الجمعة، 25 مايو 2018

( رمضان خارج المألوف )

الصلاة في الفضاء شاقة .. وماذا عن الصيام

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في مطلع شهر رمضان المبارك العام الماضي نشر رائد الفضاء الامريكي سكوت كيلي تغريده تويتر تحتوي على صورة فوتوغرافية ألتقطها من الفضاء لمكة المكرمة وذلك بهدف تهنئة المسلمين بحلول شهر رمضان المبارك. الاحتفال بالشهر الفضيل من الفضاء حدث غير عادي ولكنه ليس نادر الحدوث تماما فقبل حوالي عشر سنوات احتفل رائد فضاء آخر بشهر رمضان بمناسك رمضانية مختلفة  حيث حاول الصوم في الفضاء رائد الفضاء الماليزي مظفر شكور المشارك في رحلة فلكية إلى محطة الفضاء الدولية في أواخر شهر رمضان من عام 2007م . لقد حرص مظفر شكور على حسن أداء العبادات الشرعية في الفضاء ولهذا أستعان بفتاوى خاصة من مجلس الفتوى الوطني في ماليزيا لإرشاده لكيفية ضبط تحديد مواقيت الصلاة والصيام وقيام الليل (فضلا عن تحديد القبلة) في محطة الفضاء الدولية التي يتوالى الليل والنهار فيها كل 90 دقيقة !!.
الجدير بالذكر أنه قبل الفتوى الفضائية الماليزية بحوالي عشرين سنة حرص الأمير الشاب سلطان بن سلمان أن يستفتي سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز عن عين تلك الامور الشرعية المستحدثة حيث كان من المتوقع أن تنطلق رحلته الفضائية عبر ماكوك الفضاء ديسكفري في يوم 26 رمضان من عام 1405هـ إلا أن الرحلة تأجلت قليلا ولهذا أنطلق الأمير للفضاء في آخر يوم من رمضان. وإذا كان الامير سلطان بن سلمان هو أول رجل مسلم يصعد إلى الفضاء فإن أول امرأة مسلمة تغزو الفضاء هي رائدة الفضاء الإيرانية أنوشة أنصاري ذات الجنسية الامريكية والتي تعتبر كذلك أول (سائحة فضاء) في التاريخ حيث أنه دفعت حوالي عشرين مليون دولار لكي تقوم بهذه المغامرة الفلكية المذهلة. بقي أن نقول أن الرحلة (السياحية) لهذه السيدة الفضائية المسلمة بدأت في يوم 26 رمضان من عام 1427هـ وبالرغم من أنها اخترقت أجواء السماء في ليله القدر إلا أنه للأسف لا توجد أي أخبار صحفية عنها تشير هل مارست أي من الشعائر الدينية في الفضاء بل لا نعلم إن كانت على الأقل قد احتفلت بعيد الفطر المبارك في محطة الفضاء الدولية.

رمضان في أرض غريبة
لا شك أن الاجواء الرمضانية في ماكوك الفضاء أو محطة الفضاء الدولية بالقطع لها طابعها الخاص ولهذا صرح رائد الفضاء الامير سلطان أن (صيام شهر رمضان في الفضاء تجربة لا تنسى) لكن الحصول على تجربة فريدة ومغامرة شيقة في رمضان قد يمكن تحقيقها دون التحليق مع النجوم. من ذلك مثلا أن تذهب في مغامرة لصعود قمة جبل إيفرست كما فعل مجموعة من الشباب الخليجي الذين تسلقوا أعلى قمة في سلسلة جبال الهيملايا في أواخر شهر رمضان من عام 1433هـ وقد عاشوا مشاعر إيمانية عالية عندما قام أحدهم برفع صوت الأذان في نهار شهر رمضان ومن فوق أعلى قمة على سطح الأرض وبهذا قد يكون هذا هو أقرب صوت للآذان إلى أبواب السماء. في حِسنا الجمعي أرتبط شهر رمضان بالصيف والحر والعطش ولهذا كان من (خارج المألوف) ارتداء الملابس الثقيلة وحمل اسطوانات التنفس بين ثلوج قمم الجبال في شهر رمضان ومع تزايد شعبية تسلق الجبال الشاهقة بين جموع الشباب العربي والمسلم من المحتمل تكرار مثل هذه المشاهد في شهر رمضان المبارك لأن تسلق هذا الجبال أسهل في الغالب في شهور الصيف.
