الاثنين، 28 أغسطس 2017

( المكتبات .. وجهه سياحية منسية )

سياح في بهو مكتبة الكونجرس مشغولون بالتصوير .. من ثقافة الكتاب إلى ثقافة الصورة

د/ أحمد بن حامد الغامدي

قبل عدة سنوات قام زميل فاضل بزيارة عدة دول عربية لتجميع مادة علمية لأطروحة رسالته في الماجستير ولذا قام بالتردد على عدد من المكاتبات العامة والتجارية وعندما تقابل مع أحد الشباب السعودي وتجاذب معه أطراف الحديث ذكر له الزميل العزيز أنه هنا لزيارة المكتبات فما كان من الشاب الظريف إلا أن رد من فوره (مكتبات  هاه .. علينا هالحركات). للأسف الشديد مفهوم السياحة والسفر الهادف غائب عن الوعي الجمعي في مجتمعنا ولو حصل فنجده في أحسن أحواله يقتصر على المعالم الاثرية والمنتجعات الطبيعية وربما شيء من المتاحف المشهورة أما زيارة المكتبات العامة ودور النشر التجارية فهو ترف يزهد فيه السواد الأعظم من السواح العرب. 
ربما يتناقض مع هذا أن معرض القاهرة الدولي للكتاب كان ولا يزال أحد اهم المعارض الدولية الثقافية ويشهد حضور كثيف من الزوار العرب ولكن متعة شراء وتملك الكتاب تختلف في حدة الدرجة عن متعة مجرد مشاهدة أرفف الكتب التقليدية. بالجملة توجد عدة شواهد حضارية في تاريخنا العريق لبعض الاهتمام من قبل الرحالة ورجال السفر بالوقوف على الاطلال المعرفية بزيارة المنارات المكتبية وتوثيق ذلك وذكره حيث يرد مثلا في كتاب رحلات ابن بطوطة أن بمدينة النجف بالعراق (مكتبة عامرة) في حين يصف مكتبة مدينة دمشق بأنها (مكتبة غنية بالمجلدات والكتب النفيسة) وأما جامع صنعاء فيذكر عنه أن (له مكتبة تضم أمهات الكتب). المحزن حقا أن ابن بطوطة ليس فقط لم يشر في رحلاته لمكتبات بغداد الاسطورية بسبب دمارها على يد المغول ولكنه كذلك أغفل الاشارة إلى مكتبة (دار العلم) الضخمة التي كانت توجد في مدينة طرابلس التي يقال أنها كانت تحوي ثلاثة ملايين كتاب ومخطوط لأنه عندما زار طرابلس في منتصف القرن الثامن الهجري كان قد مر على زوال تلك المكتبة العظيمة زمن طويل منذ أن أصابها الخراب بعد احتلال الصليبيين لمدينة طرابلس. وعلى نفس النسق نجد أن الرحالة المعروف ابن جبير الاندلسي كان قد زار العراق بعد سنوات قليلة من سقوط بغداد على يد التتار ولهذا نجده في كتابه (رحلة ابن جبير) لم يكن لمكتبات بغداد الرائعة (وبالخصوص مكتبة بيت الحكمة) أي نصيب من الذكر في هذا الكتاب إلا إشارة عابرة عن مكتبة المدرسة النظامية في بغداد حيث كانتا من المعالم الحضارية العباسية النادرة التي نجت من الدمار.
عبر العصور كان للمكتبات دور رئيسي في التقدم الانساني ومع ذلك لم ينعكس أثرها الحضاري بدرجة مقبولة في كتابات الرحالة وأهل الاسفار فهذا أبو التاريخ الرحالة والمؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت أهم من زار ووصف مصر القديمة يكتفى فقط بوصف مخطوطات ورق البردي في معابد مدينة ممفيس الفرعونية ولا ملام عليه أنه لم يذكر مكتبة الاسكندرية لأنها لم تبنى إلا بعد وفاته بأكثر من قرن من الزمن. الغريب في الامر أنه بالرغم من الشهرة الطاغية لمكتبة الاسكندرية والتي يصفها البعض بأنها أهم مكتبة في التاريخ إلا أنها فشلت لسبب أو آخر في جذب اهتمام الرحالة والمؤرخين القدامى فالمؤرخ اليوناني سترابو في القرن الاول قبل الميلاد وصف مدينة الاسكندرية بالتفصيل لكنه ولأمر مبهم أغفل ذكر مكتبتها الفريدة في حين أن المؤرخ والجغرافي الروماني المعروف بليني الأكبر وهو من نقل لنا وصف صناعة ورق البردي الفرعونية لكنه مع ذلك شبه أغفل ذكر مكتبة الاسكندرية وأهتم أكثر في كتابة (التاريخ الطبيعي) بذكر أخبار ثاني أهم مكتبة في التاريخ القديم وهي مكتبة برغام في منطقة الاناضول بآسيا الصغرى.
