الأربعاء، 18 يوليو 2018

( فؤاد سيزكين وإعادة اكتشاف تاريخ العلم الضائع )

فؤاد سيزكين ..  هل هو فعلا مكتشف الكنز المفقود ؟!!

د/ أحمد بن حامد الغامدي

للفيلسوف والمفكر الالماني الكبير جوتيه طلب جريء حيث كان يرى ضرورة إعادة (كتابة التاريخ) من حين لآخر وهذا أمر يصعب لأهل المشرق تنفيذه لأن ذلك أمر مسبب للاختلاف ولكن يكفيهم في الوقت الحاضر محاولة إعادة (اكتشاف التاريخ) كل زمن وآخر. قبل عشر سنوات فقط نشر الكاتب والسياسي الامريكي مايكل مورجان كتابه الرائع (تاريخ ضائع) والمتعلق برصد أبرز معالم وانجازات العلوم العربية والاسلامية في الطب والعلوم البحته. وبالرغم من أن الهدف الاساسي للكتاب كان تعريف المجتمع الغربي والاوروبي بالتراث العلمي الضائع للعرب والمسلمين إلا إن الواقع المرير يشير إلى أنه وحتى عقود زمنية ليست بعيدة كثيرا كانت الأمه العربية نفسها شبه مغيبة عن تاريخها العلمي الباهر.
كما هو معلوم ازدهرت العلوم العربية في (عصرها الذهبي) في القرن الثاني الهجري ولكن بعد ذلك بألف سنه غيب عن العرب تقريبا هذا التاريخ العلمي المجيد ففي نهاية القرن الحادي عشر الهجري لم يبقى في الذاكرة التاريخية العربية من أخبار الانجازات العلمية إلا أسماء الكتب والمخطوطات العلمية وبعض المعلومات العامة التي نشرها المؤرخ والجغرافي العثماني المعروف حاجي خليفة في كتابة المهم (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون). وربما لا نبالغ كثيرا إذا قلنا أنه باستثناء كتب الطب والصيدلة والعطارة لم يتبقى إلا فئة قليلة من العرب من يهتم بنسخ ودراسة واقتناء المخطوطات العلمية البحته ولهذا أصبح هذا النوع من الفنون المعرفية شبه منسي. للأسف الشديد عندما خفت وهج ذلك التاريخ العلمي العربي المنسي لم يظهره مره ثانية للنور المحققون والباحثون العرب والمسلمين وإنما كان للمستشرقين الجهد الرائد في نشر الميراث  العلمي العربي والتعريف به. لقد كانوا هم من  بدأ في إعداد الدراسات العلمية والتاريخية على مخطوطات الكتب العلمية العربية بعد ترجمتها ونشروا في ذلك الالاف من  الدراسات والمئات من الكتب بل أنهم نشروا المجلات البحثية المتخصصة في هذا المجال والموسوعات المعرفية. ومن عجائب الصدف أن أبرز وأكثر المخطوطات العلمية العربية موجودة اليوم ليس في المدن والعواصم العربية ولكن في مكتبات فرانكفورت الالمانية وليدن الهولندية  وبوردو الفرنسية.
وفي حين أن  اسهام العلماء والباحثين العرب في التعريف بالحضارة العلمية العربية لم يتم إلا في النصف الثاني من القرن العشرين نجد أن بعض المستشرقين ومنذ فترة مبكرة جدا ساهموا بمجهود مميز في هذا المجال. فالمستشرق الفرنسي جان جاك سديو ومنذ مطلع القرن التاسع عشر ظل لعقود طويلة ينشر الابحاث عن علم الفلك الاسلامي في حين أن المستشرق الالماني فرانز  فبكه نجده في نفس تلك الفترة تقريبا يعتني بدراسة كتب علم الرياضيات العربية. بل أن الأغرب من ذلك أن عالم الفيزياء الالماني إيلهارد فيدمان ليس فقط نجده في نهاية  القرن التاسع عشر يهتم بدراسة