإيراني السابق حيدر مصلحي بأن إيران تسطير على أربع عواصم عربية. وبعد أن كان حلم نظام الملالي يتوقف عند مجرد تصدير الثورة أصبح هدفهم استيراد الثروة من عواصم البلدان العربية التي تدفع لهم الخُمس المالي والسياسي. في غمرة النشوة بالتمدد الشيعي يعتقد البعض أن الثورة الخمينية لا تعرف الحدود وبمختصر العبارة هي (باقية .. وتتمدد). ومن حسن الحظ أن الذاكرة التاريخية يمكن استخدامها كسلاح معنوي كما ذكرنا ببث الأمل وتثبيت القلوب المنخلعة بثقل الواقع فيما يتعلق بسطوة النفوذ الشيعي الحالي وأنه لا بد وحتما سوف ينجلي يوما ما.

كما هو معلوم التاريخ موجات وتذبذبات فمثلا في نهاية القرن الرابع الهجري ظهرت الدولة العُبدية الإسماعيلية التي لقبت بالخلافة الفاطمية وبلغ من شدة توسعها أنها كادت تقضي على الخلافة العباسية. قديما احتل الشيعة الاسماعلية الغلاة العواصم والمدن العربية الكبرى التالية: مكة والمدينة والقدس والقاهرة والإسكندرية ودمشق وحلب وطرابلس والموصل والقيروان وتونس وكان لهم نفوذ ملموس في صنعاء وغيرها من مدن اليمن. بل وصل الأمر لدرجة لا تصدق فيما يتعلق (بتمدد الدولة الفاطمية الشيعية) أنه في عام 450هـ وصل نفوذهم لعاصمة الخلافة العباسية حيث أصبح يُدعى في صلاة الخطبة للخليفة الفاطمي المستنصر بدلا من الدعاء للخليفة العباسي القائم بالله. ولقد كان من شدة بطش وتنكيل الحكم الشيعي الإسماعيلي على البلاد العربية السنية أن اشتهرت مقوله عن الإمام أبو بكر النابلسي: لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بسهم ولرميت الفاطميين بتسعة أسهم.  ثم كان ماذا لقد زال ولله الحمد كل ذلك الشقاء الطائفي الشنيع بعد أن استمر لمدة ثلاثة قرون والغريب أنه لا وجود على الاطلاق للتشيع في المناطق التي كانت معقل الدولة الفاطمية مثل مصر وأرض تونس التي انطلقت منها الدعوة العُبيدية.

وبالعودة للعواصم العربية الأربع الوقعة حاليا تحت النفوذ الشيعي وبرحلة في فخاخ الذاكرة نجد أنها في زمن ما مضى وانقضى قد وقعت سابقا تحت السيطرة الشيعية. فهذه بغداد قبل خمسة قرون تتعرض للغزو الشيعي الإثنى عشري زمن الدولة الصفوية فقد اقتحمها الفرس الصفويين عام 914 هجري وبذا تحولت لمدينة شيعية. ويكفي أن نشير إلى أن أكبر وأعرق مساجد بغداد وهو جامع أبو حنيفة النعمان تم تحويلة اثناء الاحتلال الشيعي ذاك إلى مزبلة ومربط للخيل وهم بهذا سبقوا الفرنسيين بهذه الخساسة بثلاثة قرون عندما (دخلت الخيل الأزهر) واستخدمه جنود نابليون إسطبل للخيل. وبالانتقال من بغداد إلى صنعاء نجدها هي الأخرى في التاريخ القديم ترزح تحت حكم الشيعة الاسماعلية لمدة قرن من الزمان أثناء حكم الدولة الصليحية في القرن الخامس الهجري. ومن سيطرة بنو صليح شيعة اليمن إلى سيطرة بنو عمار شيعة لبنان ومؤسسي الدولة العمارية الشيعية في لبنان. لقد ترسخ حكم الشيعة الإثنى عشرية في لبنان في القرن الخامس الهجري واستمر لعد عقود من الزمن وكانت عاصمة ملكهم مدينة طرابلس أكبر وأهم مدن لبنان في ذلك الزمن وقت أن كانت بيروت مدينة هامشية. وعندما زار الرحالة والشاعر الفارسي ناصر خسرو طرابلس في ذلك الزمن وصفها في كتابه سفر نامه بأن سكانها كلهم شيعة. وكما هو معلوم تعتبر طرابلس الشرق هي معقل السنة اليوم في لبنان وهو ما يؤكد أن التاريخ يتذبذب في موجات متلاحقة ولا يثبت على حال فقد تم نقض وطرد النفوذ الشيعي من الشمال اللبناني كما من مصر وتونس. ومن توصيف الرحالة ناصر خسرو لتشيع أهل مدينة طرابلس اللبنانية إلى توصيف الرحالة ابن جبير لمظاهر التشيع في مدينة دمشق وأن الشيعة بالجملة في بلاد الشام أكثر من السنة. وهذا أمر متوقع فكما هو معلوم في القرن الرابع الهجري سيطر الشيعة الجعفرية من خلال دولة بني حمدان (من ملوكها سيف الدولة الحمداني) على المدن الإسلامية الكبرى مثل حلب والموصل وهو ما عزز النفوذ الشيعي على أغلب مدن الشام ومنها دمشق. دولة شيعية أخرى كان لها نفوذ في بلاد الشام وهي الدولة الإسماعيلية النزارية التي أسسها الحسن الصباح واشتهرت في كتب التاريخ بلقب دولة الحشاشين وقد كان لهم تواجد في عدد كبير من القلاع المتوزعة على كامل الأراضي السورية.

تصدع الهلال الشيعي

بالرغم من إن المصطلح السياسي (الهلال الشيعي) تم تداوله في وقت قريبا نسبيا بعد الغزو الأمريكي للعراق إلا أن (فكرة المشروع) قديمة قدم الاحتلال الإنجليزي للبلاد العربية. ووفق القاعدة السياسية الإنجليزية الراسخة (فرق تسد) البعض يعتبر مشروع الهلال الشيعي هو مشروع بريطاني (قديما) ومشروع أمريكي (حاليا) أكثر منه مشروع إيراني صفوي. ومن لطف الله علينا أن السوابق التاريخية تعطينا دفعة معنوية في مقاومة هذا المشروع وإفشاله فالنفوذ الشيعي قديما زمن الدولة الفاطمية كان يشكل بدر كامل التكوين وليس مجرد هلال هزيل ومع ذلك تلاشى ذلك النفوذ الجاثم. من اللافت من نتائج التنقيب في فخاخ الذاكرة التاريخية أن سيطرة المكون الشيعي على الشعوب العربية تكون دائما من خلال الاستقواء والتعاون بتبادل المصالح مع الغازي الصليبي. حصل ذلك زمن الدولة الفاطمية وتحالفها مع الصليبيين في القرن الخامس الهجري وحصل ذلك مع الشاه الإيراني عباس الأول الصفوي وتحالفه المشهور مع الملك البرتغالي مانويل الأول ومراسلاته مع البابا بولس الخامس في القرن العاشر الهجري. ويبدو أنه كل 500 سنة يحصل تقارب وتقاطع في المصالح بين الشيعة والنصارى الغزاة وقد تم التجديد لهذا التعاون في القرن الخامس عشر الهجري. ومع هذا ينبغي التنويه بأن هذا التآمر لا يعني أن هؤلاء (الشركاء المتشاكسون) لا يحصل بينهم نزاع فالتاريخ العربي يسجل أسماء معارك مثل معركة عسقلان ومعركة الرملة والتي دارت رحاها بين الفاطميين وبين الصليبيين وكذلك حصلت حرب ضروس للسيطرة على مضيق هرمز بين الصفويين والبرتغاليين واليوم نشاهد مناوشات حقيقية بين الامريكان والإيرانيين.

وفي الختام لا بد من تأكيد أن الاستشراف الدقيق للمستقبل القريب أمر متعذر تماما لكن لا يخالجنا أدنى شك في أن النفوذ الشيعي على المدى البعيد مصيره إلى اضمحلال وإن كان هذا لا يعنى الزوال التام. ويبقى السؤال ما هو دور (السنة العرب) في هذا النضال هل سوف نشارك فيه أم (يكرر التاريخ نفسه) مرة أخرى ويكون شرف مقاومة النفوذ الشيعي لغير العرب. كما حصل مع صلاح الدين الكردي الذي قضى تماما على الدولة الفاطمية الشيعية أو السلطان التركي سليم الأول الذي حارب الدولة الصفوية الفارسية وطردها من العراق. ومن الغرائب أن من يمكن أن يتسبب في تآكل وتصدع مشروع الهلال الشيعي ليس العرب السنة، ولكن الصراع المتصاعد بين شيعة العروبة والشيعة الصفويين والانشقاقات في نسيج المجتمع الإيراني نفسه كما يحصل مع شعب الأحواز الإيراني السني.


( ماذا لو لم يغادر تنزانيا ؟!! )

البيئة المحفزة للأدب تحتاج فقط إلى مخزون المعاناة 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في عام 1969م حصل المعيد بجامعة الإسكندرية العالم المصري أحمد زويل على درجة الماجستير وربما كانت مسيرته العلمية تأخذ مسارها الاعتيادي لو أكمل رسالة الدكتوراه في نفس الجامعة وبهذا غالبا سوف يصبح باحث مشهور على المستوى الإقليمي فقط. التغير الجذري في حياة الدكتور أحمد زويل حصل عندما نال منحة دراسية للولايات المتحدة لإكمال دراساته العليا والحصول على درجة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا ومنها انتقل لجامعة بيركلي ثم أخيرا لجامعة كالتك العريقة. عندما حصل الدكتور أحمد زويل منفردا على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999م تسائل البعض (ماذا لو مكث أحمد زويل في جامعة الإسكندرية) هل كان سوف يحصل على جائزة نوبل؟. الغريب في الأمر أنه في الأيام الماضية عندما حصل الروائي التنزاني (العربي الأصل) والبريطاني الجنسية عبد الرازق جرنه على جائزة نوبل في الأدب لعام 2021م ربما تسائل البعض عن مستقبل هذا الأديب ذو الأصول العربية الحضرمية من زنجبار (ماذا لو مكث في زنجبار؟).

الفرق بين سؤال مستقبل أحمد زويل ومستقبل عبد الرازق جرنه ليس فقط فارق زمني بمرور أكثر من عشرين سنة بين وقت طرح التساؤلين، ولكن أيضا فارق ثقافي ومعرفي حسب نظرية الأديب والعالم البريطاني تشارلز سنو في كتابه (الثقافتين The Two Cultures) وأنه لا توافق بين عالم الأدب ودنيا العلوم. بمعنى أنه في حال لن يستطيع (في الوقت الحالي) أي عالم ومخترع عربي أن يحصل على جائزة نوبل في المجالات العلمية إلا أنه من الممكن جدا أن يحصل أي أديب عربي مميز على جائزة نوبل.

مقومات الإبداع والتميز الأدبي والشهرة الثقافية تختلف عن تلك التي في مجال العلوم والتقنية ولهذا من ناحية نظرية بحتة كان من الممكن أن يشتهر الأديب التنزاني عبدالرازق جرنة حتى ولو لم يغادر جزيرة زنجبار. خذ على ذلك مثلا الأديب النيجيري تشنوا أتشيبي صاحب الرواية بالغة الشهرة (أشياء تتداعى Things Falling Apart) والتي يعتبرها العديد من النقاد ليس فقط أهم وأجمل رواية أدبية أفريقية، ولكن كذلك واحدة من أفضل الروايات الأدبية العالمية على الإطلاق في العصور الحديثة. هذا وقد تم بيع أكثر من 20 مليون نسخة من رواية أشياء تتداعى كما تم ترجمتها لأكثر من 50 لغة بل إن الموسوعة البريطانية صنفتها في قائمة أفضل 12 رواية في تاريخ الأدب. بقي ان نقول إن الأديب تشنوا أتشيبي عندما ألف هذه الرواية الإبداعية أخذ الأفكار الأساسية لها من ذكرياته زمن الطفولة بين قومة شعب الإغبو وهم أقلية وثنية وهامشية في المجتمع النجيري كما إنه عندم كتب تلك الرواية كان وقتها ما زال يعيش في بلدة الأصلي نيجيريا.