صحيح أن الرحالة الايطالي ماركو بولو ربما يكون اشهر سائح في التاريخ والغريب في الأمر أن العديد من المؤرخين والباحثين في العصر الحديث يشككون في أنه قد سافر بالفعل للصين بدليل أنه وقع في أخطاء جغرافية كثيرة وكما أنه أغفل ذكر أمور بالغة الاهمية عن الصين مثل وجود سور الصين العظيم أو عادة الصينيين في شرب الشاي. من وجهة نظري الشخصية لتدعيم احتمالية عدم سفر ماركو بولو الحقيقي للصين يمكن أن نضيف أنه لم يذكر في كتابه فن صناعة الورق الذي اشتهرت به الصين (فضلا عن أن يشير لاختراع الطباعة بالقوالب الخشبية المتحركة) وكذلك لم يوثق لذكر مشاهدته لأي مكتبة في العدد الغفير من المدن التي زارها في الصين وغيرها و لا أقل مثلا من أن يذكر المكتبة الامبراطورية الضخمة في العاصمة القديمة خانجو بحكم أنه زعم العمل في البلاط الامبراطوري الصيني.

مقومات الجذب السياحي للمكتبات
مما سبق يبدو فعلا أن (المكتبات وجهة سياحية منسية) في كتب الرحلات القديمة ومع ذلك وفي عصرنا الحالي لا يجدر بمن اعتاد السياحة والسفر أن يُسقط من قائمة برنامجه السياحي زيارة المكتبات العامة المشهورة والمكتبات الاثرية التاريخية أو الاطلاع على ما يتم تسويقه في المكتبات التجارية ودور النشر. توجد أمثلة متعددة للكثير من المكتبات العامة التي هي أيقونة تاريخية أو معلم حضاري وعمراني بارز ينبغي على كل سائح مثقف أن يقف بنفسه ويشاهد هذه المعالم الانسانية المعرفية الخالدة. وبحكم أن دوافع وأذواق البشر مختلفة في جذبهم إلى المعالم والوجهات السياحية المختلفة ولهذا من حسن الطالع أن للعديد من هذه المكتبات عوامل جذب متنوعة ترضي جميع الاذواق والاتجاهات السياحية والثقافية.
على سبيل المثال بعض المكتبات ربما يكون المحفز لك لزيارتها هو بعض الاعتبارات والابعاد السياسية المرتبطة بها فالزائر مثلا للمكتبة البريطانية قد تتاح له الفرصة الاطلاع على وثائق سياسية وتاريخية حساسة من مراسلات وزارة الخارجية البريطانية عن الدول العربية (قبل فترة أعلنت المكتبة البريطانية أنها سوف تنشر عبر الانترنت نصف مليون وثيقة عن المنطقة العربية). زيارة مبنى الكونجرس الامريكي هو خيار سياحي مفضل لألاف من السياح يوميا والمئات منهم يفضلون بعد ذلك زيارة مبنى مكتبة الكونجرس المشهورة (أكبر مكتبة في العالم على الاطلاق) والسبب في ذلك وجود نفق تحت الارض يربط بين مبنى البرلمان الامريكي وتلك المكتبة وبالتالي أصبح من طقوس زيارة المعالم السياسية الكبرى في العاصمة واشنطن زيارة مكتبتها العريقة. وعلى نفس النسق أتصور أن أي زائر مثقف للعاصمة الكندية مدينة أوتاوا غالبا سوف يدفعه الفضول لزيارة مكتبة البرلمان الكندي خصوصا عندما يعلم أن صورة هذه المكتبة مطبوعة على العملة النقدية لورقة العشر دولارات فلو لم تكن هذه المكتبة المثيرة للجدل (أحترق جزء منها في ظروف غامضة !!) مهمة في تاريخ كندا السياسي لما تم تقديرها بوضع صورتها على ورقية نقدية واسعة التداول.
