الجمعة، 15 مارس 2024

( سياحة السجون .. إطلالة فريدة على التاريخ )

 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 السبت 1445/8/28

 في السنوات الأخيرة أصبحت دولة جنوب أفريقيا تحظى بشهرة سياحية متزايدة تمثلت بتحقيقها المركز الثالثة في عدد السياح على مستوى القارة السمراء وطبعا من عوامل الجذب السياحي لها جمال طبيعتها البكر وتميزها المشهور برحلات سفاري الحيوانات في البر والبحر كما أشرنا لذلك في مقال سابق (السياحة مع أسماك القرش). ومع ذلك الزائر لمدينة كيب تاون في أقصى الجنوب من جنوب أفريقيا لن تكتمل (متعته) رحلته حتى يشاهد أجواء البؤس التي عاشها رمز النضال السياسي الخالد (نيلسون مانديلا) في غرفة زنزانته الصغيرة في سجن جزيرة روبن أمام شاطئ مدينة كيب تاون !!.   

من فوائد السفر التعرف على عادات وثقافات الشعوب فبالإضافة لاستكشاف طبيعة حياة قبائل الزولو الأفريقية لعل من المناسب للسائح لجنوب أفريقيا أن يطلع على شيء من تاريخ المعاناة والاضطهاد الذي تعرض له السكان الأصليون على يد الرجل الأبيض الأوروبي وتوجد عدة متاحف في مدينة جوهانسبورغ ومدينة كيب تاون عن فترة حكم نظام الفصل العنصري (الأبارتايد). وكما هو معلوم بسبب معارضة نيلسون مانديلا والعديد من رموز السياسة الأفارقة لحكومة بريتوريا العنصرية تعرضوا للاعتقال والسجن لسنوات طويلة كان نصيب مانديلا منها 27 سنة قضى منها 18 سنة في زنزانته الصغيرة المشهورة في سجن جزيرة روبن. ولهذا لا تكتمل أي رحلة سياحية هادفة لمدينة كيب تاون من دون التقاط الصور التذكارية من أمام زنزانة نيلسون مانديلا المغلقة وهو أمر يقوم به عدد كبير من السياح الذين يبلغ عددهم سنويا حوالي 300 ألف زائر للجزيرة السجن.

التعرف على تاريخ الدول والشعوب من خلال زيارة أبرز سجون تلك الدولة أوضح مثال لهذه الزيارات الثقافية هو ما يحصل عندما تقوم كسائح بزيارة سجن برج لندن الشهير. في الواقع برج لندن هو في الأصل قلعة تاريخية على ضفاف نهر التايمز ونظراً لحصانتها العسكرية استخدمت لفترة من الزمن كقصر ومقر سكن للأسر الحاكمة البريطانية وبحكم أن هذه القلعة ضخمة ومتعددة المرافق والأبراج لذا استخدم أحدها كسجن سياسي منذ 1100 ميلادي. قائمة الأشخاص البارزين الذين تم سجنهم عبر القرون في قبو وزنازين برج لندن تشمل المئات من الملوك والأمراء والوزراء والنبلاء وكبار رجال الدين ولهذا تاريخ الإمبراطورية البريطانية الداخلي والخارجي مرتبط بهذا السجن. يكفي أن نعلم أنه سجن فيه ثلاثة من ملوك إسكتلندا في عصور مختلفة جون الأول وإدوارد الثاني وجيمس الأول وكذلك ملك فرنسا جون الثاني، بل إن ملك بريطانية هنري السادس سجن فيه مرتين وكذلك الملك الإنجليزي اليافع إدوارد الخامس.

