الجمعة، 1 أبريل 2022

( القطيعة مع وسائل التواصل الاجتماعي )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الإدمان كلمة سيئة السمعة، ومع الأسف قد يكون لها حالات وأصناف متعددة قد نقع في حبال بعضها دون أن نشعر فالإدمان ليس فقط مرتبط بتعاطي المخدرات. من الحالات المشهورة لبعض صور الإدمان صعوبة الإقلاع عن التدخين ومن الطرائف في هذا الشأن مقولة الأديب الأمريكي مارك توين (الإقلاع عن التدخين أمر سهل .. لقد قمت بذلك مئة مرة !!). وهنا تكمن مشكلة الإدمان على شيء ما تظن بأنك قادر على هجرة أو التقليل من استخدامه أو تعاطيه بينما في الواقع أنت لا تملك (الإرادة) الجازمة لذلك ولهذا ينقل عن الزعيم الروحي الهندي مهاتما غاندي (القوة لا تأتي من القدرة البدنية وإنما من الإرادة التي لا تقهر).

من صور الإدمان الحديثة شدة التعلق والتواصل المستمر مع أجهزة الهواتف الذكية أو الدخول على مواقع التواصل الاجتماعي لدرجة أن بعض الأشخاص مصابون بما يعرف في مجال علم النفس بمرض (النوموفوبيا Nomophobia) وهو رهاب فقدان الهاتف المحمول. للأسف الشديد تتزايد بيننا مع الزمن شدة التعلق بالهاتف الجوال لدرجة أن البعض قد يصاب بالهلع الشديد لمجرد توهمه أنه أضاع جواله أو أنه نسيه في المنزل أو يفزع بمجرد وجوده في منطقة هي خارج نطاق بث شبكة الإنترنت لهاتفة الذكي. وهذا ينعكس على التصرفات السلوكية الغربية مثل الحرص دائما على حمل شاحن الجوال أو تكرار تفقد رسائل الجوال و مواقع التواصل الاجتماعي أو الأغرب من ذلك تكرار لمس الجوال لمجرد الشعور بالطمأنينة بقرب الحبيب القريب من الكف والقريب من العين والقلب.

وفقا لأحدث الإحصائيات من الولايات المتحدة عن مدة استخدام الهواتف الذكية يعتقد بأن الغالبية من الأشخاص يستخدمون الهواتف المحمولة لمدة تزيد عن خمس ساعات يوميا أغلبها في استخدام تطبيقات الهاتف الجوال والمصيبة الكبرى أن الإحصائيات تشير أن بعض شرائح المراهقين قد يقضون على جولاتهم أكثر من 12 ساعة باليوم. من الشائع تسمية جهاز الهاتف (بالهاتف المحمول) وهذا توصيف حرفي لواقع حالنا مع الجوال فهو تقريبا دائم في أيدينا فوفق تقديرات شركة أبل للهواتف الذكية يقوم مستخدمو الهاتف المحمولة بتكرار تفقد والتحقق (التشييك) من رسائل جوالاتهم مرة كل حوالي 11 دقيقة بمعنى أننا ننظر لشاشة الجوال حوالي ثمانين مرة في اليوم الواحد. ووفق دراسة لشركة بحثية متخصصة في الاستبانات والاستقراءات يتوقع بأن الشخص العادي يقوم بلمس أو النقر على شاشة الجوال للكتابة أو التصفح حوالي 2617 مرة في اليوم وهذا العدد الضخم في النقر على شاشة الهاتف راجع لاستخدام الجوال في تبادل المحادثة بالرسائل النصية بل وحتى إرسال الإيميلات. من الطرائف والغرائب أن للبعض توصيف الهاتف (بالمحمول) ينطبق حتى في النوم ففي دراسة استقرائية أخرى تشير الأرقام إلى أن حوالي 80% من جيل الشباب ينام والهاتف الجوال بالقرب من مخدته أو على فراشة وأن النصف منهم قد يقوم بتفقد والتشييك على جهاز الهاتف في منتصف الليل.

ما سبق ذكره من أرقام وإحصائيات مفزعة هو في الواقع جزء من الكارثة وكما في المثل الشعبي (ما شفت من البعير إلا أذنه) فلا بد من أن نأخذ في عين الاعتبار أن هذه الساعات الطوال الضائعة في رفقة (شاشة الجوال) يجب أن ينضاف لها كم يقضي الطفل أو الشاب اليافع أو حتى الرجل البالغ من وقت إضافي يوميا وهو ينظر في شاشة الأيباد أو الكمبيوتر أو شاشة التلفزيون.  من هذا وذاك نفهم قلق الآباء والمربين والمهتمين بصحة عيون وعقول ونفسية الكبار والصغار نتيجة لوقوعهم في مشكلة (إدمان الجولات الذكية).

القارئ العزيز عنوان المقال الحالي هو (القطيعة) والانفصال بدل الاتصال مع وسائل التواصل الاجتماعي وهذا ولا شك أمر دونه خرط القتاد كما يقال فحالة الإدمان متجذرة في الروح والبدن. ولهذا بدلا من ذلك سوف نميل للواقعية أكثر ليس فقط لصعوبة الفطام من التعلق بالهاتف الذكي ولكن لأنه بالفعل يصعب الاستغناء عنه فالكثير من مهامنا الإدارية والتعليمية والمالية والمعرفية تتم من خلال جهاز الهاتف المحمول. وعليه سوف يكون من الحكمة أن نحاول التقليل والترشيد في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وحسب استراتيجية مواجهة الصعوبات المبثوثة في كتاب (فن الحرب) للفيلسوف والجنرال الصيني القديم سون تزو سوف نستخدم استراتيجية (الأعمال الكبيرة تتكون من أفعال صغيرة). بمعنى أن هدفا صعبا ومعقدا والمتمثل في التعافي من الإدمان المفرط في استخدام الهواتف الذكية يمكن التوصل له من خلال سلسلة من الخطوات والمراحل الصغيرة المتلاحقة. وعليه تم اقتراح خطة من (سبع نصائح) تساعد على ترشيد التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي وسوف يتم بمشيئة الله وبمناسبة قرب حلول شهر رمضان المبارك تدشين حملة خاصة تحمل عنوان (ترشيد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي). هذه الحملة التوعوية والإرشادية من تنظيم لجنة التوعية والإرشاد بكلية العلوم بجامعة الملك سعود وبالتعاون مع الأندية الطلابية في كلية العلوم.

لاحقا بمشيئة الله سوف يتم تحميل الملف الإرشادي الخاص بالحملة على الموقع الإلكتروني لكلية العلوم بجامعة الملك سعود والذي سوف يحتوي على مزيد تعريف بالنصائح السبعة والتي هي:

·       تقوية العلاقات الاجتماعية الحقيقية بدل الصداقة مع الغرباء عبر الإنترنت

·       مارس هوايات وألعابا لا يوجد فيها شاشات

·       قلل من عدد التطبيقات على جهازك المحمول

·       الأوقات الفاضلة لا يليق شغلها بتوافه الأمور

·       دع هاتفك يمت أحيانا

·       أهجر الجوال في غرفة النوم

·       تحكم في الزمن مع الجوال

وبالجملة القاعدة الذهبية في التعامل مع وسائل التقنية هو التوسط والترشيد الفطن بين (التفريط) المتمثل في القطيعة المعرفية والردة التقنية بالهجر التام لهذه المخترعات التقنية وبين (الإفراط) من خلال الإدمان والاعتماد الكلي عليها والاندلاع التعلق الوجداني والجسدي بهذه المخترعات.

وفي الختام ومع إقبال الشهر الكريم نود أن نؤكد على النصيحة الرابعة بالأعلى (الأوقات الفاضلة لا يليق شغلها بتوافه الأمور) ويبدو أننا بحاجة إلى أخذ العهود والمواثيق ألا نتجاوز الحد في استخدام تقنية الجولات الذكية. كلنا نعلم ما يسمى (قسم أبوقراط) والمقصود منه الالتزام الأخلاقي الأول من قبل الأطباء: ألا يتسببون في أي ضرر للمريض (First, do no harm). وفي العصر الحديث وبعد تعدد أنواع التقنية والمخترعات التي يمكن أن تسبب الضرر للبشرية أخذ بعد العلماء والمفكرين يطرحون فكرة (قسم أرخميدس Archimedes Oath) وهو أن يتعهد ويقسم العلماء ألا يساهمون في اختراع أي شي مؤذ وضار. وأكثر المجالات التقنية التي تشهد دعوات لتفعيل هذا اليمين و(القسم العلمي) هو مجال تقنية المعلومات ومجال الذكاء الصناعي. فكرة التعهد والحلفان العلمي من قبل المخترعين والباحثين ألا يضرون الغير في مجال الإنترنت وتقنية المعلومات ويمكن أن نوسع هذا المفهوم بأن نقسم ونتعهد ألا نضر أنفسنا في هذا الشهر الكريم. وعليه دعوتنا للجميع أن يكون (قسم رمضان): أحلف وأتعهد ألا استخدم وسائل التواصل الاجتماعي لأكثر من ساعة في شهر رمضان وفقط لما فيه الفائدة وبعيدا عن الإثم والسفه.


