الثلاثاء، 19 يوليو 2022

( يوليو .. شهر الثورات !! )


 

د. أحمد بن حامد الغامدي

 يوم أمس الثلاثاء اكتملت الثورة الشعبية في سيرلانكا في إسقاط الحكومة بعد أن تم الإعلان عن فرار رئيس الدولة إلى المالديف هربا من ثورة الجياع والتي تفاقمت مع الصيف الساخن في شهر يوليو ذلك الشهر الذي كثرت فيه عبر التاريخ الثورات الأممية والانقلابات العسكرية والمؤامرات الحزبية كما حصل قريبا مع رئيس الوزراء البريطاني المستقيل بوريس جونسون.

أما اليوم فهو الرابع عشر من شهر يوليو وهو يوم ذو أهمية سياسية وتاريخية على المستوى الدولي وعلى الصعيد الإقليمي فهو توقيت اندلاع شرارة الثورة الفرنسية عام 1789م المبشرة بثلاثية الحرية والمساواة والإخاء وكذلك يتوافق مع انقلاب (14 تموز/ يوليو) موعد كارثة الثورة العراقية عام 1958م المنذرة بثلاثية العبودية والمحاباة والعداء. الغريب في الأمر أن (انقلاب تموز) العراقي ليس انقلابا واحدا فله انقلاب لاحقا في الزمن كما أن (ثورة يوليو) الفرنسية ليست ثورة واحدة بل لها ثورة لاحقة في الزمن. في التاريخ العربي والعراقي التعيس يوجد انقلاب تموز في يوم 14 يوليو لعام 1958م والذي أسقط فيه عبد الكريم قاسم حكم ملك العراق فيصل الثاني ويوجد كذلك انقلاب تموز الثاني والذي وقع في يوم 17 يوليو من عام 1968م وفيه أطيح بحكم الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف وتولى حزب البعث زمام الحكم.

أما في تاريخ الأمة الفرنسية مع الثورات السياسية التي شهدها شهر يوليو ففي الواقع عندما تذكر (ثورة يوليو الفرنسية) يكون المقصود بها ليس الثورة الأولى (التي انطلقت شرارتها من اقتحام سجن الباستيل الشهير في يوم الرابع عشر من يوليو) ولكن في الواقع يقصد بها الثورة التي اندلعت يوم 27 يوليو من عام 1830م والتي نتج عنها الإطاحة بالملك الفرنسي شارل العاشر. وهذا يعكس الفرق بين واقع وثمرات الثورات في الغرب مع ما واقع الحال في العالم العربي فثورة يوليو العراقية الثانية هي (انقلاب على الانقلاب) ولهذا زاد الأمر سوءا في بلاد الرافدين. بينما في بلاد الفرنجة الفرنسيسكان فثورة يوليو الثانية هي (ثورة تصحيح) واستبدال مفهوم الحق الوراثي كركيزة للحكم بمفهوم السيادة الشعبية.

الغريب في تاريخ (الثنائية المزدوجة) لثورة يوليو في بعض الدول أنه حتى في قصة الثورة الأمريكية يوجد في كتب التاريخ توقيتان مختلفان لموعد قيام ثورة الاستقلال الأمريكي عن التاج البريطاني. من المشتهر للجميع أن يوم الاستقلال الأمريكي يحتفل به كل عام في تاريخ (الرابع من يوليو The Fourth of July) وهو التاريخ الذي يزعم أنه يتوافق مع اعتماد وثيقة إعلان الاستقلال من قبل الكونجرس الأمريكي. بينما نجد أن جون آدمز الرئيس الأمريكي الثالث وممن ساهم في صياغة وكتابة نص (وثيقة الاستقلال) والذي كان شاهد عيان على ذلك الحدث التاريخي الضخم وبحكم عادته في كتابة مذكراته اليومية كتب خطاب لزوجته يقول فيه: (إن يوم الثاني من يوليو لعام 1776م  سوف يكون أكثر يوم مذكور في التاريخ الأمريكي وأنني أعتقد بأن الأجيال القادمة سوف تحتفل به كمهرجان سنوي عظيم). وما حصل أن كتابة وثيقة الاستقلال والتصويت عليها في البرلمان الأمريكي وإعلان عن الانفصال عن الإمبراطورية البريطانية تم في الواقع في يوم (الثاني من يوليو) ولسبب غير معروف تم الزعم بأن ذلك الحدث الجلل حصل في يوم الرابع من يوليو.  والمحير أكثر أن العديد من الآباء المؤسسين للأمة الأمريكية مثل توماس جيفرسون وبنجامين فرانكلين زعموا أنهم وقعوا وثيقة الاستقلال في يوم الرابع من يوليو بينما استقر اليوم رأي أغلب المؤرخين أنه هذه اللحظة الفاصلة في تاريخ الأمة الأمريكية لم تحصل إلا في يوم الثاني من شهر (أغسطس) أي بعد شهر بالتمام من التاريخ الذي ذكره الرئيس جون آدمز !!.

وفي الواقع فإن التلاعب والتعديل و(التزييف) بموعد وتوقيت الوقائع السياسية والتاريخية المفصلية الحديثة أمر محير إلا إذا أخذنا الموضوع من باب (أنا لا أكذب ولكني أتجمل). من ذلك مثلا أن تاريخ الميلاد الفعلي لمكلة البريطانية إليزابيث الثانية هو 21 أبريل لكن يحتفل به بشكل رسمي في الصيف (ثاني سبت من شهر يونيو) وربما السبب في ذلك هو نوع من (التجمّل) لأن الاحتفال في أجواء الصيف أجمل وأبهج. وهذا نسبيا ما نجده حتى في التاريخ الروسي المعاصر فبالرغم من أن الثورة الروسية التي أسقطت حكم الإمبراطور الروسي نيقولا الثاني، وقعت هذه الثورة في شهر فبراير البارد من عام 1917م إلا أن الاحتفالات الرسمية (بالثورة الشيوعية) تتم حاليا في أجواء أكثر دفئاً (شهر أكتوبر الأحمر).

 ثورات يوليو القائمة تطول وتطول

بالإضافة إلى ما سبق ذكره من أن شهر يوليو يتوافق مع أشهر الثورات السياسية في التاريخ مثل الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية نجد أنه كان كذلك ساعة الصفر وموعد انطلاق ثورات أخرى مهمة أيضا مثل الثورة الشيوعية الصينية التي بدأت ارهاصاتها في يوم 21 يوليو من عام 1945 ميلادي. وقل مثل ذلك عن الثورة الإسبانية التي اندلعت في يوم 19 يوليو لعام 1936م بينما الثورة الكوبية التي قادها فيدال كاسترو وأوصلته لسدة الحكم فكانت في يوم 26 يوليو من عام 1953 ميلادي.

أما في محيطنا العربي فهذا الشهر الساخن شهد كذلك العديد من الثورات الشعبية والانقلابات العسكرية وقد ذكرنا لك أيه القارئ العزيز طرفا من خبر الثورات العراقية المتتالية في هذا الشهر. بينما أخطر وأهم ثورة عربية شكلت المشهد السياسي في المنطقة العربية ولا تزال فهي الثورة المصرية والتي كما هو معلوم قام بها جمع ممن يسمون الضباط الأحرار في يوم 23 يوليو من عام 1952م وفيها أسقط الحكم الملكي في أرض المحروسة. وبحكم أن فترت الستينيات من القرن العشرين شهدت العديد من الثورات ذات الطابع الشيوعي في العدد من دول العالم الثالث ولهذا لم يكن من المستغرب وصولها لشواطئ الخليج العربي. وهذا ما حصل بالذات في سلطنة عمان الشقيقة حيث قامت بها (ثورة ظفار) والتي استمرت لسنوات طويلة كانت ذروتها ما حصل في يوم 23 يوليو لعام 1970 حيث تمت الإطاحة بحكم السلطان سعيد بن تيمور.

وبهذا الكم الغفير والعدد المتزايد من الثورات السياسية والانقلابات العسكرية في هذا الشهر الصيفي الساخن ربما نحتاج من العلماء والباحثين إعطاء تفسير علمي لهذه الظاهرة المتكررة بوفرة في صفحات التاريخ القديم والمعاصر. في الواقع عبر العقود الماضية ظهرت العديد من الدراسات السياسية والاجتماعية والنفسية بل وحتى الاقتصادية الهادفة لمحاولة تفسير الثورات السياسية الكبرى ومن أهم ما يمكن ذكره هنا كتاب (تشريح الثورة) للمؤرخ الأمريكي البارز كران برينتون. وبالجملة من أهم أسباب الثورات حصول حالة الإحباط الواسعة النطاق بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وهنا يدخل دور (الطقس) في تحفيز وقوع العديد من الثورات في شهر يوليو الساخن حيث تشير السجلات التاريخية في حالة الثورة الفرنسية (أم الثورات السياسية) التي وقعت عام 1789م أنه حصل قبلها بفترة قصيرة جفاف شديد وارتفاع في درجات الحرارة (أثمرت) دمارا هائلا في المحاصيل الزراعية ونقصا حادا في الحبوب والقمح ولهذا لم يكن طلب الشعب الحصول على الخبز من الملكة ماري أنطوانيت قصة خيالية. ونفس هذا التوصيف بتداخل أجواء الصيف الساخنة أكثر من المعتاد مع تردي الأوضاع الاقتصادية حصل أثناء (ثورة يوليو) الفرنسية الثانية التي حصلت عام 1830م وهذا ما يفسر نسبيا ترابط الاضطرابات السياسية مع التقلبات في الأحوال الجوية.

في عام 2013م ُنشر بحث علمي رصين في المجلة العلمية الشهيرة والمرموقة (Science) عنوانه (قياس تأثير المناخ على الصراع البشري) وتم فيه الإشارة إلى وجود ترابط بين التغيرات المناخية واندلاع الثورات السياسية والصرعات الاجتماعية. واليوم بعد عشر سنوات من تلك الدراسة ومع هذه الأجواء الصيفية الساخنة والقلاقل السياسية ونقص القمح في العديد من الدول لا يستغرب اندلاع عدد من ثورات الجياع أو مظاهرات السخط كما تتناقله وسائل الإعلام عما يحصل هذه الأيام في الأرجنتين وألبانيا وكينيا وبنما والقائمة تطول وستطول.


الثلاثاء، 5 يوليو 2022

( تغير وصف الرحالة للحرم المكي عبر الزمن )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 قبل حوالي قرنين من الزمن زار الرحالة والرسام البريطاني السير تشارلز إيستليك مدينة أثينا عندما كانت تحت الحكم التركي ومن أهم أعماله الفنية رسم المسجد العثماني داخل أطلال المعبد الإغريقي الشهير البارثينون. أي سائح اليوم لهضبة الأكروبوليس المطلة على أثينا والحاضنة للبارثينون لن يدور في خلده قط أنه كان يقام هنا مسجد كما أن أي زائر لساحات المسجد الأقصى لن يفتش عن تلك الكنيسة الصغيرة التي ذكر الرحالة والمؤرخ العربي الكبير أسامة بن منقذ أنه شاهدها في ساحة المسجد الأقصى عندما زاره في منتصف القرن السادس الهجري وهو تحت حكم الصليبيين. وإذا كانت المواقع الدينية أو المعالم السياحية فائقة الشهرة مثل المسجد الأقصى ومعبد البارثينون يختلف توصيفها وطبيعة معالمها عبر الزمن لذا قد يكون من الشيق معرفة التغيرات التي حصلت عبر العصور لبعض هذه الأماكن الدينية والحضارية البارزة وكيف تغير وصفها في كتب التاريخ أو عبر شهادات الرحالة والسيّاح.

كمْ من الدهشة سوف تعترينا إذا علمنا أن القبة الخضراء الشهيرة في المسجد النبوي كانت لقرون عديدة تعرف بالقبة البيضاء لأنها قديما كانت مبنية بالجبس الأبيض زمن المماليك. ثم لاحقا عرفت بالقبة الزرقاء وذلك عندما تم أعادة بنائها بصفائح الرصاص زمن السلطان التركي محمود الأول وصبغت باللون الأزرق على العادة المتبعة حتى اليوم في القبب العثمانية. أليس من المشوق للنظر والوجدان أن نشاهد مباشرة ونتلمس بقايا جذع النخلة الذي كان يخطب عليه الرسول الكريم قبل أن يعمل له المنبر الخشبي. وقد ذكر الرحالة الأندلسي الشهير ابن جبير في زيارته للمسجد النبوي الشريف عام 578هـ أنه استلم ولمس أعواد المنبر القديمة كما شاهد القطعة الباقية من الجذع الذي حنّ إلى الرسول الكريم. ومن الآثار الإسلامية الثمينة التي فقدت مع الزمن غير الجذع الشهير نجد أن ابن جبير يصف كذلك مشاهدته لمصحف عثمان والذي خطه الصحابي الجليل زيد بن ثابت في السنة الثامنة عشرة للهجرة وأن ذلك المصحف كان محفوظا في داخل ما تسمى (القبة العباسية) التي كانت موجودة في صحن المطاف.