وعلى نفس النسق في الخروج عن المألوف في تجربة الاجواء الرمضانية بين الثلوج والزمهرير بدأت كذلك تنتشر ظاهرة توجه أفراد من الرحالة العرب لزيارة القطب المتجمد الشمالي بل وحتى القطب المتجمد الجنوب الاكثر بعدا والأكثر خطورة والاشد برودة. وبحكم توافق شهر رمضان في هذه السنوات مع فترة الصيف تزداد احتمالية رغبة بعض الرحالة والسياح العرب تجربة الصيام في أرض الجليد. في واقعنا المحلي كان أول من وصل إلى القطب المتجمد الجنوب هما الدكتور مصطفى معمر من جامعة الملك عبدالعزيز والدكتور إبراهيم عالم من جامعة الملك فهد واللذان شاركا في 1989م في رحلة علمية دولية استكشافية للقطب المتجمد الجنوبي استمرت لثلاثة أشهر انتهت في مطلع شهر رمضان المبارك من تلك السنة. الجدير بالذكر أن الرحلات الاستكشافية العلمية العربية للمناطق المتجمدة محدودة ومتقطعة منذ أن بدأها العالم المصري الدكتور سيد زكريا السيد بزيارة القطب المتجمد الجنوبي وحتى نهايتها بمشاركة الدكتور عبدالعزيز اللعبون من قسم الجيولوجيا بجامعة الملك سعود في رحلة استكشافيه دولية للقطب المتجمد الجنوبي عام 2014م. ومع ذلك تبقى التجربة المتميزة في هذا الشأن في العالم الاسلامي من نصيب تركيا حيث تخطط جامعة إسطنبول التقنية بافتتاح محطة أبحاث علمية دائمة لها في القطب المتجمد الجنوبي بدلا من التعاون العلمي المؤقت مع الدول الاخرى. وبحكم أن تشغيل هذه المحطة الدائمة غالبا سوف يتم في شهور الصيف وبهذا سوف تكون الفرصة شبة مؤكدة لوجود مسلمين في قلب القارة المتجمدة قد يرغبون بصيام شهر رمضان في هذه الارض الغريبة.
من جانب آخر ومنذ عقود طويلة تنشط بعض الشركات السياحية الغربية في تنظيم رحلات سياحية للوصول للدائرة القطبية أو حتى لأطراف القارات المتجمدة الشمالية بالذات وكذلك الجنوبية. ولمن يرغب في رحلة سياحية خالدة للقطب المتجمد الشمالي خلال شهر رمضان الحالي توفر شركة سياحية بريطانية متخصصة في هذا المجال رحلة (سفاري جليدية) لمشاهدة الدب القطب والفقمة تبدأ من يوم 11 رمضان ولمدة تسعة ايام وبتكلفة حوالي سبعة آلف جنية استرليني. وبهذه المناسبة تجدر الاشارة إلى إن المغامر السعودي وليد زاهد قد وص في عام 2010 هو وولديه هيثم ومحمد إلى مركز القطب في القارة المتجمدة الجنوبية.
 لكن يبقى مع ذلك لأي سائح أو مغامر الاستعداد لحالة الارباك الحتمية فيما يتعلق بأداء الشعائر التعبدية في منطقة القطبين المتجمدة ففي فصل الصيف من المحتمل في بعض المناطق أن لا تغيب الشمس على الاطلاق أو في أحسن الاحوال يكون الليل لمدة أقل من ساعة علما أنه لن يوجد ظلام الليل المعتاد وإنما ظِلال الغسق الداكنة. وعليه في مثل هذه البيئة الغرائبية البعيدة عن المألوف يصعب تحديد أوقات الصلوات أو تحديد زمن الصيام وبدأ لحظة الافطار أو الإمساك. وتجدر الاشارة بهذه المناسبة أن الجالية الاسلامية في مدينة أولو بشمال فنلندا أو في منطقة نونوفت بأقصى شمال كندا طلبوا فتاوى شرعية خاصة لمشكلة أن النهار في رمضان لديهم قد يصل لمدة 23 ساعة في حين أن بعض المسلمين في حين أن بعض المسلمين بمدينة نوريلسك في سيبيريا الروسية قد يصومون لمدة 21 ساعة باليوم !!.