( زيارة المتاحف .. فرض عين على كل سائح !! )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في تصريح عجيب للرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف قال (إذا كان الناس لا يحبون الماركسية، فعليهم إلقاء اللوم على المتحف البريطاني) وهذا يعكس الأثر الفكري الذي تلعبه المتاحف في تشكيل الحس الحضاري والوعي الفكري لأفراد والمجتمعات على حدا سواء. والأهم من ذلك أن عدد كبير من المتاحف العالمية المشهورة نجد أن تأثيرها الساحر ذاك ليس فقط على شعب نفس البلد الذي توجد فيه، ولكن على كل من يمر ويطوف بها من سياح وزوار شعوب العالم وكثيرٌ ما هم فهذا متحف اللوفر في باريس يدخله سنويا أكثر من تسعة ملايين شخص بينما المتحف البريطاني يمر به سنويا حوالي سبعة ملايين زائر.

بالمناسبة إذا كانت المتحف البريطاني اللندني ينفر ويمنع من قبول الماركسية فإن متحف اللوفر البارسي قد يغري بالشيوعية بمعنى (شيوع المشاركة) فهذا المتحف بالذات هو أول متحف في التاريخ يفتح أبوابه للعامة من الناس وحصل ذلك بعد اندلاع الثورة الفرنسية ذات الشعار البراق (حرية، إخاء، مساواة). وقد كان من باب المساواة ألا تحتفظ الطبقة المخملية من المجتمع بالحق الحصري من دون الشعب بدخول (قصر اللوفر) الذي كان يقيم فيه الإمبراطور لويس الرابع عشر قبل أن ينتقل للإقامة في قصر فرساي ويحول قصره القديم لمتحف (خاص) يعرض فيه على عليه القوم ونبلاء المجتمع مجموعته الملكية من التحف واللوحات والقطع الفنية الباذخة. في عام 1793م أي بعد حوالي أربع سنوات من اندلاع الثورة الفرنسية منح الجمهور الفرنسي إمكانية الدخول المجاني إلى متحف اللوفر كعلامة على السيادة الشعبية وربما ترددت بشكل أو آخر في جنبات هذه المتحف مقولة آخر وزير مالية فرنسي في العهد الملكي السيد رينية دي فوير: دعه يعمل (دعه يمر) وهي عين المقولة التي سوف تصبح لاحقا شعارا للرأسمالية.

يقال إن في مدينة باريس حوالي 136 متحفا ذات مشارب مختلفة من ناحية المقتنيات وفلسفة ورسالة تلك المعارض وتشير التقديرات أن عدد مجموع زوار هذه المتاحف الباريسية يزيد عن ثلاثين مليون زائر سنويا. إذا علمنا أن باريس مدينة الأنوار وبؤرة الرومانسية وعاصمة العطور والموضة يتردد على معالمها السياحية المختلفة المفتوحة والمجانية حوالي سبعين مليون سائح سنويا بهذا نعلم أن شريحة كبيرة من زوار تلك المدينة لديهم الاستعداد لدفع تذاكر الدخول الباهظة والانتظار ربما لحوالي الساعة في طابور الانتظار قبل التمكن من الدخول لمتحف اللوفر مثلا. وبهذا نعلم أن (سياحة المتاحف) هي مظهر يدل على الرقي الفكري والوعي الحضاري يمارسه مئات الملايين على مستوى العالم ومن جميع الشعوب البشرية.

للأسف واقع (سياحة المتاحف) في عالمنا العربي في جانب منه غامض وفي جانب آخر محبط ومخيب للآمال. سبب الغموض أن تلك المتاحف العربية التي قد تشهد إقبال كبير من الزوار هي في الحقيقة تقع في بلدان تحظى بكثافة عالية من السياح الأجانب ولهذا في الغالب من يتردد على هذه المتاحف هو السائح الأجنبي وليس السائح العربي. على سبيل المثال تحتوي مدينة القاهرة على حوالي 24 متحف نصيبها جميعا من الزوار حوالي خمسة مليون زائر حصة المتحف المصري (الفرعوني) منها حوالي مليون زائر. المحرج في الأمر (المتحف المصري) في مدينة تورينو الصغيرة نسبيا في إيطاليا ربما يستطع أن يحقق تقريبا نصف عدد السياح والزوار المتيمين بالحضارة الفرعونية الذين يزورنها في متحفها الأصلي الشهير في ميدان التحرير بقلب مدينة القاهرة.

في العام الأول لافتتاح المتحف المدهش (متحف اللوفر أبوظبي) بلغ عدد الزوار له أكثر من مليون زائر، ولكن إذا استثنينا العدد الهائل من مجاميع رحلات المدارس فإن عدد الزوار العرب لهذا المتحف تعتبر منخفضة بشكل ملحوظ مقارنة بالزوار من الجنسيات الأجنبية. حال كتابتي لهذا المقال كنت في زيارة قبل يوم واحد فقط لمتحف اللوفر أبوظبي العالمي وللأسف عدد الزوار الخليجين والعرب الذين شاهدتهم كان قليل جدا وربما ينطبق هنا المثل العربي القديم: أزهد الناس بالرجل (وفي رواية بالمتحف) أهلة وذووه. ونفس الأمر تكرر بعد ذلك بيومين في مدينة الشارقة ففي الوقت الذي زرت فيه متحف الحضارة الإسلامية بالشارقة لم أجد مهتم بزيارته إلا عدد من السوّاح الأوروبيين وبالفعل كنت أنا وأسرتي بين أفراد ذلك الوفد السياحي الأجنبي كما قال المتنبي: غريب الوجه واليد واللسانِ. وقد حصل وأن ترددت كثيرا على المتحف الوطني بالرياض وعدد زواره قليل جدا والغريب أنك تشاهد عدد لا بأس من الأجانب يترددون عليه لمحاولة اكتساب معرفة ثقافية عن البلد الذي يعملون به.

المتاحف من الذاكرة إلى الترفيه

بالجملة الأهداف الأساسية لأي متحف هي: توثيق الذاكرة الجمعية (حفظ التراث) ومن ثم التعليم وأخيرا الترفيه والتسلية ولا يخفى على أي زائر لأي متحف أن الهدف الأخير (التسلية والترفيه) هو الدافع الرئيسي لأغلب المتطوفين حاليا بالمتاحف. ولهذا على مستوى العالم تعتبر منافسة وسائل التسلية المتعددة هي من أكثر التحديات التي تواجهها المتاحف و(تسرق) منها زوارها وروادها ومن هذا المنطلق تغيرت استراتيجية القائمين على المتاحف بأن تصبح نقطة ترفيه وتسلية ومتعة جمالية وبصرية. حسب توصيف الدكتور عبدالله الغذامي نحن الآن في عصر الثقافة البصرية ولهذا يطغي الاتصال البصري على التواصل المعرفي وعليه لا ملامة على السائح أن يكتفي بالتقاط صورة خارج متحف مذهل مثل متحف المستقبل في دبي وإن لم يدخله كما يكتفي بالتقاط صورة له أمام برج دبي ولو لم يصعد إلى قمته فالصورة بحد ذاتها متعة وترفيه.

في العديد من المدن العالمية الكبرى توجد بها ظاهرة (مجمع المتاحف) وهو وجود حشد كبير للمتاحف المتقاربة في نفس الموقع الجغرافي وهذا ما نجده بوضوح في مجمع المتاحف في قلب العاصمة الماليزية كولالمبور (الحزام السياحي في بيردانا) أو مجمع المتاحف (متاحف كارتييه) في وسط مدينة فيينا النمساوية وبالتحديد في الحي السابع. نفس هذه الظاهرة الثقافية نجدها في مجمع المتاحف في وسط مدينة واشنطن وهي الناحية التي تسمى: المنتزه الوطني The National Mall وهي تلك المنطقة المستطيلة الواقعة ما بين مكتبة الكونجرس ونصب لنكولن التذكاري والمزدحمة بالمتاحف المحصورة بين طريق وجادة الاستقلال وجادة الدستور. هذه المنطقة الغنية بالمتاحف تعرف اختصارا (بالمول) وهنا تكمن المفارقة فعندنا لا نعرف من (المول) إلا أنه المجمع التجاري الضخم وعندما نسأل ونفتش عن (المجمعات) فنحن نسأل أين يقع (مجمع المطاعم) وفي الغالب للأسف لن يحصل أننا سوف نسأل يوما ما أين يقع (مجمع المتاحف).