الكتب العلمية العربية ولكن أيضا كان هو تقريبا أول شخص يبدع فكرة (إعادة إحياء) الآلات والمخترعات العلمية العربية حيث قام بنفسه بصناعة عدد كبير من نماذج الآلات العربية القديمة وبعض هذه النماذج ما زالت موجودة في أرشيف متحف مدينة ميونخ الالمانية. وهذا العالم  فيدمان يعتبر أعجوبة بحق في تنوع المواضيع العلمية العربية التي نشر مخطوطاتها في موسوعته الضخمة (مقالات في تاريخ العلوم العربية) والتي ترجمها أستاذنا الجليل الدكتور عبدالله حجازي ونشرتها جامعة الملك سعود بالرياض في مجلدين ضخمين بلغ عدد صفحاتهما 1467 صفحة.
وبعد هذه المقدمة السردية المختصرة وبالرغم من شعورنا بالحزن الشديد على المصاب الكبير على الامة الاسلامية والعربية بوفاة العالم والباحث الكبير فؤاد سزكين قبل ايام قليلة إلا أنه يصعب علينا تجنب طرح فكرة التدقيق في صحة توصيفه بأنه (مكتشف الكنز المفقود). قبل حوال ثلاث سنوات قام الكاتب التركي عرفان يلماز بنشر كتاب رائع جدا حمل عنوان (مكتشف الكنز المفقود وجولة وثائقية في اختراعات المسلمين) وهذا الكتاب أشبه بالسيرة الذاتية لحياة الفقيد الكبير الدكتور فؤاد سيزكين وجهوده الفريدة والضخمة في نشر التراث العربي وخصوصا في مجال العلوم الاسلامية. كما يتطرق الكتاب للمجهود الرائد والهام للدكتور سيزكين في تأسيس معهد تاريخ العلوم العربية والاسلامية في مدينة فرانكفورت وكذلك اسهامه في تصنيع الآلات والمخترعات العربية القديمة واقامته للمتاحف العلمية المتخصصة بها. ومع كامل التقدير والاعتراف بأسبقية وجهود ومشوار الدكتور فؤاد سزكين في هذا المجال والذي امتد لأكثر من  نصف قرن إلا أن وصفه بأنه (مكتشف الكنز) العلمي العربي المفقود هو توصيف غير دقيق.
أعتقد أنه من الاجحاف إغفال أن المستشرقين هم من بدأ مشوار (اكتشاف تاريخ العلم العربي) بل أن جهود العالم والمؤرخ البلجيكي جورج سارتون في كتابه الموسوعي (تاريخ العلمي) في التعريف بالعلوم العربية تعتبر رائده بكل المقاييس خصوصا وأنها من قامة علمية ذات مكانة بحثية عالية ومصداقية كبيرة.
بقي أن نقول أن الابحاث والدراسات العلمية والتاريخية في مجال التعريف بالعلوم العربية والاسلامية مجال نشط ومتجدد وللعديد من العلماء والمؤرخين المعاصرين قدم راسخة في هذا المجال ونخص بالذكر هنا المؤرخ اللبناني جورج صليبا أستاذ العلوم العربية والإسلامية بجامعة كولومبيا الأمريكية  والمؤرخ الإيراني الأصل سيد حسين نصر أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة جورج واشنطن والمفكر والمؤرخ المصري رشدي راشد الباحث في المركز الفرنسي القومي للأبحاث العلمية الذين لهم انتاج أكاديمي في قلب العالم الغربي. كما لا يفوتنا الاشارة والاشادة بالجهود المخلصة والمميزة لعالم الرياضيات السعودي الكبير علي بن عبدالله الدفاع وسلسة كتبه (إسهام علماء العرب والمسلمين) وكذلك الزميل العزيز الدكتور والكاتب العلمي السوري سائر بصمة جي الذي يعتبر حاليا ومن وجهة نظري هو خليفة فؤاد سيزكين وحامل لواء هذا العلم المعرفي العربي الرائق.