في دنيا العلوم والتقنية الإبداع والتميز يحتاج إلى (مواد وتجهيزات) بينما في عالم الأدب والفنون الإبداع والتميز يحتاج إلى (معاناة وتعقيدات) وهذا ما جعل أتشيبي الفقير وذو الأصول المهمشة والتمزق الديني بين الوثنية والمسيحية تتوفر له (الأجواء الابداعية) حتى وهو في أدغال أفريقيا. مخزون المعاناة (البؤس/ الحرمان/ الاحتقار/ اليأس) هو الذخيرة التي تمكن الأديب من تشكيل وصياغة تجارب حياته التعيسة في منتج أدبي خالد على هيئة أعمال الروائية أو قصائده الشعرية. لو لم يعيش الأديب عبدالرازق جرنة في جزيرة زنجبار التنزانية ربما لم يصل للشهرة العالمية ولما حقق جائزة نوبل وهو بهذا على نفس المسار الروائي والكاتب فيديادار نايبول الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2001 ميلادي. وكما كان عبد الرازق جرنة من أصول عربية وولد ونشأ في بلد فقير ومستعمر ثم انتقل لاحقا إلى بريطانيا وحصل على جنسيتها نجد أن الروائي نايبول هو من أصول هندية ولد ونشأ في بلد فقير (جزيرة ترينيداد) ثم انتقل لاحقا إلى بريطانيا وحصل على جنسيتها. والتوافق بين عبد الرازق ونايبول يتواصل أن كلا منهما يوظف العديد من ذكريات الطفولة في اعماله الأدبية التي سوف يكتبها كلا منهما عندما يصل إلى بريطانيا ويصبح من سكانها.

الشاعر الإيرلندي الأصل ويليام ييتس الحاصل على جائزة نوبل لعام 1923م له شطر بيت مشهور يقول فيه (المعاناة تجلب الحكمة) ولذا بالجملة فإن الإقامة والتنشئة لفترة طويلة أو حتى قصيرة في بلدان القارة الأفريقية مع ما في ذلك من المعاناة ساهم ذلك في إلهام كبار الأدباء بعض أشهر وأبرز الأعمال الروائية. ومن ذلك تأثير أرض الجزائر وشعبها وحضارتها على الأديب الفرنسي البارز ألبير كامو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1957م الذي ولد ونشأ وتعلم في الجزائر. ولذا نجد أن أحداث روايته الشهيرة (الغريب) تقع في مدينة الجزائر العاصمة بينما روايته الأخرى التي لا تقل شهرة (الطاعون) تقع أحداثها في مدينة وهران.

وغير بعيد عن موطن عبد الرازق جرنه تنزانيا وبالتحديد في عمق الأراضي الكينية نجد أن الروائي الأمريكي الأسطورة إيرنست هيمنغوي الحاصل على جائزة نوبل لعام 1954م يكتب عدد م قصصه المشهورة مثل (ثلوج كليمنجارو) وقصة تلال إفريقيا الخضراء. وفي هذه القارة السمراء وأثناء رحلات السفاري تعرض هيمنغوي لحادث تحطم طائرتين نتج عنها آلام جسدية وشروخ نفسية صاخبته بقية حياته. تجربة مريعة أخرى في أفريقيا كانت هذه المرة من نصيب الروائية الإنجليزية ذائعة الصيت أجاثا كريستي والتي عاشت لفترة قصيرة من الزمن هي وزوجها الأولى في مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا. وهنالك عرفت أجاثا عن قرب حالة الهلع من هجوم أسماك القرش ومع ذلك أثمرت تجربتها في جنوب أفريقيا روايتها (ذو البدلة البنية) التي تدور أحداثها في مدينة كيب تاون. أما أغرب حالة لأديب مع الإقامة في أفريقيا فهو الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي بلغ القمة في الشهرة والمكانة الأدبية وهو دون سن العشرين ثم هاجر للاستقرار بشكل نهائي في ولاية هراري بدولة أثيوبيا حيث هجر الشعر تماما وتحول لتاجر قهوة وتاجر سلاح.

ونختم بسياق مثال مزدوج في الزمان والمكان لتقرير أن مقومات الإبداع في دنيا العلم وعالم الأدب مختلفة. لا شك أن الاستقرار السياسي والاقتصادي من أهم مقومات البحث العلمي ولهذا في زمن الحرب الأهلية اللبنانية لم تكن الظروف مواتية للشاب اللبناني أرديم باتابوتيان للتعليم الجامعي ولهذا تأخر دخوله للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت في تخصص الكيمياء. وبعد فترة قصيرة من دخوله للجامعة 1986م وبسبب الانفلات الأمني في مدينة بيروت تعرض الشاب أرديم للاعتقال والتوقيف من قبل بعض المليشيات المسلحة. وبعد إطلاق سراحه سارع أرديم لمغادرة بيروت والتوجه إلى الولايات المتحدة حيث إكمال دراسته الجامعية في مجال الطب وحصل على درجة الدكتوراه من أرقى الجامعات لينتهي به الأمر قبل عدة أيام أن حصل على جائزة نوبل في الطب.

هروب أرديم باتابوتيان من بيروت مكنه من سلوك طريق الأبداع العلمي أما عدم مغادرة بيروت والاكتواء بنار المعاناة في تلك الحرب الأهلية الشرسة هو ما مكن الشاب اللبناني ربيع جابر أن يتميز في مجال الأدب. لقد تخرج ربيع جابر من نفس الجامعة التي درس بها أرديم باتابوتيان أي الجامعة الأمريكية في بيروت، ولكن في تخصص الفيزياء. أجواء الحرب الأهلية في لبنان لم تسمح بالتميز العلمي لربيع جابر ولكن في نفس الوقت من رحم تلك المعاناة ولد ربيع جابر الأديب والروائي ذو العبقرية الفنية والقصصية الفريدة. ليس غريبا أن نعلم أن لمدينة بيروت وفترة الحرب الأهلية بالذات حضور طاغي في الإنتاج الأدبي لربيع جابر كما نجده في الرواية ثلاثية الأجزاء (بيروت مدينة العالم). والرواية الأكثر أهمية بربيع جابر هي (طيور الهوليدي إن) والتي تعكس معاناة سنوات الانشقاق المجتمعي اللبناني الذي يتمثل في عمارة المبرومة التي يسكنها لفيف من المسيحين والمسلمين من شتى الطوائف التي تتقاطع مآسيهم وصراعاتهم اثناء الحرب الأهلية.

لم يحصل (حتى الآن) ربيع جابر على جائزة نوبل في الأدب، ولكن حصل على أهم جائزة أدبية عربية وهي جائزة البوكر العربية لعام 2012م وإن كان تجدر الإشارة بأن الأديب المصري المعروف صنع الله إبراهيم (تم ترشيحه لجائزة نوبل للأدب) إحدى أهم أعماله الأدبية هي رواية (بيروت بيروت) والتي تعكس أحداثها مرة أخرى مرارة الحرب الأهلية اللبنانية مما يعزز ويؤكد أن (المعاناة) هي وقود الإبداع الأدبي والتي قد تحقق للروائي شهرة عالمية حتى ولو لم يسافر قط خارج مدينته.


( آباء وقنابل )

الدعاء لي أو الدعاء على آباء القنابل الذرية الإسلامية والهندية 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

أعلن اليوم عن وفاة العالم الباكستاني الشهير عبدالقادر خان مهندس البرنامج النووي الباكستاني والمعروف بجداره بلقب (أبو القنبلة الذرية الباكستنانية) والبعض يتسهل في المديح حين يصفونه (بأبو القنبلة الذرية الإسلامية). توفي عبدا القادر خان رحمه الله عن عمر يناهز 85 سنة وبعد إصابته بمرض الكورونا وهو بهذا ختم حياته الطويلة والتي تذبذبت بين الانتصارات والهزائم والتكريم والتحجيم. لكامل الشعب الباكستاني يعتبر عبد القادر خان بطل قومي ولغالبية الشعوب العربية والإسلامية يعتبر كذلك شخصية جديرة بالتقدير والإعجاب بينما هو في عين الحكومات الغربية شخصية خطيرة تم اتهامها بالمساهمة في نشر أسلحة الدمار الشامل. ونظير الحرج الذي وقعت فيه الحكومة الباكستانية تم التضييق وفرض الإقامة الجبرية على عبد القادر خان عام 2004م بعد اتهامه بنقل خبرة تصنيع القنبلة الذرية لدول مثيرة للجدل مثل إيران وليبيا وكوريا الشمالية.

يقال إن المعرفة قوة وأحيانا هذه المعرفة قد تسبب الشقاء لمن يمتلكها وهذا ما حصل مع مجموعة من العلماء الذين شاركوا أو حاولوا المشاركة في تصنيع القنابل الذرية. ربما بعلم الحكومة الباكستانية وبموافقتها حاول عبد القادر خان نشر البراعة التقنية (know-how) في تصنيع القنبلة الذرية لدول أخرى كمحاولة لإكساب الحكومة الباكستانية قوة ناعمة متفجرة تعزز من مكانتها في المجتمع الدولي. ولكن هذه لعبة خطرة وسهل جدا أن تعطي نتائج معاكسة ولهذا انقلبت الحكومة الباكستانية على أبو القنبلة الذرية الباكستانية كما انقلبت سابقا الحكومة الأمريكية على أبو القنبلة الذرية الأمريكية.

على نفس النسق يعتبر الشعب الأمريكي عالم الفيزياء الأمريكي روبرت أوبنهايمر بطل قومي رفيع المستوى وذلك لقيادته العلمية لمشروع مانهاتن لتصنيع السلاح النووي ولهذا يوصف أوبنهايمر بأنه أبو القنبلة الذرية. المشكلة أنه كما حامت الشكوك والشبهات حول عبد القادر خان بأنه يحاول نشر المعرفة العلمية لتصنيع القنبلة الذرية تعرض كذلك أوبنهايمر لشيء مشابهة تقريبا. بعد تفجير أول قنبلة ذرية في التاريخ على يد أوبنهايمر وفي بداية سنوات الحرب الباردة حصل اشتباه بأن أوبنهايمر يتعاطف مع الشيوعيين وأنه ربما يسهل تسريب المعرفة العلمية لتصنيع القنبلة الذرية إلى الاتحاد السوفيتي. ولهذا تم منع أوبنهايمر من العمل في هيئة الطاقة الذرية ولاحقا في فترة المكارثية الشهيرة تعرض للعديد من المضايقات لدرجة أنه حصل بالفعل محاكمته بتهمة الشك في ولائه للولايات المتحدة. ومن المهازل في تاريخ العلم أن العالم الأمريكي اليهودي إدوارد تيللر الملقب بأبو القنبلة الذرية الهيدروجينية شهد في المحكمة ضد أوبنهايمر وحاول تثبت تهمة ارتباطه برجال من ذوي الفكر اليساري. بينما نجد في المقابل نجد أن عالم الفيزياء الإيطالي الشهير أنريكو فيرمي (يستحق لقب الأب الروحي لأول قنبلة ذرية في التاريخ) يشهد في تلك المحاكمة مع أوبنهايمر ويحاول ابعاد التهمة عنه ومع ذلك ظل أوبنهايمر شخصية مشكوك فيها وتعرض للمراقبة المستمرة لمدة تسع سنوات.

ومع ذلك وبشيء من الصراحة ربما تكون الحكومة الأمريكية على حق في التشدد في منع نشر المعرفة التقنية لتصنيع القنابل الذرية والشك في ولاء العلماء الذين أنتجوا (أو نقول ولّدوا) القنابل الذرية. ومن الطريف أن (أبو القنبلة الذرية السوفيتية) ليس عالم فيزياء روسي بل هو عالم فيزياء ألماني وهذا ما كان من عالم الفيزياء الألماني كلاوس فوكس والذي كان في الواقع جاسوس استطاع الشيوعيين زرعه في مشروع مانهاتن لتصنيع القنبلة الذرية وبهذا استطاع أن يسرب معلومات على درجة عالية من الأهمية. ولذا يقال إن كلاوس فوكس هو من ساعد علماء الفيزياء في لاتحاد السوفييتي في تسريع تصنيعهم لأول قنبلة ذرية والتي فجروها عام 1953ميلادي.

عدد كبير من العلماء الذين ارتبطوا بتصنيع القنابل الذرية واجهتهم المشاكل السياسية المتعددة في حياتهم فهذا عالم الفيزياء الألماني الشهير فيرنر هايزنبرغ المعروف لجميع طلاب المدارس الثانوية والجامعات بقانونه (قانون هايزنبرغ لعدم اليقين) في نظرية الكم والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1932ميلادي. ومع كل هذا البريق في دنيا العلوم إلا أن سمعته تلطخت عندما أصبح يقلب (بأبو القنبلة الذرية النازية). لقد تولى هايزنبرغ القيادة العلمية لمشروع تصنيع القنبلة الذرية النازية بتكليف مباشر من الزعيم الألماني أدولف هتلر ولهذا حاول الغرب ارسال جواسيس لاغتيال هايزنبرغ. طبعا كما هو معلوم لم يتمكن هايزنبرغ من إكمال تصنيع القنبلة الذرية ويوجد شك (عدم يقين على وفق مبدأ هايزنبرغ الشهير) أنه تعمد أن يعطل تصنيع القنبلة النووية النازية. في الواقع جواسيس الدول الغربية لم يجدوا حاجة ماسة لاغتيال أبو القنبلة الذرية النازية مع أنهم كانوا في لحظة حاسمة اثناء الحرب العالمي الثانية ولذلك لم يكرروا المغامرة مره ثانية عندما تعلق الأمر باغتيال (أبو القنبلة الذرية الإيرانية). كما هو معلوم تم العالم الماضي اغتيال أستاذ الفيزياء الإيراني محسن فخري زاده ورئيس البرنامج النووي الإيراني علي يد الاستخبارات الإسرائيلية وقد تم مناقشة هذا الأمر والحوادث التاريخية المشابهة له في مقال حمل عنوان (علماء على قوائم الاغتيال).