في السابق كان إنشاء والعناية بقطاع المتاحف شبه منحصر في حقيقة أن عدد وتنوع وجودة المتاحف هي مرآة ومقياس لمدى التقدم الحضاري للشعوب والدول. وبحكم أن سياحة المتاحف والسياحة الثقافية بالمجمل أصبحت من الروافد المعتبرة في دعم الاقتصاد السياحي وهو سوق ضخم تشير التوقعات أنه على مستوى العالم قد يقترب دخل السياحة من رقم مهول جدا يبلغ الثمانية ترليون دولار. ولهذا أصبح التوسع في (سوق المتاحف) الدافع والمشجع للاستثمار فيه حقيقة أن السائح الثقافي يصرف وينفق أكثر من 60% مقارنة بالسائح التقليدي. ومما سبق ندرك جزئيا دوافع حماس وتنافس الدول الخليجية في الفترة الأخيرة لافتتاح عدد من كبرى مشاريع المتاحف العالمية من الطراز الأول فقبل أسابيع قليلة تم في مدينة دبي افتتاح (متحف المستقبل) الذي يقال إنه أجمل مبنى في العالم. وبعد أن لفتت الأنظار مدينة أبوظبي باستقطاب الفرع الوحيد لمتحف اللوفر العريق إذا بها اليوم تشرع في المنطقة المواجه لمتحف اللوفر في بناء أضخم وأكبر متحف في العالم وهو متحف جوجنهايم أبوظبي الحديث وهو الفرع الثاني لسلسلة متاحف جوجنهابم البارزة في مجال الفنون الحديثة والمعاصرة والموجود في مدينة نيويورك وفي مدينة بلباو الإسبانية. 

أما في واقعنا المحلي فقد أعلن قبل فترة من الزمن عن التصور الأولي لإنشاء أكبر متحف في العالم مخصص للحضارة الإسلامية كما تم قريبا تدشين هيئة خاصة للمتاحف من برامجها تطوير المتاحف الموجودة حاليا واستحداث عدد من المتاحف الجديدة في مختلف مناطق المملكة. ونسأل المولى عز وجل أن يتم قريبا تفعيل هذه الخطط التطويرية لقطاع المتاحف في مدننا المحلية وألا يطول الانتظار والترقب كما حصل معي في زيارة متحف الفن الإسلامي في القاهرة فقد ترددت عليه ثلاث مرات في سنوات مختلفة وكان دائما مغلق بهدف التطوير والصيانة إلى أن تمكنت من دخوله في المحاولة الرابعة. ونفس الأمر حصل مع متحف اللوفر في أبوظبي فمروري محدود على هذه المدينة الواعدة وفي آخر زيارتين لمدينة أبوظبي كنت أتابع هل تم الافتتاح له أو لا حتى حظيت بفرصة الدخل له قبل أيام.


( الغرب .. إذا خاصم فجر )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

بعد قرون طويلة في دياجير العصور الوسطى المظلة خرج العالم الغربي والشعوب المسيحية من أغلال التخلف والجهل والطغيان وتدرج تقدمه من عصر النهضة في القرن الخامس عشر إلى عصر الأنوار في القرن الثامن عشر إلى عصر العقل في القرن التاسع عشر الميلادي. ومسلحين بالثورة العلمية والثورة الصناعية وحملات الاستكشاف الجغرافية شعر ملوك وفلاسفة وأدباء العالم الأوروبي أنهم أسياد العالم ومنقذوه وأن عليهم التصدي لمهمة (عبء الرجل الأبيض White Man Burden) بأن يستعمروا ويحتلوا بقية الشعوب والحضارات (الهمجية) والقيام بعد ذلك بدورهم الأخلاقي في نشر الحضارة والنظام في هذه الأمم المتخلفة.

ثم في بداية القرن العشرين أصبحت أخلاقيات الرجل الغربي الأبيض على المحك عندما بدأ التنازع والتنافس يتنامى بين الإمبراطوريات الأوروبية وعندما اندلعت (الحرب العظمى) انكشف زيف النهضة والتنوير والعقل لتلك الحضارة الغربية المادية والملحدة. ونتيجة للفظائع والجرائم المشينة التي قامت بها قوّات وحكومات العالم الغربي في أثناء تلك الحرب العالمية الأولى حاول العديد من المفكرين والعلماء والفلاسفة تفسير تلك (الهمجية) الخبيثة التي وقع فيها الرجل الأبيض.

ومن هنا ظهرت المحاورات المشهورة بين عالم النفس المشهور سيغموند فرويد والعالم الفيزيائي الأكثر شهرة ألبرت أينشتاين لمحاولة تفسير سيكولوجية العنف والتحليل النفسي والتحليل العلمي لسؤال (لماذا الحرب) ولماذا يتحول الرجل المسالم والمتحضر إلى قاتل ذو شخصية شريرة همجية. أما من الناحية الفلسفية لتفسير سلوك العنف والقتال فقد تصدى له الفيلسوف البريطاني المعروف برتراند راسل الذي نشر في منتصف الحرب العالمية الأولى كتابه المهم في هذا المجال (لماذا يتقاتل الرجال .. طريقة لإلغاء الحروب الدولية). علما بأن برتراند وبالرغم من مكانته وشهرته العالمية في دنيا الفكر والعلم حيث كان من أهم علماء الرياضيات إلا أنه تعرض لمضايقة شديدة بسبب معارضته للحرب لدرجة أن تم سجنه لمدة ستة أشهر كما تم فصله من جامعة كامبريدج.

وعلى نفس النسق دخل عالم الأدب ودنيا الفنون مسار الاحتجاج الأدبي والاعتراض الفني لكارثة (انحطاط الغرب) التي كشفتها ويلات وجرائم الحرب (العظمي) الأوروبية ومنها كان شعار الحركة الثقافية المعرفة باسم (الدادائيةDada ) الذي أطلق أثناء الحرب العالمية الأولى (لقد فقدا الثقة في ثقافتنا .. سنبدأ من جديد بعد أن نمحي كل شيء). ومن تحت عباءة هذه الحركة الثقافية المتمردة خرجت منظومة التيارات العبثية مثل السريالية والتجريدية والحداثة والتفكيكية والبنيوية وغيرها.

هذا ما كان من محاولة التحليل النفسي والتفسير العلمي والنقد الفلسفي لسقوط الغرب أثناء الحرب الكبرى ولكن محاولة تصحيح المسار كانت خجولة بل ومتناقضة. فهذا أبو التحليل النفسي فرويد أشبه ما يكون مصاب بانفصام الشخصية فهو يداوي الناس وهو عليل لأنه مدمن على الكوكائين بينما أينشتاين الذي حاول أن يحد من تكرار العنف والهمجية الذي حصلت في الحرب العالمية الأولى (حرب الكيميائيين) إذا به هو نفسه يحث ويدفع لوصول الحرب العالمية الثانية (حرب الفيزيائيين) إلى أقصى مدى بشع لها بتصنيع القنبلة الذرية. أما عالم الرياضيات برتراند راسل فقد أخطأ في الحساب حيث نشر الإلحاد بكتابة (لماذا أنا لست مسيحيا) فلم يكن يعي ويفهم أن الدين وليس الإلحاد هو من يفعّل الضمير العالمي الحاث لعدم استخدام القنابل الذرية.