والمقصود أن شاهدات الرحالة القدامى للحرمين الشريفين عبر العصور المختلفة تعطي قصة مشوقة وفريدة عن التغيرات العمرانية الجذرية التي حصلت فيهما بل وحتى تغير الممارسات الدينية والعادات الاجتماعية. فبالعودة لابن جبير فهو في وصفه للمسجد النبوي لم يذكر القبة الشهيرة لأنها لم تكن قد شيدت بعد بينما اللون الأخضر كان مرتبطا بالمسجد الحرام بمكة وليس بالمسجد النبوي فابن جبير يصف كسوة الكعبة المشرفة في زمنه بأنها كانت (خضراء يانعة .. في أعلاها رسم أحمر واسع). وعلى ذكر اللون الأحمر في المسجد المكي الشريف فهو اليوم شائع كما هو ملاحظ في سجاد الحرم ولكن من الجدير بالذكر أن كسوة الكعبة المشرفة كانت في فترات من الزمن من الديباج الأحمر كما هو الحال زمن حكم ابن الزبير والمأمون وزمن الدولة السعودية الأولى. الغريب في الأمر أن اللون الأحمر قديما كان شائعا في جدران الحرم الشريف أكثر من أرضيته فمثلا يصف الرحالة الإيطالي فارتيما (أدعى الإسلام وسمى نفسه الحاج يونس وربما هو أول أوروبي يشاهد الكعبة) المسجد الحرام الذي زاره عام 1503م بأن جدرانه مشيدة من الطوب الأحمر بدلا من الحجارة. ويبدو أنه في ذلك الزمن لم ينتشر بعد تغطية جدران المسجد الحرام بقطع الرخام وبالمناسبة عددا من الكتب التي ناقشت تاريخ عمارة المسجد الحرام اشارت إلى أن أجزاء عديدة من بناية الحرم القديمة كانت مشيدة بالطوب والآجر الأحمر.

 السعي بالسيارة والاغتسال في المطاف

التغير العمراني داخل وخارج الحرم الشريف أمر مذهل عبر الزمن والغريب أن هذا التغير البنائي أثر على طبيعة سلوك الناس في محيط الحرم فمثلا قديما كان من السائغ دخول الدواب داخل الحرم المكي على خلاف الحرم النبوي وذلك لوجود أصل الجواز الشرعي في ركوب الجمال والخيول أثناء الطواف أو السعي بين الصفا والمروة. الطريف في الأمر أن الرحالة الإيطالي فارتيما السابق الذكر أشار إلى أنه شاهد بداخل المسجد الحرام مكانا مسورا يوجد بداخله اثنين من حيوانات وحيد القرن كانا قد أُهديا إلى والي مكة من قبل ملك الحبشة. وبحكم أن المسعى كان وإلى زمن قريب مفصول تماما عن مبنى الحرم المكي وكان أشبه بالطريق الذي تقام على جوانبه الحوانيت والدكاكين التجارية لهذا لا غرابة أن نعلم أنه عندما دخلت السيارات إلى مكة المكرمة في الربع الأول من القرن العشرين أخذ البعض يستخدم السيارة في أداء شعيرة السعي بين الصفا والمروة. عندما قام الكاتب المصري الكبير إبراهيم المازني بأداء العمرة في عام 1930م ونشرت ذكرياته الماتع في كتابه الشيق (رحلة إلى الحجاز) أشار لتلك القصة الطريفة عندما أكرمه مضيفوه بأداء السعي بين الصفا والمروة وهو راكب السيارة بالرغم من اعتراض سائقه الخاص.

والغريب في الأمر أن جميع الرحالة من العرب والأجانب الذين زاروا مكة عبر القرون المتلاحقة كلهم يصف المسعى بأنه مكان ضيق جدا وسوق مزدحم فمثلا ابن بطوطة عرّف المسعى بأنه سوق عظيمة ليس بمكة سوق منتظم سواه ولهذا الساعون بين الصفا والمروة لا يكادون يخلصون لازدحام الناس عند حوانيت الباعة. ويبدو أن الأمر تفاقم سوءً في ازدحام المسعى في بداية القرن العشرين فالعديد من الرحالة بعد وصفهم له يقترحون أخارج الدكاكين من المسعى ومنع السيارات من السير فيه وهذا ما ناقشه الأديب والشيخ اللبناني محي الدين رضا في عام 1935م مع الشيخ عبد الله بن بلهيد والذي تحمس في بداية الأمر لمنع السيارات من دخول مكة كلها. الطريف في الأمر أنه بعد عشرين سنة من ذلك الحوار حول منع السيارات من دخول الحجاز وعندما حج الكاتب المصري الكبير محمد حسين هيكل ذكر في كتابه الشهير (في منزل الوحي) أنه عندما غادر مشعر منى مع الشيخ عبدالله بن بلهيد السابق الذكر أخبره الشيخ أنه عندما يصل للحرم يريد السعي في السيارة لأنه (لكبر سنه) لا يطيق السعي ماشيا ولا يحب السعي في مِحَفّة.

والمقصود أن المشهد في المسعى تغير عبر الزمن بشكل هائل من طريق ضيق مزدحم بالسيارات والدكاكين إلى مبنى ضخم متسع يشتمل على أربعة مستويات للسعي. التغير الجذري الآخر الذي حصل للحرم المكي الشريف حدث في صحن المطاف فمن يطلع على وصف الرحالة القدامى أو يشاهد الصور الفتوغرافية التي التقطها اللواء إبراهيم رفعت باشا أمير حملة الحج المصرية في عام 1901م ونشرها في كتابه الذائع الصيت (مرآة الحرمين)، لا يكاد يشاهد الكعبة المشرفة من كثرة المباني التي تحيط بها. في وقتنا الحالي صحن المطاف يحتوي فقط المجسم الصغير لمقام نبي الله إبراهيم بينما في القديم كان لموقع بئر زمزم حضور طاغ فهي في البداية كانت بئر مكشوفة لها فوهة وصف ابن بطوطة طول محيطها بأنه يبلغ أربعين شبرا وارتفاعه عن الأرض أربعة أشبار ونصف الشبر. ومع الزمن شُيّد فوق بئر زمزم وحولها مبنى كبير وبالرغم من أنه اشتهر باسم (قبة زمزم) إلا أن سقف هذا المبنى خصص لجلوس عليه القوم مثل والي مكة وشيخ المؤذنين. بل إن الرحالة والمؤرخ المصري محمد لبيب البتنوني ذكر في كتابه (الرحلة الحجازية) أن تلك القبة فرشت وجهزت لجلوس الخديوي عباس علمي حاكم مصر عندما حج البيت الحرام في عام 1909م وقبل ذلك بعقود من الزمن ذكر الرحالة الإنجليزي السير ريتشارد برتون (الحاج عبدالله الأفغاني) أنه شاهد بالمسجد الحرام في صلاة الجمعة الباشا والي مكة يقف على سقف بئر زمزم محاطا بحرسه.

في الزمن الحالي ومع تزايد أعداد الحجاج والمعتمرين ليس فقط أزيلت قبة ومبنى زمزم ولكن تم كذلك إلغاء ممر الدرج العريض الذي كان يقود إلى بئر زمزم تحت الأرض ذلك المكان الذي كان يعتبر أهم مزرارت الحجاج والمعتمرين في زمن الطيبين الجميل. وبعد إلغاء بئر زمزم من صحن المطاف فقدنا عادة قديمة ذكرها عدد كبير من الرحالة المترددين على الحرم الشريف وهي أن الزائر ليس فقط كان يشرب و(يتضلع) من تناول ماء زمزم المبارك، بل أن العديد منهم كان يحرص على (الاغتسال) بماء زمزم. وهذا ما ذكره الرحالة الإنجليزي السير ريتشارد برتون أنه بعد أن انتهى من الطواف توجه نحو بئر زمزم وحسب وصفه (حيث تجرعت شربة أخرى منه، وصببت فوق رأسي قربتين منه فهذا يسقط الخطايا عن الروح كما يسقط الغبار عن الجسد). ويبدو أن عادة الاغتسال بماء زمزم مباشرة بالقرب من البئر عادة قديمة استمرت لفترة طويلة كان من أوائل من نصّ على مشاهدتها الرحالة الرحالة الإيطالي فارتيما السالف الذكر ووثق وجود ثمانية رجال حول بئر زمزم كانوا يصبون الماء على الطائفين. ومن آخر من ذكر هذه العادة رحالة الجزيرة العلامة حمد الجاسر عندما سطّر ذكرياته في الحج وهو في مقتبل الشباب ذكر أنه لم يكتف بالتضلع والشرب من ماء زمزم (بل تسللنا إلى داخل زمزم كما يفعل غيرنا فظفر كل واحد منا بدلو ماء دلقه الساقي الذي يخرج الماء بالدلو من البئر فوق رأسه (أي حمد الجاسر) حتى غمر به جميع جسمه وهو يكركر: بركة يا حاج.. بركة يا حاج).

وما زلنا في أرض وصحن المطاف ومن المباني القديمة والمنشآت التي ذكرها الرحالة ووثقتها الصور الفوتوغرافية القديمة مبنى مستطيل عليه ثلاث قبب مقابل للحجر الأسود كان أول من وصفه الرحالة الفارسي ناصر الدين خسرو وذكر أنه اسمه (خزانة الزيت) حيث كان يحفظ به الشمع والزيت والقناديل لإنارة المسجد الحرام ولاحق أخذ هذا المبنى اسم (قبة الفراشين). وبالقرب منه مبنى وقبة أخرى اسمها مبنى (سقيا الحاج) وهو مبنى مربع توضع فيه جرار وأزيار ماء زمزم وهو نفس المبنى الذي سماه الرحالة ابن جبير (القبة العباسية) وذكر أن مصحف عثمان كان يحفظ في داخل هذا المكان.

 المساواة في فرصة الصلاة داخل الكعبة

للأشياء الأثرية عبقها التاريخي وأهميتها العاطفية ولهذا يوجد من يقاوم أي تغيير لأي من الموروث العمراني والحضاري العتيق ومع ذلك أتوقع أن من بعض الأشياء التي أزيلت من ساحة المسجد الحرام وربما لا يوجد من يتحسف على إزالتها وأقصد بذلك تلك الأبنية التي تسمى (مقامات المصليات) الخاصة بطوائف المذاهب الفقهية الأربعة. من المحزن أنه ولمئات السنين كان يوجد بصحن الطواف مواقع خاصة ومنفصلة للصلاة لجميع المذاهب الفقهية السنية بل إن الرحالة ابن جبير أشار إلي أنه كان يوجد للحرم المكي أربعة أئمة من السنة وإمام خامس للصلاة من الطائفة الزيدية. وذكر أنه في صلاة المغرب لضيق وقتها (فإن الأربعة الأئمة يصلونها في وقت واحد .. وربما دخل في هذه الصلاة على المصلين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة .. فربما ركع المالكي بركوع الشافعي). وبعد أن كان لكل مذهب فقهي موقع ومقام خاص يحتوي على محراب ومنبر مستقل تم أولا في عهد الملك عبدالعزيز توحيد صلاة الحرم على إمام واحد وذلك بداية من عام 1344هـ ثم لاحقا وفي زمن الملك سعود وبالتحديد في عام 1377 هـ تمت الإزالة التامة لمواقع تلك المقامات من صحن المطاف تسهيلا لحركة الطائفين بعد انتفاء الحاجة لها.

 والمؤسف أن وضع المصلين كان قديما أشد تفرقا في صلاة التراويح فبدلا من أربع جماعات للصلاة في نفس الوقت يذكر ابن جبير أنه يكاد لا يبقى في المسجد الحرام زاوية أو ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفة. ولقد كان الوضع في المسجد النبوي أكثر سوءً فاللواء إبراهيم رفعت باشا في كتابه سالف الذكر (مرآة الحرمين) يشير إلى أن صلاة التراويح كانت تقام في المسجد النبوي بعدد كثير يزيد عن 50 إماما وجماعة فكل كبير له ولاتباعه إمام والنساء لهن إمام واحد.

في مقابل الزوال المحمود لتلك الظواهر المؤشرة على تفرق المسلمين أثناء أداء الصلوات في المسجد الحرام نجد أن ظواهر أخرى فريدة اختفت أو تقلصت للأسف من المسجد الحرام. من ذلك ما أشار له العديد من الرحالة القدامى والزوار لبيت الله الحرام أنه كان من السهولة النسبية لعامة الناس في الدخول لجوف الكعبة المشرفة. في زمن الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي أمر بفتح باب الكعبة في كل يوم اثنين ويوم الجمعة في حين كان باب الكعبة المشرفة يفتح في كل يوم من أيام شهر رجب. ولهذا ينقل ابن جبير الذي حج في هذا الزمان المبارك أنه من عادة الناس في مكة إنهم إذا تلاقوا سألوا بعضهم هل دخلت الكعبة هذا اليوم. ولقد تغيرت كثيرا عبر الزمن هذه الظاهرة الفريدة في تسهيل دخول المسلمين لجوف الكعبة فهذا الرحالة المغربي أبو سالم العياشي الذي حج عام 1059 هـ أي بعد حوالي خمسة قرون من حجة ابن جبير، يذكر العياشي أن باب الكعبة يفتح سبع مرات في السنة. ثم في القرون التالية تقلص فتح باب الكعبة ليومين فقط في السنة أحدهما يوم النحر من أيام الحج ولهذا عدد لا بأس به من الرحالة الذين أدوا مناسك الحج ذكروا أنهم دخلوا الكعبة المشرفة ومنهم الرحالة الأندلسي التجيبي السبتي والرحالة التونسي محمد السنوسي (شارك كذلك في غسيل داخل الكعبة) وممن تشرف بدخولها الأديب المصري إبراهيم المازني.