 بلا شك موضوع القنابل الذرية موضوع شائك وخطير ولهذا عندم يرتبط عالم برابطة (أبوه) ببرنامج تصنيع قنبلة ذرية سوف يكون محل تقدير مطلق أو محل تجريم ولعن مطلق وهذا أمر متوقع عندما يكون الشخص (ذريته) وابنائه ونسله من بعده قنابل (ذرية). وهذا الأمر كما هو متوقع لن يقف عند (الآباء) بل قد يصل حتى (للأمهات) وهذا ما حصل مع (أم القنبلة الذرية). لقد تعرضت عالمة الفيزياء الذرية النمساوية ليز مايتنر مكتشفة الانشطار النووي والملقبة تجاوزا بأم القنبلة النووية، لقد تعرضت للاضطهاد العلمي والتميز والاجحاف ضدها بسبب أنها امرأة ولهذا تم تجاهل منحها جائزة نوبل بينما تم منح زملائها من الرجال هذه الجائزة مع أن اسهامهم العلمي أقل منها بكثير.

وبقي أن نقول في الختام أن (الأب) الوحيد الذي ساهم في تصنيع القنبلة الذرية لبلده ولاقى تكريم كامل من حكومته هو العالم والمهندس الهندي أبو بكر زين العابدين أبو الكلام والذي يحزننا ويؤسفنا أن نقول بأنه يلقب (أبو القنبلة الذرية الهندية). لقد وصل من تكريم الشعب الهندي لهذا الرجل أن تم انتخابه عام 2002م في منصب رئيس الجمهورية الهندية. لقد خان العلم الهندي أبو بكر (أبو الكلام) أمته الإسلامية ولهذا جلب على نفسه الكلام وربما يستحق أن نلقبه بأبو رغال الهندي وقد توفي غير مأسوفٍ عليه عام 2015م بينما نحن اليوم ندعو بالرحمة والمغفرة للفقيد الكبير أبو القنبلة الذرية (الإسلامية) عبد القادر خان رحمة الله رحمة واسعة وجعل مثواه الجنة.


( الإعصار العماني .. تاريخ منسي )

ما هي الذاكرة العربية مع الأعاصير المناخية 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

بالجملة الذاكرة العربية ضعيفة في السياسة كما في التاريخ ولهذا ما أسرع ما نكرر الأخطاء وما أعجل ما ننسى الأحزان. أعترف مقدماً بأنني في حيرة من أمري فيما يتعلق بكثرة أخبار وأحداث الأعاصير والأنواء البحرية المدمرة التي تصيب أرض السلطنة العمانية في السنوات الأخيرة. ووجه الحيرة هل كثرة هذه الأحداث الأخيرة كما في هبوب إعصار شاهين راجع لاضطرابات التغيير المناخي أم لطوفان الأخبار القادمة من الإعلام الموازي (وسائل التواصل الاجتماعي).

والمقصود هل كان لأهلنا الكرام في سلطنة عمان تاريخ متكرر مع الأعاصير، ولكن لضعف التواصل معهم لم نكن نشعر بمعاناتهم والكوارث المناخية التي كانت ولا زالت تصيبهم كل سنتين أو ثلاثة في المتوسط. الغريب في الأمر أن حالة الجهل (بالأعاصير العمانية) أمر منذ القدم حتى في كتب التاريخ العربي أو دواوين الشعر الأدبي. نحن الآن نعلم أن أكثر بلد عربي ارتبط بالأعاصير هو الديار العمانية بينما نجد الأديب الكبير عباس محمود العقاد عندما أراد توظيف كلمة (أعاصير) للدلالة على شدة اضطراب المشاعر ربطها بدولة المغرب ذات (المحيط الهادر) ولذا كان عنوان ديوانه الشعري: أعاصير مغرب. وفي الشعر القديم كانت العراق هي أرض الأعاصير وقد صرح بذلك المتنبي وخص بالذكر أراضي الفرات وفي نفس تلك المنطقة (أي الجزيرة الفراتية) بين العراق والشام ربط الشاعر الأموي جرير بن عطية الأعاصير بأرض العراق في قصيدة بديعة رغم استهلالها بذكر الأعاصير السافيات.

جزيرة العرب وما جاورها من أرض العراق والشام هي أرض الزوابع والعواصف الترابية وأما أرض الأعاصير والأنواء البحرية فهي بجدارة الأقاليم العمانية ذات التاريخ الطويل مع هذه الأعاصير التي تسمى في لغتهم الدارجة (الجرفة) لأنه ينتج عنها في الغالب سيول وفيضانات جارفة تدمر منازلهم وتنقلها إلى بطون الأودية أو تجرفها إلى ساحل البحر.

وفي علم المناخ يذكر العلماء أنه حتى تحدث الأعاصير المدارية الهوجاء القادمة من جهة البحر لابد أن يكون ذلك الموقع الجغرافي متصل بمسطحات مائية واسعة تسمى الأحواض البحرية وهذا يتحقق في حالة أرض عمان وشرق حضرموت المتصلة بالمحيط الهندي عن طريق بحر العرب. صحيح أن مدينة الإسكندرية تشتهر بحصول العواصف البحرية في فصل الشتاء التي تسمى (النوة) ولكن للصغر النسبي لحوض البحر المتوسط فيستحيل أن تتحول هذه العواصف إلى أعاصير مدارية (hurricanes). وفي المقابل البلاد العربية المغاربية مثل مملكة المغرب وموريتانيا مرتبطة بشكل مباشر بحوض المحيط الأطلسي (بحر الظلمات) ومع ذلك هي بحمد الله آمنة نسبيا من خطر الأعاصير والتي تنحصر في منطقة الكاريبي وهي المنطقة التي تلتقي فيها التيارات الهوائية المائية الباردة القادمة من الدائرة القطبية والتيارات الساخنة من خط الاستواء.

والمقصود أن الموقع الجغرافي الفريد لأرض عمان حقق لها تيارات متواصلة من الرياح الموسمية الماطرة والتي أورثت وأنبتت جمال الطبيعة الساحر في صلالة بمنطقة ظفار أو الجبل الأخضر بمنطقة نزوى. ومع ذلك تقلبات الأجواء قد تعني استمرار هطول الأمطار لفترة طويلة أو حصول أعاصير استوائية مدمرة. وإذا كان بعض شعراء العربية القدامى ومنهم والمحدثين فاتهم توصيف الأجواء المناخية للأراضي العمانية وارتباطها بالأعاصير الطوفانية فما كان ذلك ليغيب عن الأديب اللغوي ابن دريد. سبب ذلك ليس فقط لأن الشاعر النحرير ابن دريد هو من أصول عمانية فهو أزدي من أبناء قبيلة زهران الذين استوطنوا أرض عمان، ولكن لأنه كذلك أديب موسوعي وكاتب في المجالات العلمية ولهذا يقال عنه أنه (أشعر العلماء وأعلم الشعراء) ومن كتبه في مجال علم المناخ كتاب الأنواء وكتاب السحاب والغيث. وبالرغم من أن ابن دريد ولد في البصرة إلا أنه انتقل مع أهله إلى عمان عندما سيطر الزنج على أرض العراق وبهذا توافق وجود ابن دريد في ارض عمان عام 251 هجري عندما أصابها أعاصر بحري هائج. وقد أورد ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء خبر ابن دريد مع حاكم عمان عندما خرج بالناس للصحراء للصلاة والدعاء أن يصرف الله عنهم الأمطار والسيول التي هدمت منازلهم.

وقبل حوالي قرن من الزمان نشر المؤرخ العماني نور الدين السالمي كتاب (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان) وفي هذا الكتاب التاريخي ورد ذكر وصف الإعصار البحري الهائل الذي ضرب الأراضي العمانية عام 251 هجري. وهذا ما كتبه نور الدين السالمي عن ذلك الإعصار الذي ربما عاصره ابن دريد (لما كان ليلة الأحد لثلاث ليال خلون من جمادى الأولي سنة 251 .. أمر عظيم جليل نزل عليهم في الليل .. فجاءهم دوي وظلمة وهواء مفزع .. فعناهم في ذلك صياح وفحيح .. واستهلت السماء فأدفقت عليهم من الماء .. فبينما هم كذلك وهم في منازلهم خائفون مما نزل بهم فقلعت السيول المنازل والأموال وغرقت النساء والرجال .. فأصبحوا في ليلة واحدة أصواتهم خامدة ومنازلهم هامدة).

مثل هذا التوصيف القديم لكارثة الأعاصير الاستوائية يعطينا نافذه في التاريخ لندرك أن التاريخ العماني ولقرون طويله عانى من هذه الكوارث الطبيعية المتكررة. في الاعصار الرهيب الذي ضرب جنوب شرق عمان عام 1996م توفي أكثر من ثلاثمائة شخص وتعرض حوالي ألفين منزل للتدمير. أما اسوء كارثة طبيعية في التاريخ العربي كله فهي إعصار غونو والذي بلغ سرعة رياحه 150كم/ساعة وتسبب في عام 2007م في تدمير أكثر من 25 ألف منزل وأتلاف حوالي 13 ألف سيارة !! .

في البحر كما على الأرض كان لأهل عمان خاصية وتميز عن بقية العرب في ارتباطهم بالأعاصير البحرية والزوابع المائية المهلكة ومن ذلك أن الإعصار الذي عصف على خليج عمان عام 1959م تسبب في غرق العديد من القوارب وأحدها كان يحمل 141 شخص تعرضوا جميعهم للغرق رحمهم الله. وعندما يرد ذكر خليج عمان والسفن التي تمخر عبابه لا يصح أن نغفل الإشارة إلى أمير البحار الجغرافي والملاح العماني الكبير أحمد بن ماجد الذي ينسب له تأسيس علم الملاحة البحرية العربية. في كتابه ذو الأهمية البالغة (الفوائد في علم البحار والقواعد) يتطرق ابن ماجد لتلك الأعاصير البحرية المهلكة والمريعة التي ربما عاصر بعضها في بلاده العمانية ولهذا لا غرابة أن يذكر أن تلك الرياح الضارة تسمى (رياح النكباء) وهي التي يرافق هبوبها حدوث الأعاصير المدمرة.

والجدير بالذكر أن العلماء العرب في مجال علم الأنواء والجغرافيا المناخية قد عرفوا الأعاصير المدارية البحرية فقد وصف المسعودي والقزويني الرياح الحلزونية وفسروا سبب حدوثها بأنه ناتج من تلاقي ريحين تهبان من جهتين متضادتين. كما لاحظوا أن ضغط الهواء يخف داخل تلك الأعاصير اللولبية وينتج عن ذلك شفط ما على الأرض من حيوان أو ما على البحر من أسماك. ولهذا البعض منهم يسمى تلك الأعاصير بالطوفان ويقال إن كلمة التايفون typhoon باللغة الإنجليزية التي تعني الإعصار هي مأخوذة من الكلمة العربية الطوفان. رواد البحارة العرب في العصر الذهبي للملاحة العربية من مثل أحمد ابن ماجد من عمان وسليمان المهري من حضرموت كانت رحلاتهم البحرية بالدرجة الأولى في مناطق خليج عمان وبحر العرب وخليج البنغال والمحيط الهندي وهي المسطحات المائية التي يحتمل أن تكون عرضة لهبوب الأعاصير البحرية. وهذا الرّحالة والبحار العراقي سليمان السيرافي يصف الأعاصير الهائلة في خليج البنغال فيقول ( وكل بحر من هذه البحار فيه ريح تثيره وتهيجه حتى يغبي كغليان القدور فيقذف ما فيه إلى الجزائر التي فيه ويكسر المراكب).