بعض السياح قد يجذبهم لزيارة المكتبات عراقتها التاريخية والحضارية اكثر من خلفية أبعادها السياسية ففي عالمنا العربي بعد اندثار مكتبة بيت الحكمة في بغداد ومكتبة دار الحكمة في القاهرة الفاطمية ومكتبات قرطبة لم يبقى لنا من التاريخ المجيد في هذا المجال إلا زيارة المكتبة الظاهرية في دمشق (هي مكتبة حديثة نسبيا لكنها تقع في مبنى أثري عريق هو المدرسة الظاهرية التي بنيت زمن الظاهر بيبرس وفيها قبره) ومكتبة الأزهر ومكتبة الحرم المكي الشريف. للأسف الشديد أقدم مكتبة عربية ما زالت قائمة حتى الان (دار الكتب الظاهرية) عمرها أقل من قرن ونصف في حين أن تاريخ المكتبات الاوروبية أقدم من ذلك بكثير وإذا أغفلنا ذكر مكتبات أديرة الكنائس المسيحية الغارقة في القدم والتي لم تندثر بعد نجد أن مكتبة مدينة فلورنسا الايطالية (مكتبة ميديتشي العامة) أنشأت قبل خمسة قرون تقريبا وبعدها بقليل دشنت مكتبة القديس مارك بمدينة البندقية (مكتبة مارسيانا) في حين أن مكتبة البابوات في روما (مكتبة الفاتيكان) والتي تأسست رسميا في عام 1475م هي بلا شك من أقدم المكتبات الموجودة اليوم. إن العراقة والاقدمية التاريخية لأي مكتبة هي عامل جذب حاسم في التحفيز لزيارتها ومن ذلك أن البعض قد يرغب في زيارة مكتبة جامعة هارفرد لا لشي إلا لأنها أقدم مكتبة (جامعية) في التاريخ حيث افتتحت عام 1676م في حين لو حصل وأن وفقت لزيارة مدينة لشبونة عاصمة البرتغال فلا تتردد أن تزور مكتبة بيرتراند لأنها بكل بساطة هي أقدم مكتبة تجارية bookstore ما زالت تمارس عملها التجاري والثقافي منذ 285 سنة !!.
وبالرغم من أن لعبق التاريخ رونقه وألقه ولكنه في أحيان كثيرة ليس بحد ذاته عامل جذب حاسم لزيارة المعالم السياحية ولنعترف أن العديد من السياح يجذبهم (الجمال والأناقة) سواء في المناظر الطبيعية أو الآثار العمرانية البشرية. إن الجمال وروعة وفخامة التصميم البنائي لقصر أو حديقة أو حتى دار عبادة هي ما تجذب السياح بشكل كثيف ومن هذا المنطلق نجد أن كم غفير من المكتبات العامة تستحق الزيارة السياحية لروعة تصميمها المعماري وزخرفتها ورياشها الداخلية والخارجية. وبالعودة لمكتبة ميدتشي في مدينة فلورنسا (المكتبة اللورنسية) نجد أنها تستقطب جم غفير من السواح ليس فقط لقيمتها الثقافية ولكن الأهم من ذلك لأصالتها الجمالية حيث أنها من تصميم عملاق عصر النهضة الايطالي النحات والمهندس المعماري البارز مايكل أنجلو. خلال القرون الماضية تم الاعتناء بشكل كبير لأسباب دينية وسياسية بالمكتبات التي تتبع الأديرة والكنائس ومن ثم في العصر الحديث أصبحت هذه المكتبات مزارا للسياح والباحثين وطلاب علوم العمارة الذين يرغبون في معرفة فنون واساليب العمارة الاوروبية القديمة (فن عمارة العصر القوطي والباروك والركوكو).