وفي حين أن أغلب الزوار والسياح البالغ عددهم سنويا حوالي ثلاثة ملايين زائر لبرج لندن يشغلهم هدفا واحدا هو مشاهدة تاج وصولجان الإمبراطورية البريطانية إلا أنه يفوتهم أن يشاهدوا الزنزانة التي حبست فيها إحدى أهم الملكات على الإطلاق في التاريخ البشري ألا وهي الملكة الإنجليزية إليزابيث الأولى والتي سجنت لعدة أشهر في برج لندن. الجدير بالذكر أن سجن لندن شهد كذلك سجن بعض الملكات وزوجات الملوك والأميرات وبمناسبة ذكر الملكة إليزابيث الأولى لعل من المناسب لزوار سجن برج لندن أن يعلموا أن أم تلك الملكة وهي آن بولين الزوجة الثانية للملك هنري الثامن سجنت لعدة سنوات في برج لندن وتم إعدامها فيه والموقع الذي تم فيه قطع رأسها هو اليوم معلم سياحي مميز.

ولعل فيما سبق ذكره من العلاقة الوثيقة بين سجن برج لندن وتشكيل تاريخ الإمبراطورية البريطانية يوحي للقارئ الكريم أن الزيارات الثقافية لمثل هذه المعالم السياحية الغريبة مثل السجون والمعتقلات أمر مفيد في فهم التاريخ واكتساب الدروس والعبر. فهذا مانديلا تحول من إرهابي وضال مضل وهو في زنزانته إلى رمز خالد وهو على كرسي الرئاسة والحكم وهذه الملكة إليزابيث السالفة الذكر بعد إطلاق سراحها من سجن برج لندن ثم بعد ذلك بسنوات جلست على العرش قالت (لقد سقط أناس من صف الأمراء وسجنوا في هذا القصر، أما أنا فقد انتقلت من سجينة في هذا القصر إلى ملكة لذا وجب علي أن أقر لله بالشكر وأن أكون رحيمة بالناس).

 وبالانتقال من الجزر البريطانية إلى جارتها اللدودة فرنسا فهل لو كان سجن (الباستيل) الشهير في باريس ما زال قائما ألم يكن سوف يشهد كمّا غفيرا من السياح والزوار الذين يرغبون باستكشاف أهم لحظة في تاريخ الثورة الفرنسية (اجتياح حصن الباستيل). من يزور مدينة باريس اليوم لن يجد أي أثر لسجن الباستيل ولكن عوضا عن ذلك سيجد ساحة كبيرة في نفس الموقع تسمى بكل بداهة (ساحة الباستيل). ومع استحالة الزيارة الفعلية لسجن الباستيل ربما يمكن أن نستشعر الأجواء التاريخية التي صاحبت وتلت اقتحام حصن الباستيل من خلال قراءة الرواية الشيقة (سقوط الباستيل) للأديب الفرنسي البارز ألكسندر دوماس. مرة أخرى كان سجن البالستيل الباريسي مثل سجن البرج اللندني بؤرة اعتقال الملوك وكبار شخصيات المجتمع الفرنسي ويمكن من خلال دراسة الأحداث التي عاشها رواد السجن وأسباب اعتقالهم، يمكن أن نحصل على إطلالة على تعقيدات الدسائس والمؤامرات والتقلبات السياسية. وبمناسبة ذكر الأديب المبدع ألكسندر دوماس يمكن أن نرشح كذلك رواية (الرجل ذو القناع الحديدي) والتي تدور عن حصن الباستيل وسجينة المشؤوم والمزعوم أنه الأخ التوأم للملك الفرنسي لويس الرابع عشر.

وقبل أن نغادر فرنسا لعل من المناسب أن نذكر رواية ثالثة من إبداع المبدع دوماً ألكسندر دوما في فن (أدب السجون) وعنوان هذه الرواية الإضافية هو (الكونت دي مونت كريستو) وهذه الرواية ليس فقط مستوحاة من قصة شبه حقيقة، ولكن أيضا السجن الذي يفر منه بطل الرواية البحار/الكونت هو سجن حقيقي.ونحن نتكلم هنا بالتحديد عن سجن قلعة شاتو دي إيف والمقام على جزيرة صغيرة مقابل مدينة مارسيليا على الساحل الجنوبي لفرنسا ويبلغ زوار هذا السجن/الجزيرة حوالي 100 ألف سائح سنويا. ونظرا للعزلة البحرية لتلك الجزيرة والارتفاع الشاهق لجدران القلعة أصبح سجن شاتو دي إيف مشهورا في الزمن القديم بأنه السجن الذي يستحيل الهروب منه وحتى لو تمكن أحد السجناء من تسلق الجدران ومغافلة الحراس فإنه في الغالب سوف يقتل عندما يحاول السباحة في تيارات الماء العنيفة حول تلك الجزيرة.