وبحكم أن الكعبة المشرفة تفتح دائما في يوم النحر وذلك أثناء عملية تغيير كسوة الكعبة فقد كان هذا اليوم المبارك (يوم الحج الأكبر) يشهد في القديم مظهرا آخر من مظاهر المساواة بين المسلمين. فبالإضافة لفتح باب الكعبة المشرفة للجميع كان يتم في يوم النحر إنزال الكسوة القديمة وتقطيعها لقطع صغار (قد تكون مثل الشريط الذي يوضع في المصحف) وتوزيعها على الجميع. فهذا الرحالة التجيبي السبتي يذكر خبر تقطيع كسوة الكعبة وتوزيعها على الغرباء الواردين عليها وإن كان الرحالة السويسري الشهير يوهان بوركهارت (الشيخ إبراهيم) ذكر أنه شاهد القطع المربعة بحجم الكف من الكسوة القديمة تباع بمبلغ ما يماثل دولارا واحدا.

وبالمناسبة عند قراءتي لكتاب (مسيحيون في مكة) للكاتب الإنجليزي أغسطس رالي رصدت ورود ذكر ست من الرحالة الأوربيون الذي زعموا أنهم دخلوا الكعبة المشرفة وهذا مؤشر إضافي لسهولة دخول الكعبة في القديم. لقد زعم كل من يوهان بوركهارت السالف الذكر وكذلك الرحالة الإنجليزي جوزيف بيتس أنه أتيحت لكل منهما دخول الكعبة المشرفة مرتين (زار بيت مكة المكرمة عام 1091هـ في حين كانت زيارة بوركهارت لها عام 1230هـ). يغلب على الظن أن بوركهات قد أسلم بالفعل (دفن في مقابر المسلمين بالقاهرة) ولهذا يعتبر أفضل من وصف مكة والحج من الرحالة الغربيين في حين أن الخبيث جوزيف بيتس كان فقط يدعي الإسلام ولهذا علق في كتابه عن تجربته في دخول الكعبة المشرفة بقوله (أعترف أنني لم أجد فيها شيئا يستحق المشاهدة) كما أنه وصف ماء زمزم بأنه كان مالحاً ويسبب البثور على الجلد. الغالب أن الرحالة السير ريتشارد برتون كان جاسوسا إنجليزيا تنكر بزي أفغاني وحمل اسم الحاج عبدالله وبحكم أنه كان يرغب في جمع أكبر معلومات عن مكة لذا عندما دخل الكعبة المشرفة كان حريصا على ملاحظة المنظر داخل الكعبة بعناية كما قام برسم مخطط سريع لجوف الكعبة بقلم رصاص فوق ملابس إحرامه البيضاء.

السنّة التعبدية فيمن يدخل الكعبة أن يصلي ركعتين في كل ركن من أركانها الأربعة ولهذا يحصل تزاحم وبطأ شديد في عملية زيارة جوف الكعبة وقد انتظر الرحالة والمستشرق الإنجليزي جون كين (الحاج محمد أمين) ساعتين كي يأتي دوره لدخول الكعبة بينما انتظر الجاسوس الفرنسي ليون روش (الحاج عمر) ثلاث ساعات للوصول لداخل الكعبة المشرفة أما المستكشف الإسباني دومينكو باديا الذي ادعى الإسلام وحمل اسم (علي بيه العباسي) فربما هو المسيحي الوحيد النجس الذي ساهم في غسيل الكعبة.

( صفعة العروس والدراما الأدبية )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 مع نهاية الأسبوع الماضي تناقلت وسائل الإعلام وتقاذفت مواقع التواصل الاجتماعي خبر الحادثة الأليمة والصادمة المرتبطة بقيام عريس أوزبكي بصفع زوجته بشدة على رأسها في ليلة زفافهما وأمام جميع كبير من المدعوين. شرارة الأحداث الصادمة بدأت بعد أن أعلنت العروس عن بهجتها بفوزها على عريسها في لعبة شعبية يتم تأديتها بين العروسين ضمن مراسيم حفل الزواج. أحدثت هذه الواقعة موجة غضب عارمة في أوزبكستان نتج عنها استدعاء العريس لمركز الشرطة لتحقيق معه عن هذا التصرف الأرعن والعنف الأسري الهمجي. ومن تداعيات هذا الحدث المؤسف توالى استدعاء الذكريات والأخبار القديمة المشابهة لحماقات بعض العرسان في صفع ولطم عرائسهم في حفل الزواج نتيجة النزق من دلع العروس وأحراجها لزوجها أمام الجميع وهو الحدث الذي حصل قبل عدة سنوات في إحدى دول وسط آسيا والأغرب من ذلك قيام عروس من الهند بصفع عريسها مرتين في حفل زفافهما.

لا شك في أن أجواء حفل الزواج تكون مشحونة بمشاعر البهجة والفرح وأحيانا تكون ممزوجة بمشاعر القلق من حصول خلل في مراسم الزواج أو تداعيات ليلة الدخلة. ولهذا أجزل الأدباء والشعراء في القديم والحديث في توظيف حالة البهجة الممزوجة بحالة الحزن أو القلق في الأعراس وحفلات الزوجات في إبداع الوصف الأدبي الرفيع لتناقض المشاعر أو تبدل الأحوال. فهذا المتنبي يبدع في وصف امتزاج الفرح بالترح بقوله (فدمع الحزن في دمع الدلالِ) بينما أمير الشعراء أحمد شوقي عبّر عن الفجيعة بإلغاء الخلافة الإسلامية بعد البهجة بنصر الأتراك ضد اليونانيين وكأن الأمر أشبهه بحفلة عرس انقلبت مأتم عزاء:

عادت أغاني العُرس رَجع نُواحِ           ونُعيتِ بين معالم الأفراحِ

كُفّنتِ في ليل الزَفافِ بثوبهِ                 ودُفنتِ عند تبلجِ الإصباحِ

 وهذا الشاعر الإنجليزي البارز اللورد بايرون يقول إن كل القصص التراجيدية تنتهي بالموت بينما كل القصص الكوميدية تنتهي بالزواج وبالرغم من أن بايرون في هذا البيت من قصيدة دون جوان (العاشق الماجن الأعزب) وضع الحد الفاصل بين التراجيديا والكوميديا والموت والزواج إلا أنه لمّح أن حالتهما في المستقبل ليست منفصلة وأنها متروكة للإيمان. وأشهر قصة في التاريخ جمعت بين بهجة الزواج وغصة الموت هو ما حصل مع إمبراطور شعب الهون القديم المسمى الملك أتيلا الهوني الذي ساهم في إسقاط الإمبراطورية الرومانية فلقبوه (أتيلا بلاء الله) والذي يهمنا هنا أنه عندما أحتل الأراضي الجرمانية تزوج من سبيه منهم وسرعان ما توفي في ليله زفافه على تلك العروس الشابة وأصبح ميتا بعد نزيف داخلي حاد.

 الأفراح والأتراح في الليالي الملاح

وبالعودة لموضوعنا الأصلي وهو تلاقح وتمازج الفرح مع الترح في حفل الزواج وتوظيف ذلك من قبل الأدباء والكتاب في تشكيل الحبكة الدرامية والوصول لنقطة الذروة في الأحداث القصصية وهنا (نسرد) فيما يلي بعض أشهر تلك الأعمال الأدبية العالمية التي تدور حبكتها الدرامية وعقدتها الفنية حول ليلة الزفاف. النقطة الفاصلة في السردية الرومانسية للرواية الشهيرة (جين أير) للأديبة الإنجليزية البارزة شارلوت برونتي والتي تسوق بأسلوب أدبي مميز تطور علاقة الإعجاب بين الشابة والمعلمة الخاصة جين أير وبين السيد روشيستر الرجل الثري الذي يطلب يدها للزواج. وفي أمسية حفل الزفاف تنتقل الرومانسية إلى التراجيديا عندما يعترض شخص يدعى السيد مايسون على هذا الزواج وأنه باطل لأن السيد روشيستر هو في الأساس رجل متزوج من أاخته السيدة بيرثا والديانة المسيحية تحرم تعدد الزوجات. وهنا نصل إلى ذروة الدراما ونتواجه مع ثنائية الأفراح والأتراح في حفل الزفاف حيث يعترف السيد روشيستر أنه بالفعل متزوج من تلك السيدة ولكنها امرأه مصابه بالجنون ولذا كان يحبسها في غرفة معزولة في أعلى القصر. ويحدث بعد ذلك أن تغادر جين أير حفل الزفاف وهي مصدومة ومكلومة ثم يحدث أن تحرق الزوجة المجنونة القصر بمن فيه في حين تضطر لاحقا التعيسة جين أير للعيش في الشوارع والتسول من أجل الطعام.

مأساة أخرى حدثت في ثنايا حفلة العرس واستمرت مرارة ذكرياتها لسنوات طويلة هي ما نواجهه في رواية (آمال عظيمة) لعملاق الأدب الإنجليزي تشارلز ديكنز وهنا نقابل امرأة أخرى مجنونة وغريبة الأطوار. وهي الآنسة الفاتنة والثرية هافيشام والتي تقدم للزواج منها شاب محتال ومخادع يدعى كومبسون فبعد أن سلب أموالها أرسل لها رسالة في يوم زفافهما (وهي في الكنيسة تستعد لعقد القران به) يخبرها بهجره لها. ونتيجة للإذلال والمهانة التي تعرضت لها أمام ضيوف حفل الزواج أصيبت هافيشام المنكوبة بانهيار عصبي وعاشت وحيده في قصرها ولم تخلع فستان زفافها أبداً حتى وفاتها كما كانت تنتعل فردة حذاء واحدة وكذلك احتفظت بكعكة الزواج المتعفنة وأبقت ساعة القصر عند توقيت الساعة التاسعة والثلث وهو الزمن الذي تلقت فيه خبر هجران عريسها لها. وفي نهاية تلك الرواية الدرامية الشهيرة يكون سبب وفاته تلك العروس المكروبة أن يشتعل فستان الزفاف نتيجة احتراقه عندما مرت بالقرب من إحدى الشموع.

من مأساة ليلة الزفاف الناتجة عن غدر وهجر العريس للعروس إلى الصورة المعكوسة وهذه هي الحبكة المحورية للعمل الأدبي البارز (مسرحية عرس الدم) لأشهر الأدباء والشعراء الإسبان في العصر الحديث: غارسيا لوركا. بالرغم من تحذير والدة العريس إل نوفيو له من الزواج من الشابة لانوفيا لأنها كانت مخطوبة سابقاً من قبل لشخص آخر إلا أن العريس المندفع يصر على إتمام الزواج. وفي ليلة الزفاف تبدأ أحداث الكارثة الرهيبة في التوالي عندما يستطيع الخطيب القديم ليوناردو بالتسلل إلى غرفة العروس وينجح في إقناعها بالهروب معه وعندما يعلم العريس المخدوع بهذا العار الذي لحق به يقرر أن يطارد العروس الهاربة وعشيقها إلى داخل الغابة. وهنا تكتمل فصول المأساة في تلك المسرحية السوداء بأن يقتل العريس وليوناردو بعضهما البعض في معركة دامية بالسكاكين يتلطخ فيها فستان الزفاف بالدم ومن هنا أصبحت هذه الرواية تعرف بعنوان عرس الدم أو (الزفاف الدامي).

كما لا يخفى ترابط حالة الشعور بالعار مع الانتقام الدامي والمروع أكثر ما تحصل بعد حفلات الزفاف إذا تبين أن العروس ليست عذراء وهذا ما يدفع إلى غسل العار بالدم وبذا ينقلب الفرح إلى ترح. تعقيدات ليلة الدخلة من الأمور الشائعة التي ترد في ثنايا الروايات العربية لدرجة أنه توجد رواية فجة ومباشرة في طرح الموضوع تحمل عنوانا (ليست عذراء) للكاتبة مصرية دينا عماد ومع ذلك نجد أن هذه (العقدة الشرقية) خير من كتب عنها في إطار أدبي رفيع الروائي العالمي المشهور غابرييل غارثيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل في الأدب لعام 1982ميلادي. لا أعلم هل الروائي الكولومبي غابرييل ماركيز له سابق علم بالمقولة العربية الشهيرة للمتنبي (لا يسلم العرض الشريف من الأذى حتى يراق على جوانبه الدمُ) وبهذا يربط بين العرب وغسل العار المسلوب بالدم المصبوب وهو ما نجده في رواية غابرييل ماركيز المعنونة (قصة موت معلن) والتي نشرها قبل عام فقط من حصوله على جائزة نوبل.  تدور أحداث تلك الرواية عن مقتل مهاجر عربي يدعى نصّار ُذبح في صبيحة اليوم الذي حضر فيه حفل زفاف في بلدته الصغيرة. العقدة الدرامية في القصة أنه بعد حفل الزواج وفي (ليلة الدخلة) يصدم العريس السيد باياردو أن زوجته الشابة أنخيلا فيكاريو ليست عذراء ولذا بعد ساعات فقط من انتهاء حفل الزفاف يجر بايادرو عروسه الملوثة إلى بيت أهلها. وبعد ضرب مبرح من قبل والدتها تضطر العروس أنخيلا للكشف عن الرجل الذي أفقدها عذريتها وشرفها وتزعم كذباً أنه الشاب ذو الأصول العربية نصّار. وهنا يقرر الشقيقان التوأمين بابلو وبيدرو فيكاريو أن يثأرا لشرفهما المعتدى عليه وأن يغسلا عارهما بقتل المتهم البريء الشاب نصّار باستخدام سكاكين تستخدم لذبح الخنازير.