الخميس، 5 يوليو 2018

( في السياسة .. معظم النار من مستصغر الشررِ )

الارشدوق النمساوي .. قبل اغتياله واندلاع الحرب العالمية الاولى

إذا أراد الله سبحانه أمراً هيأ أسبباه 

التاريخ البشري حافل بأحداث القتال والمعارك ولكنها في الغالب معارك معزولة بين دول وشعوب محدودة. هذه القاعدة والمسلمه الحربية تغيرت بشكل حاد بعد اندلاع الحرب العظمى (الحرب العامية WWI) والتي انطلقت شرارتها في مثل هذا اليوم
 أي ( يوم 28 يونيو ) قبل حوالي قرن من الزمان وذلك من جراء حدث ليس  بالجلل تم في شارع عادي في مدينة منسية ( في ذلك الوقت ) تدعى سراييفو. 
في ذلك اليوم من عام ١٩١٤م تمت الحادثة الغريبة لاغتيال ولي عهد الامبراطورية النمساوية فرانز فرديناد في مدينة سراييفو. ولحكمة شائها المولى عز وجل كتب علي البشرية ان تندلع اشرس حرب عسكرية واخطر زلزال سياسي سوف يعيد تشكيل خارطة دول وشعوب وأمم وكل ذلك من جريرة حادثة  كل الظروف الاعتيادية تحتم الا تقع.
كانت الامبراطورية النمساوية المجرية تحكم بلاد البلقان حيث كانت الاقلية الصربية مغالية جدا في تعصبها الديني ومعارضتها السياسية وعلية كانت زيارة الارشدوق وريث عرش النمسا لمدينة سراييفو خطأ فادح ما كان ينبغي أن يقع. وفي حال تمت الزيارة كان من الخطأ كذلك ان تتم في توقيت عيد القديس فيتوس الذي يتوافق مع معركة حربية خسراها الصرب وبالتالي كان من الحماقة استفزاز مشاعرهم بتلك الزيارة في ذلك التوقيت.
الغريب في الامر ان المحاولة الاصلية للاغتيال الارشدوق تمت كمحاولة لتفجير سيارته عن طريق رمي قنبلة يدوية عليها وهو ما تم بالفعل ولكن شاء الله ان تتدحرج القنبلة ولا تنفجر الا في السيارة التي خلفها وبهذا نجى الارشدوق وزوجته من موت محتوم. وكان المفترض بعد ذلك ان يتم التشديد في حماية الارشدوق لان شكوك الاستخبارات المسبقة قبل زيارته كانت في محلها ولكن تدخل قدر الله فبعد ان غادر الموكب مكان الحدث طلب الارشدوق ان يزور في المستشفى الجرحى والمصابين الذي تضرروا من حادث التفجير الذي تم صباح ذلك اليوم وهنا تحدث المفاجأة الكبرى:
حيث أن أحد المتعصبين الصرب الذين شاركوا في محاولة التفجير غادر الموقع قبل أن ينتبه له رجال الامن وبحكم انه اعتقد ان محاولة الاغتيال قد كتب لها الفشل لذا حاول ان يبعد ان نفسه الشبهات فتوجه وكأنه زبون عادي لاحتساء القهوة في شارع فرانز جوزيف قرب الجسر اللاتيني علي نهر سراييفو. وهنا ساق الله الارشدوق ليذهب بنفسه ( بطريقة غير مباشرة ) إلى حتفه وليقع بين يدي قاتله، حيث حصل خلاف بين قائد شرطة سراييفو والقائد العسكري للمنطقة حول خطة تأمين شوارع المدينة وبالتالي كان شارع فرانز جوزيف غير مأمن بشكل جيد. ولسبب غير معروف توقف موكب سيارات الارشدوق امام ذلك المقهى وهنا وبكل بساطة اخرج الصربي الشاب غافريلو ( عضو جماعة القبضة السوداء المتعصبة ) مسدسه واطلق النار علي الارشدوق وزوجته فأرداهم قتلى.

ما تلى ذلك أصبح من التاريخ كما يقال:
أعلنت النمسا الحرب علي صربيا
تدخلت روسيا لمساندة الصرب
أعلنت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا دعمهم لروسيا
أعلنت ألمانيا تحالفها ومساندتها للإمبراطورية النمساوية وجر رجل الدولة العثمانية معهم