رمضان في الغربة كربة
إذا كان صيام رمضان في الفضاء تجربة لا تنسى فبدرجة أقل تجربة الصيام في أرض الصقيع وفي بلاد غريبة تجربة تستحق الذكر والتوثيق. ومن أقدم ما نقل لنا في هذا السياق تجربة الرحالة العربي القديم أحمد بن فضلان إلى بلاد البلغار والروس وما يهمنا هنا أنه في عام 309 هجري داهم فصل الشتاء ابن فضلان ورفاقه وهم في مدينة جرجانية غرب أوزباكستان وهنا يصف ابن فضلان كيف أن نهر جيحون جمد من شدة البرد والصقيع لدرجة أن الخيل والبغال أصبح بإمكانها المشي فوقه. ويصف ابن فضلان  أنه من شدة البرد (.. كنت أخرج من الحمام فإذا دخلت البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى كنت أدنيها من النار) وفي موضوع آخر يصف الملابس الثقيلة التي كانوا يحتاجونها لاتقاء الزمهرير (.. كان كل رجل منا عليه قرطق وفوقه خفتان وفوقه بوستين وفوقه لبادة وبرنس ولا تبدو منه إلا عيناه، وسراويل طاق وآخر مبطن وران وخف كيمخت وفوق الخف خف آخر فكان الواحد منا إذا ركب الجمل لم يقدر أن يتحرك لما عليه من الثياب). وبسبب أن البرد والصقيع منع ابن فضلان ورفاقه من إكمال سفرهم إلى بلاد الصقالبة لذا أدرك شهر رمضان ابن فضلان وهو في هذه الأجواء الرمضانية الشاتيه.
 أخبار وقصص رواد الرحالة العرب زاخرة بالعديد من التشويق ومع ذلك قد لا يعتبر وصف ابن بطوطة مشاهداته للمدن التي توافق مروره بها أثناء شهر رمضان (في سنوات مختلفة) مثل مكة المكرمة ودمشق والقاهرة، لا يعتبر من الأمور (خارج سياق المألوف) بحكم أنها بلاد عربية أصيلة ومعروفة بشكل كامل. لكن في المقابل نجد أن وصف الرحالة ابن جبير الاندلسي لزيارته غير المتوقعة لجزيرة صقلية في شهر رمضان ينطبق وصفها على حديثنا هنا عن (رمضان خارج النسق). في عام 578 هجري سافر ابن جبير الاندلسي لأداء فريضة الحج وفي طريق العودة إلى الاندلس كان قراره (خارج المألوف) أن يسافر على سفينة إيطالية من ميناء مدينة عكا (في حينها ما زالت تحت حكم الصليبيين) بدل أن يبحر مثلا من الإسكندرية وباستخدام سفينة عربية. وعلى كل حال ونظرا لهبوب عاصفة بحرية هوجاء كاد القارب أن يغرق لهم قرب ساحل جزيرة صقلية لولا إغاثة ملك الجزيرة (العاشق للعرب) لهم حيث أشرف بنفسه على عمليات الانقاذ واستقبل جميع الركاب من العرب والفرنجة استقبالا حسنا. وكان نزولهم للسواحل الصقلية في مطلع شهر رمضان من ذلك العام حيث نزلوا بمدينة مسينه والتي وصفها بأنها (وليس فيها من المسلمين إلا نفر يسير من ذوي المهن ولذلك يستوحش بها المسلم الغريب) وهي بهذا على النقيض من عاصمة البلاد مدينة باليرمو التي بها جالية إسلامية كبيرة لدرجة أن لهم فيها اسواق خاصة فضلا عن مساجدهم الكثيرة.  ويذكر ابن جبير أن ملك صقلية المدعو غليام يكثر من استعمال المسلمين (وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله) ليس هذا فحسب فهذا الملك (أما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن) ويبدو أن تلك الجواري على ديانة حسنة لدرجة  (أن الافرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمه) من تأثير الجاريات المسلمات. ومن أغرب ما ذكر ابن جبير عن هذا الملك المتسامح مع دين الاسلام أنه حصل مره زلزال بالجزيرة وعندما خاف الجميع تفاجأ الملك أنه عندما  (كان يتطلع في قصره فلا يسمع إلا ذاكرا لله ولرسوله من نسائه وفتيانه).