نفس هذا التوصيف (السجن الذي يستحيل الهروب منه) وكذلك نفس ذلك التحذير (السجين الهارب سوف يتعرض للغرق بسبب تيارات الماء الجارفة) أطلق على واحد من أشهر السجون في زمننا المعاصر (سجن ألكاتراز). يشتهر هذا السجن باسم رديف وهو (سجن الصخرة) لأنه عبارة عن قلعة حصينة مبنية على جزيرة صخرية تقع مقابل سواحل مدينة سان فرانسيسكو وكان في السابق يعتبر أحد أخطر السجون في الولايات المتحدة نظرا لأن النزلاء فيه هم في العادة من عتاة المجرمين والقتلة وزعماء العصابات الكبار مثل الشقي آل كابوني زعيم مافيا مدينة الآثام والجريمة شيكاغو. وفي حين أن سجن الباستيل أشتهر بكثرة الروايات الأدبية التي تدور أحداثها حوله كما سبق الاشارة إليه (ومن ذلك أيضا بطل رواية قصة مدينتين لتشارلز ديكنز قد سجن في الباستيل لعدة سنوات)، نجد في المقابل أن سجن ألكاتراز وبحكم وجوده في ولاية كاليفورنيا حاضنة أستوديوهات هوليوود لذا لا عجب أنه كان أكثر سجن ظهر في الأفلام السينمائية. فبالإضافة للأفلام المتعددة التي تدور عن محاولات الهروب منه أو حالات الشغب والعصيان داخل السجن لعل من الملائم الإشارة إلى أحد هذه الأفلام عن سجن ألكاتراز لارتباطه الوثيق بعنوان هذا المقال (سياحة السجون). 

تدور أحداث فلم (الصخرة The Rock) عن مجموعة من جنود البحرية الأمريكية المنشقين والذين يقتحمون سجن ألكاتراز ومن ثم يعتقلون العشرات من السياح (في الواقع يزور هذا السجن يوميا أكثر من خمسة آلاف سائح) ويأخذونهم رهائن ويحبسونهم في زنازين السجن. وتستمر الحبكة الدرامية لذلك الفلم عندما يطلب الخاطفون من الحكومة الأمريكية أن تدفع لهم فدية بمبلغ 100 مليون دولار وإلا سوف يطلقون على مدينة سان فرانسيسكو من فوق تلك الصخرة صواريخ موجهه تحتوي غاز الأعصاب المميت.

 إقامة فندقية في زنزانة خمسة نجوم

الفلم الهوليوودي السالف الذكر عن سجن ألكاتراز توجد فيه مشاهد تحويل السياح من زوار عاديين إلى نزلاء مسجونين في زنازين الحبس وبالرغم من أن هذا خيال سينمائي لكنه في الواقع كثيرا ما يقع. كوسيلة للتنشيط السياحي والاستفادة من بعض المنشئات التاريخية تقوم العديد من دول العالم بتحويل السجون المشهورة فيها إلى فنادق فخمة تحقق معادلة رفاهية الإقامة للمسافرين مع مزيج من الترفيه والتثقيف للسائحين. وبالفعل قد تكون تجربة سياحية فردية أن تكون غرفة إقامتك في الفندق هي في الأصل زنزانة في سجن سيئ السمعة بأنه كان من أخطر السجون في تلك الدولة أو بالإمكان أن تقيم في سجن اعتقل فيه شخصيات تاريخية مشهورة.