وفي الختام يجب أن ننوه أن ثنائية تداخل الأفراح والأتراح في حفل الزفاف وتمازج بهجة الحياة بغصة الموت متكررة في العديد من الأعمال الأدبية الأخرى فمثلا في رواية الأديب التشيلي أنطونيو سكارميتا (عرس الشاعر) نجد أن العروس الفائقة الجمال مارتا ماتاراس تموت في ليلة زواجها. والكل تقريبا يعلم أنه في خاتمة المسرحية الذائعة الصيت (روميو وجوليت) لشكسبير تعترض جوليت من الزواج بغير حبيبها ولهذا في ليلة زفافها من الشاب الآخر المدعو باريس توهم أهلها بأنها انتحرت وبالفعل تتناول الدواء وتبدو كالميتة ويتم وضعها في التابوت وأخذها للمقبرة لدفنها. من هذا وذاك نعلم أن بهجة العرس وفرحة الزواج في ومضة ما من زمن (ليلة العمر) قد تتحول إلى لحظة جنون أو وفاة أو قتل أو انتحار أو طلاق أو (صفعة) ورحم الله إمامنا الشافعي إذا يقول:

يا راقد الليل مسروراً بأولهِ          إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

لا تفرحنَّ بليلٍ طاب أولهُ             فربَّ آخر ليلٍ أجّج النّارا

 

( الطبخ .. فن أم علم ؟!! )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 عندما يكون لديك وفرة من الكلمات أو الألوان أو الأصوات يمكنك حينئذ أن تمارس (الفن) من خلال مزج وترتيب هذه الكلمات أو الألوان أو الأصوات لإنتاج مقطوعة فريدة عبارة عن قصيدة أو لوحة أو نغم. ومن نفس هذا المنطلق نجد أن تنوع النكهات في المواد الغذائية يمكن أن يفضي إلى نوع من الفن يسمى (فن الطبخ) يبدع من خلاله الطاهي (أو بلغة العصر: الشيف) أطباقا وأكلات ثرية بمزيج وخليط من تلك النكهات. وبالموافقة والتقبل على ربط القصائد واللوحات الفنية والأنغام مع الأطباق الشهية المنظر والزكية الرائحة لا عجب حينها أن نجد من يجعل عالم الطهي وحرفة الطباخين أحد أشكال الثقافة ومجالات الحضارة. في واقعنا المحلي لا أعلم ما هي استعدادات (هيئة فنون الطهي) التابعة لوزارة الثقافة السعودية، للاحتفال باليوم العالمي لفن الطبخ والذي يوافق يوم السبت الثامن عشر من شهر يونيو. لكن من جانبي فسوف أقوم بهذه المناسبة بتحوير مقولة متداولة لأحد أشهر الطهاة البريطانيين وهو الشيف ماركو وايت إذ يقول (الطبخ فلسفة، إنه ليس مجرد وصفة recipe). ما طبخه الشيف ماركو وايت ودبجه من الكلام ربما هو مجرد تفلسف وكلام عام، ولكن انطلاقا من خلفيتي العلمية أعتقد أن العبارة السليمة والمعادلة الموزونة هي (الطبخ علم، إنه ليس مجرد وصفة).

الطريف في الأمر أن بعض كبار مشاهير العلماء ارتبطت سيرهم وذكرهم بالطهي والمطبخ فهذا نيوتن (إن صح الخبر) كان دقيقا في ضبط الوقت أثناء عملية الطهي فمثلا في وجبة الإفطار كان يصر على أن يتم سلق البيض لمدة خمس دقائق بالضبط. وتقول القصة المشهورة عنه في سياق أخبار شرود الذهن المرتبط بالعباقرة أن خادمة نيوتن دخلت عليه المطبخ ووجدته واقفا أمام الموقد وينظر باهتمام إلى بيضة كان يمسك بها بيده بينما كانت ساعة جيبه تقبع في قاع إناء سلق البيض !!. وما زلنا مع مشاهير العلماء وحرصهم على الوقت خصوصا أثناء الطبخ فمن ذلك تلك المقولة المتداولة عن اينشتاين بأنه أعلن (إن صح الخبر) أن ثاني أكبر فكرة توصلها لها بعد نظرية النسبية كانت تتعلق بأن أفضل وسيلة لسق البيض أن تتم في وعاء حساء الشربة وبهذا يحافظ على عدم ضياع وقته في غسل أكثر من وعاء طبخ.

وفي واقعنا العربي القديم تقول القصة (إن صح الخبر) أن العالم الكبير الرازي اشتهر بأن طعم وجبات الغذاء في منزلة لذيذة بشكل غريب ولهذا عندما قام أحد الوزراء بشراء الجارية التي كانت تطبخ في منزل الرازي عرف منها أن الرازي تمكن باستخدام صنعة الخيمياء من تحويل القدور النحاسية في مطبخه إلى قدور الذهب والفضة وأن ذلك ربما يكون سر (فن الطبخ) اللذيذ في بيته.

ما سبق كان مدخلا خفيفا وربما غير دقيق تماما في تأطير العلاقة بين عالم الطبخ والطهاة وبين دنيا العلوم والعلماء ومع ذلك التداخل بين تقنيات وأساليب الطهي وبين التجارب العلمية في المختبرات البحثية وثيقة الصلة وهي مدار المجال العلمي المرموق والبالغ الأهمية المسمى (علم وتقنية الأغذية). وللتدليل على البعد العلمي في مجال الطبخ بمناسبة اليوم العالمي لفن الطبخ لن ندخل في متاهة توظيف المفاهيم والمعلومات العلمية في محاولة تفسير الأمور المتعلقة بعملية الطهي والأكلات الغذائية. فمثلا القارئ العادي قد لا يهمه كثيرا معرفة التفسير العلمي لسبب الرائحة الزكية والشهية للخبز وأن المسؤول عنها مركب كيميائي كيتوني يدعى 2-acetyl-1-pyrroline أو أن لون الكارميل البني الذهبي النتاج من حرق السكر والمستخدم لتزيين الأطعمة بمنظر شهي هو في الواقع ناتج من عملية بلمرة كيميائية لإنتاج مركبات تسمى بوليمرات caramelans (هل مهم أن نعرف أن الصيغة الجزيئية لها هي C24H36O18). ولكن بدلا من ذلك يمكن أن نعطي بعض النصائح العلمية والتلميحات المهنية والعملية التي تساعد في تحسين مظهر ورائحة ومذاق الأطعمة المحضرة بواسطة الهواة من الطهاة.

 كيمياء الطبخ والمطبخ الكيميائي

ذكرنا القصة الطريفة التي تقول إن عالم الفيزياء نيوتن كان يحرص على سلق البيض لمدة خمس دقائق بالضبط بينما عالم الكيمياء الفرنسي لويس ميلارد ينصح هواة الطبخ أنهم إذا أرادوا الحصول على أفضل لون بني عند (تحمير) اللحوم فيجب ألا تقل درجة حرارة الفرن أو المقلاة عن 154 درجة مئوية. في عام 1912م توصل ذلك العالم أثناء اجراء التجارب الكيميائية (أو يمكن نقول: الطبخ العلمي) بين الأحماض الأمينية (الموجودة في اللحوم) وبين السكريات سوف يحصل تفاعل كيميائي (يسمى تفاعل ميلارد Maillard reaction) والذي يفسر بدقة وبالمعادلات الكيميائية والتركيب البنائي للمركبات الجزيئية لماذا يصبح اللحم المشوي ذا لون ورائحة مميزة على خلاف اللحم المسلوق.

ومن الارشادات العلمية أثناء عملية الطبخ التي يمكن أن تقدمها الكيمياء أنه في حال رغب الطاهي بأن يكون لحم الدجاج هش ومقرمش crispy فينصح بأن يغطى جلد لحم الدجاج بخليط من البكنج بودر وملح الكوشر. والتفسير العلمي لهذه الخلطة الكيميائية السحرية أن مسحوق الباكنج بودر (اسمه العلمي بيكربونات الصوديوم) له صبغة قاعدية (قيم pH عالية) وهذا يساعد على عملية التحلل المائي hydrolysis لجزئيات البروتين مما يساهم في تكسيرها وتفكيكها وهذه العملية تكون مصحوبة بتكون فقاقيع من الغازات تساهم في تمديد وزيادة المساحة السطحية لقطع اللحم وبالتالي تحصل عملية القرمشة المطلوبة.

ومن عملية التحلل المائي (hydrolysis) إلى الظاهرة العلمية المسماة التحلل الحراري (pyrolysis) والتي بشيء من التجوّز والتبسيط نقول إنها عملية تفكك وتحلل المواد العضوية بسبب الحرارة العالية للوسط الذي توجد فيه. وما يهمنا هنا أنه أثناء عملية الطبخ للمواد الغذائية عند درجات الحرارة العالية تتكسر العديد من المواد الكيميائية المفيدة مثل الفيتامينات وبعض الأصباغ العضوية التي تعطي الغذاء نظارته وجماله. كما هو معلوم فإن الخضروات تفقد شيئا من ألوانها الزاهية بعد الطبخ نتيجة تأثير الحرارة العالية وهنا يمد العلم يده لمحترفي مهنة الطبخ في المساعدة في تقليل فقدان تلك الألوان فمثلا حتى لا يفقد الجزر لون البرتقالي بسبب تكسر مركب الكاروتين ينصح بعدم وضع الخضار لفترة طويلة في مياه السلق. وبدلا من ذلك تكون الوصفة العلمية المطبخية كالتالي: ضعي سيدتي الخضار فقط في الماء المغلي لعدة دقائق محدودة ثم بادري برفع الخضار من الحساء وضعيها في وعاء يكون داخل حمام ثلجي وهذا من شأنه إيقاف عملية الطبخ وإبطاء عملية التفكك الحراري.

وفي نفس السياق ينصح أهل العلم أهل الطهي أنه للمحافظة على نظارة اللون الأخضر الشهي للبازلاء والفاصوليا بعد عملية السلق فإنه يوصى بإضافة كمية قليلة من الباكنج بودر وهي المادة ذات الصبغة القاعدية والتي تعادل الوسط الحمضي الخفيف الذي تكون في سائل الحساء نتيجة لتسرب بعض المركبات الحمضية من أنسجة الغذاء المهترئة.  كما هو معلوم ربما للجميع من مادة العلوم في المدارس فإن مادة اليخضور (الكلوروفيل) هي المسؤولة عن اللون الأخضر لأوراق الأشجار وهي نفسها تلك المادة التي نتيجة لحرارة الطبخ تتكسر ويبهت لونها ولذا فإنه عند إضافة الباكنج بودر السالف الذي يحصل تفاعلا كيميائيا بين اليخضور chlorophyll ويتحول إلى مركب كيميائي مشتق يسمى الكلوروفيلن chlorophyllin والذي له لون أشد اخضرارا وبالتالي يساهم في إعادة النضارة الخضراء للأغذية المطبوخة.

وبما أن سيرة طبخ الخضار انفتحت فإن علم الكيمياء يقدم التفسير العلمي الدقيق لماذا كانت الأغذية والمأكولات في الزمن السابق أجمل وأشهى ومن ذلك مثلا أنه كان في القديم كثيرا ما يستخدم معدن النحاس في صنع أدوات المطبخ وقدور طهي الطعام. وهنا نذكر على الهامش معلومة غير مشتهرة كثيرا وهي أن مركب اليخضور (الكلوروفيل) مهم للنبات كأهمية هيموجلوبين الدم للكائنات الحية وكلا منهما في لغة الكيمياء يسمى بالمعقدات العضو معدنية فاللون الأحمر للهيموجلوبين راجع من المعقد بين ذلك المركب الكيميائي وعنصر الحديد في حين أن اللون الأخضر مرتبط بمعقد مركب الكلوروفيل مع عنصر الماغنيسيوم. وما يهمنا هنا أنه أثناء عملية الطبخ للخضروات تنتج مركبات حمضية خفيفة وفي هذا الوسط يحصل تفاعل كيميائي آخر يسمى (تفاعلات الإحلال) فيحل عنصر النحاس (الذائب بكمية قليلة من القدور النحاسية) محل عنصر الماغنيسيوم وبهذا يتكون معقد (عضو معدني) جديدا أكثر ثباتيه والأهم من ذلك أن له لوناً أكثر اخضرارا. وبهذا تكون المواد الغذائية والخضروات المطبوخة في القدور النحاسية (وليس في القدور الذهبية كما في قصة الرازي المزعومة) أكثر نضارة وأشهى للعين قبل الفم.