من كان منكم بلا خطيئة فليرم الروس بأول حجر

تتعالى هذه الأيام ومع الاجتياح الأثيم والإجرامي للجيش الروسي الأحمر للدولة المستقلة والمسالمة أوكرانيا، تتعالي صيحات الاستنكار والاستهجان الأوروبية والأمريكية بأن هذا الفعل الشنيع مضاد للقانون الدولي وخلاف الأعراف السياسية. ويتناسى قادة الغرب أنهم هم أول من شرّع وسنن الخروج على القانوني الدولي بجرائمهم المتواصلة. فالولايات المتحدة مثلا وفق ما يقرره المؤرخ الأمريكي كريستوفر كيلي في كتابه (غزوات أمريكا) فإنها اعتدت عسكريا وغزت حربيا على 84 دوله بينما لو تم حساب الدول التي شاركت القوات الأمريكية في قتال عسكري فيها (بموافقة تلك الدول) فإنها تصل إلى 191 دولة من دول العالم المعترف بها. بمعنى أن الدول التي لم تدخلها القوات الأمريكية هي ثلاث دول فقط لا يعرف مكانها على الخارطة ولم يسمع بها أحد: أندورا وبوتان وليختنشتاين. أما عدد الدول التي تورطت الولايات المتحدة في محالة تغيير أنظمتها السياسية والإطاحة بحكوماتها المسيطرة وذلك من خلال الاستخبارات الأمريكية التي تمويل الانقلابات العسكرية وتثير القلاقل السياسية والاقتصادية فقد بلغت حوالي خمسين دولة. والعديد من هذه الدول المنكوبة بالتدخل الأمريكي تورطت الاستخبارات والقوات الأميركية في محاولة تغير النظام فيها أكثر من مرة وفي حقب زمنية مختلفة فمثلا تدخلت أمريكا في إسقاط النظام الحاكم في دولة نيكاراجوا في العام 1909م وعام 1912م وعام 1981 ميلادي.  

وبما أن سيرة التدخل السافر للولايات المتحدة في نيكاراجوا انفتحت فهذا مجال مناسب لتوضيح (فجور أمريكا) عندما تخاصم وتعادي غيرها من الدول. في فترة الثمانينات من القرن العشرين أعلنت الولايات المتحدة عن شن حملة كبرى (للحرب على المخدرات) ومع ذلك وكما بينت بالتفصيل في مقال حمل عنوان (أمريكا .. أرض النفاق السياسي) فإن الحكومة الأمريكية تكذب في زعمها الحرب على المخدرات أو الحرب على النازية أو معاداة بؤرة محور الشر الثورة الإيرانية الخومينية. النفاق الأمريكي فيما يخص الحرب على المخدرات ليس فقط استخدامها (كما سوف يحصل لاحقا مع الحرب على الإرهاب) كذريعة وغطاء للتدخل في شؤون بعض الدول المستقلة، ولكن بلغت الوقاحة والفجور أن الولايات المتحدة كانت من جانب خفي تدعم وتنشر زراعة وتجارة المخدرات في بلدان أخرى كما حصل في نيكاراجوا. وكمحاولة من الاستخبارات الأمريكية CIA لإسقاط الحكومة الشيوعية في نيكاراجوا لهذا سمحت بزراعة وتجارة المخدرات في المناطق التي تحت سيطرة قوات الكونترا المدعومة من أمريكا. الفضيحة الكبرى أنه تم استخدام القواعد الجوية العسكرية الأمريكية وسلاح الجو الأمريكي في نقل وتهريب المخدرات إلى داخل أمريكا لبيعها وتحويل النقود القذرة للمخدرات إلى أسلحة ترسل لقوات الكونترا المعارضة.

في زمن الخصام والقتال لن يتردد الغرب وبالذات القوات الأمريكية عن اقتراف أي خطيئة بقتل البشر أو تدمير البنية التحتية بل وحتى (تجريف البيئة) وهذا ما حصل في الحرب الفيتنامية السيئة الذكر لسمعة أمريكا أمام العالم. بحكم أن جغرافية دولة فيتنام يغلب عليها الغابات الكثيفة ولهذا كان جنود المقاومة المسلحة الفيتنامية الفيتكونغ يتمتعون بحماية غطاء الأشجار ويستطيعون مفاجأة القوات الأمريكية. ولهذا كان الحل الأثيم من قبل جنرالات الجيش الأمريكي أن تتم عملية إزالة تلك الغابات deforestation إما باستخدام مواد كيميائية سامة ومبيدة مثل تلك المادة الشنيعة المسماة (العامل البرتقالي) أو استخدام نيران (النابالم) المريعة. وكما تضافرت جهود فرويد وأينشتاين لمحاولة تفسير جرائم وفظائع الحرب العالمية الأولى نجد أن الفيلسوف البريطاني برتراند راسل والمفكر الفرنسي جان بول سارتر اجتمعت جهودهما مع آخرين لتدشين (محكمة الضمير) للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في دولة فيتنام.

وبالرغم من أن أمريكا خرجت مدانة تلك المحكمة وكل مدان مصيره التوقيف والخضوع للقانون إلا أن السلوك المتعجرف للحكومة الأمريكية حولها من المجرم المدان إلى (رجل شرطة العالم) وهذا ما انعكس بوضوح في العقود القريبة الماضية عندما شنت الولايات المتحدة (الحرب على الإرهاب). وهنا توالت الاختراقات الفجة من قبل الأمريكان للقانون الدولي من بدعة (الحرب الاستباقية) والتكييف القانون المخادع وغير القانوني للمعتقلين في سجن غوانتنانامو السيئ الذكر.

هذه الأيام وأنا أتابع تطورات الحرب الروسية الأوكرانية صعقت عندما علمت بأن العديد من الحكومات الغربية وكمحاولة للتصدي وإضعاف روسيا الاتحادية بعد هجومها الغاشم والأثيم على ذلك البلد المنكوب، قامت تلك الدول بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا. قد يكون من المفهوم فرض عقوبات مالية على رجال الأعمال الروس المتعاملين مع الحكومة الروسية أما أن يصل الأمر لدرجة تجميد أرصدة بعض رجال الأعمال بل وحتى مصادرة أموالهم وممتلكاتهم بما فيها اليخوت الفاخرة والطائرات الخاصة والشقق والعقارات الفخمة فهذه بلطجة دولية غير مسبوقة. في بداية الأمر تشككت من احتمالية صحة هذه الأخبار لأنه يفترض ألا تتم المصادرة إلا بحكم قضائي كما هو المتوقع من (سيادة القانون) في تلك الدول المتقدمة والديمقراطية (زعموا) إلا أنني انتبهت أنه بعد كل ما سبق ذكره فأنه في زمن (الخصام) فإن الغرب بالفعل هو من النوع الذي (إذا خاصم فجر).


( السياحة وساحات المعارك )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الأحداث الأخيرة في دولة أوكرانيا تثير الغضب وتولد الحسرة، والشعور الأول ناتج من الرفض القاطع للاعتداء الروسي السافر على شعب مسالم أما إحساس الحسرة فبسبب فقدان وجهة سياحية مميزة أصبح من المحظور السفر لها بسبب الحرب. في صيف العام الماضي قامت صحيفة سبق الإلكترونية بإجراء استقراء لأكثر المناطق السياحية التي يسافر لها السائح السعودي وقد حصلت أوكرانيا على موقع متقدم في قائمة أكثر خمس وجهات سفر خارجية. وبالرغم من أن خيارات السفر (مفتوحة) أمام السائح السعودي حيث يمكن مثلا السفر إلى حوالي ستين دولة حول العالم بدون الحصول على تأشيرة فيزا مسبقة، إلا أن فقدان بعض الوجهات السياحية المميزة مثل أوكرانيا تعتبر خسارة مؤلمة لعشاق السياحة والسفر. الجدير بالذكر أن مرارة الحرمان من السفر لبعض الوجهات السياحية بسبب تحولها إلى ساحة قتال ومعركة حرب أمر قديم ومتكرر للأسف في تاريخ السائح السعودي. ظاهرة (السفر بهدف المتعة والسياحة) ظاهرة حديثة نسبيا في ثقافة المجتمع السعودي وتقريبا لم تظهر وتنتشر إلا بعد حصول طفرة النفط في بداية سنوات السبعينات من القرن الماضي. وصحيح أن التواصل بين أهل الحجاز وأم الدنيا في الديار المصرية قديم وعريق لكن ربما كان أول بلد عربي سافر له السائح السعودي بهدف السياحة المحضة هو بلد (سويسرا الشرق) وأقصد بذلك أرض لبنان.

في تاريخ الحركة الثقافية بالمملكة كان من أشهر رواد (أدب الرحلات) علاّمة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر وكذلك الأديب المعروف الشيخ عبد الله بن إدريس. وبالرغم أن كلا منهما قد حمل (عصا التسيار) حسب وصف ابن إدريس وطاف عشرات البلدان إلا أنهما كثيرا ما كان يجمعهما قضاء الصيف في لبنان حيث كانا يسافران بزوجاتهم وأبنائهم ويتزاورون في بيروت خصوصا بعد أن أقام فيها بشكل متواصل الشيخ حمد الجاسر لعدة سنوات. وطبعا الأمر تغير بشكل جذري بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية والتي اكتوى بنارها الشيخ حمد الجاسر. فقد تم نهب شقته المطلة على ساحة البرج وحرقت مكتبته بما فيها من مخطوطات نادرة بينما قتل ابنه الأكبر محمد رحمة الله الذي توفي في حادثة قصف الطائرة التي كانت تستعد للهبوط في مطار بيروت.