وعلى ذكر المراكب والسفن التجارية العربية التي ربما تتعرض للغرق في خليج البنغال أو بحر العرب بسبب الظواهر البحرية قرأت قبل مدة رواية لطيفة تحمل عنوان (الطريق إلى كراتشي) للمؤلف الكويتي هيثم بودي. تلك الرواية مبنية على قصة حقيقة حدثت عام 1938م عن بحارة من الكويت يتعرض قاربهم للغرق في بحر العرب عندما داهمتم فجأة وبدون سابق إنظار موجة بحرية كبيرة يسميها البحارة (القلابة). هذه الأمواج البحرية المهلكة التي تظهر فجأة في الجو الصحو هي ولا شك أمواج التسونامي التي تكون انتقلت من أماكن بعدية جدا وهذا حصل مع التسونامي الياباني الشهير فقد وصلت أمواجه بعدما ضعفت إلى سواحل عمان بل وحتى سواحل شرق إفريقيا. أهل عمان قديما كانوا يطلقون اسم (الجرفة) على الأعاصير البحرية وتوجد شواهد أنهم كانوا يعرفون موجات التسونامي البحرية ويطلقون عليها اسم (الضربة) وبهذا لأهلنا في سلطة عمان تاريخ قديم يتكرر أحيانا مع هذه الظواهر المناخية والبحرية التي كنا نتوقع أنها لا توجد إلا في الدول البعيدة عنا. الله يحفظ الشعب العماني الشقيق ولو حصل في المستقبل تعرض السواحل العمانية لموجات تسونامي كارثية فربما يكون من الملائم حينها كتابة مقال جديد بعنوان (التسونامي العماني .. تاريخ منسي).


( الكتاب .. فصول من اختلالات نفسية )


 العلاقة مع الكتاب تتفاوت ما بين الغرام والخوف

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 ازدواجية المشاعر والتناقض العاطفي ظاهرة شائعة في دنيا العشق والغرام فما أسهل أن يتذبذب المتيم الولهان من البهجة إلى الكآبة ومن الاحتفاء إلى الجفاء. وتقلبات الحلات النفسية وتغيرات الأوضاع المزاجية موجودة في جميع حالات الهيام والحب ومن ذلك مجال الهيام بالكتب وعشق الأوراق. وأخبار الناس مع الكتب تتنوع فيه أحوالهم النفسية ومشاعرهم العاطفية بين الفرح والنفور والخوف وبعد أن كتبت سابقا مقالات عن (الهيام بالكتب) و (النياحة على الكتب) لعل من الملائم تسليط الضوء على الحالات المزاجية الأخرى مع الكتب.

مع انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب بعد انقطاع لحوالي سنتين بسبب جائحة الكورونا لابد أن المشاعر متحفزه عند البعض للقاء والأنس بالمكتوب المحبوب بعد حرمان. بعض القراء يصاب بالاهتياج والبهجة لمجرد رؤيته للكتب والتواجد بالقرب منها. هذا النوع من العشق والغرام يُطلق عليه البعض وصف الولع بالكتب (البيبلوفيليا Bibliophilia) وفيه نجد عاشق الكتب وهو يعاملها معاملة المحب لمحبوبته فيطيل النظر ويأنس بالملاطفة. خذ على ذلك مثلا حال الكاتب والسياسي الإيطالي المعروف ميكافيلي صاحب كتاب الأمير والذي كان عندما يريد أن يدخل مكتبته في الليل يقوم بالاغتسال ويلبس أفضل الثياب ويدخل مكتبته بخشوع وكأنه سوف يقابل أميرا وليس رفوف من الكتب. وهذا سياسي وأديب آخر مهووس بالكتب وهو رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والذي يقول: إذا لم تكن قادرا على قراءة كل كتبك فلاطفها وحدق فيها بينما عاشق الكتب المحلي الأديب أبو عبد الرحمن الظاهري زاد في العشق الورقي مذهب جديد حيث كان يقضي الساعات الطوال ليس في القراءة ولكن في ملاطفة كتبه حيث يذكر عن نفسه في كتابه (شيء من التباريح) أنه كان يقلب كتبه ويقبلها ويمسحها ويعيد ترتيبها ويكرر ذلك التلذذ بتقليب وتقبيل الكتب في ليليه مرارا.

ولا شك أن هؤلاء المشاهير في خلوتهم بالكتاب كانوا في غاية السعادة والهناء الروحي وكأنهم في رياض الجنان ولهذا وافق الكاتب عباس العقاد الأديب توفيق الحكيم عندما كتب متخيلا أن العقاد قد دخل الجنة ولما لم يجد فيها مكتبه ضجر منها (استغفر الله العظيم) بقولة: ما هذا؟ جنة بغير كتب؟. ومن الأحلام التخيلية لرموز الأدب العربي إلى أحلام رموز الأدب الغربي حيث نجد الروائية الانجليزية الشهيرة فيرجينيا وولف تقول إنها لطالما حلمت أنه حينما يأتي يوم القيامة أن الرب (عز جلاله وتقدست أسمائه) بعد أن يكافئ النبلاء والقديسين سوف يلمح الُكتّاب والقراء وهم يتأبطون كتبهم فيقول: أنظر إنهم لا يحتاجون إلى مكافأة، ليس لدينا ما نعطيه، فهم يحبون القراءة وهذا أعظم النعيم. ومن العبارات التي يكثر ترديدها في دنيا الأدب للدلالة على تبجيل الكتب تلك التي قالها الشاعر الأرجنتيني البارز خورخي بورخيس (لطالما تخيلت الجنة على هيئة مكتبة).

وبعض القراء قد يتدرج بهم عشق الكتب من حالة الهيام إلى حالة الهوس بالكتب (البيبلومانيا Bibliomania) وهي حالة من الاضطراب النفسي قد تشتد لتصل درجة من الوسواس القهري تدفع الشخص لجمع أكبر عدد من الكتب والاستحواذ عليها وتكديسها حتى ولو لم يقرأها. للأسف في بعض الحلات قد تقود شهوة تجميع الكتب ومراكمتها بشتى الطرق والأساليب حتى ولو بطرق غير مشروعة مثل السرقة وهذا يسوقنا للحديث عن اضطراب نفسي آخر يدعى هوس سرقة الكتب (ببلوكلبتو Biblioklept). في هذا النوع من الخلل السلوكي يندفع الشخص بغير شعور لمحاولة امتلاك الكتب والمجلدات بأي وسيلة ولو عن طريق السرقة والاحتيال ومن طريف ما يمكن ذكره هنا أن طه حسين ذكر عن أحد علماء الجزائر أنه كان له مكتبة هائلة وولع بجمع الكتب وعندما قدم إلى مصر ذهب دار الكتب المصرية في القاهرة التي كانت ولا تزال تحتوي على مجموعة من أهم مخطوطات الكتب العربية. وقد كان العالم الجزائري يقرأ في مخطوط نادر وأعجب به جدا ثم طلب أن يحضر أحد موظفي دار الكتب وقال له: أجلس بجانبي حتى انتهى من قراءة هذا الكتاب لأنني أخشى أن أسرقه. والأديب الفرنسي المعاصر جان جينيه بدأ حياته كمشرد ولهذا أودع السجن لمدة ثمانية أشهر بسبب ارتكابه لجريمة سرقة الكتب وقد تكرر معه هذا الأمر أكثر من مره عندما كان يسجن بسبب سرقة الكتب. وكمخرج من أن يحكم على جان جينيه بالسجن لفترة طويلة قام زميلة الكاتب الفرنسي جان كوتو بتعيين محامي له أمام المحكمة والذي أقنع القاضي بأن جان جينيه مصاب بخلل نفسي يدفعه رغما عن إرادته لسرقة الكتب. في الواقع لقد كانت اللصوصية والأدب من الأمور البارز في حياة جان جينيه ولهذا قام لاحقا بالدمج بينهما في روايته الطريفة (يوميات لص) وربما هذا ما فتح المجال لاحقا لظهور عدة روايات أدبية عن هذا الهوس المرضي بالكتب مثل رواية (سارقة الكتب) للروائي الاسترالي ماركوس زوساك.

ومن الاختلالات النفسية التي تلك التي توصف (باضطراب ما بعد الصدمة) والتي قد تنعكس في حاله من الهلع أو الاكتئاب والحزن الشديد بعد التعرض لصدمة نفسية عنيفة. وبحكم إننا في سياق الحديث عن التعلق بالكتب والهوس بها لذا قد يتعرض عشاق الكتب لاضطرابات مزاجية عنيفة إذا وقعت لهم كارثة مرتبطة بالكتب. تذكر كتب التراث العربي أن الوزير جمال الدين القفطي والذي كان لا يحب من الدنيا غير الكتب وكان يجمعها بهوس ويقال إنه كان يبحث لفترة طويلة عن كتاب الأنساب لابن السمعاني. وعندما علم أخيرا أن نسخة من ذلك الكتاب أُستخدم ورقها لعمل قوالب القلانس (جمع قلنسوة) حدث للأمير القفطي ما لا يمكن التعبير عنه من الهم والغم والوجوم كما يقول معاصرة المؤرخ ابن العديم. وانقطع الأمير عن الذهاب إلى مقر الوزارة وأحضر من نَدَبَ على الكتاب كما يُندب على الميت ولهذا حضر عند هذا الوزير الأعيان يسلونه ويعزونه ويواسونه في مصابه الأليم.

الكتاب من الوصل إلى الهجر

النفس البشرية قابلة لتقلب العواطف واختلال المزاج فتتغير مشاعرها من حال إلى حال فينعكس الوصل إلى هجر والهوس إلى نفور. من صور التناقضات النفسية في العلاقة مع الكتب أن ينقلب عشق الكتب إلى هجران وبغض لها. وأشهر مثال يمكن أن يذكر هنا هو الفيلسوف الألماني المعروف فريدريك نيتشه فبعد أن كان نهم القراءة ولا يتوقف إلا عندما تؤلمه عيناه إذا به لاحقا يهجر الكتب ويفتخر بأنه يهرب منها. والغريب أن القارئ النهم نيتشه أصبح يحذر من قراءة الكتب خصوصا الجديدة منها كما ينقل عنه أن الكتب هي للحمقى ولهذا ترك قراءة الكتب حتى لا تفسد فكره الفلسفي. وقريب من ذلك قول المؤلف الأمريكي أوسكار ليفانت: لقد توقفت عن قراءة الكتب فقد اكتشفت أنها تشغلني عن نفسي. الخشية من تأثير الكتب وبالتالي تفضيل هجرها هو ما دفع الشيخ الجليل الشعراوي لأن يقول عندما سأل عن ماذا يقرأ (إن صح الخبر): أنه منذ سنة 1952م لا يقرأ سوى القرآن الكريم.

ربما ينقلب العشق إلى هجر ونفور وربما ينحدر النفور إلى خوف وفزع وهذا مقد قد يفرز حالة نفسية عجيبة وإن كانت نادرة تدعى الخوف من الكتب (البيبلوفوبيا Bibliophobia). الخوف أو الرّهاب من الكتب قد يكون انعكاس لما في مرحلة الطفولة من التعثر الدراسي مثل مشكلة عسر القراءة (الديسلكسيا) أو صعوبة التعلم. وهذه المسببات للأمية الخفية والجهالة الدراسية هي التي قد تجعل الشخص يخجل من ضعف قدراته التعليمية مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية وهلع عندما يطلب منه القراءة. وقد تصل بعض الحالات الشديدة للرهاب من الكتب لدرجة الخوف من مجرد حمل الكتاب أو دخول مكان مليء بالكتب وبعضهم قد يكون لديه خوف حتى من الأوراق.

في مجال علم النفس الاضطراب السلوكي المتعلق (برهاب الكتب) أمر نادر، ولكن للأسف في دنيا التاريخ والسياسية توجدت حالات مؤسفة وشنيعة عن ظاهرة (الخوف المعنوي) من الكتب. وهذا يقودنا للحديث عن كارثة حرق أو إتلاف الكتب (بيبليوكلازم Biblioclasm) حيث تتعرض الكتب والمكتبات وربما حتى الكُتّاب والمؤلفين للإحراق والتدمير وذلك لأسباب سياسية أو دينية أو فكرية. أول محرقة أو هولوكوست في التاريخ ضد الكتب تمت على يد أول إمبراطور صيني وهو تشي هوانغ الذي أمر بحرق كل الكتب الموجودة في عصره ودفن العلماء ورجال الدين. ثم توالت وتتابعت الجرائم ضد الأوراق كما حصل مع إحراق مكتبة الإسكندرية وإحراق وإغراق مكتبات بغداد على يد المغول وإتلاف الكتب الإسلامية في الأندلس على يد النصارى الكاثوليك وتدمير وقصف مكتبة سراييفو ذات الارث الإسلامي على يد الصرب الأرثودوكس في زمن ليس ببعيد عنا. وإجرام النصارى في تدمير ثقافات الشعوب تكرر في بقاع وأزمان أخرى كما حدث من حرق كتب ومخطوطات شعوب المايا والأزتك في المكسيك أو كتب حضارة التاميل في سيريلانكا ولنصل لخاتمة المأساة ممثلة في محرقة النظام الألماني النازي لعشرات الألاف من الكتب في الشوارع والميادين. حملات التطهير بالنار ضد الأفكار والعقائد لأي فكر مطروح ومتداول عبر الكتب ألهمت واحدة من أقوى الروايات الفنية في أدب الديستوبيا: أدب الخراب والشر المستقبلي ألا وهي رواية (فهرنهايت 451) للأديب الأمريكي راي برادبري. عنوان تلك الرواية يشير لدرجة الحرارة التي يبدأ فيها الورق بالاشتعال وهي تعكس فكرة الرواية عن قيام نظام شمولي يقمع الآراء والأفكار عن طريق حرق جميع الكتب التي في العالم.