تجربة النوم خلف القضبان في زنزانة السجن يمكن تجربتها في السجن القديم للمدينة الألمانية كايسرسلاوترن القريبة نسبيا من فرانكفورت والذي تم تحويلة إلى فندق يحمل اسم (فندق ألكاتراز) كنوع من التسويق والاستفادة من شهرة سجن الصخرة في سان فرانسيسكو. وبالرغم من أن هذا الفندق الألماني فخم إلا أن الحمامات فيه ما زالت مشتركة كما هو الوضع الأصلي عندما كان يستخدم كسجن ولم يتم وضع حمامات في داخل الزنازين حتى يشعر (النزيل) في هذا الفندق أنه بالفعل يقيم في سجن. وتجدر الإشارة إلى أن عدد السجون التي تم تحويلها إلى فنادق عددها كبير على مستوى العالم ولأغلبها ميزة خاصة به فمثلا فندق يونتاس في قلب العصمة التشيكية براغ كان في الأصل سجن سري استخدم وقت الحكم الشيوعي لاعتقال وقمع المعارضين السياسيين ولذا يمكن كسائح أن تطلب أن تقيم في الزنزانة التي اعتقل فيها الأديب والمناضل فاتسلاف هافيل أول رئيس للتشيك بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

والزائر لمنطقة السلطان أحمد في وسط إسطنبول يمكن أن يحقق سياحة السجون من خلال الإقامة في فندق الفورسيزونز الفخم وذو النجوم السبعة، علما بأن المبنى الأساسي لهذا الفندق كان أحد سجون عاصمة الدولة العثمانية وحتى الآن يمكن قراءة أسماء المساجين وذكرياتهم المكتوبة على جدران غرف أو زنازين هذا الفندق المميز. ومع ذكر سجن مدينة إسطنبول وبعد هذا التطواف في التاريخ والجغرافيا والسفر لمشاهدة سجون العالم لعل الملائم في خاتمة المقال أن نعرج على استكشاف أبرز المعالم السياحية في واقعنا العربي والإسلامي ذات الصلة بالسجون. صحيح أن أشهر السجون في التاريخ العربي والإسلامي ليس لها وجود اليوم مثل سجن نبي الله يوسف في مصر أو السجن الذي اعتقل فيه الأمام أحمد بن حنبل في بغداد ومع ذلك يبقى عدد لا بأس به من تلك السجون التاريخية هي اليوم معالم سياحية بامتياز. الزائر لقلعة صلاح الدين في القاهرة يمكن أن يعيش تجربة (سياحة السجون) بزيارة (سجن القلعة) والذي افتتح للمعذبين منذ عهد الخديوي إسماعيل في عام 1876 والغريب أن أشهر من أعتقل في هذا السجن هو الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات ولكن عندما زرت هذا السجن قبل عدة سنوات كان رجل الأمن الذي يحرس الموقع حريصا على أن يريني الزنزانة الانفرادية التي اعتقل فيها الشيخ عبدالحميد كشك. وبمناسبة ذكر المشائخ والسجون من الأخطاء الشائعة الاعتقاد أن سجن القلعة في القاهرة هو السجن الذي أعتقل فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا غير صحيح فتاريخ هذا السجن حديث نسبيا. والغالب أن الامام ابن تيمية اعتقل في السجن القديم الذي كان يسمى بسجن البرج ثم نقل إلى سجن (الجب) بقلعة الجبل وهو سجن يتم ذكره كثيرا في كتاب تاريخ المقريزي (السلوك لمعرفة دول الملوك) حيث سجن فيه العديد من الأمراء وقادة الجند وهو سجن يبدو أنه تحت الأرض وقد تم هدمه زمن السلطان ابن قلاوون.