والمقصود أن السائح السعودي والخليجي ظل لسنوات طويلة يفضل السفر إلى لبنان حتى حصلت الكارثة المعروفة عندما اشتعلت الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينات وحرم العرب لسنوات طويلة من السفر إلى لبنان. وعلى ذكر السائح الخليجي فقد كان بحكم الجوار أحد أكثر المزارات السياحية لأهل الكويت وأهل المنطقة الشرقية السفر إلى المدن العراقية وخصوصا البصرة وبغداد والزبير. ثم حصلت مصيبة غزو الكويت فتم شطب المدن العراقية من قائمة الوجهات السياحية بعد أن تحولت أرض العراق إلى ميدان حرب وأرض حصار بعد حرب الخليج الثانية. وإذا كان العلامة حمد الجاسر كان أشهر أدباء المملكة المقيمين في لبنان فمن أشهر من أقام من أدباء الجزيرة العربية في العراق الروائي البارز عبد الرحمن منيف والذي وإن تعدد به المطاف والسفر بين الدول العربية في مطلع حياته إلا أنه استقر به المقام لسنوات طويلة في بغداد حيث عمل كرئيس تحرير لمجلة اقتصادية عراقية (بحكم حصوله على شهادة الدكتوراه في علم الاقتصاد) حتى عام 1981ميلادي.

وبالعودة لموضوع حيرة وتحسر السائح السعودي من خسارته لوجهات سياحية تحولت إلى جبهات قتال وحروب من نافلة القول التذكير بانقطاع السفر إلى البلدان العربية الشقيقة التي عاشت ويلات الحرب مثل سوريا العروبة واليمن الحزين مهد العرب. ويكفي للإشارة لمدى الزخم السابق لسفر السعوديين إلى سوريا الطبيعة والتاريخ أنه وفقا لإحصاءات وزارة السياحة السورية أنه في شهر يوليو من صيف عام 2008م وصل حوالي سبعين ألف سائح سعودي إلى سوريا. وفي نفس تلك الفترة كان يتدفق عشرات الآلاف من السعوديين إلى المدن التاريخية في اليمن السعيد مثل صنعاء وعدن وتعز وإب. وحاليا بسبب الحرب لم يعد السائح العربي يستطيع السفر لمدينة تدمر السورية لأن آثارها الرومانية تم تدميرها كما لا يستطيع الوصول لسد مأرب لأن قوافل الجيوش تسد الطريق بينما لو حاول السائح العربي صيد الغزلان في محمية الردوم بمنطقة دارفور بالسودان الشقيق فربما يتم قنصه وصيده هو بدلا من الوعول.

وبما إن سيرة السياحة الإفريقية انفتحت فقد شهدت السنوات القليلة الماضية تزايد كبير في عدد السياح الخليجيين الذين يقصدون زيارة إثيوبيا إما بهدف زيارة براكين منطقة عفار أو مشاهدة الكنائس التاريخية المحفورة تحت الأرض أو حتى تفقد أحوال الجالية المسلمة الحبشية في إقليم عفر وكل هذه المناطق يصعب الوصول لها حاليا مع اندلاع الحرب الأهلية الأثيوبية العام الماضي. وبالانتقال جنوبا إلى دولة كينيا والتي تعتبر حاليا من أهم وأشهر المناطق في العالم لسياحة سفاري الحيوانات البرية إلا أن هذا البلد يشهد في السنوات الأخيرة أحداث شغب متكررة والعديد من التفجيرات التي تقول بها حركة الشباب الصومالية ولهذا لو انزلق هذا البلد في حرب أهلية هو الآخر فقطعا سوف يخسر محبي السفر أحد أهم الوجهات السياحية الساحرة.

سياحة الحروب في ثقافة الشعوب

الجدير بالذكر أن الحيلولة دون وصول السائح إلى جهة سفرة المفضلة بسبب الحرب أمر شائع ومتكرر في تاريخ العديد من الشعوب العالمية فمثلا في زمن الإمبراطورية البريطانية كانت منطقة وادي كشمير في شمال القارة الهندية يلقبها الإنجليزي بسويسرا الهند.  ومنذ القدم كانت توصف أرض كشمير بأنها جنة الله في الأرض أو الجنة الصغيرة ولهذا بعد اندلاع الحرب حول إقليم كشمير بين الهند وباكستان وتعذر الوصول لهذه الجنة التي أصبحت تلقب (بالفردوس المفقود). وكما فتنت جنة كشمير السائح البريطاني أغرت وفتنت السائح والمغامر الفرنسي بقعة سحرية عجيبة وسط الرمال والملح وهي مدينة تمبكتو الملقبة بجوهرة الصحراء والتي تقع في شمال دولة مالي. ومنذ سقوط دولة مالي تحت الاحتلال الفرنسي نهاية القرن التاسع عشر جذبت هذه المدينة العجيبة السياح والبحاثة والمستشرقين من مختلف الدول الغربية لاستكشاف كنوز مخطوطاتها الضخمة والإعجاب بجمال عمارة مساجدها الطينية المذهلة. وعلى نفس النسق من التصور الغربي لوادي كشمير أنه تمثيل للجنة كذلك نجد أن كلمة (تمبكتو) هي لدى التصور الغربي تجسيدا (للفردوس) أو المكان السحري التي تذهب له الأرواح في العالم الآخر وذلك ما وجدته في رواية (تمبيكتو) للروائي الأمريكي بول أوستر وإن كان صعقت عندما وجدت أن بطل الرواية كلب وأن أحداثها تقع في حي بروكلين.

وبما أننا وصلنا لسواحل الأراضي الأمريكية فمن الجدير الإشارة إلى أن السائح الأمريكي بدوره فقد هو الآخر وجهة سياحية مميزة تعذر عليه لفترة من الزمن السفر إليها بسبب الحرب. قبل اندلاع الحرب الأهلية في جمهورية السلفادور عام 1979م كان ذلك البلد الصغير في وسط أمريكا الوسطى هو إحدى أكثر الوجهات السياحية للأمريكان في القارة اللاتينية ولا ينافسها في ذلك إلا جزيرة كوبا قبل وقوعها في يد الشيوعيين بقيادة فيدل كاسترو. وقد ساعد انتعاش سوق السياحة الأمريكية في السلفادور وكوبا وغيرها من دول أمريكا اللاتينية في طغيان الثقافة الأمريكية على هذه المنتجعات السياحية وبهذا أصبحت وكأنها ملهى ليلي للكاوبوي الأمريكي. ومع ذلك وبسبب حالة الرهاب المبالغ فيها من قبل الأمريكيان من انتشار الشيوعية في الحديقة الخلفية لأمريكا (أي دول أمريكا الوسطى) لم تترد الحكومة الأمريكية في إطالة أمد الحرب الأهلية السلفادورية لمدة 12 سنة وبهذا ضحت الولايات المتحدة برفاهية السائح الأمريكي في جنة الغابات المطيرة تلك مقابل الطمأنينة السياسية للعم سام.

وفي الختام نقفل هذا المقال بذكر ملاحظتين على الهامش، الأولى أنه كما أن رأس المال جبان ينفر من مواقع القتال فكذلك السائح الفطن والعاقل ومع ذلك توجد نوعية خاصة من السوّاح الباحثين عن روح المغامرة وقد تجذبهم أكثر مخاطرة السفر السياحي لساحات القتال. الغريب أن مصطلح (سياحة الحرب war tourism) موجود ومتداول منذ عقود من الزمن ويصف الرغبة الفجة عند بعض البشر في التواجد (كسائح) ومشاهد في ساحات القتال وبالقرب من أرض المعارك. وطبعا الدافع لذلك هو الرغبة في الشعور بالإثارة وحب المغامرة وهو بهذا على نسق مفهوم (سياحة الكوارث) والذي يرتبط بالأشخاص المهووسين بزيارة الأماكن الخطرة مثل البراكين النشطة أو الغابات المحترقة أو مواقع الأعاصير والفيضانات.

ومن حماقات سياحة الحروب أن بعض شركات السياحة والسفر قد تساهم في توفير الحماية المسلحة لبعض السيّاح الراغبين في زيارة المواقع الخطرة مثل الصومال وأفغانستان وكولومبيا. وربما ما زلنا نذكر الضجة الكبرى عام 2004م في عز حالة القتال والفوضى في العراق عندما أعلن عن اختطاف وقتل بعض السياح اليابانيين المغامرين في أرض الرافدين. وصدق أو لا تصدق أيه القارئ العزيز أن الإحصاءات الرسمية الصادرة من الحكومة الأفغانية تشير إلى أن ذلك البلد المنكوب كان يصدر سنويا تأشيرة دخول لحوالي عشرين ألف سائح.