في ختام المقال وبعد هذا التطواف شرقا وغربا وبعد الاستفاضة والإسهاب ربما من الملائم أن أعترف أنه كثيرا ما يصعب على (إقفال المقال) وهي حالة خلل في مهارات الكتابة ربما جربها وتجرع مرارتها كل من يكتب باستمرار. تشتت ذهن الكاتب أو نضوب الإلهام يعرف بمصطلح (قفلة الكاتب Writer's block) والبعض يعطيها تسمية أكثر تشويقا وهي (متلازمة الصفحة البيضاء) وكأن الكاتب أو المؤلف يتوقف بعد فترة من الكتابة ولا يستطيع قلمه تسطير وكتابة العبارات. أما وقد وصلت إلى هذه الفقرة أيها القارئ العزيز فإنا إذا أشكر لكم تلطفكم النبيل بهذه المتابعة أود أن أختم لكم المقال بذكر حالة (قفلة القارئ Reader's block). في هذه الحالة النفسية الغريبة يصعب على القارئ أن يكمل قراءة كتاب أو مقالة حيث يصاب إما بالملل أو تشتيت الذهن أو بالرغبة الملحة في (التغيير والتجديد) ولهذا ربما يطلق على هذا النوع من الاختلالات النفسية في العلاقة مع الكتاب وصف (متلازمة الكتاب اللامع shiny book syndrome). وهنا يصبح القارئ في حالة اضطراب وعدم ثباتيه واستعجال ولا يصبر على قراءة أو تصفح كتاب أو رواية أدبية واحدة ويتنقل بسرعة بين الكتب. فبعد أن يقرأ من أي كتاب عدد من الصفحات أو فصول قليلة يهجر الكتاب ويتطلع إلى كتاب جديد وكأنه بهذا مثل الطفل الغر الذي تعجبه الأشياء البّراقة والامعة ولا يكتفي بلعبة واحدة. وأنا أكرر شكري وتقدير للقارئ الكريم الذي وصل إلى نهاية المقال فهو فلا شك أنه سليم ومعافى من الاختلال النفسي المسمى (قفلة القارئ) وهذه شهادة يشرفني أن أسجلها له !!.

( سياحة الكتب )

عشق السفر والثقافة بين أقدم مكتبة وأكبر متجر كتب 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 لأهل الثقافة والمتعة سوف يتزامن هذا الأسبوع حدثان مميزان وقطعا لا أقصد توافق انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب مع اليوم الدولي للقهوة والذين يتزامن حدوثهما معاً في نفس يوم الجمعة القادم الأول من شهر أكتوبر. من وجهة نظري تمازج وتداخل (الثقافة مع المتعة) خلال هذه الأسبوع ينعكس في أرقى مظاهرة بتقارب يوم السياحة العالمي (يوم الاثنين القادم) مع موعد افتتاح معرض الكتاب الدولي. السفر لأجل الكتاب ظاهرة ثقافية لا يقوم بها إلا نخبة النخبة في القديم والحديث ولهذا تم في تراث التاريخ الإسلامي تخليد ذكر (الرحلة في طلب العلم) ومن ذلك أخترق الآفاق لجمع الكتب وحزم الأوراق. وفي زمننا المعاصر نجد العلامة والرحالة حمد الجاسر عندما جاب الآفاق شرقا وغربا وهو ينقب عن المخطوطات ويقلب الكتب في مكتبات العالم العربي والدول الأوروبية وثق ذلك في كتابه الماتع (إطلالة على العالم الفسيح) وكأنه بذا يلخص العلاقة الوثيقة بين السفر والكتاب. وإذا كان في حالة العلامة حمد الجاسر رحمة الله الكتاب قاد إلى السياحة والسفر فإن السفر قاد إلى الكتاب في حالة عميد الرحالة العرب الشيح محمد بن ناصر العبودي حيث صدر له متعه الله بالصحة والعافية 143 كتاباً مخصصة لتوثيق (يوميات) رحلاته المتعدد في أرجاء بلدان العالم.

السياحة والسفر تعلم الحكمة وقد تورث الإبداع والإشراق في فن الكتابة وخير مثال على ذلك أحد أشهر الرحالة الدوليين في الوقت المعاصر ألا وهو البريطاني بروس تشاتوين الذي ليس فقط برع في (أدب الرحلات) بل وظف الأماكن والأحداث التي عاشها أثناء السياحة والسفر في العديد من رواياته الأدبية رفيعة المستوى. السياحة تثمر كتبا ومجلدات ليس فقط في مجال التاريخ والأدب والجغرافيا، ولكن أيضا تنتج كتبا ومؤلفات ذات فائدة كبيرة لهواة السفر وهي الكتب المسماة (كتب الدليل السياحي travel guides) وبعض الكُتّاب ذوي الشهرة العالمية تخصص في هذه الثنائية بين السياحة والكتاب كما هو حال الكاتب الأمريكي يوجين فودور الذي بيع من كتبه السياحية عبر العالم مئات الآلاف من النسخ.

من هذا وذاك نعلم الصلة الوثيقة بين الكتاب والسياحة فكلاهما انتقال وإبحار في عالم الحقيقة ودنيا المجاز وأتوقع أنه بمشيئة الله ومع انطلاق فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب سوف نجد الآلاف من المسافرين يصلون لمدينة الرياض لا لشيء إلا للسياحة الثقافية في أورقة معرض الكتاب. وعلى قاعدة الشيء بالشيء يذكر فقد كتبت مقالا ثقافياً قبل عدة سنوات حمل عنوان (المكتبات .. وجهه سياحية منسية) ناقشت فيه كيف يمكن أن تكون المكتبات (العامة) خيار وفرصة سياحية من الدرجة الأولى. ولكن في المقابل (جاذبية) المكتبات التجارية التقليدية ومعارض الكتب ومقرّات دور الطباعة والنشر لتصبح وجهة سياحية أمر ما زال يحتاج للكثير والكثير من التنشيط السياحي.

إسبانيا ثاني دولة في العالم في عدد السياح القادمين إليها ومن الملايين الذي يصلون إلى مدريد قد يرغب عشرات الآلاف منهم زيارة مكتبة الإسكوريال في ضواحي العاصمة إن لم يكن لقيمتها الثقافية فلا أقل من أجل فخامة القصر الملكي الذي توجد فيه والذي هو من مواقع التراث العالمي. في المقابل لا تعتبر دولة البرتغال ذات مصدر جذب كبير في سوق السياحة الدولية ومع ذلك أتوقع أنه على مستوى العالم يوجد الآلاف من عشاق الكتب (وأرجو أن أكون منهم يوما ما) قد يتجشمون وعثاء السفر للوصل مدينة لشبونة العاصمة البرتغالية لا لشيء إلا لزيارة (المكتبة التجارية) برتراند والتي تعتبر أقدم متجر بيع كتب bookstore في العالم والتي أنشأت قبل حوالي ثلاثة قرون.

بالمناسبة بعض المكاتب التجارية لبيع الكتب على درجة عالية من الجاذبية السياحية ليس لتاريخها العريق، ولكن لارتباطها الوثيق بالحركة الثقافية والأدبية العالمية. بمغادرة البرتغال وإسبانيا والاتجاه جنوبا عبر مضيق جبل طارق نصل إلى مدينة طنجة المغربية والتي وضعها على خارطة الأدب العالمي كلا من الكاتب الأمريكي بول بولز (عاش أغلب سنوات عمره في طنجة وتوفي بها) والروائي المغربي المشهور عالميا محمد شكري. قديما قرأت رواية محمد شكري (الخبز الحافي) التي تحكي حياة التشرد والمجون في مدينة طنجة وعرج فيها لذكر ارتباطه الوثيق بالأديب بول بولز لدرجة أنه تقريبا هو من اقترح له عنوان الرواية وهو من ترجمها له إلى اللغة الإنجليزية وتسبب في شهرته العالمية. ولاحقا تبين لي أن ما يجمع محمد شكري مع بول بولز وعدد كبير من أشهر الأدباء الأمريكان بعد الحرب العالية الثانية مثل تينيسي وليامز ويليام بوروز وترومان كابوتي هي اجتماعاتهم الأدبية في إحدى المكتبات التجارية بمدينة طنجة. تلك كانت مكتبة (كولون) التي دشنتها في منتصف القرن العشرين عائلة جيروفي البلجيكية والتي بفضل شبكة معارفها الواسعة أصبحت تلك المكتبة نقطة تجمع جمهرة من الأدباء والكتاب من أمريكا وفرنسا وإسبانيا. وبحكم أن مكتبة كولون (مكتبة الأعمدة Les colonnes) هي بالفعل أحد أعمد الحركة الثقافية والأدبية في المغرب لهذا أصبحت مزار سياحي للنخبة من عشاق السفر بهدف المعرفة والثقافة.

يحدث كثيرا في السفر والرحلات السياحية أنك تعلم (لاحقا) أن المكان الذي سبق وأن زرته يحوي معلما سياحيا أو ثقافي بارز جدير بالزيارة وهذا ما تكرر معي كثيرا. الحي اللاتيني بمدينة باريس هو مركز الثقافة بامتياز في فرنسا كلها وفي آخر زيارة لي لمدينة باريس مع بعض الفضلاء وبحكم أننا أقمنا في فندق في الحي اللاتيني بباريس أخذت أتردد على بعض المكتبات التجارية المنتشرة فيه ووجدت أن الغالبية العظمى منها لا تحتوي إلا الكتب الفرنسية فقط على عادة الفرنسيين في التعصب للغتهم القومية. وحسب الإحصاءات الرسمية الفرنسية يذكر أن مدينة باريس يزورها سنويا أكثر من 30 مليون سائح ولهذا يستغرب جدا قلة الكتب فيها بغير اللغة الفرنسية. على كل حال تبين لي لاحقا (وهذه من الفرصة السياحية الضائعة) أن أحد أهم المكتبات التجارية الدولية ارتباطا بالثقافة والأدب هي مكتبة (شكسبير آند كومبني) والتي تعتبر ولمدة زادت عن قرن من الزمان هي معقل الثقافة الإنجليزية في باريس حيث تردد عليها عدد كبير من مشاهير الأدباء الذين تسكعوا في شبابهم في جنبات الحي اللاتيني من مثل أرنست همنغواي وجيمس جويس وهنري ميللر وفيتزجيرالد وغيرهم كثير. الغريب أن هذه المكتبة تناسب سياح الثقافة كثيرا لأنها تقوم كذلك بتأجير بعض الغرف فيها للإقامة كفندق وما أجملها من إقامة ومنام بين أحضان الكتب وبالقرب من مقاهي باريس الراقية الوقعة على ضفاف نهر السين وفي مقابل كاتدرائية نوتردام الشهيرة.

في حين يصعب العثور على كتاب باللغة الإنجليزية في المكتبات التجارية الباريسية يختلف الوضع جذريا في قلب العاصمة البريطانية لندن وبالذات جنبات شارع تشيرنغ كروس Caring Cross الذي يوصف بأنه شارع المكتبات والذي له شهرة عالمية وثقافية واسعة ليس فقط لأنه أكثر موضع يحتوي على مكتبات تجارية ذات سمعة دولية عريقة جدا ولكن أيضا لاحتوائه على أم المكتبات (مكتبة فويل). حسب موسوعة جينيس للأرقام القياسية تعتبر مكتبة فويل Foyles الواقعة في قلب لندن هي أضخم مكتبة تجارية في العالم حيث تحتوي عدة ملايين من الكتب في مبناه الضخم ذي الستة طوابق هذا بالإضافة لعراقتها التاريخية حيث إنها فتحت أبوابها قبل حوالي 120 سنة. أثناء الدراسة في بريطانيا ترددت كثيرا على هذه المكتبة في مبناها القديم الأشبه بالمتاهة وكما زرت عددا من مكتبات ذلك الشارع الأسطوري ومع ذلك لم ترتوي الروح من عشق تلك المكتبة ففي خلال السنوات الماضية وفي مرات لا تحصى كنت ولا زلت أحلم في منامي أنني أذهب لمدينة لندن لا لشيء إلا لزيارة تلك المكتبة الهائلة التي استولت على مشاعري.