عندما تدخل الكيمياء على الخط في عملية الطهي فإننا نؤكد صحة العبارة بأن (الطبخ علم، وليس مجرد وصفة) ولهذا ربما يجدر بهواة الطبخ أن يثقوا بالعلماء عندما يقولون لهم: إذا أردتم طهي الخضار بشكل أشهى وأجمل في المنظر لذا اطبخوها في قدور نحاسية أو على الأقل أضيفوا لقدر الطبخ العادي قطعة معدنية مثل القرش أو ربع الريال والتي تحتوي على كمية عالية من عنصر النحاس والذي ينحل جزءا بسيطا منه أثناء عملية الطبخ. وعلى نفس النسق عند تحضير الكريمة أو القشدة المخفوقة whipped cream سوف نفهم من خلال الكيمياء والعلوم لماذا ينصح خبراء الطبخ باستخدام وعاء مصنوع من الزجاج للحصول على أفضل نتيجة بدلا من استخدام وعاء أو قصعة مصنوعة من البلاستيك أو الخشب. السبب في ذلك الكريمة المخفوقة تصنع في العادة من بياض البيض egg whites والذي نتيجة لعملية الخفق السريعة تتكون منة رخوة مشبعة بفقاقيع الهواء. وبحكم أن صفار البيض يحتوي على كمية أعلى من الدهون والذي لا يساعد على تكون تلك الرغوة بشكل جيد ولهذا أوعية تحضير الطعام الخشبية أو حتى البلاستيكية بها العديد من المسامات الدقيقة التي يمكن أن تحتفظ ببقايا الدهون. في حين أن الأوعية أو القدور الزجاجية أو المعدنية تكون صماء وملساء تماما بدون هذه المسامات ولهذا هي خالية من الدهون ولذا تعطي أفضل نتيجة في تحضير الكريمة المخفوقة كما كانت القدور النحاسية هي الأفضل بشهادة الكيمياء في طهي الخضار.

وختاما هذه بعض الأسرار والأفكار التي تمنحها الكيمياء (لعلم الطبخ) وغيرها كثير يقدمها العلماء لهواة الطبخ بهدف نشر الثقافة العلمية عن مجال (كيمياء المطبخ). ومن أمثلة ذلك قيام أستاذ الكيمياء الأمريكي روبرت وولكي (والكاتب الصحفي عن علوم الأغذية في جريدة الواشنطن بوست) بكشف هذه الأسرار في كتابه الماتع (ماذا قال أينشتاين لطباخه) والذي ظهر في جزئيين كبيرين بلغ مجموع صفحاتهما حولي 860 صفحة.

( التعصب الهندوسي يقود إلى أين ؟!! )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في فترة من التاريخ كان يقال إن التسامح والتعايش المشترك هو (روح الهند العظيمة) ولهذا ينقل عن أحد الأمراء المسلمين من حكام الهند القديمة وهو آصف الدولة الذي توفي في نهاية القرن الثامن عشر قوله: إن عينه اليمنى مسلمة وعينة اليسرى هندوسية. وقبله بعدة قرون نجد أن السلطان المغولي المسلم جلال الدين أكبر عندما وافق حكمه للهند مرور العام 1000 هجري وصل به التهور والاندفاع في سياسة التسامح الديني لدرجة أنه خرج على الناس بدين جديد سماه (العقيدة الألفية). مدار تلك العقيدة المبتدعة أنه بحكم مرور ألف سنة على ظهور الإسلام فلا بد مع مطلع الألفية الثانية الجديدة من ابتداع شريعة جديدة تدعو للتسامح بين أتباع الديانات والمذاهب وكان من نتائج هذا (الدعوة الإلهية) الجديدة ظهور مبدأ وحدة الأديان واستحسان التقاليد الهندوسية وقبول المسلمين تقديس الأبقار.

ومن تسامح وقبول ملوك ومسلمي الهند للهندوس نصل إلى فترة من التاريخ تقبل فيها بعض أهل الهندوسية الوجود الإسلامي بينهم ونخص بالذكر أشهر رجالات الهند قاطبة ألا وهو الزعيم السياسي البارز المهاتما غاندي صاحب مبدأ اللاعنف والداعي لبث ثقافة التسامح الديني والتعايش السلمي. وعلى خطى السلطان جلال الدين أكبر في بث روح التسامح بين الهندوسية والإسلام دعا المهاتما غاندي بفتح المعابد الهندوسية لأداء الصلاة الإسلامية فيها والعكس بالسماح بالصلاة الهندوسية في المساجد ويقال إن غاندي نفسه قد قرأ آيات من القرآن الكريم أمام جمع من الهندوس في أحد معابد نيودلهي. والجدير بالذكر أنه يقال بأن غاندي قد درس القرآن بتعمق وكان معجبا بسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما إنه كان يحضر في شبابه اجتماعات التكية الصوفية عندما كان يقيم في جنوب أفريقيا.

على كل حال عندما نجحت الهند أخيرا في الاستقلال من الاحتلال البريطاني وذلك في عام 1947م حدث ذلك بعد انشقاق سابق في نسيج المجتمع الهندي الذي انشطر إلى دولتين هما الهند وباكستان. وكان من تداعيات ذلك حصول صدامات دامية وعنيفة بين الهندوس والمسلمين خصوصا في مدينة كلكتا والعاصمة نيودلهي. ونظرا لتعرض المسلمين للاضطهاد الأثيم دعا غاندي الأكثرية الهندوسية إلى احترام حقوق الأقلية المسلمة وخاطب الجميع بأنه سوف يصوم حتى الموت ما لم تتوقف أعمال العنف والمجازر المتبادلة. ونظرا لما كان للمهاتما غاندي من نظرة إيجابية بالجملة عن الإسلام وتعاطفه مع حقوق الأقلية المسلمة في الهند وهذا ما تسبب في النهاية في اغتيال غاندي على يد رجل هندوسي متعصب كان يعتقد هو وعشرات الآلاف غيره من الهندوس المتطرفين أن غاندي خائن للديانة الهندوسية بتساهل مع مطالب المسلمين.

كما هو معلوم يعتبر غاندي أحد أشهر الشخصيات السياسية في العصر الحديث وله شعبية كبيرة وواسعة بسبب طرحه لأفكار اللاعنف والتسامح ولذا توجد تماثيل ونصب تذكارية لغاندي في حوالي 70 دولة. الغريب في الأمر أنه في عام 2016م تم في الهند نصب تمثال جديد له علاقة بغاندي أثار جدلا كبيرا حيث إن ذلك التمثال  أقيم في الواقع لتكريم الشخص الذي قتل غاندي. وهذا ما حصل في مدينة ميروت القريبة من العاصمة نيودلهي حيث تم تدشين تمثال خاص للمتطرف الهندوسي ناتهورام جودسي الذي اغتال غاندي ومع ذلك يعتبر الآلاف القاتل جودسي بطلا قوميا لهم لأنه خلصهم بزعمهم من سموم غاندي المفسدة للمجتمع والدين الهندوسي. والأغرب من ذلك أن رئيسة حزب الماهاسابها الهندوسي المتعصب صرحت في تلك المناسبة لصحيفة النيويورك تايمز بأن غاندي يستحق القتل بأن يطلق عليه الرصاص في رأسه كما قامت تلك المرأة المتعصبة والحمقاء والخالية من الدبلوماسية بإطلاق النار من مسدس مزيف نثر الدم على صورة كبيرة لشخصية غاندي. وهذا الحدث يعطي تصور كاشف ومفزع عن حدة حالة التعصب والتطرف والهمجية التي وصلت لها شرائح من المجتمع الهندوسي في الهند المعاصرة.

وبمناسبة الحديث عن التماثيل والنصب التذكارية في الهند ليس من قبيل الصدفة أن يتم في عام 2018م تدشين أكبر تمثال في العالم والذي خصص لتكريم الزعيم السياسي الهندي ساردار فالاباي باتل وهو أول نائب رئيس وزراء في تاريخ الهند وبحكم أنه كان كذلك وزير الداخلية فقد حمل وصف (رجل الهند الحديدي). صحيح أن ساردار باتل ساهم في تجميع الإمارات الهندوسية وتوحيدها ولهذا تم بناء ذلك التمثال الشاهق له (يبلغ ارتفاع نصب تمثال الوحدة 182 متر وهو ما يماثل طول برج مكون من 60 طابق) إلا أن هذا الرجل يشتهر عنه عداءه للمسلمين المقيمين في الهند.

 مستقبل الإسلام في الهند .. كان الله في العون

من هذا وذاك نفهم الأجواء المشحونة حاليا في القارة الهندية ضد المسلمين مع تزايد موجات التعصب والتطرف الداعية لسيطرة الروح القومية الهندوسية وهيمنتها واستعلائها على جميع ما عداها من الأديان والعرقيات والمذاهب الفكرية. منذ مئة سنة وبالتحديد عام 1923م بدأت تظهر في الهند حركة سياسية ذات خلفية هندوسية حملت اسم (الهندوتفا Hindutva) وهي حركة قومية فاشية تدعو إلى هيمنة الثقافة الهندوسية والحكم المطلق العرقي للهندوس وإقصاء جميع الأقليات الأخرى. وبحكم أن الهندوس هم الأغلبية العظمى من الشعب الهندي وبحكم أن تيار الهندكة (الهندوتفا) يقدم القومية العرقية على النظام السياسي فلهذا لا غرابة أن نجد أن العديد من القادة السياسيين للطائفة الهندوسية يسعون لتغير العديد من مواد الدستور الهندي لكي تؤدي في النهاية إلى المزيد من التضييق على الطوائف الدينية والأقليات العرقية وبخاصة الجالية المسلمة. وفي هذا السياق نفهم حرصهم على فرض القانون المدني الموحد الذي يهدد قوانين الزواج والطلاق الإسلامية وكذلك التضييق على استخدام اللغة الأوردية الشائعة بين الجالية الإسلامية بالإضافة إلى محاولة سن قوانين تمنع ذبح أو بيع لحوم الأبقار والبعض من الهندوس يسعى إلى رفع توصيف المساجد بأنها أماكن مقدسة للعبادة وذلك لتسهيل هدمها.

على كل حال منذ مذبحة نيللي التي وقعت عام 1983م وذهب ضحيتها حوالي 1800 مسلم من أصل بنغالي في ولاية آسام الهندية ومرورا بكارثة هدم مسجد بابري الشهيرة عام 1992م وما تلاها من أعمال شغب في بومباي سقط جراءها آلاف القتلى والجرحى وانتهاءً بالتطاول الأثيم والخسيس من قبل المتحدث باسم الحزب الحاكم في الهند بهاراتيا جاناتا ضد الرسول الكريم وزوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كل هذا يدل أن موجة الاضطهاد والأذى والإذلال والتحريض ضد المسلمين هي للأسف في بداياتها والله المستعان.

منذ وصول رئيس الوزراء الهندي الحالي ناريندرا (مودي) إلى سدة الحكم قبل ثماني سنوات بالتمام والمنظمات والأحزاب الهندوسية المتطرفة (مؤذية) بشكل متزايد ومتصاعد ليس فقط للجالية المسلمة المقيمة في الهند بل كذلك مؤذية لجميع الشعوب العربية والإسلامية من خلال القدح في معتقداتها الدينية والسخرية والاستنقاص من رموزها التاريخية. الجدير بالذكر أن من المبادئ والأهداف التي قد يسعى لها بعض المتطرفون الهندوس تحقيق ما يسمى (الهند الموحدة) وهذا يعنى إعادة السيطرة والهيمنة الهندوسية على كامل الأراضي التي كانت قديما ضمن نطاق حكم الهندوس ولا يستغرب أن يظهر منهم من يطالب بعدوة الباكستان وبنجلاديش وأفغانستان ونيبال والتبت وسيرلانكا تحت حكم هنادكة القرن الواحد والعشرين.

المستقبل في الهند مظلم سواءً بسواء كما كان الماضي القديم فمتطرفي الهندوس لا يقبلون في أرض الهند بوجود وهيمنة أي دين غير الهندوسية فكما هو معلوم ظهرت الديانة البوذية في الهند في القرن الخامس قبل الميلاد. وبالرغم من أن البوذية كانت الديانة الأولى في الهند خلال ألف سنة من ظهورها إلا أنها الآن منحسرة بشكل حاد في الهند. وبالرغم من أن لبوذية هي رابع أكبر ديانة في العالم ومع ذلك فإن عدد البوذيين في الهند قليل جدا في حدود واحد في المئة من الشعب الهندي والغابية العظمى منهم يقيمون في المناطق النائية في جبال الهملايا أو في جزيرة سيلان المنفصلة عن أرض الهند الأم.

والمقصود أن (التعصب الهندوسي قد يقود) إلى محاولة تفريغ الهند من الجالية المسلمة المقيمة فيه وذلك من خلال سياسية التضييق والتطفيش والتهجير ودفعهم للشتات والنزوح الثاني إلى الباكستان. في بداية القرن الخامس الهجري زارع العالم والرحالة الكبير أبو الريحان البيروني أرض الهند وكانت أجزاء كبيرة منها تقع تحت حكم المسلمين. ومع ذلك ينقل لنا البيروني في كتابه المشهور (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) وجهة نظر الهندوس عن أنفسهم وتصوراتهم عن غيرهم فيقول: (إنهم يعتقدون في الأرض أنها أرضهم وفي الناس أنهم جنسهم وفي الملوك أنهم رؤساؤهم وفي الدين أنه نحلتهم). وما أشبه الليلة بالبارحة وكان الله في عون أهلنا في الهند فالغد والمستقبل بالنسبة لهم مخيف وكئيب.