الأمر الآخر الذي أود أن أشير إليه في خاتمة موضوع (ثنائية السياحة والحرب) هو أن ما سبق ذكره كان يركز على ظاهرة أن بعض الوجهات السياحية قد تتحول إلى جبهات حربية بينما قد يحصل العكس من ذلك تماما. بحكم أن نشرات الأخبار كثيرا ما تذكر ساحات المعارك والحروب الأهلية ونتيجة للاستمرار هذه الصرعات لفترة طويلة من الزمن لذا تألف الأذن ذكر أسماء تلك المناطق المنكوبة. وبعد انتهاء موجة الحرب الدموية قد تتحول تلك الجبهات الحربية إلى وجهات سياحية ذات جاذبية ملموسة. وهذا ما نجده في حالة تدفق السياح إلى فيتنام وكمبوديا والبوسنة وروندا وبورما وسيرلنكا وغيرها كثير حيث نجد أن من التقليعات الجديدة لظاهرة (سياحة الحرب) أن يحرص السياح على زيارة مواقع القتال القديمة وأماكن حدوث المجازر البشرية والمقابر الجماعية ومراكز التعذيب وخنادق وملاجأ الحماية. قبل عدة سنوات وعندما زرت مدينة سراييفو وشاهدت وفد سياحي يزور موقع مجزرة بشرية في سوق الخضار بتلك المدينة المنكوبة وعندما وقفت أمام فندق هوليدي إن الذي كان له شهرة في نشرات الأخبار في زمن حرب البلقان لذا كتبت مقال خاص عن هذه الظاهرة حمل عنوان (فندق سياحي على خط النار).


( خطاب إلى وجع الأضراس !! )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في نهاية القرن الثامن عشر نشر الشاعر الإسكتلندي روبرت بيرنز في جريدة نشرة بلفاست الإخبارية قصيدة حملت عنون (خطاب لوجع الأضراس) صب فيها جام غضبه على ذلك الألم الرهيبة الذي عاناه من ذلك الضرس المنخور ولذا خاطبه منذ مطلع القصيدة بقوله: لعنتي على سُمك الواخز الذي يطلق النار على طول لثتي المعذبة ويمزق أعصابي مع ومضة الألم المرير. وفي مقابل هذه الأديب الإسكتلندي الصخّاب اللّعان نجد أن أديبنا الوديع والراقي الأستاذ حمد القاضي ينشر قبل عدة سنوات مقالا طريفا في جريدة الجزيرة حمل عنوان (مرثية ضرس) سطر فيها (رحلة فراق) عاشها مع أحد الأضراس المتورمة في فمه الذي ودعه بعدما خلعه بكل تبجيلٍ وامتنان وخاطبه في مقاله ذلك بوصفه (ضرسي العزيز).

خلال هذه الأسبوع تجددت علي كالعادة معاناة ومصاعب التعايش مع وجع الضرس وألم الأسنان الملتهبة وقد وشوش هذا الضرر الممض صفاء أفكاري فتعثر علي أن أجد موضوعا جديدا لمقالي الأسبوعي. وهنا تذكرت المقولة المشهورة لشاعر العربية الفحل الفرزدق وهو وإن كان يستطيع قول الشعر حتى ولو كأنه ينحته من صخر إلا أنه في بعض الأحيان قد يتعذر عليه تدبيج قصيدة جديدة ولهذا مذكور في كتاب العقد الفريد أن الفرزدق قال (أنا أشعر الناس عند اليأس، وقد يأتي علي الحِين ونزع ضرس عندي أهون من قول بيت شعر). ولكني خلافا للفرزدق ففي وقت اليأس والضيق سوف أجعل معاناتي مع وجع الضرس مجالا لتأكيد صحة مقولة (المعاناة توأم الكتابة) ولذا قد أوظّف الألم والأوجاع في إبداع أفكار مستحدثة وطرح تصورات مستنبطة كما حصل مع المقال المنشور العام الماضي وقت أن شعرت بوخزة إبرة تطعيم لقاح الكورونا فكتبت خاطرة مقـال (إبرة التطعيم وتنشيط الذاكرة).

في الأدب العربي ارتبط الفرزدق بوجع الضرس وفي الأدب الإنجليزي كثيرا ما يتم تداول مقولة ترتبط بالشاعر الإنجليزي البارز اللورد بايرون يرد فيها مقولة (يأتي ألم الأسنان الحقير ليذكرني بأنني بشر فاني). في العصور القديمة لم يكن من المستغرب ربط وجع الأضراس بالموت والفناء بل أنه حتى في العصر الفيكتوري (زمن نشوء الإمبراطورية البريطانية الكبرى قبل حوالي مائتين سنة) كانت عملية خلع الأضراس تعد خامس سبب من مسببات الوفاة. تشير الوثائق الطبية الإنجليزية القديمة أن المريض بألم الأسنان قد يتعرض للوفاة نتيجة للتسمم بكتيري جراء الخراج والورم في السن أو الفك كما إن المريض قد يتعرض للتلوث الجرثومي من أدوات طبيب الأسنان غير المعقمة.

في العادة إذا ذكر عصر الملكة الإنجليزية فيكتوريا ربما يذكر كذلك عصر الملكة الإنجليزية الأكثر شهرة (إليزابيث الأولى) والتي بالمناسبة كان لها قصة وأي قصة مع وجع الضرس. في شتاء عام 1578م عانت تلك الملكة العذراء لمدة أسبوعين من آلام شديدة من تسوس أحد أضراسها والذي منعها حتى من النوم. ونظرا لهلع وخوف الملكة إليزابيث من عملية خلع الأضراس تطوع أسقف مدينة لندن أن يتم أمامها خلع أحد أضراسه السليمة وذلك في محاولة منه لإقناعها أن عملية خلع الأضراس هي أمر يمكن استحماله. وبالمناسبة يقال إن الملكة إليزابيث كانت تعشق مشاهدة المسرحيات وقد انتعش هذا النوع من الأعمال الأدبية في زمن إليزابيث لدرجة أن مسرح عصر النهضة الإنجليزية يسمى أحيانا بالمسرح الإليزابيثي. والمقصود أنه من المحتمل أن تلك الملكة راعية الأدب قد شاهدت وهي عجوز بعض مسرحيات الشاب شكسبير والذي عاصرها وكان من رعاياها. ولهذا هل يمكن أن نخمن أن شكسبير كان يريد أن يجامل تلك الملكة الرعديدة من وجع الأضراس عندما أورد في مسرحيته الهزلية (جعجعة بلا طحن) على لسان أحد شخصيات المسرحية قوله: لأنه لم يكن هناك قط فيلسوف يمكنه بصبر تحمل وجع الأسنان.

يبدو أنه للتعامل مع حالة الهلع والنفور من عملية خلع الأضراس لن نسترشد بالفلاسفة كما لمّح شكسبير، ولكن الأفضل استشارة علماء النفس لمحاولة فهم إدارة الألم وتخطي الضغوط النفسية المرتبطة بوجع الأضراس. وهذا بالفعل ما يقوم بهم قسم علم النفس بالجامعة الأردنية بعمان من طرح مقرر أكاديمي مخصص لطلاب كلية طب الأسنان يحمل اسم (علم النفس لطب الأسنان).

أدب الإحساس بوجع الأضراس

ما سبق سوقه من المعاناة مع ألم الأسنان يقودنا للصورة النمطية المريعة (لطبيب الأسنان) وفزع غالبية البشر من تلك المهنة التي صورتها الذهنية (الكماشة) وصوتها الأزيز الحاد لمبرد الحفر ولهذا لا عجب أن النماذج التي وردت في الأدب عن أطباء الأسنان سيئة وسلبية. منذ المرحلة الجامعية وعندما قرأت لأول مرة قصة (عقرب أفندي) لملك القصة القصيرة العربية الأديب المصري المحبوب يحي حقي، منذ ذلك الوقت لم أجلس قط على كرسي طبيب الأسنان إلا وتذكرت تلك القصة القصيرة البديعة. المحور الأساسي لتلك القصة هي لمعلم اللغة العربية الصارم والعنيف الشيخ عبد الباسط والذي من بغض طلابه له يلمزونه بلقب (عقرب أفندي). وبعد تقاعد ذلك المعلم المرعب ذهب في شيخوخته إلى أحد تلاميذه القدامى الذي أصبح طبيب أسنان وكله رغبه أن يعالجه بالمجان أو يخفض له على الأقل فاتورة العلاج وبالرغم من أنه كان يشكو من مرض بسيط في اللثة إلا أن طبيب الأسنان استغل الفرصة للانتقام العاصف ولهذا هول من خطر وجع الأسنان وقال لمعلمه البائس: لا ينقذك إلا أن تخلع بقية أضراسك وإلا كان هلاكك بالبيوريا قريبا. وعندما استسلم الشيخ المتهالك من خوف الفناء من هذا المرض المزعوم قام طبيب الأسنان اللئيم بخلع جميع أسنانه بدون وضع مخدر كافي وكذلك تعمّد إحداث أكبر قدر من الألم ولهذا تقصّد (أن أقلقل أضراسه وأحركها داخل اللحم الحي قبل أن أقتلعها).