إن زخرفة ورونق مكتبة دير القديس غال في سويسرا تضاهي أجمل القصور الامبراطورية الاوروبية في حين نجد أن مبنى المكتبة الوطنية النمساوية هو بالفعل جزء من قصر هوفبورغ مقر الاسرة الملكية الحاكمة في مدينة فيينا وبذلك كانت هذه المكتبة (مكتبة البلاط) للإمبراطورية النمساوية ولهذا لا تسأل عن جمال وروعة بهو هذه المكتبة وكأنها ديوان العرش الملكي. قاعة مكتبة أخرى تأسر الالباب وتخطف الابصار ليس لزخرفتها ولكن لهيبة فضائها الداخلي وتلك هي مكتبة كلية ترنيتي في مدينة دبلن الايرلندية وهي حاليا واحدة من أكثر مناطق الجذب السياحي في ايرلندا. أبرز ما يميز هذه المكتبة هي قاعة الكتب المهيبة المشتهرة باسم الغرفة الطويلة والتي تتسع لأكثر من 200 ألف كتاب وبجمال خشب هذه المكتبة الغامق اللون ربما تكون من أكثر المكتبات جمالا ولهذا من وجهة نظري أنها أحق باللقب الفخيم (كاتدرائية الكتب) من مكتبة جونز هوبكنز الأمريكية.
بحكم أن نمط العمارة المعاصرة أختلف بشكل حاد في العقود الزمنية الأخيرة وهو ما يمكن ملاحظته مثلا في ثورية تصاميم المطارات أو ناطحات السحاب لذا ليس من المستغرب أن يصيب هذا الفيروس (الحميد ربما !!) طريقة بناء وتصميم المكتبات الحديثة. إن روعة التصاميم المعمارية للمكتبات الجديدة في عدد من المدن ليس فقط أصبحت تلفت وتخطف الابصار eye catching بل أصبحت هذه المكتبات الحديثة معالم حضارية بارزة landmark تدل وترتبط باسم تلك المدن كما يرتبط تمثال الحرية بمدينة نيويورك وبرج ايفل بباريس. ولهذا لا غرابة أن المبنى الجديد للمكتبة المركزية في مدينة سياتل الامريكية زرها في عامها الاول عند افتتاحها سنة 2004م أكثر من مليوني زائر وسائح وهو رقم ضخم يصعب على أشهر معلم سياحي في مدينة سياتل تحقيقه وهو برج الطبق الفضائي المعروف باسم (ابرة الفضاء). ومن الأمثلة الاضافية للمكتبات العامة التي تم بنائها في السنوات الاخيرة بطراز عمراني فاتن ومذهل مكتبة الاسكندرية ومكتبة مدينة سدني الاسترالية ومكتبة مدينة برمنجهام البريطانية ومكتبة مدينة كانازوا اليابانية
في حين نجد مكتبات حديثة أخرى تمتاز وبشكل ساحر وحابس للأنفاس بروعة تصميم بهوها الداخلي أو قاعات القراءة فيها وأبرز مثال في هذا المجال البهو المذهل لمكتبة مدينة شتوتغارت الالمانية أو البهو الشفاف العجيب لمكتبة مدينة ميكسيكو أما مكتبة جامعة برلين الحرة فهي مصممة على هيئة العقل البشر (وبعضهم يصفها بمكتبة الجمجمة). وأخيرا البعض منا قد يكون أحد أهم جوانب التحفيز له للسياحة والسفر هو تعلقه بالتسوق والتسكع في الشوارع التجارية العلمية المشهورة مثل الشانزليزيه في باريس أو شارع أكسفورد في لندن
من حسن الطالع أن أهم شارع للتسويق في مدينة نيويورك وهو شارع الجادة الخامسة fifth avenue تقع بشكل مباشر عليه واحدة من أشهر المكتبات العالمية وهي مكتبة نيويورك المركزية وبهذا يمكن التوفيق في مشوار سياحي واحد بين الثقافة والتسوق. على نفس النسق نجد أن المكتبة العامة الرائعة لمدينة تورنتو الكندية تقع على مقربة من شارع يونغ أهم وأفخم شارع تجاري في كندا.  ومن نافلة القول التذكير بأن مكتبة الملك فهد الوطنية هي محصورة بين أهم شارعين تجاريين في المملكة هما طريق الملك فهد وشارع العليا. وعلى ذكر ارتباط التسوق التجاري بالتسوق الفكري قد تكون المكتبة المركزية لمدينة فانكوفر الكندية أكثر المكتبات مزجا بين التسوق والثقافة ليس فقط لأن مبناها الحديث يقع في قلب المنطقة المالية في وسط المدينة ولكن لأنها ربما المكتبة الوحيدة التي تحتوي داخل مبناها الضخم (المصمم على هيئة حلبة المصارعة الرومانية) علي بعض المحلات التجارية بالإضافة لبعض المطاعم والمقاهي وبهذا يجتمع ثالوث غذاء العقول والبطون والجيوب (للتجار طبعا أصحاب المحلات).