بهذه الاجواء المرحبة والمتسامحة مع الوجود الإسلامي نفهم أن وجود الجاليات المسلمة في يدار الغرب ظاهرة قديمة جدا ونفهم في نفس السياق لماذا أقام الجغرافي والرحالة العربي الكبير الإدريسي لسنوات طويلة وهو يقيم في جزيرة صقلية في كنف ملكها روجر الثاني. وللأسف نكشف معلومة (معروفة للبعض) أنه لهذا الملك المسيحي قام الإدريسي بتأليف كتاب المشهور نزهة المشتاق في اختراق الافاق والذي يعرف كذلك باسم (كتاب روجر). ليس هذا وحسب بل أن (خريطة الادريسي) الفائقة الشهرة كانت بطلب مباشر من الملك روجر للإدريسي بأن يصنع له خريطة وكره من الفضة على هيئة أقاليم الارض السبعة. الجدير بالذكر أن الإدريسي توفي في جزيرة صقلية عام 560م أي قبل وصول ابن جبير لها بثمانية عشر سنة وبعد هذا التاريخ بأكثر من قرنين من الزمان سوف تحصل قصة من أغرب القصص عن رحّال وجغرافي عربي آخر يدعى الحسن الوزان الأندلسي (أو ليون الإفريقي كما يعرف في الغرب). تبدأ القصة العجيبة للحسن الوزان عندما عاد من الحج وكما تعرض ابن جبير للتوقف في صقلية توقفت سفينة الحسن الوزان في جزيرة جربة بتونس وهنالك تعرض للخطف والأسر من قبل القراصنة الايطاليين واقتيد لاحقا إلى مدينة روما كهدية للبابا ليون العاشر الذي أجبره على اعتناق المسيحية وتغيير أسمه إلى ليون الافريقي. وبعد أن اقام الوزان لسنوات طويله في الأسر في روما وقام بتأليف العديد من الكتب أهمها كتاب الجغرافي (وصف أفريقيا) يقال أنه بعد وفاة البابا ليون العاشر ُسمح أخيرا لسميه ليون الإفريقي بالرجوع إلى تونس وهنا استعاد شخصيته الاسلامية وديانته. السؤال الأن هل كان الحسن الوزان أثناء حياة الإقامة الجبرية في روما يصوم شهر رمضان بالخفية وهذا أمر يصعب الجزم به ولكن أسير عربي آخر أقام لعدة سنوات في الحبس في أرض الفرنجة ومع ذلك كانت أشعاره توحي بارتباطه بشعائر دينه وعادات أهله. وهذا ما حصل مع الشاعر العربي الكبير أبي فراس الحمداني الذي كما هو معلوم وقع هو الآخر في الأسر على يد الروم ونقل للحبس في مدينة روما الشرقية (مدينة القسطنطينية) التي أقام فيها لمدة قاربت الأربع سنوات وهنالك من رحم المعاناة والمأساة ولدت قصائد (روميات) أبي فراس الرائعة. ما أصعب الذكريات على الأسير والغريب ولهذا يكون حالهم بعد أن يتقضى شهر الصيام وتحل فرحة العيد كما قال الأول:
هذا هو العيدُ أين الأهلُ والفرحُ             ضاقت به النفسُ أم أودت به القرحُ
وأين أحبابنا ضاعت ملامحهم               من في البلاد بقى منهم ومن نزحوا
ولهذا كان من الأبيات الشعرية التي جادت بها قريحة أبو فراس الحمداني عندما حل عليه عيد الفطر وهو في الأسر:
يا عيدُ ما عُدت بمحبوبِ                 على مُعنى القلبِ، مكروبِ
يا عيدُ قد عُدت على ناظِرٍ              عن كل حسنٍ فيك، محجوبِ