طبيب الأسنان في قصة يحي حقي خلع جميع أضراس مدرسة بسبب الغل والحقد أما طبيب الأسنان في قصة (برنيس) لملك القصة القصيرة الإنجليزية الأديب الأمريكي إدغار ألن بو فهو قد خلع جميع أسنان مريضه، ولكن بدافع الحب هذه المرة. كما هو معرف أغلب القصص القصيرة لإدغار ألن بو تصنف في فئة أدب الرعب ويبدو أن عالم طب الأسنان المفزع ألهم مثل هذه الأعمال الأدبية المرتبطة بخلع الأسنان. في تلك القصة القصيرة يقع طبيب الأسنان ليس فقط في عشق ابنه عمه برنيس التي يتقدم لخطبتها والزواج منها، ولكنه أيضا يقع في مرض وهوس الإعجاب بأسنانها بالذات. ولهذا بعد أن توفيت تلك الشابة فجأة نتيجة إصابتها بمرض غريب دفع وسواس وهوس التملك بطبيب الأسنان الممسوس بأن ينبش قبرها ويخرج جثتها ويقلع جميع أسنانها ويحتفظ بها في علبة صغيرة.

وفي الختام نعود لما بدأنا به فبعد هذه المزاوجة الثنائية بين الأدب العربي والأدب الغربي في علاقتهما بوجع الأضراس ومجال طب الأسنان وبعد أن ذكرنا شواهد من المعاناة مع وجع الضرس بمثال من الشعر الغربي والنثر العربي سوف نعكس السياق ونختم بمقاطع تصف وجع الأسنان مستله من النثر الغربي والشعر العربي.

في العمل الأدبي والفلسفي العميق الذي ألفه الروائي الروسي الكبير دوستويفسكي بعنوان (رسائل من تحت الأرض) يعرض لنا شخصية معقدة ناقش من خلالها أعماق الشخصية البشرية وما يهمنا هنا وصفه لشخصية بطل الرواية المتقلب الفكر والمتذبذب المشاعر. فهو في بداية الأمر عندما يصاب بوجع الضرس يصرح بشكل غريب بقوله (حسناً .. حتى في وجع الأسنان هناك متعة !!) ومع الاستمرار في سرد النص نصل إلى الموضع الذي يتحول فيه الألم إلى عذاب بعد أن يستمر لعدة شهور وهنا يخاطبه الوجع بقوله (أنا أقلقك، أنا أمزق قلبك، أنا أبقي كل من في المنزل مستيقظ. حسنا، ابق أنت أيضا مستيقظا تشعر كل دقيقة بوجع الأسنان).

وأما القصيدة العربية عن وجع الأضراس فهي بالفعل تثبت أنه من المحتمل أن يكون في (وجع الأسنان متعة) كما تفلسف دوستويفسكي وذلك أن شاعر النيل الأديب المصري محمود غنيم عندما عانى لفترة من الزمن مع وجع الأسنان ثم خلع ذلك الضرس كتب فيه قصيدة رثاء حملت عنوان (صاحب آويته) كان منها:

صاحبٌ آويتُهُ خمسين عاماً              ما له في كنفي ملَّ المُقاما

بين فكّي ولساني صُنته                   لم يَلُك إثماً ولم يمضغ حراما

أيها الخلُّ الذي خاصمني                غيرَ مُبقٍ، لستُ آلوك الخصاما

أيُّها الضرس الذي أرّقتني               بعد ما اعتادت جفوني أن تناما

أيها المُنبتُّ عن أقرانه                    بات من بعدك في ذُلِّ اليتامى

بعضةُ غاليةٌ من جسدي                  بيدي وسّدتها أمسِ الرّغاما

دُفنت دون احتفالٍ ومضت              لم يُرق في إثرها الدمعُ سِجاما


( أقاليم منكوبة يخيم عليها شبح الحرب )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 من ناحية سياحية تعتبر المواقع الجغرافية التي تسمى النقاط الحدودية الثلاثية tripoints مكاناً مميزا لأنها الموقع الذي تلتقي به الحدود السياحية لثلاثة دول مختلفة وبهذا يسهل التنقل الجغرافي والسياحي بين كيانات سياسية وحضارية مختلفة وهذا ما ناقشته سابقا في مقال بعنوان (إطلالة دولية من شرفة المنزل) وذلك وقت الزمن الكئيب فترة الحظر المنزلي بسبب وباء الكورونا. في زمن السلم تصبح هذه النقاط الحدودية الثلاثية مواقع ذات بريق لجذب السياح والأموال ولهذا ينعم سكان تلك المناطق برخاء اقتصادي مريح أما من منظور الجغرافيا السياسية وفي ضوء تاريخ صراع الدول والإمبراطوريات فتكون تلك البقاع مكان شؤم وبلاء على السكان المقيمين فيها.

خذ على ذلك مثالا النقطة الحدودية الثلاثية التي تعرف في كتب التاريخ باسم (ركن الإمبراطوريات الثلاثة) وهي تلك الزاوية الحدودية التي كانت قديما تلتقي عندها الإمبراطورية النمساوية والإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية الروسية. وبسبب صراع الجبابرة بين تلك الإمبراطوريات المتناحرة لم يكتب الاستقرار والأمان لإقليم الركن الثلاثي وعاصمته الرئيسية مدينة ميسوفيتسه (تقع حاليا جنوب بولندا) حيث عبر التاريخ كثيرا ما تم انتقال ملكيتها لواحدة من تلك الممالك المتصارعة. في بداية الأمر وحتى منتصف القرن السابع عشر كانت أجزاء من تلك المنطقة تقع تحت نفوذ الإمبراطورية النمساوية ثم انتقلت إلى السيطرة الألمانية ومنها بعد سنين إلى حكم الدولة الروسية ثم استقلت لفترة قصيرة بعد الحرب العالمية الأولى لتنضم إلى بولندا ثم عادت مرة أخرى تحت حكم الألمان وأخيرا بعد الهزيمة الساحقة للنظام النازي الألماني رجعت تلك المنطقة للتمتع بمحيطها السياسي والحضاري الأساسي في ظل الدولة البولندية المستقلة.

وفي ضوء هذه القصة الشائكة للشعب البولندي وورطته التاريخية والسياسية بوقوعه في منطقة تنازع بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية الألمانية يمكن أن نستوعب حاليا ورطة الشعب والدولة الأوكرانية في وجودها في موقع نزاع وتنافس مستمر بين الدول الكبرى والكيانات السياسية العظمى. منذ قرون طويلة والأراضي الأوكرانية محل نزاع وتنافس بين القوى الدولية المسيطرة في تلك المنطقة وخصوصا الممالك الروسية والعثمانية والبولندية. في عام 2014م استطاعت روسيا أن تنتزع شبه جزيرة القرم (الإقليم الجنوبي من الأراضي الأوكرانية) بسهولة وبدون ضجة كبرى وهذا خلاف ما حصل قبل قرن ونصف من الزمن عندما حصلت (حرب القرم الأولى) والتي نشبت عام 1853م وكانت أشبه بحرب عالمية مصغرة إذا اشترك فيها الدول والممالك الكبرى في ذلك العصر ألا وهي الإمبراطورية الروسية من جهة وفي الجهة المقابلة كانت قوات الحلفاء مشكلة من الدولة العثمانية والممالك الأوروبية البريطانية والفرنسية والإيطالية. علما بأن شبه جزيرة القرم كانت لقرون طويلة تحت حكم الخلافة العثمانية حيث كان اسم عاصمة ذلك الإقليم المسلم (واق مسجد) أي المسجد الأبيض. ونظرا لأهميتها الجغرافية القصوى في السيطرة على البحر الأسود انتزعتها الإمبراطورية الروسية ثم بعد حرب القرم الأولى عادت تحت سيطرة الدولة العثمانية ثم انتزعها الروس مرة ثانية وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي انضمت شبه جزيرة القرم المستقلة للدولة الأوكرانية ثم أخيرا أعادت القوات الروسية احتلال ذلك الإقليم المنكوب.