وقبل مغادرة الحديث عن مدينة لندن وعلاقتها الوثيقة بسياحة الكتب لا ينبغي أن نغفل ذكر مكتبة الساقي الشهيرة والتي يقع مقرها الرئيسي في حي نوتنغ هيل ذو الشهرة العالمية. في بداية ظهور مكتبة الساقي كانت تهدف لنشر الكتب الإنجليزية المتعلقة بتاريخ وسياسة الشرق الأوسط ثم توسعت في نشر الكتب العربية بمختلف مواضيعها واليوم تعتبر (دار الساقي) بمثابة الجسر بين الثقافة الغربية والعربية وهي بهذا معلم سياحي عربي مهم. وبمثل هذا الجسر الثقافي سوف ننتقل ونعود من المكتبات التجارية الأوربية إلى المكتبات التجارية العربية الجديرة بالزيارة لأهميتها الثقافية والتاريخية.

 سياحة المكتبات في الشوارع العربية

بلا أدنى شك أكبر تجمع للمكتبات التجارية العربية ذات الأسماء الرنانة في عالم الثقافة العربية هي تلك المكتبات المبثوثة في منطقة (وسط البلد) في مدينة القاهرة. في مطلع هذا الكتاب عرّجنا على ذكر الرحالة وعلامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر رحمة الله والذي يعتبر أحد أشهر محبي الكتب والمخطوطات. ومن الأشياء الطريفة في حياته أنه وفي عمر 79 سافر لمدينة ميونخ لإجراء فحوصات طبية لقلبه المرض وبالرغم من وعثاء رحلة السفر الطويلة عبر قبرص على الشيخ الكبير والذي يحتاج للراحة التامة بعد أن وصل لفندقة آخر الليل إلا أنه صباح اليوم التالي ذهب مباشرة في نهار شهر رمضان إلى مكتبة ميونخ الوطنية لمطالعة المخطوطات العربية. عشق الكتب يدفع المحب لاستعجال اللقاء وقد حدث ذلك معي في أول زيارة لي على الإطلاق لمدينة القاهرة فبمجرد ما أن وصلت مع رفيق السفر العزيز لمطار القاهرة قبل الغروب إلا ونحن بعد تأمين شقة السكن ننطلق بعد العشاء لمنطقة وسط البلد لشراء بعض الأغراض ثم البحث عن مكتبة (مدبولي). وبالعودة للاستشهاد بالعلامة حمد الجاسر حدث وأن دُعي من قبل الحكومة المصرية مع وفد صحفي سعودي فكان أن تم استضافتهم في فندق سميراميس الفخم المطل على نهر النيل بينما العلامة الجاسر اعتذر منهم وسكن في فندق صغير تكلفة الليلة فيه أقل من نصف جنيه ويطل على حديقة الأزبكية. وربما دافعه لذلك أن تكون إقامته بأرض المحروسة بالقرب من سور الأزبكية المشهور في عالم الثقافة بكثرة المكتبات المتخصصة في الكتب القديمة والنادرة والمخطوطات. وفي آخر زيارة لي لأرض مصر والتي كانت لأجل مهمة أكاديمية في مدينة المنصورة وعندم علم مضيفي أنني أرغب في الرجوع لمدينة القاهرة وقضاء عدة أيام بها عرض بعض الكرام أن أسكن بشقتهم الخالية بالقاهرة، ولكنني استعضت عن ذلك بالسكن في أصغر غرفة فندقية نزلت فيها على الإطلاق في حياتي وكانت في بانسيون متواضع يطل على ميدان طلعت حرب. ما جذبني في ذلك الفندق أنه يقع مباشرة فوق مكتبة مدبولي وفي الطرف المقابل لمدخل العمارة يمكن أن أشهاد مكتبة الشروق الذائعة الصيت هذا بالإضافة لتسع مكتبات أخرى كلها حول منطقة ميدان طلعت حرب. وخلال تلك الأيام تعددت الغارات الصباحية والمسائية لي حول مكتبات منطقة وسط البلد وخصوصا العريقة منها مثل مكتبة الأنجلو ومكتبة دار الهلال ومكتبة الجامعة الأمريكية ومكتبة وهبة ومكتبة مصر والهيئة العامة المصرية للكتاب.

 بالمناسبة مثل هذا التزاحم الكثيف للمكتبات التجارية في وسط القاهرة أو في حي الحبوس بالدار البيضاء أو شارع المتنبي في بغداد أو مكتبات شارع السلط في العاصمة الأردنية عمان أو مكتبات شارع الحلبوني في وسط دمشق تدل أنه حتى وإن كانت الحالة المادية للشعوب العربية منخفضة نسبيا إلا إن للكتاب رونقه وأهميته في حياة الشعوب. البعض يحذر من انقراض الكتاب الورقي ومع ذلك نجد أنه في عام 2014م يتم افتتاح المبنى الضخم لمكتبة فويل السابقة الذكر كأكبر مكتبة تجارية في العالم. والأغرب من ذلك أن شركة أمازون التي تعتبر أكبر موزع تجاري للكتب الإلكترونية بدأت منذ سنوات في افتتاح سلسلة من المكتبات التقليدية Amazon Books في مختلف المدن الامريكية وقد شاهدت أحدها في مدينة نيويورك فلو كان الكتاب الورقي لا مستقبل له لأكتفت شركة أمازون بتوزيع الكتاب الرقمي.  أما الظاهرة الثقافية التي تؤكد أن (سوق الكتاب) ما زال بخير إلى حدا ما فهي المهرجانات السنوية التي تقام في أغلب الدول تحت عنوان (معرض الكتاب الدولي). ونحن الآن في أجواء معرض الرياض الدولي للكتاب نتوقع أن يقصده عشرات الآلاف من المسافرين بينما يتقاطر السواح العرب من كل حدب وصوب كل سنه لحضور معرض القاهرة الدولي للكتاب. ومع ذلك يبقى معرض الشارقة الدولي للكتاب حالة فريدة في الإقبال على الكتاب ليس فقط على المستوى الإقليمي، ولكن حتى المستوى الدولي. عدد سكان إمارة الشارقة حوالي مليون ونصف ما بين مواطن ومقيم بينما كان عدد زوار معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2019 (أي قبل جائحة كورونا) ما يزيد عن مليونين ونصف زائر حسب الإحصاءات الرسمية لهيئة الشارقة للكتاب. وحتى بحذف نصف هذا الرقم المذهل من زوار وعشاق معارض الكتب فهذا يعني أن مئات الآلاف من السياح من خارج الإمارات سافروا للمشاركة في فعالية (سياحة الكتب).


الجمعة، 7 يناير 2022

( الولايات المتحدة وحتمية الاضمحلال )


 أمريكا من حاكم العالم إلى رجل الغرب المريض

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

كم عدد الإمبراطوريات أو الدول الكبرى في التاريخ البشري ؟ سؤال يصعب الإجابة عليه وإن كانت بعض المصادر تشير إلى أنها في حدود  250 إمبراطورية ومملكة كبرى تبدأ بالإمبراطورية السومرية في العراق قبل حوالي 4500 سنة وتنتهي بالإمبراطورية السوفيتية التي تفككت قبل حوالي ثلاثين سنة. تلك الإمبراطوريات والحضارات الكبرى كان مصيرها إلى زوال وهذه سنة الله الجارية ولهذا كانت العبر تستلهم ممن غبر كما قال خطيب العرب في الجاهلية قس بن ساعدة الإيادي (يا معشر إياد .. أين الآباء والأجداد .. وأين الفراعنة الشداد). 

وعليه فإن ما يوصف بالقوى العظمى superpowers من الدول الكبرى في عالم اليوم مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا مصيرها إلى زوال هي الأخرى طال الزمن أم قصر. ربما أحد أهم الكتب ذات الأثر الكبير في مجال دراسة زوال الإمبراطوريات الكبرى هو كتاب (تاريخ اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية) من تأليف المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد جيبون. الجدير بالذكر أن هذا الكتاب ظهر في أواخر القرن الثامن عشر وبالتزامن تقريبا مع صعود وظهور الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها ولهذا البعض يقول إن المؤرخ جيبون لم يكن يهتم بالماضي وإنما اهتمامه الأكبر بالمستقبل وكأنه يحذر رجال السياسة وأهل الحل والعقد في بلده من خطورة العوامل التي تؤدي إلى (اضمحلال decline) وزوال الدول الكبرى.

بعد صدور كتاب إدوارد جيبون بحوالي مئتين سنة ظهر الكتاب الثالث في الأهمية (الكتاب الثاني بدون جدال كتاب المؤرخ الألماني أوسفالد شبينغلر: تدهور الحضارة الغربية) في مجال زوال الإمبراطوريات ألا وهو كتاب (صعود وسقوط القوى العظمى) للمؤرخ والمفكر الإنجليزي الأصل المقيم في أمريكا بول كينيدي. في نهاية الثمانينات من القرن العشرين بدأت إمبراطورية الاتحاد السوفيتي بالترنح وعلى وشك السقوط وفي هذا التوقيت الذي يستعد فيه البعض لتتويج الولايات المتحدة على عرش القوة العظمى الوحيدة والمنفردة بالهيمنة عالم كان لبول كينيدي رأي ونبوءة أخرى. النظرية التي توصل لها بول كينيدي أن الدول والقوى العظمى تتعرض لمرحلة (الاضمحلال) كما سوف يحصل لاحقا مع أمريكا عندما يحصل لها تمدد إمبريالي مفرط وتوسع عسكري يستنزف مواردها الاقتصادية حتى تصل لمرحلة أفول القوة الحربية جراء الانكماش الاقتصادي. بعد ظهور ذلك الكتاب أصبح بول كينيدي من مشاهير المفكرين في المجتمع الأمريكي ونجم إعلامي معروف جذب حوله العديد من الأمريكان الذين تقبلوا نظريته عن الاضمحلال لدرجة أنه أصبح يطلق عليهم (الاضمحلالين Declinists). 

من غرائب تصريحات أصحاب مبدأ الاضمحلالية Declinism أنه في الوقت الذي يتفق أغلب المؤرخين أن بداية الهيمنة الأمريكية على العالم في القرن العشرين (الملقب بالقرن الأمريكي) بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية ومع ذلك نجد أن المفكر الأمريكي المعروف نعوم تشومسكي يقرر أن الاضمحلال الأمريكي بدأ في نفس تلك الفترة. بينما مفكرين أمريكان آخرين من المشاهير مثل صموئيل هنتنغتون وتوماس فريدمان يتبنون فكرة أن الولايات المتحدة تعرضت لموجات متتالية من الاضمحلال وأننا الآن في منتصف الموجة الخامسة (أو ربما السادسة بعد الهروب الكبير من أفغانستان). ويبدو أنه إلى درجة ما نجد أنه حتى رؤوسا الولايات المتحدة لديهم اهتمام بالاطلاع على الأفكار والنظريات التي تناقش (حتمية) اضمحلال وانحدار الهيمنة الأمريكية. ومن ذلك مثلا تلك الضجة الإعلامية عندما نشرت جريدة النيويورك تايمز صورة فوتوغرافية للرئيس الأمريكي باراك أوباما وهو يحمل نسخة من كتاب (عالم ما بعد أمريكا) للصحفي الأمريكي المسلم ذو الأصول الهندية فريد زكريا وصاحب البرنامج الشهير في قناة سي إن إن.

في مستهل المقال ذكرنا أن أعداد الإمبراطوريات والممالك الكبرى في التاريخ البشري يقارب 250 إمبراطورية وبهذا العدد الضخم تتنوع مسارات نشوئها وازدهاره ثم انحدارها. ومن الأبعاد الهامة في تاريخ الإمبراطوريات مدة استمرارها والتي تتفاوت بشكل كبير وعجيب فمثلا الإمبراطورية الرومانية استمرت لمدة خمسة قرون بينما الإمبراطورية التي أنشأها الإسكندر الأكبر المقدوني لم تستمر إلا لمدة 12 سنة وثمانية أشهر فقط. ومن الطرائف أنه منتصف الثمانينات من القرن العشرين (القرن الأمريكي) وعندما تراجع معدل نمو الاقتصاد الأمريكي بالمقارنة مع نمو الاقتصاد الياباني والألماني عندها تزايد الحديث احتمالية الاضمحلال الأمريكي. ولذا علق أحد الاقتصاديين الأمريكيين بحرقه (لماذا إذا كانت الإمبراطورية البريطانية قد دامت قرنين من الزمن يكون مصيرنا أن نضمحل بعد 50 عاماً فقط). ربما أحد أسباب التناقص الحاد في زمن استمرار الإمبراطوريات الحديثة بالمقارنة مع الإمبراطوريات القديمة يرجع لما يمكن تسميته (انتقام الجغرافيا). في الواقع لدي قائمة خاصة بأسماء الكتب التي أرغب في شرائها ومن ثم قراءتها ويقع على رأس تلك القائمة كتاب (انتقام الجغرافيا) للمؤرخ والكاتب السياسي الأمريكي روبرت ماكلان. للأسف لم أطلع على هذا الكتاب بعد لكن عنوانه الأخاذ ألهمني فكرة تعليل تناقص عمر الإمبراطوريات الكبرى مع الزمن. الموقع الجغرافي على درجة عالية من الأهمية لاستمرار الإمبراطوريات لقرون طويلة وتناقص سرعة اضمحلالها فمن ذلك مثلا أن الإمبراطورية الأشورية في العراق القديم استمرت لفترة زمنية قاربت 1600 سنة. 