شهر الصيام بعيون غربية
وفي الختام بعد أن عرجنا لذكر طرف مختصر عن ذكريات الرحالة العرب مع شهر الصيام لعلنا نختم بتوجيه الأنظار لزاوية رؤية مختلفة تتمثل في الشهادات التي سطرها الرحالة الغربيين والمتعلقة بشهر رمضان في البلاد العربية التي زاروها. من ذلك مثلا أن الرحالة الانجليزي تشارلز داوتي في كتابه (ترحال في صحراء العرب) ذكر أنه عندما كان في صحراء تيماء مع البدو في حدود عام 1876 وحل عليهم شهر رمضان حصل نقاش بين البدو حول ظهور العلامات الكافية لثبوت دخول الشهر. بل أن النقاش بينهم وصل لدرجة أن بعض الحاضرين رد بقوله (بأن الناس في المدن يعتمدون على الحساب الهندي في تحديد الشهر وإن ذلك الحساب دقيق ولا يخطئ مطلقا) وكأن حال بدو العرب لم يتغير منذ قرون فيما يتعلق بالجدال المتواصل حول رؤية الهلال. ومن غرائب الصدف أنه في نفس تلك السنه أي عام 1876 كان القنصل الأمريكي ألبرت فارمان يسجل انطباعاته عن مظاهر الاحتفال بدخول شهر رمضان في مدينة القاهرة وكيف أن الرجال يخرجون للتلال العالية خلف قلعة صلاح الدين لترائي هلال رمضان (وفور ثبوته يعودون بالبشرى .. وتسير المواكب الرسمية والشعبية المبتهجة في أرجاء القاهرة معلنة بدء صيام رمضان).
 بدون منازع قد يكون الرحالة السويسري يوهان بوركهارت أهم مستكشف أوروبي زار البلاد العربية (اشتهر باكتشافه المزعوم للبتراء في الاردن ومعبد ابو سنبل الفرعوني في أسوان) كما يعده البعض أول رجل غربي يؤدي فريضة الحج. ومن حسن الطالع كذلك أنه وصل لمدينة مكة المكرمة في عام 1814 في بداية شهر رمضان المبارك وبهذا رصد في كتابه البالغ الاهمية (رحلات في شبه الجزيرة العربية) كيف يحتفي أهل مكة بدخول الشهر الكريم وذلك من خلال (إضاءة جميع مصابيح القناطر المعلقة في قباب الحرم والتي يبلغ عددها 152 قبة) وفي هذه الاجواء الرمضانية الباهرة عقد بوركهارت مقارنة بين تجمع الناس في الحرم في ليالي رمضان وبين التجمعات الليلية الاوروبية.
وبحكم أن الصورة تغني عن ألف كلمة كما يقال فلعلنا نختم موضوع نظرة الغربيين عن شهر رمضان بأمر يتعلق بالمشاهدة الفعلية وليس الوصف المكتوب ولهذا من الملائم الاشارة إلى اهتمام بعض فناني الرسم الاستشراقي بتوثيق الشعائر الدينية الاسلامية في لوحاتهم الفنية. وربما من أهم من يمكن ذكره في هذا المجال الرسام التشكيلي الفرنسي إتيان دينييه الذي أعتنق الاسلام عام 1913 وغير اسمه إلى ناصر الدين دينية وقد تميز بشكل خاص بتوثيق المواضيع الدينية والشعائر التعبدية لدى المسلمين في الصحراء الجزائرية. وقد خص ناصر الدين دينيية طقوس شهر رمضان وعاداته بالعديد من اللوحات الفنية ومن أشهرها لوحة (سحور رمضان) ولوحة (غداة رمضان) ولوحة (مراقبة هلال العيد) ولوحة (بعد رمضان).