 

( داعش البيضاء .. النسخة الأمريكاني للتطرف )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 التطرف والغلو يبدأ بانحراف في التفكير وخلل في الحكم على الأشياء قبل أن يتحول إلى تطرف وتشدد في الأفعال والمواقف ولذلك عندما وصف الرسول الكريم الخوارج ذكر في سياق الاستنكار لانحرافهم ومخالفتهم للمعقول بأنهم (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان). للعقول البشرية السوية الموقف السليم أن يحارب ويعادي الشخص من يخالفه في الدين ويناصر من يوافقه في العقيدة ولهذا من أشد أنواع الغلو والتطرف الفكري تعمدا قتل من يشاركك في الدين ويوافقك في العقائد. وهذا الداء (تكفير وقتل المخالف) موجود في سلوك أتباع جميع الأديان ومعتنقي كل المذاهب الفكرية الوضعية. ففي المسيحية على سبيل المثال الصراع المتجذر بين الكاثوليك والبروتستانت أفرز ظاهرة محاكم التفتيش وحرب المئة عام بل ومنذ فجر التمكن السياسي للمسيحية بعد بداية القرن الرابع الميلادي ظهرت فتنة محاربة الهرطقة التي أثمرت اضطهاد الاريسيين والأقباط في مصر.

أما اليهودية قبل ذلك فنجدها في القرن الأول الميلادي تفرز حركة سياسية ودينية ذات طابع عسكري تحمل اسم (الغيورون أو المتحمسون Zealots) انحرفت من مقاومة الاحتلال الروماني للقدس إلى تكفير وقتل كل من يتعامل مع العدو وقد ورد لهم ذكر في التلمود بأنهم يداهمون مساكن إخوتهم في الدين من اليهود ويعتبرونهم مرتدين ويقتلونهم. ومن الصفات المهمة التي ارتبطت بهذه الطائفة المتشددة والمتطرفة ليهودية القديمة أنها حملت كذلك اسم (السيكاري) وهي كلمة تعني الخناجر الصغيرة التي كانوا يخفونها في ملابسهم لكي يستخدموها في قتل الرومان أو اليهود المخالفين لهم ولاحقا كحال أغلب الحركات المتطرفة انغلقت هذه الطائفة على نفسها وتحصنت وانعزلت على قمة جبل شاهق في أرض فلسطين في مكان يسمى جبل مسعدة.

هذا الغلو والتطرف والانعزال والقتل الخفي لهذه الطائفة اليهودية المتعصبة يذكرنا ولا بد بما حصل في التاريخ الإسلامي من طائفة (الحشاشين) الشيعية التي احترفت الاغتيال والقتل والتخريب لأعدائها من قادة العام الإسلامي وقد نجحت فرقة الاغتيالات الأثيمة هذه في قتل الوزير السلجوقي نظام الملك وحاولت مرارا اغتيال صلاح الدين وكما هو معروف كان معقل طائفة الحشاشين قلعة ألموت المحصنة على رأس قمة معزولة في جبال الديلم بضواحي طهران.

من هذه المقدمة التاريخية المطولة نسبيا ندرك أن وجود طوائف أو أفراد مسلحين بأدوات القتل ما خف وخفي منها أو ما ثقل ولهم حماس وتصميم متطرف على قتل وإهلاك الحرث والنسل لأفراد دينهم وجماعتهم قبل أعدائهم، أن هذه الظاهرة متجذرة ومتجددة في جميع الأديان وفي تاريخ أغلب الشعوب والممالك عبر التاريخ. وما استجد في العصر الحديث أن أهل الغلو والتطرف استخدموا التقنية الحديثة ليس فقط في قتل أكبر عدد من الضحايا بواسطة قاتل واحد، ولكن أيضا في بث ونشر الرعب والترهيب إلى عموم البشر من خلال وسائل التواصل الحديثة. كلنا يعلم الخزي الذي لاحق بنا من جراء نشر جماعة داعش الإرهابية لعمليات الإعدام والقتل (المسجلة) عبر شبكة الإنترنت، ولكن أهل التطرف والغلو في العالم الغربي كانوا أكثر إجراما وشناعة عندما قام بعضهم بنشر عمليات القتل والإعدام في بث حي و(مباشر) عبر الإنترنت. وهذا ما حصل قبل عدة أسابيع عندما قام متعصب ومتطرف أمريكي بتنفيذ مذبحة مدينة بافلو في ولاية نيويورك وذلك عندما استخدم سلاحا آليا مزودا بكاميرا قامت ببث عملية قتله لعشرة أشخاص بشكل مباشر على منصة تويتر. وسبق ذلك بعدة سنوات قيام رجل مسلح أمريكي بنشر مقطع على موقع الفيسبوك يظهر إطلاقه للنار بشكل عشوائي على بعض المارة في الشارع مما تسبب في مقتل رجل مسن.

بقي أن نقول إنه إذا كانت جرائم وحوادث القتل التي قامت بها داعش دوافعها التعصب والتطرف الديني فإنه في الغالب دافع مذابح القتل في الغرب دوافعها التعصب والتطرف العرقي من قبل البيض الأمريكان نحو السود والمهاجرين الأجانب. ضحايا مجزرة قتل الأبرياء في سوبر ماركت مدينة بافلو سالفة الذكر كانوا من السود وكذلك ذلك الرجل المسن بالإضافة لمقتل عشرات الأشخاص من المكسيكيين وذوي الأصول الأسبانية في ولاية تكساس عام 2019م على يد رجل أبيض متطرف من أصحاب الفكر اليميني العنصري. حتى الآن ولله الحمد لم تحصل مجازر ومذابح مروعة للجالية المسلمة في أمريكا بينما قام المتطرفون من اتباع تيار (تفوق العرق الأبيض الأمريكي) بالعديد من المجازر المتكررة ضد السود الذين يحصل أن يتم قتلهم وإحراق أطفالهم وهم داخل كنائسهم. وآخر هذه الحوادث المريعة ما حصل عام 2015 عندما قام شاب أبيض صغير السن بإطلاق النار داخل كنيسة مخصصة للسود في مدينة تشارلستون في جنوب أمريكا مما تسبب في مقتل تسعة مسيحيين وبهذا ينطبق الوصف المتكرر في الخوارج وأهل الغلو (يقتلون اتباع دين المسيح ويدعون أهل الأديان الأخرى).

 في أمريكا .. البقاء للأبيض !!

في الواقع الغالبية العظمى من أهل التطرف والقتل في أمريكا هم من اتباع تيار (تفوق العرق الأبيض white supremacy) وهي حركة عنصرية بغيضة تؤمن بتفوق واستعلاء الجنس الأبيض المسيحي على غيره من الجنسيات والأعراق البشرية وأن له حق السيطرة التامة والمنفردة في حكم الدول والشعوب الغربية. الطامة الكبرى لهذا الفكر المتطرف أنه لا يكتفي بضمان تفوق واستعلاء البيض على غيرهم وإنما ينادي بمبدأ وفلسفة (النقاء العرقي والصفاء الجيني) بمعنى أنه لا يقبل أن تمتزج المورثات والجينات الوراثية بين الأجناس ولهذا لا بد من تطبيق سياسة (العزل العنصري) وما يتبعها من وسائل (التطهير العرقي). فلا مانع عندئذ من قتل وإبادة وتصفية الأشخاص الآخرين من الأغيار المخالفين في لون البشرة ولو كانوا من اتباع نفس الدين والمذهب العقائدي. هذه الطائفة الضالة وأصحاب الفكر المنحرف موجودون منذ زمن طويل في الولايات المتحدة ولكنهم آخذون في التمدد والتزايد فحركتهم وقوتهم حالها كحال شعار داعش المشهور (الحركة .. باقية وتتمدد). وإذا كان أهل الغلو في بلاد العربستان هم داعش وأحلافهم فإن أهل الغلو في بلاد اليانكي ستان (أمريكا) هم أتباع داعش البيضاء من أعضاء المنظمات اليمينية المتطرفة والإرهابية من مثل منظمة كو كلوس كلان (جماعة KKK) وحركة النازيين الجدد وتيار الانفصالية البيضاء وغلاة مذهب فخر الأبيض (white pride). وما يثير العجب من واقع الحال في أمريكا ليس فقط (التسامح) بوجود ونمو تلك الجماعات والحركات الإرهابية المتطرفة وخصوصا جماعة KKK (في عام 2015م قفز عدد فروع KKK من 70 إلى 190) ولكن أيضا السماح بوجود وانتشار العشرات إن لم يكن المئات من الميليشيات المسلحة والمنظمات شبه العسكرية. والغريب في الأمر أن بعض هذه المليشيات المتطرفة تصرح بمعاداتها للحكومة وتعتبرها سلطة استبدادية ولهذا تعتقد هذه المليشيات أن من حقها مقاومة الحكومة من خلال تدريب أفرادها على استخدام السلاح والأغرب من ذلك أن بعض من أنشأ هذه الميلشيات المسلحة أو يدرب فيها هم من المتقاعدين من الجيش الأمريكي. وللدلالة على تنامي خطر هؤلاء الدواعش المسلحين ذوي العيون الزرق يكفي أن نذكر أن المليشيا شبه العسكرية المسماة حراس القسم Oath Keepers تضلل وتغرر أتباعها البالغ عددهم أكثر من ثلاثين ألف من المسيحيين البيض وتحثهم على مناهضة الحكومة لدرجة أنهم أحيانا يقومون بمسيرات مسلحة في الشوارع في مشهد مشابه لمسيرات داعش ذات الأعلام السوداء في مدينة الموصل. ولقد وصل الحال بهذه المنظمة اليمينية المتعصبة أن قامت في عام 2019م بتهديد حاكم ولاية أوريغون الأمريكية بإشعال حرب أهلية في حال الموافقة على قانون جديد للولاية يقيد بعض الصناعات الملوثة للبيئة.

والأخطر من ذلك أنه في منتصف التسعينيات الميلادية من القرن العشرين حصل كما هو معلوم أكبر هجوما إرهابيا على الأراضي الأميركية من فعل أشخاص من الشعب الأمريكي نفسه وكان ذلك تفجير مدينة أوكلاهوما الشهير الذي أودى بحياة 168 شخصا كان العشرات منهم من أطفال الروضة الصغار. المهم هنا أن جزءا من التمويل المالي لهذه العملية الإجرامية تم من خلال منظمة متطرفة تحمل اسم (الجيش الجمهوري الآري) لها صلات وثيقة بحركة تفوق العرق الأبيض والنازية الجديدة ولهذا يقال إنها وفرت الدعم المالي (المسروق من عدد كبير من البنوك الأمريكية) لتأمين المفخخات لتنفيذ التفجير والتكفير العنصري الشنيع في مدينة أوكلاهوما. ومع ولاية أوكلاهوما مرة أخرى فما زال اسمها يرتبط بشكل متكرر بحوادث الكراهية الإرهابية وهذا ما كان قبل عدة أيام فقط عندما قام رجل مسلح بقتل أربعة أشخاص في مجمع طبي وقبل ذلك بأسبوع فقط أهتز العالم كله من هول الصدمة عندما قام شاب صغير مغرر به من حملة الفكر الضال كما يقال بتصفية وقتل 19 طفلا بريئا داخل مدرستهم الابتدائية.

وبمناسبة ذكر المدرسة في هذا السياق فلا في شك أن المجتمع الأمريكي ذا الخلفية التاريخية لثقافة رجل الكاوبوي والغرب الأمريكي والمتوحش wild west قد تجذرت فيه عادة حمل السلاح، ولكن مع هذا لا يمكن تفسير ظواهر القتل الجماعي المتواصلة في أمريكا في كل شهر أنها بسبب التساهل في قوانين حمل وبيع الأسلحة. كما لاحظنا من خلال ما تمت الإشارة الخاطفة له في هذا المقال توجد حالة احتقان دينية وعرقية وعنصرية واقتصادية واجتماعية عالية في المجتمع الأمريكي كانت دائما الوقود المغذي لمحرقة القتل والإرهاب والتطرف المتواصل. من السهل للكسالا أو لمن يستثمر الأحداث لتصفية الحسابات مع المخالف له أن يتم اتهام مناهج التعليم في أمريكا أنها خلف موجات الإرهاب المتتالية وأن التعليم المختطف من قبل الأصوليين المسيحيين يتم من خلاله بث سموم المنهج الخفي لفكر ابن تيمية البروتستانتي المتعصب وأقصد بذلك الراهب الألماني وعالم اللاهوت المعروف مارتن لوثر. بينما بكل بساطة يمكن أن يفهم التطرف في العالم الغربي والعالم العربي من خلال منظور نظرية (التحدي والاستجابة) للمؤرخ البريطاني البارز أرنولد توينبي فالحرب الأهلية الأمريكية أفرزت (تحدي) لسكان الولايات الجنوبية المهزومة بعد مقتل نصف مليون شخص بسبب فرض إلغاء الرق عن العبيد السود. وهذا في نهاية المطاف أفرز (الاستجابة) بأن ظهرت بواكير حركة KKK البيضاء المتعصبة التي استهدفت قتل السود. ولاحقا التحدي بسبب ضعف الأوضاع الاقتصادية أفرز استجابة تفشي جرائم الكراهية ضد الأجانب والمهاجرين من أمريكا اللاتينية إلى أرض الأحلام الأمريكية. ونفس الأمر بشكل أو بآخر يمكن أن يقال بأن تحدي تغير الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلدان العربية أفرز استجابة بزوغ بعض أشكال التطرف والإرهاب.