وما دام أن سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية انفتحت فهذا يقودنا ولا شك للحديث عن سجن (قلعة دمشق) وهو الموقع الذي سجن وتوفي فيه شيخ الإسلام وهو نفس المعتقل الذي سجن فيه الشايخ ناصر الدين الألباني في أوائل شبابه. وبالرغم من أن قلعة دمشق حاليا هي مزار سياحي بارز إلا أن سجن القلعة قد تم هدمه عام 1985م أثناء عملية الترميم الواسعة لقلعة صلاح الدين الدمشقية. وتكرار اسم قلعة (صلاح الدين) في القاهرة ودمشق يؤكد الظاهر القديمة طوال التاريخ البشري أنه كثيرا ما تكون القلاع المحصنة هي قصر الحكم ومعسكر الجند ومستودع السلاح بالإضافة لكونها أحيانا أحد سجون الدولة. وعلى نفس النسق ليس من المستغرب أن نعلم أن قصر (المصمك) التاريخي في الرياض هو في الأصل حصن عسكري وكان كذلك لفترة من الزمن يستخدم كمقر للحكم ومستود للسلاح والذخيرة وأيضا استخدم لفترة طويلة كسجن قبل أن يتحول أخيرا إلى مزار سياحي وتراثي بارز.

ومع تزايد الاهتمام بالمواقع التراثية والأثرية وإمكانية تحويلها لمزارات سياحية تم ترميم قلعة وادرين في منطقة تبوك والتي اشتهرت قديما بسجنها المخيف وفي نفس السياق لاستعراض المواقع المحلية المرتبطة بسياحة السجون القديمة يمكن أن نذكر سجن قصر القشلة التاريخي في مدينة حائل وسجن قلعة دارين في القطيف وسجن قصر العبيد في الهفوف وسجن جزيرة فرسان.

( السياحة مع أسماك القرش !! )

د/ أحمد بن حامد الغامدي

السبت 1445/8/21

مدينة كيب تاون في دولة جنوب إفريقيا لها ميزة خاصة من النواحي الطبيعية والتاريخية والجغرافية والعمرانية، ونتج عن ذلك أنها أصبحت واحدة من أشهر وأبرز المزارات السياحية في القارة السمراء لأنها أكثر مدينة من ناحية التطور العمراني كما أنها تتيح الفرصة كنقطة انطلاق لرحلات سفاري الحيوانات أو زيارة سجن نيلسون مانديلا ومتحف نضال السود. ومع ذلك شرائح من السياح من مختلف أنحاء العالم ربما أكثر ما يجذبهم للقدوم إلى مدينة كيب تاون أنها توفر لهم جرعة عالية من الأدرنالين من خلال (السياحة والسباحة) مع أسماك القرش. على مستوى العالم تشتهر مدينة كيب تاون أنه تحتوي على العشرات من الشركات السياحية التي توفر رحلة بحرية لمدة ثلاث ساعات تشمل فرصة المقابلة المباشرة وجها لوجه مع أسماك القرش البيضاء بالغة الضخمة والمرعبة ولذا تستحق بجدارة لقب (الفك المفترس).

أثناء الاستعداد والتجهيز للسفر بأسرتي إلى دولة جنوب إفريقيا فكرت في البحث عن مدى إمكانية أن أحجز رحلة بحرية من مدينة قانسباي (خليج الأوز Gansbaai) وهي مدينة الصيادين الساحلية التي تنطلق منها السفن السياحية للغوص المثير مع أسماك القرش أو الاسترخاء على ظهر القارب لرصد حيتان المحيط الضخمة. وبحكم أن رحلتنا تتوافق مع الإجازة الدراسية التي تتزامن مع نهاية شهر فبراير فقد تبين لي أنني قد أغامر بدفع مبلغ مالي مرتفع مع احتمالية إلغاء الرحلة بسبب تقلب أجواء المحيط الهندي فالطقس هنالك متذبذب لدرجة حتى الرحلات التقليدية مثل مجرد الصعود لقمة جبل الطاولة قد يحصل أحيانا أن تغلى رحلة الصعود بالتلفريك في الأجواء الماطرة والعاصفة. ولهذا تعزز لدي أكثر أن يكون الهدف الأساسي من رحلة جنوب أفريقيا هو الاكتفاء بالإثارة مع (عيش سفاري) وبدلا من المغامرة بمشاهدة الفك المفترس لسمك القرش من داخل القفص المعدني في وسط المحيط، فلا بأس من تخفيض سقف الطموحات والاكتفاء بمغامرة مشاهدة الفك المفترس للقطط الكبار من الأسود والنمور، ولكن من داخل سيارة الجيب التي تتنقل بنا داخل محمية العقاب Aquila لحيوانات السفاري التي تبعد حوالي 180 كيلومترا عن مدينة كيب تاون.