الثلاثاء، 15 مايو 2018

( الكاريزما السياسية .. رصيد لا ينفذ )

مهاتير محمد كاريزما سياسية طاغية وتواجد مستمر

د/ أحمد بن حامد الغامدي

للمرة الثانية يتم انتخاب مهاتير محمد لمنصب رئيس الوزراء الماليزي وهو في سن متقدم جدا حيث أنه قد تخطى سن التسعين كما أنه قد أنقطع عن الممارسة السياسية لسنوات طويلة منذ استقالته عام 2003م. قد لا يكون مهاتير محمد شخص متجدد الشباب ولكنه بالقطع شخص متجدد الحضور السياسي الطاغي والمؤثر. ففي حين أن بعض محترفي السياسية قد يغيب من المشهد السياسي عند أول انكسار أو هزيمة نجد أن مهاتير محمد ومن هم على منواله يتم تجديد انبعاثهم السياسي بعد كل منعطف حاد في مسيرتهم الملحمية.
في  سن الرابعة والاربعين فقد الطبيب الشاب مهاتير محمد مقعده الانتخابي بعد أن أقيل من البرلمان الماليزي وتم طرده كذلك من الحزب الذي ينتمي إليه ومع ذلك استمرت جذوة الحيوية السياسية له بالتزايد ليصل إلى منصب رئيس الوزراء في عام 1981م. الكاريزما السياسية لمهاتير محمد ضمنت له تحقيق المعجزة مرة ثانية بأن يصل لمنصب رئيس الوزراء وهو يترأس تحالف المعارضة ضد حزبه القديم وبهذا أثبت مهاتير محمد مره بعد مره أن رصيده السياسي زاخر وعامر وأنه يستطيع تكرار الانتصارات حتى بدون دعم قواعده الحزبية وإنما بدعم قواعده الشعبية واحترام الأمة له وثقته فيه وأنه خير من سوف يكون مؤهلا لأن يقطف ثمار استراتيجية (2020) لتطوير الاقتصاد الماليزي التي أعلن عنها عام 1991م.
الشخصيات ذات الحضور التاريخي الطاغي تتبع الحكمة القائلة (السقوط مسموح .. لكن النهوض واجب) لسبب أو آخر قد يتعثر القائد السياسي ولكن إذا كان ذا شخصية كاريزمية فما أسهل أن ينهض واقفا ويعاود المسير. وخير مثال يمكن ذكره في هذا المجال الامبراطور الفرنسي الاشهر نابليون بونابرت الذي لم يواجه قائد عسكري إخفاقات حربية وانتصارات سياسية كما حصل معه. بعد الانتصارات الاولية المذهلة للشاب بونابرت في ايطاليا تعرض لإخفاق مخزي في هزيمته البحرية في أبي قير في مصر وكذلك في اجباره عن التراجع عن حصار عكا وبالرغم من هذا الاخفاق العسكري إلا أن سمعته السياسية والادارية كانت عالية لدرجة أن الامه الفرنسية استدعته عام 1799م  لتولى زمام الحكم في باريس. لقد نهض نابليون بعد فشل حملته العسكرية في مصر وكذلك في مستقبل الايام سوف ينهض مرة ثانية بعد فشل غزوه العسكري لروسيا وعندما اضطر نابليون أن يتنازل عن العرش عام 1814م وتم نفيه إلى جزيرة ألبا الصغيرة أعتقد البعض أن أثر نابليون تلاشى نهائيا من التاريخ. وعندما هرب نابليون من منفاه أعتبر في البداية مجرما وتم تجهيز جيش للقبض عليه ولكن بمجرد من نوله على الاراضي الفرنسية وهو شبه أعزل من السلاح والمرافقين واذا بشخصيته الباهرة تسلب لب الأمة الفرنسية مرة ثانية ويتم إعادة تنصيبه حاكم على البلاد. ثم أخيرا بعد أن تتم هزيمته الاخيرة في معركة واترلو الشهيرة ويتم نفيه إلى جزيرة سانت هيلانه في أقصى جنوب المحيط الاطلسي ظن قادة الدول الاوروبية أنهم تخلصوا منه وإلى الابد وما علموا أن شخصيته الكاريزمية ذات الاثر السياسي الطاغي حتى بعد وفاته هي من سوف تسهل في مستقبل الايام لأبن أخته لويس نابليون أن يحكم فرنسا عام 1848م ويطيح بالملكية مرة ثانية ليصبح أخيرا (الامبراطور نابليون الثالث).