عندما بدأت الإمبراطورية الأشورية في التوسع اتجهت للأقاليم والممالك القريبة منها في إيران وتركيا والشام ولهذا كان يسهل نسبيا على الأشوريين إرسال الجنود والمحافظة على المستعمرات المحتلة. قارن ذلك بما حصل مع الإمبراطورية البرتغالية التي ظهرت في القرن الخامس عشر الميلادي في أقصى طرف القارة الأوروبية وبسبب (انتقام / أزمة الجغرافيا) لم يكن متاحاً لهذه الإمبراطورية الفتية أن تتوسع في أوروبا أو جنوب البحر الأبيض المتوسط وإنما في أقصى بلاد الأرض وعبر المحيطات والبحار. بالرغم من النجاح الأولي المذهل والهائل للإمبراطورية البرتغالية التي تستحق بجدارة أكثر من الإمبراطورية البريطانية أن تحمل لقب بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (عدد البلدان التي احتللتها البرتغال تقارب حوالي 60 بلد في جميع قارات الأرض)، بالرغم من هذا النجاح إلا أن كلفة الاحتفاظ بهذا الملك المترامي الأطراف كانت باهضه. للمحافظة على مستعمراتها النائية في البرازيل أو بعض الجزر الإندونيسية كان على إمبراطورية ما وراء البحار البرتغالية أن تملك أسطول ضخم من السفن وعدد كبير من المدن والموانئ البحرية. ولهذا لم تستطع البرتغال من السيطرة على المستعمرة البرازيلية الهائلة المساحة لأكثر من قرن ونصف. هذه الصعوبة في السيطرة على المستعمرات النائية عن الإمبراطوريات الأوروبية المتطرفة جغرافيا تكررت مع الإمبراطوريات الإسبانية والهولندية والبريطانية والسويدية. ولهذا لا عجب أن يتزامن سقوط الإمبراطورية البرتغالية مع استقلال البرازيل عنها في العشرينات من القرن التاسع عشر وعلى نفس النسق تلاشت الهيمنة البريطانية الدولية مع استقلال الهند عنها عام 1947 ميلادي.

لطالما تفاخر الأمريكان عن اطمئنانهم من غوائل الاعتداء عليهم في عقر دارهم لأنهم يعيشون منعزلين عن العالم ومحميين بمحيطين هائلين على حدودهم الشرقية والغربية. ومع ذلك تعتبر الولايات المتحدة تمثيل صارخ لكارثة (انتقام/أزمة الجغرافي) لأنها حاليا تحكم وتهيمن على دول العالم عن بعد ومن وراء ستار المحيطات المائجة. ولتحقق أمريكا همجية الهيمنة hegemony على شعوب الأرض تحتاج أن يكون حجم أسطولها البحري مساوي في الحجم مجموع أساطيل السبعة عشر دولة التالية له في الترتيب وأن تكون تكلفة فاتورة الميزانية العسكرية الأمريكية أكثر من ثلث مجموع الميزانيات العسكرية لكل دول العالم بمبلغ يزيد سنويا بأكثر من 500 مليار دولار.

قديما لخص طيب الذكر المتنبي الفاتورة المستحقة لمن أراد السيادة والهيمنة:

لولا المشقةُ سادَ الناس كلهمُ         الجُود يفقر والإقدامُ قتّالٌ

وهذا واقع أمريكا في سعيها لسيادة وقيادة العالم لازم أن تحثوا المال وتبعثره يمينا وشمالا كما يجب عليها أن ترسل أبنائها وجنودها للذبح في ساحات القتال مع ما في ذلك من المخاطرة السياسية بفقدان أصوات الناخبين وغضبهم كما حصل في المظاهرات المناوئة لحرب فيتنام. الأرقام السابقة للأساطيل البحرية والميزانية العسكرية تلخص حجم العبء المالي الكبير على الدول العظمى ومن هنا نفهم نظرية بول كيندي المتعلقة بأن من أهم أسباب سقوط القوى العظمى هو تمددها الإمبريالي وتوسعها العسكري المفرط الذي يستنزف الاقتصاد ومن ثم يتسبب في انهيار مالي مريع. ومن مظاهر الانكماش الاقتصادي الحالي للأمة الأمريكية تعرضها للكارثة الكبرى الناتجة من التصاعد المستمر والحاد للدين العام للحكومة الأمريكية والذي يزيد حاليا عن 18 ترليون دولار (18 مليون مليون) وهو أكبر مديونية على الإطلاق في تاريخ البشرية. في كتابه (العملاق: صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية) حذّر الاقتصادي البريطاني المعروف نيل فيرجسون بأن الطريقة التي تتدهور بها الإمبراطوريات تبدأ (بانفجار المديونية) وهو توصيف دقيق لحال الوضع الاقتصادي للعم سام.

 وفي الختام نود التفريق بين أمرين وهما: الاضمحلال المطلق والاضمحلال النسبي. ونقصد (باضمحلال المطلق) التدهور والسقوط التام للأمة الأمريكية كما حصل للإمبراطورية الرومانية عندما اجتاح البرابرة والهمج القوط مدينة روما وسيطروا عليها ومثل هذا السيناريو التاريخي المذهل نستبعد وقوعه بأن تضمحل القوة الأمريكية تماما لدرجة أن يهجم المكسيكيين المتخلفين على الأراضي الأمريكية ويحتلوا العاصمة واشنطن. أما (الاضمحلال النسبي) وهو زحزحة الولايات المتحدة من مقعد قيادة العالم وأنهاء عصر (القرن الأمريكي) فهذا أمر حتمي بدليل ما ذكرناه سابقا من تتابع الإمبراطوريات والممالك الكبرى عبر التاريخية وحسب الحكمة المشهورة (لو دامت لغيرك ما وصلت إليك). 

ويبقى سؤال المليون كما يقال: متى سوف ينتهي القرن الأمريكي وتُسلم الراية للصين أو أي قوة دولية عظمى أخرى (أو تحالف دول عظمى)؟. يصعب الإجابة على ذلك ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي قدم في عام 2012م تقريراً للرئيس الأمريكي أوباما تقرير حمل عنوان (الاتجاهات العالمية عام 2030 .. عوالم بديلة). كما يتضح من عنوان هذا التقرير أنه يوجد احتمالية لعوام بديلة وأن العالم سوف يتغير بحلول سنة 2030 ومن أهم ما ورد في ذلك التقرير أن الدول الأسيوية بمجملها سوف تتفوق على أمريكا وأوروبا. وأن عالم (القطب الواحد) الذي كانت تهيمن عليه أمريكا سوف ينتهي ومع خسارة الولايات المتحدة للهيمنة على العالم إلا أنها عند بلوغها ذلك التاريخ من المحتمل أن تبقى الدول الأقوى في العالم ولكن بدون هينمة وسيطرة منفردة. والعام عند الله.

 

( عنوان روائي لذكرى أحداث 11 سبتمبر )


 ذكرى أحداث سبتمبر بين الأدب وعلم النفس

د. أحمد بن حامد الغامدي

 

اليوم السبت هو اليوم الموافق للحادي عشر من سبتمبر وعليه يستعيد ويستحضر الشعب الأمريكي على عادته السنوية الأحداث الكبرى التي هزت العالم بأجمعه وقت تدمير برجي التجارة العالمية وقصف مبنى البنتاجون وهي الرموز الاقتصادية والعسكرية للمجتمع الغربي بأكمله. في الذكرى الأولى لأحداث الحادي عشر من سبتمبر يمكن توصيف ردة فعل الشعب الأمريكي حيال هذا الاعتداء بأنه رد (الصخب والعنف The Sound and the Fury ) على اسم الرواية المشهورة للأديب الأمريكي ويليام فوكنر الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1949 ميلادي.  في تلك السنة وسائل الإعلام الأمريكية ملأت الدنيا صخبا وضجيجا ضد كل من لم يتعاطف معهم بينما آلات الحرب الأمريكية صبت حميم عنفها وغضبها على رؤوس الأبرياء من أهل العراق وأفغانستان.

هذا ما كان قبل عقدين من الزمن واليوم وفي الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر يبدو مع المستجدات السياسية والعسكرية الأخيرة التي حصلت في شهر أغسطس الماضي أن نظرة الشعب والحكومة الأمريكية عما حدث في مانهاتن وكابل قبل عشرين سنة سوف تختلف جذريا. بالعودة للكاتب الأمريكي ويليام فوكنر له رواية أخرى تحمل عنوان (الضوء في أغسطس Light in August) ولعلنا نستعير هذا العنوان وكأنه أنوار كاشفة تنير الدرب للشعب الأمريكي الذي كان يعيش في ظلام الخداع بأنهم انتصروا قبل عشرين سنة في حربهم على الإرهاب. أضواء أغسطس الماضي كشفت زيف زعم الرئيس الأمريكي جورج بوش الأبن بأن (المهمة انتهت mission accomplished) وأنهم بعد تدمير العراق يسهل جدا السيطرة على أرض الأفغان التي يقاتلهم بها مجموعة من المحاربين من أهل الكهوف. منذ بدايات تلك المعركة (المشبوهة) في الحرب على الإرهاب والجميع يعلم (باستثناء الشعب الأمريكي) أن الحكومة الأمريكية الإمبريالية والرأسمالية تختلق وتصنع عدو من الوهم يتم توظيفه كشماعة وكساتر دخان لتغطية الإرهاب الأمريكي على الإنسانية. وبحكم أن الحرب على أفغانستان كانت مبنية على أكذوبة فلذا ربما تستحق أن نطلق عليها عنوان الرواية الأمريكية (معركة مشكوك بها in Dubious Battle). تلك الرواية للأديب الأمريكي البارز جون ستاينبيك والحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1962م والذي بالمناسبة كان من الإلزام على طلاب الثانوية في زمن الطيبين أن يقرؤا قصته القصيرة (اللؤلؤة the Pearl) في مادة اللغة الإنجليزية وتلك الرواية اللؤلؤية تكشف أبعاد الطمع البشري الوضيع والذي ينعكس اليوم في رجال السياسة والاقتصاد الأمريكيان. وعندما انتهت تلك الحرب المشبوهة على الأفغان ختمت بخزي كبير للجيش الصليبي (ألم يقل الرئيس جورج بوش أنها حرب صليبية) الذي اعتقد البعض أنه لا يهزم وإذا به يفر وبشكل متعجل من أرض المعركة مخلفا وراءه عشرات الآلاف من القطع الحربية التي غنمها المجاهدين من رجال الأفغان. ولا أعلم عندما ترك الجندي الأمريكي على أرض أفغانستان طائراته ودباباته هل ودّع أسلحته وذخائره كما فعل الجدي الأمريكي فريدريك هنري عندما غادر الجبهة الحربية في إيطاليا كما في رواية (وداعا للسلاح A Farewell to Arms) والتي هي من تأليف الأديب الأمريكي إرنست هيمنغواي أبرز روائي أمريكي على الإطلاق والحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1954 ميلادي.

بسبب الكلفة المالية والسياسية الهائلة لغزو أرض الأفغان يرجح العديد من المحللين السياسيين أن الهزيمة والانسحاب الأمريكي من (مقبرة الإمبراطوريات) كان بهدف إعادة التمركز لمواجهة إمبراطورية هائلة اقتصاديا ومتعاظمة سياسيا ألا وهي الصين. وبمناسبة ذكر الصين لعل من الملائم أن نذكر بأن أول امرأة أمريكية تحصل على جائزة نوبل في الأدب وهي الروائية بيرل باك التي عاشت ومنذ الطفولة فترات طويلة من عمرها في الصين لدرجة أنها تعرف أيضا باسمها الصيني ساي زينزو. الرواية الأدبية التي منحت بيرل باك جائزة نوبل في الأدب لعام 1938م هي رواية (الأرض الطيبة The Good Earth) هي في الواقع عن أرض الصين (الطيبة) وليس المقصود بها الأرض الأمريكية التي ينطبق عليها أكثر عنوان الجزء الأخير من ثلاثية بيرل باك الشهيرة ألا وهي رواية (البيت المنقسم A House Divided). من تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر أن تلك الفاجعة الكبرى وحدت المجتمع الأمريكي سواءً للأخذ بالثأر أو المواساة والتلاحم لتخطى الجروح النفسية للكارثة. واليوم في الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر نجد أن المجتمع الأمريكي ينطبق عليه بحق عنوان الرواية الأدبية سابقة الذكر (البيت المنقسم). بعد وصول الرئيس الأمريكي الأهوج دونالد ترامب انقسم المجتمع الأمريكي كما لم يحصل منذ زمن الحرب الأهلية ولهذا أصبحت الأمة الأمريكية بمجموعها حاليا في حالة تشظي وضعف لدرجة أن يهرب جيشها المدجج من فلول الطالبان. 