منذ أن أحتل الإنجليز جنوب أفريقيا في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر سرعان من تعرفت الطبقة المخملية من المجتمع البريطاني على الهواية الجديدة المثيرة للحماس والأدرنالين: السفر السياحي بهدف رياضة صيد الحيوانات الأفريقية الخطرة. ولهذا خلال فترة العصر الفيكتوري ظهرت تسمية رياضة صيد الحيوانات الخمسة الكبار (Big Five games). ونظرا لأن صيد حيوانات الأدغال على درجة عالية من الخطورة في ذلك الزمن الذي تتم فيه عملية الصيد بالمشي سيرا على الأقدام وباستخدام بنادق الطلقة الواحدة البطيئة إعادة الشحن لهذا كانت رحلة الصيد للرجال فقط وهم يحاولون اقتناص الحيوانات الخمس الكبار: الأسود والنمور والفيلة ووحيد القرن والجاموس.

طبعا بالدرجة الأولى كان الهدف من رحلات الصيد قديما مجرد الترفيه ومن ثم تخليد تلك المغامرة المذهلة عن طريق الحصول على ما يسمى (تذكار الصيد Trophy hunting) والذي يتمثل غالبا في الاحتفاظ برأس أو جلد أو قرون الحيوان المُصاد. ومع التوسع الهائل في العقود الأخيرة لسياحة (السفاري) وبمنطق ضرورة المحافظة على الحياة الفطرية أصبحت (تذكارات رحلة السفاري) هي مجرد صور فوتوغرافية تذكارية (trophy photos) يلتقطها السائح كما حصل معنا ونحن في سيارة آمنة والحيوانات البرية تحوم في مسافة غير بعيدة عنا. ومع ذلك توجد فئة من الشباب المغامر أصبحت تحاول إعادة إحياء الزمن الجميل لصيد الحيوانات الخمس الكبار سيرا على الأقدام، ولكن بدلا من استخدام البندقية لكي يطلقوا shooting رصاص الرماية على الحيوانات هم يقومون باستخدام الكاميرات لتصوير shooting الحيوانات (كلمة shoot باللغة الإنجليزية تعني إطلاق النار كما تعني التقاط الصور). والجيل الجديد من المغامرين والمصورين لا يشعر بالإثارة والتميز إلا إذا قام بعملية التصوير لتلك الحيوانات الخمسة وغيرها من الحيوانات المميزة مثل الزرافة والغوريلا بشرط أن تكون عملية التصوير تتم بدون استخدام السيارة وبالتسلل الحذر على الأقدام إلى أقرب نقطة آمنة لتصوير الحيوانات البرية ويفضل أن تكون اللقطة والحيوان ينظر إلى الكاميرا مباشرة (التواصل والنظر المباشر eye to eye contact).