 

 

( الشاي في السياسة والحرب )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في الغالب الأعم من التاريخ الإنساني كان ثاني أكثر مشروب يتناوله البشر بعد الماء هو سائل الحليب، ولكن تحت تأثير السياسة الطاغي تغيرت عبر الزمن عادات الشعوب في طبيعة المشروبات التي يستهلكونها بكثرة بعد الماء. وحسب توصيف ابن خلدون للسلوك البشري ونظريته الهزيمة الحضارية وأن (المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب) وكنتيجة لهذه التبعية الشعورية فكثيرا ما تنتقل عادات وتقاليد بعض الأمم إلى الأمم الأخرى. تحت تأثير الإمبراطورية الإنجليزية التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس انتقلت عادة تناول الشاي إلى جميع أنحاء العالم ويضاف إلى ذلك تأثير الإمبراطورية الصينية التي تسمى كذلك (إمبراطورية الشاي). وفي الزمن الذي كانت الإمبراطورية العثمانية هي الكيان السياسي المهيمن على العالم الإسلامي وشرق أوروبا لذا لا غرابة أن تتعلم الشعوب الغربية عادة تناول القهوة (التركية) نتيجة لانتقال عادة التردد على مقاهي وصالونات القهوة من حارات إسطنبول إلى جميع العواصم الأوروبية والعربية. وبحكم أن لكل قاعدة استثناء فلم يستسغ الأمريكان كثيرا القهوة التركية ولهذا تعرضت لهجوم وهجاء شديد من قبل الكتاب الأمريكي المعروف مارك توين وذلك بعد أن زار تركيا والشرق الأوسط وسطّر حكمه الشنيع وغير البريء ضد الأتراك والعرب في مذكراته التي حملت اسم (الأبرياء في الخارج). ولحساسية الأمريكان السياسية وأنفتهم وبغضهم للضرائب المفروضة على بضائع الشاي لا أعلم هل هذا ما حثهم ودفعهم لتطوير مشروب منعش جديد. في الزمن الحالي وبحكم سيادة وطغيان الثقافة الأمريكية على أغلب شعوب العالم أصبح الجميع يتناول مشروب الكوكاكولا أكثر من تناوله لسائل الحليب.

الطريف في الأمر أنه عندما تم تعريف الأوروبيين على مشروب الشاي لأول مرة على يد أحد التجار الهولنديين في عام 1610م تم تقديمه على أنه مشروب طبي ولاحقا عندما تم تقديم مشروب الكوكاكولا لأول مرة في أمريكا وذلك عام 1886م تم ذلك على يد الصيدلاني الأمريكي جون بمبرتون والذي كان يبيع اختراعه الفوّار تحت دعاية أنه نوع من الأدوية الطبية المفيدة في تقوية الأعصاب وتخفيف الآلام. الشعب الإنجليزي وبالرغم من الشهرة الطاغية لعشقه لتناول الشاي إلا أن الجزر البريطانية كانت تقريبا من أواخر الدول الأوروبية التي وصل لها مشروب الشاي وذلك في منتصف القرن السابع عشر ومرة أخرى نجد أن الحملة الدعائية للترغيب في شرب الشاي تم تسويقها على أن الشاي دواء طبي يساعد في إزالة انسداد الطحال وينظف الكُلى والحالب من الحصوات.

وكما هو معلوم دائما ما يكون سعر الأدوية غاليا وباهضا وهذا كان حال (دواء) الشاي في بداية انتشاره فقد كان سعر الرطل الواحد منه حوالي مئة دولار وهو مبلغ ضخم بمقاييس ذلك العصر ولهذا لم يكن يتناول مشروب الشاي إلا الأثرياء. خصوصا وأن تناوله كان لا يتم إلا في فناجين وأباريق البورسلان والخزف الصيني الباهظة الثمن فضلا عن أن السكر النادر الوجود كان يستحق توصيفه بالذهب الأبيض. وهذه التكلفة الباهظة جدا للفنجان الواحد من الشاي في القرن السابع عشر تقودنا لتسليط الضوء على الآثار السياسية والاقتصادية الشنيعة التي تكبدتها بعض الدول والشعوب بسبب مشروب الشاي.

منذ فجر التاريخ وأرض الصين هي المصدر الرئيس لسلعة الشاي، ولكن المشكلة أنه عندما تعرفت الشعوب الأوروبية على هذا المشروب المنعش كانت الإمبراطورية الصينية قد تخلت عن عادتها القديمة في تبادل السلع التجارية عبر طريق الحرير من خلال نظام المقايضة (تبادل السلع التجارية) وإنا أصبحت تطلب الحصول على النقود الذهبية والفضية مقابل أي سلع ومنتجات صينية يتم تصديرها للخارج. بالمناسبة أحد أسباب انهيار الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية وضعفها في القرن الثامن عشر أن أغلب مواردها من الفضة التي كانت تستخرجها من مستعمراتها في أمريكا الجنوبية (معنى الأرجنتين باللغة اللاتينية: أرض الفضة) كانت تشحن مباشرة إلى إمبراطورية الشاي: أرض الصين. وهنا تدخل الإمبراطورية الإنجليزية في سياق القصة فمنذ مطلع القرن التاسع عشر أصبحت الجزر البريطانية الصغيرة هي أقوى دولة في مسرح السياسة العالمي. وبسبب أن تكلفة استيراد الشاي (المشروب المفضل للإنجليز) كانت باهظة الثمن لهذا حاولت الإمبراطورية الإنجليزية استبدال تسديد الثمن بالذهب والفضة وإجبار الصين على قبول مقايضة سلعة الشاي بشيء غريب جدا ألا وهو مخدر الأفيون الذي كانت تزرع شجيرات الخشاش في الأراضي الهندية التي يسيطر عليها جنود التاج الإنجليزي. في عام 1840م اندلعت أحداث ما تسمى (حرب الأفيون) بين بريطانيا والصين وبعض المؤرخين يقترح أن يتم تسميتها (بحرب الشاي) وهي الحادثة المشينة واللعينة في تاريخ الأمة الإنجليزية عندما قامت القوات البريطانية بقوة السلاح بإجبار الحكومة الصينية بقبول بيع الشاي والخزف الصيني (البورسلان) والحرير بما يقابلها من صناديق بودرة الأفيون بدلا من سبائك الفضة.

في حرب الشاي تلك انتصرت بريطانيا واحتلت الصين (استمر النفوذ الإنجليزي في الصين لمدة 80 سنة) ولكن قبل ذلك بسنوات طويلة تسببت (معركة شاي) أخرى في مكان آخر في حصول أكبر هزيمة للإمبراطورية الإنجليزية. هذا ما تذكره كتب التاريخ عن (حفلة شاي بوسطن Boston Tea Party) والتي حصلت في 16 ديسمبر من عام 1773م وذلك عندما حدثت حركة احتجاج سياسية من قبل المستوطنين المقيمين في المستعمرات البريطانية في قارة أمريكا الشمالية على استثنائهم من الحصول على عضوية البرلمان البريطاني. وبحكم أن عادة تناول الشاي كانت مستشرية بين سكان أمريكا الشمالية ولهذا قاوموا بشدة توجه الحكومة البريطانية فرض المزيد من الضرائب المفرطة على تجارة الشاي المصدر من بريطانيا إلى أمريكا. ولهذا حصل في ذلك التاريخ قيام عدد من المستوطنين الأمريكان بحملة تخريب لبضائع الشاي المشحونة في السفن البريطانية الراسية في ميناء مدينة بوسطن الأمريكية حيث تم رمي جميع صناديق الشاي في مياه الميناء. وبحفلة الشاي تلك في ميناء بوسطن انطلقت شرارة حرب الاستقلال الأمريكية من براثن الهيمنة الإنجليزية وتغير التاريخ بشكل كبير بعد ولادة أكبر دولة في التاريخ الحديث ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية.

 من شاي رئيس الوزراء إلى شاي الملكة

وما زلنا في سرد قصة العلاقة الوثيقة بين الشعب والأمة الإنجليزية وعشقها المفرط للشاي والذي أدى إلى غزوها للصين وخسارتها لأمريكا ويقال إنه أثناء الحرب العالمية الثانية وكمحاولة لكسر الروح المعنوية للشعب البريطاني تعمدت الطائرات الحربية الألمانية أثناء قصفها المتكرر لمدينة لندن أن تركز على قصف موقع طريق منسينق Mincing Lane والذي يعرف باسم (شارع الشاي) حيث كان يعتبر سابقاً أكبر مركزا في العالم لإدارة تجارة الشاي. ونظرا لأهمية الشاي في الثقافة الإنجليزية حرصت الحكومة في عام 1942م على شراء كل رطل يمكن تأمينه من أي دولة في العالم لدرجة أنه يقال بأن مصاريف شراء الشاي للشعب البريطاني في سنوات الحرب كانت تفوق تكاليف توفير قذائف المدافع والقنابل والمتفجرات. ويشتهر عن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل قوله أثناء الحرب إن توفير الشاي أكثر أهمية من توفير الذخيرة الحربية ولهذا أصدر أوامره بأن يحصل الجنود والبحارة على السفن الحربية الإنجليزية على كميات غير محدودة من الشاي بينما كانت الطائرات الحربية البريطانية تنزل عشرات الأطنان من صناديق الشاي على قوات الحلفاء في جبهات القتال.

وبمناسبة الحديث عن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل فله علاقة متشعبة بمشروب الشاي الإنجليزي الفاخر فبعد أن ارتبط في منتصف القرن التاسع عشر اسم رئيس الوزراء الإنجليزي القديم تشارلز غري بأحد أشهر الأنواع التجارية الفاخرة للشاي الإنجليزي حتى الآن (شاي إرل غري Earl Grey Tea)  تكرر الأمر بعد ذلك بقرن من الزمن مع ونستون تشرشل. تقول القصة إن أحد التجار عرض على تشرشل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أن يشتري منه اسمه لكي يظهر كعلامة تجارية على نوع جديد من الشاي (شاي تشرشل الفاخر Churchill`s Fine Teas) ولهذا خرجت الصحف العالمية بعناوين ساخرة بأن تشرشل باع اسمه بثمنٍ بخس يبلغ فقط خمسة آلاف جنيه إسترليني. صحيح أن تشرشل أكثر ما أشتهر عن الصورة النمطية عنه هو سيجاره الضخم وسكره المتواصل بالخمر إلا أن له كذلك قصصا مع الشاي أشبه بنسج الخيال كالقصة السابقة في بيع اسمه على علب الشاي. لحظات حاسمة في تاريخ الحرب العالمية الثانية كان بطلها ونستون تشرشل في وجود أكواب الشاي من ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت في البداية ترفض الدخول المباشر في حرب مع الألمان حتى حصلت حادثة قصف اليابانيين لميناء بيرل هاربر الأمريكي. وبعده بفترة قصيرة من ذلك الاعتداء الهائل على الكرامة الأمريكية سافر تشرشل إلى أمريكا ومكث عدة أيام في البيت الأبيض حتى يقنع الرئيس الأمريكي أيزنهاور بدخول الحرب. وكان أول لقاء لهما على مائدة ضيافة عبارة عن حفلة شاي من ترتيب زوجة الرئيس الأمريكي روزفلت ويبدو أن النقاش في هذا الجو (الصافي) للذهن هو ما أفرز موافقة الأمريكان بدل حفلات قرع كؤوس الخمور. وفي نهاية الحرب يقال إن تشرشل اجتمع مع رئيس أمريكي آخر هو دوايت أيزنهاور (عندما كان قائد قوات الحلفاء) وذلك في لقاء سري حصل في فندق صغير يقع في ضواحي جنوب اسكتلندا. في ذلك الاجتماع تناقش القائدان السياسي تشرشل والعسكري أيزنهاور وهما يحتسيان أكواب الشاي المتتالية تفاصيل الخطة السرية لعملية إنزال قوات الحلفاء على سواحل نورماندي الفرنسية وهي المعركة التي حسمت نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن القصص الخيالية المتداولة عن تشرشل والتي لها علاقة بتناول الشاي أنه بعد فترة قصيرة من تتويج الملكة إليزابيث الثانية بالعرش البريطاني عام 1953م زارها رئيس وزرائها تشرشل للتهنئة وحينها عرضت عليه أن يتناول معها (شاي الملكة) وهو أشهر تكريم وبرتوكول سوف تستمر الملكة لمدة سبعين سنة تقدمه لكبار الزوار لها من الملوك والرؤساء وقادة الدول. الغريب في الأمر أنه يقال إن تشرشل رفض تناول الشاي مع الملكة التي كانت ما زالت في بواكير الشباب في ذلك الوقت ونبهها إلى أن جدتها الملكة فيكتوريا لم تكن تقدم الشاي لأي من رؤساء وزرائها ولا حتى تسمح لهم بالجلوس في حضرتها لأن ذلك من إضاعة الوقت الثمين الذي يجب أن يبذل في تصريف شؤون الدولة والحكم.