بقي أن نقول إن المجتمع والقيادة الأمريكية بشيء من السذاجة السياسية ظنوا أن كرامتهم الحضارية التي تمردغت في غبار منهاتن المنثل من ناطحات السحاب سوف ينفض عنها العار بمجرد تدمير مدن العراق وأفغانستان. ثم هذه الأيام عندما انقشع الغبار وزال الوهم وتبين أن قادة الطالبان لم يتم القضاء عليهم وأنهم عادوا للحكم فهذا ولا شك جدد الذكريات الأليمة والأحزان الدفينة للأمة الأمريكية. وكل من يتابع الإعلام الغربي إجمالا والأمريكي بالخصوص يلاحظ هذه الأيام بالذات كثرة استحضار أحداث الحادي عشر من سبتمبر بشكل مكثف ومستفيض. ذلك الجرح النفسي الغائر تم نكأه وأعيد فتحه وتبين لهم أنهم لم يأخذوا بالثأر وإنما هم في واقع الأمر وقعوا في العار والشنار نتيجة هروبهم الفاضح. يقال إن المصائب لا تأتي فرادى وكذلك الذكريات يجر بعضها بعضا والشجا يبعث الشجا كما قال متمم بن نويرة ولذا تذكر الأمريكان فاجعتهم في مدينة سايغون الفيتنامية في سياق إعادة أحياء نكبتهم في مانهاتن. ومن الحيل النفسية التي يتبعها الأمريكان لتقليل وقع وأثر الجروح النفسية هو تخفيف الصدمة بالعلاج بالفن والأدب والتداوي بالدراما. بالرغم من مرور أحداث سياسية وعسكرية جسام على المجتمع الأمريكي مثل الحرب الأهلية واشتراكهم في الحروب العلمية الأولى والثانية إلا أن حرب وهزيمة فيتنام هي أكثر حدث سياسي حصل له انعكاس على الأدب والدراما والأفلام السينمائية. في بحث استقرائي نشر في إحدى المجلات الأمريكية يذكر أن موضوع حرب فيتنام كان المحور الأساسي أو خلفية الأحداث في حوالي 500 رواية أمريكية. 

وفي مجال علم النفس يذكر أن من الاستراتيجيات التي يمكن التي يلجأ إليها الشخص (وربما المجتمع بمجموع أفراده) عند استشعاره للضعف أن يستخدم وربما بصورة غير واعية الآلية الدفاعية النفسية المعروفة باسم (ميكانيزم التعويض الزائد). وهذا يفسر لماذا عندما انهزم الأمريكيان هزيمة مذلة في فيتنام حصل (التعويض النفسي) في إنتاج كم هائل من الأفلام والروايات التي تحاول بالعلاج الدرامي أن تعيد التوازن للروح الأمريكية المكسورة وأنها حققت البطولات الوهمية كما فعل (المقاتل الخارق رامبو) أمام جنود الفيتكونغ الفيتناميين. سابقا كانت الأمة الأمريكية تظن أنها انتصرت على الأعداء في غزوة مانهاتن واليوم بعد اكتشاف الحقيقة المرة لا أستبعد ظهور روايات وأفلام سينمائية (تعويضية) تدور أحداثها في أفغانستان كمحاولة لتخفيف الصدمة النفسية، ولكن كل هذا الجهد سوف يكون تأثيره هباءً منثورا أو كما هو عنوان أشهر رواية أمريكية على الإطلاق (ذهب مع الريح).

( المدينة الـ 100 )


 مدينة شكودرا الألبانية وموعد غير متوقع

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

السفر ترويح للبدن ومتعة للعقل ومغامرة للروح ولهذا يسهل الانزلاق فيه لحد الإدمان فيصبح المهووس منا بالسفر المتكرر كمن يخطط لوجبة العشاء وهو بعد يتناول غداءه. حتى الآن بحمد الله زرت 44 بلد وبحكم اهتمامي بالتوثيق أقوم بتسجيل العديد من المعلومات عن هذه الرحلات فأنا أعلم بالضابط أنني زرت مثلا 58 متحف حول العالم كما شاهدت 37 نهر مائي في مختلف القارات. وفي سياق الهوس بالسفر والحرص على توثيق (الأخبار في الأسفار) حصل في مطالع عام 2020م وفي آخر رحلة خارجية أن سجلت المعلومة التالية: مدينة فاليتا عاصمة جزيرة مالطا هي المدينة رقم (98) في قائمة المدن التي زرتها خارج المملكة. وهذا يعني أنه من المحتمل في أقرب سفرية للخارج بمشيئة الله أن أزور المدينة رقم (100) ولهذا يجدر الاستعداد المبكر لاختيار مدينة مميزة جدا لمثل هذا الرقم والحدث المميز. كان التفكير الأولي بأن تكون الزيارة لمواقع أرغب فيها إما لأهميتها التاريخية مثل عاصمة المكسيك القريبة من مواقع آثار حضارة المايا أو مدينة طوكيو لرمزيتها الفائقة في التقدم المدني والحضاري.

ثم كان قدر الله ومشيئته أن تعطل عالم السياحة والسفر بسبب جائحة الكورونا وتقلصت كثيرا خيارات السفر للخارج بعد أن سمح به في الأشهر الأخيرة. وفي ظل هذه الظروف جعلت من محددات اختيار السفر المستقبلي أن تكون الدولة الجديدة عدد حالات مرض الكورونا بها منخفضة ويفضل أن تكون رحلات الطيران مباشرة لها بدون المرور (ترانزيت) على مطار أي دولة أخرى. كما يفضل أن تكون تلك الدولة تسمح للسعوديين للدخول لها بدون تأشيرة مسبقة وبدون اشتراطات محددة فيما يتعلق بالاحتياطات لوباء الكورونا. وعليه وجدت بعد البحث والتدقيق ومحالة الحجز لأكثر من دولة أن الخيار المتاح والمتبقي لي ينحصر في دولة (ألبانيا). وبحكم أنني وأسرتي سوف نصل للعاصمة تيرانا (المدينة الـ 99) فعلية سوف تكون المدينة (الـ 100) التي كنت أحلم بأن تكون مميزة فإذا بها تصبح مدينة (شكودر) الألبانية المجهولة بالنسبة لي قبل ذلك الحين.

لاحقا تبين لي أنه حتى قبل قرن من الزمن كانت هذه المدينة هي عاصمة مملكة ألبانيا وقد كانت تعرف في التاريخ الإسلامي باسم مدينة (إشقودرة). وكما هو معلوم للخلافة العثمانية تأثير تاريخي وحضاري كبير على دول البلقان ولا أدري هل اسم هذه المدينة مشتق من منطقة (أسكودار) في الشق الآسيوي من مدينة إسطنبول. علما بأن هذه المدينة لأهميتها الكبرى حرص السلطان محمد الفاتح أنه يفتحها بنفسه بعد حصار طويل لها ولذا كان يوجد بها أحد أقدم المساجد الإسلامية في منطقة البلقان وهو مسجد السلطان محمد الفاتح الذي ٌشيد عام 1479 ميلادي. كنت أعجب سابقا كيف تمكن محمد علي باشا (الألباني) بعد وصوله في مطلع القرن التاسع عشر إلى مصر من تولي زمام الحكم فيها وإذا بكتب التاريخ تشير إلى أن العلاقة السياسية التبادلية وثيقة الصلة بين مصر ومدينة إشقودرة فالوالي العثماني على مصر في منتصف القرن السابع عشر إبراهيم باشا انتهى به المطاف أن يعدم وتقطع رقبته في قلعة روزافا المطلة على مدينة إشقودرة. الغريب أن هذه المدينة عبر القرون الماضية كانت مصدر متكرر لتصدير عدد من كبار رجال السياسة العثمانيين ممن تولوا منصب (الصدر الأعظم) وهو أهم منصب سياسي بعد منصب السلطان أو الخليفة. كما أنها من الناحية الدينية أنجبت هذه المدينة بعض كبار العلماء ممن تولوا منصب المفتي الأكبر (شيخ الإسلام) في الدولة التركية، بل أن البعض ممن تولوا منصب شيخ الأزهر مثل الشيخ حسن العطار عاشوا فترة من الزمن في مدينة إشقودرة. الأمر البالغ الأهمية أنه في الوقت الحالي تظهر أهمية هذه المدينة من محل ولادة العلامة والإمام الجليل الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أحد أهم الرموز المؤثرة على الفكر السلفي المعاصر وقد قضى فيها الشيخ سنوات طفولته المبكرة حتى سن التاسعة.

وبعد كيف أنطفئ ذاك الضياء وانقطع ذاك الالتقاء بن هذه العاصمة الألبانية والحاضرة البلقانية وبين العالم العربي والإسلامي لدرجة أن أصبحت هذه المدينة في وقتنا الحاضر شبه منسية ومجهولة. لا شك في أن لسياسة (فرق تسد) دور في ذلك ووفق مقولة رئيس الوزراء البريطاني الداهية ونستون تشرشل فإن دول البلقان هي بطن أوروبا أو الخاصرة الرخوة للسيطرة على وسط أوروبا. وهذا بالفعل ما قام به العثمانيون منذ ان فتحوا أرض البلقان فقد اندفعوا بقوة إلى وسط أوروبا وحاصروا مدينة فيينا عاصمة الإمبراطورية النمساوية ولذا كانت منطقة البلقان مصدر قلق ومعبر تهديد. ولذا عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى وكتب القضاء على الإمبراطورية العثمانية سارعت الإمبراطورية النمساوية المجرية لاحتلال مدينة إشقودرة عام 1916م ثم أعيد احتلالها بعد ذلك بسنتين من قبل القوات الفرنسية. وحتى بعد استقلالها في عام 1920م وانضمامها إلى مملكة ألبانيا استمرت مدينة إشقودرة وهي تتعرض لخطر التدخل العسكري من جيرانها الصرب والكروات.

 ثم حدثت الكارثة الكبرى في فصل هذه المدينة عن محيطها الإسلامي عندما قام محافظ إشقودره ولاحقا ملك ألبانيا المدعو كمال أحمد زوغو بالسير على خطى الرجل الصنم كمال أتاتورك في إلغاء الشريعة ومنع الحجاب وتعدد الزوجات. وإن كان الغازي أتاتورك منع الآذان باللغة العربية فإن الزائغ أحمد زوغو حاول التلاعب بطريقة أداء الصلاة بإلغاء ركني الركوع والسجود. وفي مثل هذه الأجواء الرهيبة من الحياد عن دين الله والإلحاد فيه نفهم لماذا أتخذ والد الشيخ الإمام الألباني قراره هو والمئات غيره بالفرار بدينهم والهجرة من إشقودرة وألبانيا كلها إلى بلاد الإسلام الأخرى ولا سيما أرض الشام.

وبعد عزل أرض البلقان بالغزو العسكري الأوروبي وعزلها المعنوي بإفساد عقائدها وشرائعها بالعلمانية جاءت القاصمة الإضافية بعزلها الفكري والأخلاقي بفرض الشيوعية على المجتمع الألباني زمن الرئيس الهالك أنور خوجة الذي أقفل المساجد ودمر الغالبية العظمى منها وحظر جميع الشعائر الدينية لدرجة أنه تم إجبار جميع أفراد الشعب على الإفطار في نهار شهر رمضان. ومنذ منتصف الستينيات من القرن العشرين تطور الأمر أن أخذت حكومة أنور خوجة في فرض الإلحاد الصريح ومحاربة الأديان السماوية جميعها ويقال إن دولة ألبانيا هي أول دولة تعلن بشكل رسمي أنها دولة ملحدة (atheist state). وفي الوقت الحالي ولله الحمد تغير الأمر بشكل ملموس في جميع عموم ألبانيا فأعيد فتح المساجد وأتيحت حرية العبادة وإن كان دستور الدولة لا يعتمد ديناً محددا كما إن ألبانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة العضو في منظمة التعاون الإسلامي (منظمة المؤتمر الإسلامي سابقاً).

 بالجملة يمكن أن نقول إن حكم شريعة الإسلام لا يطبق في دولة ألبانيا ولذا هي ما زالت في نطاق المقال الذي نشرته قبل عدة سنوات بعنوان (بلاد وشعوب انحسر عنها حكم الإسلام). ولعلنا نعيد نشره بمناسبة ملائمة التذكير به بعد زيارتي لألبانيا علما بأن الباعث لكتابة ذلك المقال كان زيارة دولة أوزبكستان التي عانت كثيرا من الحكم الشيوعي الأحمر وانحسر عنها حكم الإسلام.