سياحة الإثارة مع الحيوانات البرية

وفي حين الآلاف من السياح يسافرون سنويا إلى جنوب أفريقيا وجنوب أستراليا وجنوب فلوريدا للسياحة والسباحة مع أسماك القرش من داخل الأقفاص الحديدة، بينما عشرات الآلاف من السياح سنويا يستمتعون بتصوير الحيوانات البرية المتوحشة وهم يقودون سيارات السفاري ذات الدفع الرباعي، نجد أن المئات فقط من السياح سنويا قد يرغبون في الفرار عن حيوان الثور الهائج الذي يطاردهم في الأزقة الضيقة للمدن الإسبانية. وهذا ما يحصل في كل صيف في مهرجان (سباق الثيران) حيث يتم إطلاق حوالي عشرة من الثيران الضخمة في الأزقة والشوارع الضيقة لمدينة بامبلونا الصغيرة في أقصى شمال إسبانيا، علما بأن هذا المهرجان يقام منذ القرن السادس عشر الميلادي. والفكرة هنا أن يتم الركض والهروب من أمام الثيران الهائجة التي تطارد آلاف المشاركين من السكان المحليين والسياح الأجانب الذين لا يكتفي بعضهم بالفرجة من شرفات ونوافذ المنازل بل يحرص على تلقيه جرعة زائدة من الأدرنالين (هرمون الإثارة وهرمون الكر والفر). الجدير بالذكر أنه نظرا لجوانب الجذب الثقافية والتنشيط السياحي انتقلت فكرة مهرجانات (سباق الثيران bulls running) للعديد من المدن الأخرى كما نجد ذلك في البرتغال والمكسيك بل وصلت لبعض مدن جنوب فرنسا ومدينة ستامفورد البريطانية.

وإذا كانت سياحة الأدرنالين وقمة الإثارة والمغامرة مع الحيوانات تتطلب (الهروب) والفرار من أمام الثيران كما يحصل في شوارع إسبانيا فإن نوع آخر من سياحة المغامرة مع الحيوانات يتطلب العكس تماما وهو أن تبقى جالس وثابت تماما. هذا النوع النادر جدا من سياحة الطبيعة المعروف باسم (تتبع الغوريلا Gorilla Trekking) يتوفر فقط في دول وسط أفريقيا وبالخصوص في المناطق الجبلية من أوغندا ورواندا والكونغو حيث يقوم مرشدين سياحيين مسلحين بقيادة مجموعة صغيرة من السياح في حدود ثمانية أشخاص إلى مناطق معيشة الغوريلا والتي يمكن الاقتراب منها ببطء شديد. وأثناء مشاهدة مجموعات الغوريلا وهي تعيش حياتها الطبيعية يحصل أحيانا أن يقترب لمسافة قصيرة جدا ذكر الغوريلا الضخم المعروف باسم الغوريلا ذو الظهر الفضي وهنا ينصح بعدم الهروب أو إبداء أي مشاعر خوف وكل المطلوب أن تجلس تماما بدون أي حركة وتنظر في الأرض وأياك ثم أياك أن تنظر مباشرة (eye to eye) إلى عين ذكر الغوريلا لأنه سوف يعتبر ذلك نوع من السلوك العدائي الموجه ضده.

ومن الأمثلة الإضافية لسياحة المغامرة مع الحيوانات الخطرة يمكن أن نذكر أن من يزور جزيرة بالي الأندونيسية يمكن أن يذهب في رحلة بالقارب إلى جزيرة تنين الكمودو وهو أكبر سحلية موجودة على سطح الأرض حيث قد يصل طوله إلى حوالي ثلاثة أمتار. وبالجملة من التنبيهات التحذيرية للسياح الذين يقتربون من هذه السحلية المرعبة أنه يجب أن يكونوا بصحة جيدة وقادرين على الجري بسرعة في حال انقض عليهم ذلك التنين السريع. كما ينصح بعدم زيارة أي سيدة وهي في وقت دورتها الشهرية لأنه هذه الحيوان يستطيع شم رائحة الدماء وربما يعتقد أن تلك السيدة هي فريسته الدامية. وحيث إننا بدأنا المقال برصد ظاهرة السياحة و(السباحة) مع أسماك القرش فالجميع يعلم أن هذه المخلوقات حساسة جدا للدم وتصبح أكثر شراسة في حال وجد كائن أو (سائح) جريح بالقرب منها تقطر منه الدم. وهذا يقودنا إلى نوع آخر من السياحة والسباحة مع الكائنات المائية بالغة الخطورة ونقصد بها أسماك البيرانا التي تعيش في مياه نهر الأمازون في البرازيل. الجميع ربما شاهد أفلام الكارتون أو الأفلام السينمائية والوثائقية التي تعرض الصورة النمطية المشهورة عن هذه الأسماك الصغيرة الضارية والمفترسة وذات الأسنان الكبيرة والحادة، ويقال بأنه لو تجمعت العشرات من أسماك البيرانا على حيوان جريح يمكن أن تلتهم لحمه حتى العظم خلال دقائق معدودة. ومع ذلك يوجد البعض من المجانين بحب المغامرة والإثارة يقومون بالفعل بمخاطرة السفر إلى البرازيل للسباحة في نهر الأمازون وفي المناطق التي توجد فيها أسماك البيرانا ولكن يتم تنبيه وتحذير هؤلاء المغامرين ألا يكون الواحد منهم مصاب بأي جروح أو ألا يكون قد لامس اللحوم النيئة مباشرة قبل نزوله للماء لأن هذه الأسماك كما اسماك القرش وتنين الكمودو تصبح مثارة إذا تحسست وجود رائحة الدماء في الماء أو في الهواء.