تجربة شخصية في السياحة المكتبية
في بدايات دراستي للغة الانجليزية في مدينة مانشستر الانجليزية عام 1995م كنت اعتقد بأنني سوف اتردد كثيرا على مكتبتها المركزية العريقة والمصممة على هيئة مبنى البانثيون الروماني الانيق ذو الشكل الكروي لكن اقتصار توزيع الكتب على الجدار الداخلي الدائري اصابني بالإرباك لأنني معتاد على تصفح ومطالعة الكتب في جو من الاستقلالية بين الصفوف المتوازية لدواليب وأرفف الكتب. كما إني المستوى اللغوي للكتب التاريخية والعلمية التي نالت إعجابي كان أعلى من قدراتي اللغوية في ذلك الحين ولذا لم أزر اتردد كثيرا على تلك المكتبة. وقرب الانتهاء من إكمال دراسة الدكتوراه صممت على زيارة المقر الجديد شمال لندن للمكتبة البريطانية الذي افتتح قبل نهاية التسعينات وكان حديث وسائل الاعلام الانجليزية لفترة من الزمن. الساحة الخارجية لهذه المكتبة الحديثة توحي بالحداثة وما بعد الحداثة ولكني أصبت بإرباك آخر بعد الولوج لداخل المكتبة (الحديثة) فمن بين الأربعة عشر مليون كتاب التي تحتويها المكتبة (هي ثاني اكبر مكتبة في العالم بعد مكتبة الكونجرس الامريكية) تم اختيار مجموعة الكتب العتيقة المسماة (مكتبة الملك جورج) لتكون في واجهة الشخص الداخل لبهو المكتبة. وعندما تقع عينك على البرج الزجاجي الشاهق الذي وضعت في هذه الكتب العتيقة الضخمة والبالية تشعر بأنك عدت لزمن العصور الوسطى وهو ما أربكني لأنني كنت متحمس لتصفح الكتب الحديثة والعلمية منها بوجه خاص. كما إن الجو الانجليزي الرصين والمترفع في قاعة القراءة يشعرك ان هذا مكان محترم وجاد لا يرحب بالهواة فضلا عن السواح حيث أنني كنت بصحبة زوجتي وأطفالي في تلك الزيارة !!.
تم إعادة إحياء وافتتاح مكتبة الاسكندرية العريقة في عام 2002 ومن سوء حظي أنني زرتها في نفس ذلك العام وبعد الانبهار من الموقع الاستراتيجي لهذه المكتبة على كورنيش الساحل ومع روعة تصميم المكتبة على هيئة قرص الشمس الوالج في البحر إذا بي أدخل على مكتبة ذات أرفف ودواليب كتب شبه فارغة. يبدو أن الجهود والاموال كانت مسخرة في البداية لإكمال انشاء مبنى المكتبة أما الكتب نفسها فسياسة اقتنائها في البداية ربما كانت قائمة على اسلوب الاهداء من المجتمع الدولي ولهذا ربما احتاج تكامل هذه الكتب لعدة سنوات بعد الافتتاح. وفي مقابل أنني لم أوفق كثيرا في زيارة مكتبة الاسكندرية في بدايات افتتاحها فإنني وفقت كثيرا في عدم التأخر في زيارة المكتبة الظاهرية في دمشق وهي اقدم مكتبة عربية في وقتنا المعاصر. سبب التوفيق أنني زرت المكتبة في موقعها الاصلي في المدرسة الظاهرية قرب سوق الحميدية والجامع الأموي وذلك قبل نقل أغلب مخطوطاتها إلى مكتبة الاسد الوطنية قرب ساحة الامويين. لقد دخلت المكتبة الظاهرية كسائح ولكني كنت في لحظتها متقمص شخصية الشيخ ناصر الدين الالباني رحمة الله الذي أفنى شبابه في تحقيق مخطوطات هذه المكتبة ولهذا قمت بتجميع بعض كتب الحديث وجلست على طاولة القراءة وانا استحضر شخصية هذا المحدث الجليل الذي نهل العلم قبل أن تنقل هذه المخطوطات إلى مكان جديد يحمل اسم شخص بغيض ومجرم (مكتبة الأسد).