في العصر الحديث ربما لم يحصل سياسي على هالة وبريق ديبلوماسي مثل ما حازه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل أيقونة النجاح السياسي والعسكري في القرن العشرين بل يكفيه أنه رئيس الوزراء الوحيد في التاريخ الذي حاز جائزة نوبل في الأدب بسبب بلاغته اللغوية والخطابية التي صنعت له المجد. وكما حصل مع نابليون صعد تشرشل سلم المجد وهو يسقط ويتعثر مع كل درجة ففي مطلع شبابه دخل البرلمان البريطاني عام 1900م ولكن سرعان ما تم الاطاحة به بسبب أداءه السيء في التمثيل النيابي. واثناء الحرب العالمية الأولى تم اختيار تشرشل لمنصب وزير البحرية البريطانية لكنه طرد من منصبه عام 1915م بعد هزيمته الكارثية في معركة غاليبولي في تركيا. ومع كل هذه الاخفاقات السياسية والعسكرية إلا أن رصيد تشرشل وثقله السياسي كان وبشكل عجيب يتزايد مع الزمن فسرعان ما تم توليته أكثر من منصب وزاري في فترة العشرينات من القرن الماضي ثم توالت بعد ذلك هزائمه في الانتخابات البرلمانية وهي السنوات الحرجة من حياته التي سمها لاحقا (سنوات البرية). في بداية اندلاع الحرب العالمية الثانية تم استدعاء تشرشل للعمل كوزير في الحكومة وبسبب الكاريزمية العالية التي كان يتمتع بها كانت الرسالة التي طمأنت الشعب البريطانية (ونستون، قد عاد)  ولهذا لا غرابة أن يتم بعد ذلك بشهور قليله تعيين (ونستون العائد) في منصب رئيس الوزراء. لقد خلد تشرشل أسمه في كتب التاريخ بنجاحه في حماية الأمة البريطانية من السقوط تحت براثن النازية الغاشمة ولهذا كان لتشرشل مكانة سامية في شعور الأمة الانجليزية لكن الغريب في الأمر أن تشرشل لم ينجح في الانتخابات الرئاسية التي تلت الحرب مباشرة لأن الأمة البريطانية الواعية كانت ترى (أن الرجل الذي يقود الحرب لا يمكنه أن يقود السلام) وهو ما يفسر سبب فشل جميع الانظمة العسكرية الحاكمة والمتسلطة. بقي أن نقول أخيرا عن تشرشل أن قاعدة (الكاريزما السياسية .. رصيد لا ينفذ) ضمنت له أنه بعد ذلك الفشل الغريب عندما تقدم تشرشل لخوض الانتخابات الرئاسية عام 1952 استطاع أن  ينجح فيها بكل يسر بسبب أرثه الزاخر بالخبرة السياسية والعسكرية نادرة الوجود.

كاريزما مهددة بالإفلاس
في كتابه ذائع الصيت والبالغ الاهمية (سيكولوجية الجماهير) أشار المفكر الفرنسي البارز غوستاف لوبون إلى أنه يمكن التلاعب بمواقف الجماهير عن طريق التأثير في (روح الجماعة) مما يتسبب لها في التطرف بالمشاعر وبالتالي تصبح قابلة للتأثر والتصديق. في نفس ذلك الكتاب يأسف غوستاف لوبون بأن الأمه الفرنسية أقل عقلانية من الأمة الانجليزية ولهذا على العكس من الانجليز الذين حرصوا أن يحجموا سلطة تشرشل بعد الحرب العالمية أتخذ الفرنسيون القرار المعاكس بانتخاب الجنرال الفرنسي البارز شارل ديغول (الذي قاد الحرب فهل سوف يقود السلام) لمنصب رئيس الدولة وبالرغم من أن ديغول يوصف بأنه مؤسس الجمهورية الفرنسية الرابعة إلا أن أدائه السياسي بعد الحرب لم يكن على مستوى التطلعات لدرجة أنه استقال بعد شهور قليله من توليه المنصب. وبعد تخبط الحكومة الفرنسية لعدة سنوات بعد الحرب العالمية الثانية وبداية فقدانها المتولي لمستعمراتها والدول التي تسيطر عليها أعلن شارل ديغول في انتخابات عام 1958 أنه (في خدمة البلد) وهنا يتم إعادة انتخاب ديغول ليس فقط لمنصب رئيس الحكومة ولكن لشرف نيل (مؤسس الجمهورية الخامسة). في واقع الأمر الرصيد الكاريزمي لشارل ديغول في وجدان الأمة الفرنساوية لم يكن فائق الوفرة بدليل أنه بعد انتخابه بعشر سنوات خرجت مظاهرات شعبية عارمة ضده في عام 1968 ولهذا عندما تم إجراء استفتاء عام في فرنسا حول أداء ديغول والاصلاحات الادارية التي طلبها و خسر في هذا الاستفتاء ولهذا أعلن ديغول عن تنحيه عن منصبه واعتزاله العمل السياسي تماما.