وفي الختام لا بد من العودة على بدء فيما يتعلق بعنوان المقال (السياحة) مع أسماك القرش فهذا يمكن أن يتحقق بسهولة نسبيا أما مغامرة (السباحة) مع أسماك القرش الأبيض الضخم فهي في الغاب مغامرة خطرة جدا ولا ينصح بالتحديق المباشر إلى عين وأسنان فك القرش إلا من وراء القضبان الحديدة للقفص الذي ينزل فيه السائح لكي يحظى بتجربة العمر. ومع ذلك (السياحة والسباحة) مع أنوع خاصة من وحوش البحر يمكن أن تتحقق كما يحصل في سيرلانكا حيث يتم تنظيم رحلات سفاري بحرية للسباحة في معية الحوت الأزرق الضخم. بينما الشركات السياحية المختصة في الساحل الغربي لأستراليا توفر خدمة السباحة مع الحوت الأحدب المشهورة بقفزاته وتشقلبه فوق الماء في منظر بديع يجذب السياح لأماكن عديدة من محيطات العالم لمشاهدة الرشاقة المذهلة لهذا الحوت الهائل. وفي حين أن الحوت الأحدب يقفز بعنف عبر الماء ولهذا السباحة بالقرب منه خطرة بالفعل نجد أن نوع آخر من الحيتان الضخمة والمشابه لأسماك القرش، يمكن حتى للأطفال السباحة حولها !!. نحن هنا نتحدث الحيوان البحري المسمى قرش الحوت Whale shark والملقب بالحوت المسالم لأنه يسبح ببطء وهو كائن لطيف ومهادن بالرغم من أنه في الواقع أحد أنواع (أسماك) القرش وليس من الحيتان التي هي في الأصل من الثدييات.

على كل حال تجربة السياحة والسباحة مع الحوت المسالم (قرش الحوت) المشهور بوجود عدد كبير من النقاط على جسمه وكأنه سجادة أو نمر مرقط، هذه السباحة والغوص (scuba diving) مع قرش الحوت توجد لها مواقع متعددة من العالم مثل أستراليا والمكسيك والفلبين وتايلند. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الأسماك العجيبة والمسالمة يوجد كذلك في البحر الأحمر وقد اشتهر قبل فترة مقطع الفيديو لأحد رجال ينبع وهو السيد زاكي الحربي والذي نُشر له مقطع وهو يقفز على ظهر قرش الحوت. ولاحقا عندما قامت قناة العربية بإجراء لقاء تلفزيوني معه ذكر معلومة جميلة وفريدة وهو أنه كان يشاهد هذه الأسماك في البحر الأحمر منذ كان طفل مع والده وكثير ما يرصد مشاهدتها أثناء رحلاته للصيد أو حتى في أثناء الرحلات البحرية التي كان يرتبها للسياح الأجانب. ولذا السياحة والسباحة مع أسماك القرش هي أقرب لنا أكثر مما نتصور.