وعلى ذكر جلسات وسواليف (شاي الملكة) والوقت الثمين الذي ينبغي ألا يضيع في الثرثرة مع ملكة بريطانيا في كتاب (الوزير المرافق) للدكتور غازي القصيبي نجده يذكر تحسره أنه لعدة مرات لم تتح له الفرصة أن يتم اختياره ضمن أفراد الوفد السعودي الرسمي لحضور مأدبة غداء في ضيافة الملكة إليزابيث في قصر باكنغهام الملكي بلندن. وعندما أتيحت الفرصة له أخيرا أثناء زيارة رسمية لولي العهد وقتها الأمير عبد الله بن عبد العزيز نقل وزير الصحة الدكتور غازي وصف تفاصيل هذا اللقاء في عدة صفحات والغريب أنها كانت كلها لحديث وسواليف الوزير مع الملكة كان منها التطرق لجدتها الصارمة الملكة فيتوريا. كما سألها عن عدد أفراد عائلة الملكة وملاحظة أنهم يتتابعون غالبا في الأسر الملكية بترتيب ثابت مولود ذكر ثم أنثى ثم ذكر وهكذا دواليك وختم الشاعر غازي القصيبي حديثه الطويل مع الملكة البريطانية عن قيامه بترجمة مجموعة من قصائد الشعر العربي إلى الإنجليزية.

مثل هذه الأخبار الطريفة التي تحصل أثناء لقاءات الملكة إليزابيث مع ضيوفها كثيرة بسبب التاريخ الطويل لسبعة عقود من الزمن لحفلة (شاي الملكة) ومن آخرها العالم الماضي عندما زار الرئيس الأمريكي بايدن الملكة الإنجليزية واحتسى هو وزوجته جيل الشاي مع الملكة في قلعة وندسور ثم خرج ذلك الرئيس الكهل يقول للناس إن الملكة لطيفة جدا وذكرتني بوالدتي !!. الغريب أنني عندما قمت شخصيا بالجلوس على مائدة الشاي الملكية في وجود الملكة إليزابيث كانت صامتة تماما ولم تناقش معي التاريخ والأدب كما حصل مع الوزير القصيبي هل لأنها كانت تمثالا من الشمع وليست صاحبة الجلالة بشحمها ولحمها وشعرها الأشيب.

وختاماً لمن أبهجته القصص والأخبار السابقة عن الشاي وأثره في تشكيل التاريخ ودنيا السياسة لعل من المناسب لمن تتاح له الفرصة أن يزور معرض (ألوان الشاي الدولي 2022) والذي تنطلق فعالياته بمدينة الرياض يوم غد الأحد 21 مايو والموافق لليوم العالمي للشاي.

( دراما السفر .. مطارات تتهاوى )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 كثيرا ما يلفت نظري أثناء فترات الانتظار في صالات السفر بالمطارات ملاحظة عجائب علم الإدارة في مجال إدارة الحشود والتجمعات البشرية والذي ينعكس في دقة التعامل الاحترافي مع الثالوث الصعب: البشر والأجهزة والأنظمة. بالإضافة لعلوم الإدارة في صالات المطارات تتميز تلك المراكز الكبرى للتجمعات البشرية بشحنة عالية من الدراما الإنسانية فلكل مسافر قصة وللبعض منهم غصة ومن كثرة الروايات والأعمال الأدبية المتعلقة بصالات السفر ظهر فرع جديد في مجال الأدب يسمى (روايات المطارات). وأصعب حالات الدراما في المطارات هي حالة (تعثر السفر) بسبب إلغاء رحلات الطيران أو عدم الحصول على تأشيرة السفر وهذا ما أفرز روايات وأفلاما سينمائية بارزة مثل رواية وفلم (صالة السفر The terminal) والذي قام فيه الممثل الأمريكي توم هانكس بتجسيد القصة الحقيقة للمسافر والمعارض السياسي الإيراني مهران نصري الذي علق لمدة 18 سنة في صالة السفر رقم واحد بمطار باريس. وقريبا من ذلك كتاب (رجل في المطار) والذي يحكي قصة الشاب السوري حسن القنطار الذي تم ترحيله بعد الثورة السورية إلى ماليزيا ليعلق هو الآخر في مطار كولالمبور لفترة من الزمن وتشتهر قصته علميا بسبب وسائل التواصل الاجتماعي.

في عالم المال والأعمال يعتبر الملياردير البريطاني السير ريتشارد برانسون من أبرز مشاهير رجال الأعمال ومع خبرته الواسعة في إنشاء أكثر من 360 شركة تجارية يٌتبادل كذلك العديد من أفكاره وأقواله في مجال علم الإدارة. وما يهمنا هنا من أقوال صاحب شركة الطيران الدولية الكبرى (فيرجين أتلانتك) الشطر الأول من مقولته المتداولة في تحفيز الموظفين (درب الناس جيداً حتى يتمكنوا من المغادرة، ولكن أيضا عاملهم جيداً حتى لا يريدوا ذلك). في مجال الطيران تعتبر مرحلة (المغادرة) هي أهم نقطة حرجة في فن إدارة المطارات ولهذا بالفعل نحتاج بدرجة ماسة الإتقان في التدريب الجيد للأطقم الفنية في صالات المطارات حتى يتمكن المسافرون من المغادرة. في الأيام الماضية ومع تداعيات فوضى التشغيل لمطار مدينة جدة الجديد أحد أحدث المطارات الدولية الكبرى تترسخ يوما بعد آخر وكارثة بعد أخرى حقيقة أن فن إدارة المطارات الدولية يعتبر أحد أصعب العمليات التشغيلية ضمن قطاع الأعمال بسبب تعدد وتداخل العوامل والمؤثرات البشرية والتقنية والمالية.  

وسوء الإدارة أو سوء التصميم والتجهيز للمطارات تسبب عبر التاريخ في فضائح وطوام كبرى فهذا مثلا مطار مدينة دينفر الدولي بولاية كولورادو الأميركية والذي يعتبر أكبر مطار في العالم وأكثرها ازدحاماً (صاحب الرقم القياسي في عدد المسافرين ففي عام 2019م كان عددهم حوالي 70 مليون مسافر) ومع هذه الإنجازات المميزة إلا أن افتتاحه في عام 1995م بدأ بفضيحة إعلامية مدوية. وذلك عندما قامت إدارة المطار أثناء فترة التشغيل التجريبي للمطار بدعوة وسائل الإعلام لتغطية عملية التشغيل وهنا تكشفت كارثة سوء تصميم أجهزة نقل حقائب المسافرين والتي توقفت وتسببت في تساقط حقائب وبعثرت ملابس المسافرين أمام كاميرات الصحفيين ومراسلين القنوات الفضائية ولم يتم حل هذه المشكلة المحرجة بشكل جذري إلا بعد ذلك بعشر سنوات.

وهذا مطار برلين الدولي وبعد حوالي تسع سنوات من التأجيل المتكرر لافتتاحه الرسمي وبعد أن تزايدت كلفة إنشائه من اثنين مليار يورو إلى سبعة مليار يورو تم أخيرا تدشينه عام 2020ميلادي. وكنتيجة لسلسلة الأعطال والعيوب وشبهة الفساد تعثر المطار بشكل كبير ولذا أعلنت الشركة المشغلة لهذا المطار حاجتها الماسة للدعم المادي لإنقاذ المطار من الإفلاس ولو حصل ذلك فسوف يترسخ اللقب الشنيع الذي وصف به هذا المطار بعد تأخر افتتاح لسنوات طويلة بأنه (مطار الأشباح). وقد أصبح هذا المطار أضحوكة أهل برلين عندما علموا بأنه تم فيه وضع أربعة آلاف باب في غير مواضعها الصحيحة أو أن السلالم الكهربائية فيه أقصر من الارتفاع المطلوب كما حصل خلل فني في جميع شاشات عرض مواعيد الرحلات البالغ عددها 750 شاشة.

 مطارات في لحظة الانكسار

ما سبق سرده يبين هول الصدمة من الإخفاق المحرج في تشغيل مطارات دولية حديثة الإنشاء ومتطورة التصميم كما حصل مع مطارات دينفر وبرلين وجدة، ولكن هذا لا يعني أن أفضل وأدق المطارات الدولية ليست عرضة بأن تتهاوى وتتصدع في لحظات معينة نتيجة لبعض الكوارث الطبيعية أو الإضرابات البشرية أو العطل الفني أو التخريب المتعمد. فمثلا قبل عدة سنوات تم إغلاق مطار أوساكا الدولي (أول مطارفي العالم مبني على جزيرة صناعية في المحيط) بسبب هبوب إعصار مدمر الذي اجتاح جنوب اليابان. ولسنوات متعددة تحصل حالات ارباك وتزاحم وتكدس للمسافرين في مطار هيثرو الدولي الشهير في مدينة لندن بسبب أعطال فنية في أنظمة تقنية المعلومات مما تسبب في إلغاء مئات رحلات الطيران الداخلية والدولية. وفيما تتكرر فضائح الأعطال الفنية في مطار هيثرو البريطاني تكررت عبر السنوات الماضية حالات إضراب المئات من عمال الأمن في العديد من المطارات الألمانية وهذا الإضراب للعاملين في تشغيل المطارات حدث ويحدث في كبرى المطارات الدولية مثل مطارات باريس وأمستردام ونيويورك وشيكاغو. والطريف في الأمر أنه في عام 2016 نظم حوالي مئتين من عمال مطار رونالد ريجان بالعاصمة الأمريكية واشنطن، نظموا اضراباً ومسيرات احتجاج عن تدني أجورهم. وهذا ما استدعى المقارنة بحزم الرئيس الأمريكي ريجان في التعامل مع حركات اضراب العمال عندما قام في عام 1981م بفصل 11500 من عمال المراقبة الجوية في العشرات من المطارات الامريكية عندما قاموا بعمل اضراب عن العمل تسبب في تعطل حركة الملاحة الجوية في أمريكا.

كما هو معلوم عمال برج المراقبة في المطارات لهم أهمية كبرى في ضمان سلامة إقلاع وهبوط الطائرات وسلامتها في الجو وعلى أرض المطار وهذا يقودنا للحديث عن أحد أغرب الحوادث المأساوية في تاريخ الطيران. بالرغم من أن حوادث تحطم الطائرات نادرة جدا إلا أن حوادث تصادم الطائرات مع بعضها البعض في الجو أو في الأرض أكثر ندرة بكثير ومع ذلك أكثر حادثة ارتطام بين طائرات نتج عنها أكبر عدد للضحايا لم تحصل في مطار دولي مزدحم وإنما في مطار صغير في عرض المحيط. نتيجة لبعض الأضرار الكبرى في أحد المطارات الإسبانية في عام 1977م تم تحويل بعض الطائرات للهبوط المؤقت في مطار جزر الكناري وبسبب الضباب الكثيف على أرضية المطار وعدم كفاءة عمال المراقبة الجوية وأجهزة الرادار تصادمت على أرض المطار طائرتا بوينغ ضخمة إحداهما هولندية والأخرى أمريكية مما تسبب في مقتل 583 راكبا.

اصطدام آخر بين الطائرات لاقى شهرة إعلامية كبرى مع عدم وقوع ضحايا فيه كان ذلك الذي حصل عام 2018م وذلك بعد فترة زمنية قصيرة من مناقشة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع حاكم مدينة نيويورك إجراءات تحسينات بمطارات المدينة. وهنا حصلت الحادثة المحرجة عندما تعرضت الطائرة الخاصة لترامب لحادثة اصطدام مع طائرة أخرى عندما كانت رابضة في أرض المطار. بقي أن نقول إن المطار الذي حصلت فيه هذه الحادثة المحرجة هو المطار سيء السمعة في عالم الطيران والذي ومنذ عقود طويلة وهو محافظ على تقييمه المخزي كأسوأ مطار في أمريكا إلا وهو مطار لاغوارديا في مدينة نيويورك والذي حتى الآن تبلغ نسبة عدد الرحلات الملغاة أو المتأخرة أكثر من 22% من نسبة الرحلات المغادرة من هذا المطار وهي نسبة شنيعة جدا. وبالمناسبة وعبر عقود زمنية طويلة واجه عدد كبير من الطلاب السعوديين المبتعثين للدراسة في أمريكا ذكريات مريرة مع هذا المطار فبعد ساعات طويلة من السفر من جدة أو الرياض إلى مطار جون كيندي الدولي في مدينة نيويورك. ثم بعد مرمطة الانتظار الطويل والتدقيق السخيف عند رجال الجوازات يحتاج العديد من الطلاب المبتعثين الانتقال إلى مطار لاغوارديا لإكمال رحلاتهم الداخلية لمختلف الولايات الأمريكية وهنا يصدمون بالخدمة السيئة في هذا المطار وتأخر الرحلات. والطامة الكبرى إذا كان سفرهم التالي باستخدام شركة الخطوط الأمريكية Pan Am الشنيعة والتي يتذكرها جيل الطيبين قبل أن يتم حلها غير مؤسفا عليها في مطلع التسعينيات.

 بدأنا هذا المقال بالتلميح لدراما المطارات كما استعرضنا عددا من نماذج المطارات التي تتهاوى وتتصدع في جودة خدماتها التشغيلية ونختم أخيرا بالذكر المطار الدولي الذي تصدع وأنهار بالفعل والحقيقة وليس بالمجاز اللغوي. وهذا ما حصل عام 2004م مع مطار شارل ديغول الدولي في مدينة باريس حيث حصل انهار و(تهاوى) وتعطل جزءا كبيرا من مبنى الركاب رقم 2 وذلك نتيجة لحصول فجوة في سقف أحد ممرات المطار نصف قطرها 50 مترا وتسبب هذا التصدع في مصرع ستة أشخاص وإصابة العشرات. المحرج في الأمر أن هذه الصالة الجديدة التي حصل فيها الانهيار كانت حديثة الإنشاء وتهاوت وتداعت fall apart بعد سنة واحدة فقط من افتتاحها وصرف حوالي 900 مليون دولار لبنائها.