وفي خاتمة المطاف بالفعل لقد أثبتت الأمة الانجليزية أنها (في بعض الاحيان) قمة في الدهاء وبعد النظر السياسي عندما أصرت على تطبيق شعار (الرجل الذي يقود الحرب لا يمكنه أن يقود السلام). للأسف شعوب كثيره واجهت كوارث هائلة عندما سمحت للقائد العسكري ذو الرصيد الكاريزمي الطاغي أن يطغى ويتولى قيادة دفة الحكم بفردية واستبدادية. في وقعنا العربي ولأسباب معقدة ربما يكون جمال عبد الناصر ربح شعبية هائلة بعد نجاته بأعجوبة من كارثة حرب 56 ولكنه أضاع البلد والامة العربية جمعاء ليس فقط في هزيمة 67 ولكن بترسيخه للأسلوب الحكم السلطوي الغاشم. وعلى نفس النسق قد يكون الزعيم والقائد العسكري الصيني البارز ماو تسي تونغ نجح في مسيرة (الزحف الكبير) العسكرية وثورته السياسية لكنه في زمن السلم فشل فشلا ذريعا (ومهلكا لعشرات الملايين من الشعب) في ثورته الصناعية (مشروع القفزة الكبرى إلى الامام) وثورته الثقافية البائسة ومشروع الاصلاح الزراعي الماحق. وبدرجة أخف نجح الجنرال والقائد العسكري الكولومبي المعروف سيمون بوليفار في تحرير العديد من دول أمريكا اللاتينية من حكم الامبراطورية الاسبانية في مطلع القرن التاسع عشر وبهذا يعتبر بحق الاب الروحي للعديد من دول امريكا الجنوبية مثل كولومبيا وفنزويلا والاكوادور وبيرو وبنما بل أن أسم دولة (بوليفيا) مسمى على أسمه. ومع ذلك عندما انتهت الحرب وبدأ السلام وحاول أن يجمع هذه التكتلات المنفصلة في اتحاد سياسي واحد فشل فشلا ذريعا وبدل من ذلك نشبت بينها حروب طاحنة هي ما تسبب وحتى الان في تخلف وضعف شعوب تلك الامم.
وعلى ذكر مصير دول أمريكا اللاتينية البائس المنسحب من مصير جنرالاتها الأكثر بؤسا تجدر الاشارة إلى أن المصير المحتوم لصاحب الكاريزما المدوية بعد أن يفقد رصيده السياسي ويفلس يصبح على شاكلة (عزيز قوما ذل) وهذا ما دفع الروائي الكولومبي الذائع الصيت والحائز على جائزة نوبل في الادب غابرييل ماركيز لتوظيف هذه الشخصيات الثرية من الناحية الدرامية في بعض أشهر رواياته الادبية. وكما هو معلوم تدور رواية (الجنرال في متاهته) حول حياة الجنرال سيمون بوليفار في أواخر حياته عندما فقد بريقه السياسي وتأثيره الاجتماعي الطاغي بينما رواية (خريف البطريرك) هي صرخة أدبية لإدانة الديكتاتورية منذ بدايتها وطفولتها وحتى خريف العمر لها.