في آخر زيارة لي لمدينة باريس مع بعض الفضلاء كنت قد صممت على زيارة المكتبة الفرنسية الوطنية لعراقتها التاريخية من جهة ولتميز تصميم مبناها الجديد من جهة أخرى حيث صممت على هيئة أربع كتب مفتوحة ومتقابلة (البعض يصف التصميم بالطاولة المقلوبة). وبحكم أننا أقمنا في فندق في الحي اللاتيني بباريس أخذت أتردد على بعض المكتبات التجارية المنتشرة فيه ووجدت الغالبية العظمى منها لا تحتوي إلا الكتب الفرنسية فقط (على عادة الفرنسيين للتعصب للغتهم القومية). ولهذا خشيت أن تكون زيارتي للمكتبة الفرنسية الوطنية غير مفيدة إذا لم أجد إلا الكتب الفرنسية ولهذا عُدل جدول الزيارات للمرور على جامعة السوربون ومقر منظمة اليونيسكو.
أما هذا الصيف فهو يعتبر بالنسبة لي قمة سياحة المكتبات حيث زرت فيه مكتبة الكونجرس الامريكية بواشنطن وهي أكبر مكتبة في العالم على الاطلاق في حيث تحتوي على أكثر من 38 مليون كتاب تم تجميعها من جميع أنحاء العالم وبشتى اللغات وهي محفوظة في ثلاث مباني ضخمة بالقرب من مبنى البرلمان الامريكي
عدد كبير ممن يدخل المكتبة عبر مبناها الرئيسي (المسمى على الرئيس توماس جيفرسون ثالث رؤساء أمريكا) هم من السياح ولذلك تجد قاعة بهو المكتبة حاشدة بشكل كثيف بأشخاص مشغولون بالتصوير. للأسف الشديد الكتب المتاحة للعامة في مكتبة الكونجرس محدودة جدا جدا ولابد أن تحصل على عضوية المكتبة (وهي عضوية مجانية تمنح للباحثين والمتخصصين) لكي يسمح لك بالدخول لقاعة القراءة الرئيسية المهيبة. في المقابل وجدت أن الامر يختلف قليلا مع المكتبة المركزية لمدينة نيويورك فالوصول للكتب فيها أسهل وإن كان عدد السياح فيها أقل نسبيا بالرغم من الشهرة الطاغية لهذه المكتبة وورودها في العديد من الافلام الوثائقية وافلام هوليوود السينمائية حيث من أشهرها ذلك المشهد المميز في فلم (يوم ما بعد الغد) عندما تصاب الارض بموجة جليدية عامة ويلجأ بعض سكان مانهاتن للاحتماء بهذه المكتبة وحرق كتبها طلبا للتدفئة.
أما تجربتي مع المكتبة العامة لمدينة تورينتو الكندية فهي تجربة فريدة بكل المقاييس ليس فقط لروعة بهو هذه المكتبة ولكن لكونها مثال نموذجي لمفهوم (المكتبة الشاملة) التي هي نقطة ارتكاز ومحور توزيع hub للأنشطة الثقافية والمعرفية في المجتمع ففيها في نفس اللحظة روضة ومجموعة قراءة للطفال وورشة عمل للمراهقين ودورة تدريبية للبالغين ويشغل مسرحها الرئيسي ندوة علمية بالإضافة لوجود مكتبة تجارية ومقاهي وأماكن استرخاء ونوافير.


وفي الختام بقي أن أقول أنه لطالما سعدت بالمرور على العديد من المكتبات العامة والجامعية والتجارية كباحث أو كسائح ومطلع ولكن لي تجربة وحيدة عملت فيها (كمرشد سياحي) في مجال المكتبات عندما تلقيت اتصال من أحد الزملاء الافاضل اثناء دراستي للدكتوراه في مدينة لفبرا البريطانية يذكر فيه أن الدكتور مانع الجهني رحمة الله أمين عام الندوة العالمية للشباب الاسلامي وعضو مجلس الشورى في حينها يرغب بزيارة المكتبات التجارية والمكتبات الخاصة بالكتب النادرة في مدينتنا ويحتاج لمن يدله عليها. ربما كنت في حينها ولا أزال مؤهل تماما لمثل هذه المهمة لأن لي خبرة طويلة مع عدد كبير من المكتبات التجارية فلله الحمد أحتفظ حاليا في مكتبتي الشخصية بكتب قمت بشرائها من حوالي ٣٥ دولة مختلفة.