وبهذا حصلت كارثة الحرب العالمية الاولى

البوسنة أرض البؤس والهرس
ما حصل بين دول وشعوب وامبراطوريات ذلك الزمان معقد وإن أمكن تبريره وتفسيره بشكل مختزل فربما يتم ارجاعه لعوامل ( الاحتقان العرقي والتنافس السياسي واسترجاع التاريخ). ما تم في بلاد البلقان في مطلع القرن العشرين تكرر مرة أخرى بمأساوية مفجعة في نهاية ذلك القرن، فبسبب الاحتقان العرقي والتنافس السياسي واسترجاع التاريخ تم مرة ثانية اشتعال حرب عرقية سياسية في أرض يوغوسلافيا التي تشكلت من مزيج عرقي وديني متنافر من الصرب والكروات والبوسنويين وغيرهم من الاعراق الارثودكسية والكاثولوكية والاسلامية.
 ولهذا ليس من باب الغرابة بمكان أنه لم تندلع حرب في القارة الاوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية الا في يوغوسلافيا فهي أرض خصبة جدا للتشرذم والصراع. وهكذا تحولت فجأة ( ارض عدم الانحياز ) زمن الزعيم البارز جوزيف تيتو إلى بلاد التشظي والانحياز السياسي والديني والعرقي وذلك بعد سنوات قليلة من وفاة تيتو في مطلع الثمانينات من القرن العشرين.
ونتيجة للاستحضار والاستجرار الصارخ للتاريخ حصلت الكارثة البقعاء في أرض البلقان فكما تسببت زيارة الارشدوق سابقا زمن ذكرى هزيمة الصرب في اندلاع الحرب العالمية الاولى تسببت ذكرى هزيمة أشنع وأقدم للصرب في اندلاع الحرب الاهلية اليوغوسلافية. إرهاصات زلزال هذا الانقسام حصلت عام ١٩٨٩ عندما احتفل التيار المتطرف من القومية الصربية بمرور ستة قرون علي ( معركة كوسوفو ) عام ١٣٨٩ ميلادي والتي انتصر فيها الجيش العثماني وتم فتح بلاد البلقان ودخلها الاسلام.
ولهذا بدأت الاحزاب المتطرفة الصربية من عام ١٩٨٩ في التصريح بكل صفاقة بطلب ( تطهير ) الاراضي الصربية من المسلمين واعادة تهجيرهن الي تركيا وأرض البشناق ومن هنا اندلعت لاحقا حرب البلقان. ولهذا كان الصراع دامي وجرائم الابادة الانسانية أبشع في حرب الصرب للمسلمين في البوسنة وحصارهم الرهيب والطويل لمدينة سراييفو وما حصل في هذه الحرب اشنع بما لا يقاس بما حصل من حرب بين الكروات الكاثوليك والصرب الأرثودوكس. 
للأسف لا أحد يتعلم من التاريخ الذي ما برح يكرر نفسه حيث أن اسباب ( الاحتقان العرقي والتنافس السياسي واستجرار التاريخ ) هي نفسها التي تسببت في حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا وحرب الثلاثين عام بين فرنسا و الامبراطورية الالمانية القديمة فضلا عن كوراث الحربين العالميتين وما بعدها. وخط التاريخ الاستطرادي المستقبلي ما زال في عنفوان اندفاعه وللأسف تاريخ البشرية في القديم والحديث ( سلسلة متواصلة من الاخطاء ) التي تبدأ أحيانا بمسببات تافهة هي مستصغر الشرر والذي سرعان ما يشعل مستعظم الضرر.

اليوم الخميس الثامن والعشرين من شهر يونيو ٢٠١٨ أقف في ( بؤرة الحدث ) الذي تم في نفس هذا اليوم قبل حوالي قرن من الزمن واسترجع كيف تسبب ( تراكم الاخطاء ) البسيطة في قصة اغتيال ولي عهد النمسا في تغيير واقع التاريخ البشري بصورة غير مسبوقة. مخاض قاسي عانته البشرية جمعاء جراء الحروب العالمية وظهور الشيوعية ومع ذلك يمكن استشراف الخير من خضم الشر. فها هي ذا سراييفو ذاتها والبوسنة من خلفها قد ( تعافت وصحٓت ) بعد بؤس ولهذا ليس لي إلا أن أترنم بقول طيب الذكر المتنبي عندما فلسف حكمة احتمالية وقوع البلاء :
لعل عتبك محمودٌ عواقبهُ
                    وربما صحٓت الاجسام بالعللِ