ومن هذا المعترك التاريخي المتداخل للأراضي البولندية أو الأقاليم الأوكرانية نفهم حالة الشقاء التي تقع على الشعوب التي تستوطن مثل هذه الأقاليم التي تكون مطمع الدول والممالك المتطاحنة. وهذا ما يمكن مشاهدته في أقاليم منكوبة أخرى مثل أرض الشيشان أو دول البلقان أو أرض المقدس أو بلاد الأكراد أو إقليم الإسكندرون أو إقليم دارفور وهذه بعض المناطق الدامية داخل حضارتنا الإسلامية ولو ذهبنا نحاول استقصاء أمثال هذه المناطق والأقاليم الملتهبة بالصراعات الدولية في مختلف قارات العالم لطال بنا المقام والمقال.

وبالعودة إلى حالة الترقب التي تعم هذه الأيام من احتمالية تصاعد الصراع الدولي المتعلق بمؤشرات غزو القوات الروسية للأراضي الدولة الأوكرانية وما قد يجر ذلك من احتمال قتال وصراع دولي متعدد الأطراف. أنا لست خبيرا بدهاليز السياسة الدولية ومفاجآت الصراع الأممي ولكن أتوقع أن ميكانزيم توازن القوى الدولية سوف يحد كثيرا من حصول كارثة عالمية كبرى من مثل اندلاع الحرب العالمية الثالثة كما يهول البعض. ومع ذلك تبقى احتمالية اجتياح الروس للحدود الأوكرانية واردة، ولكن يغلب على الظن أن تدخل الحلفاء أو قوات الحلف الأطلسي سوف تكون محدودة ورمزية والعلم عند الله.

ومع ذلك وبما أننا ما زلنا في سياق الحديث عن الأقاليم الجغرافية المضطربة عند ملتقى الإمبراطوريات تجدر الإشارة إلى قصة الصراع بين الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية الفرنسية حول أراضي وادي الراين (أقاليم الألزاس واللورين) والذي يعد الصراع حولها أحد أهم أسباب العداء المتأصل والحقد المتكرر بين الشعب الفرنسي والشعب الألماني. لعل القصة أصبحت مفهومة الآن في ضوء ما سبق ذكره في أول المقال، فأراضي وادي الراين تذبذبت ملكيتها وسيادتها عبر القرون بين الأمة الألمانية (وهذا السائد بدلالة أن لغة هذا الإقليم حتى الآن هي الألمانية) وبين الأمة الفرنسية. ونتيجةً لهزيمة الإمبراطورية الألمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى لم يكن من المستغرب أن تعود سيطرة فرنسا على هذه البقاع المتنازع عليها. وبحكم أن الشعب الألماني كان دوما يشعر بمرارة الخيانة (ومقتنع بأسطورة الطعن من الخلف) لذا لم يكن من المستغرب أن يختار الناخب الألماني الحزب النازي ويسلم قيادة البلد للمتطرف القومجي أدولف هتلر ليعيد للأمة الألمانية هيبتها ويجعل ألمانيا والعرق الآري فوق الجميع. كتب التاريخ تحدد بداية الحرب العالمية الثانية في نهاية عام 1939م عندما غزا هتلر الأراضي البولندية، ولكن في الواقع الإرهاصات الحقيقة لتلك الحرب الكونية الكبرى حصلت قبل ذلك بسنوات وبالتحديد في عام 1936م عندما أعاد هتلر انتزاع إقليم الألزاس واللورين. والمقصود من هذه السردية التاريخية أن التنازع بين القوى الكبرى إذا داخاله عوامل الكرامة والهيبة أو المصالح الاقتصادية والمكاسب السياسية يمكن بالفعل يؤدي ذلك النزاع إلى اندلاع أشنع وأطول الحروب الدولية.

 كلمة أخيرة قبل أن نغادر نسترجع فيها مقولة المفكر الأمريكي صاموئيل هنتنغتون في كتابه المعروف صراع الحضارات من أن العالم الإسلامي له (حدود دموية) لأن أغلب مواقع الصراع المسلح في العالم تمتد على خطوط التصدع الحضاري الفاصلة بين العالم الإسلامي وجيرانه. صحيح أن من ينظر الآن إلى خارطة مناطق القتال بين الدول والشعوب يجد أغلبها في العالم الإسلامي والقارة الإفريقية بالذات. إلا أن الظاهرة الجديدة التي لا تخطئها عين الراصد هو تزايد حالات الصراع وتنامي (بؤر الدم) في أطراف القارة الأوروبية نفسها كما هي حال مناوشات الحرب اليوم على حدود أوكرانيا والحرب المدمرة التي مرت بها دولة أرمينيا قبل حوالي سنة وتكرر الاحتجاجات الشعبية العنيفة في عدد من دول أوروبا الشرقية مثل جورجيا وبيلاروسيا وليتوانيا.

للأديب الألماني المعاصر إريك ريمارك رواية أدبية رائعة تحمل عنوان مخادع هو (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) وتلك الرواية هي تقريبا سيرة ذاتية وشهادة حية لويلات الحرب وحياة الخنادق أثناء الحرب العالمية الأولى. حتى فترة قصيرة مضت كان الجميع يعتقد أن (كل شيء هادي على الجبهة الأوروبية) ولكن المظاهر تخدع كما يقال وشبح الحرب يحوم في الأفق.


( نساء العلم .. أقلية متوثبة )


د/ أحمد بن حامد الغامدي

تعتبر الجمعية الملكية البريطانية Royal Society إحدى أهم وأعرق الجمعيات العلمية في التاريخ قديما وحديثا ومع ذلك كان لها تحيز متجذر ضد النساء بشهادة أول أمين عام لها وهو هنري أولدنبورغ والذي وصف العلم بأن له (فلسفة ذكورية) ولهذا يرى بعض مؤرخي العلوم أنه خلال التاريخ قام الرجال دائما يوضع الحواجز بين المرأة واكتسابها للمعرفة العلمية. قبل قرنين من الزمان وبالضبط في عام 1818م كتبت الأديبة الإنجليزية المشهورة جين أوستن (لقد كان للرجال الأفضلية الكاملة علينا في أن يرووا قصتهم من دوننا، لقد كان التعليم ملكا لهم وكانت الأقلام في أيديهم) ولعقود طويلة كانت أيضا الأجهزة المختبرية والتجارب العلمية محتكره من قبل الرجال ولهذا كانت النساء في الظل دائما.

وفي ضوء هذا المدخل التاريخي نفهم مدى أهمية أن تتاح الفرصة لشقائق الرجال في الدخول لمعترك ساحات المختبرات العلمية والمساهمة في الاكتشافات العلمية وإنتاج وتطوير المخترعات التقنية. في الواقع يوم أمس الجمعة الموافق للحادي عشر من شهر فبراير هو موعد سنوي ثابت للاحتفال الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة تحت عنوان (اليوم العالمي للمرأة في ميدان العلوم). وعبر العقود الزمنية الماضية تسعى هيئة الأمم المتحدة بالتعاون مع المنظمات الدولية ذات العلاقة مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) لتعزيز تمكين المرأة من الوصول المتكافئ مع الرجل في ميادين العلوم والتقنية.لا شك أن هذا الهدف يتقاطع مع الحركة النسوية المتصاعدة في الزمن المعاصر ومع ذلك هو خير مثال لتعديل مسار تلك الحركة النسائية المتخبطة لكي تهتم بمعالي الأمور وتترك سفسافها.

من الحق والعدل دعم المساواة المنضبطة بين الرجل والمرأة في مجالات إتاحة الفرص المتوازنة في حق التعليم والرعاية الصحية والفرص الوظيفية والنشاطات الاقتصادية والمشاركة السياسية بدلا من الطيش والسفه التي تشغل الحركة النسوية المجتمعات البشرية بمعارك خبيثة مثل تحرر المرأة وإسقاط هيبة الرجل والنشوز عليه. الحركة النسوية في أصلها حركة سياسية ذات أهداف اجتماعية لرفع الظلم الواقعي أو المتخيل عن المرأة وكما هو معلوم للحركة النسوية عدة موجات متوالية ونحن الآن في قمة الموجة الثالثة للنسوية والتي يمكن توصيفها بموجة (تمرد الأنثى) وهنا الخلل الجوهري في تلك الحركة فبدلا من إكمال النقص في حياة المرأة أوجدت فجوة هائلة في الواقع الاجتماعي والنفسي للمرأة.

حسب أرقام وبيانات معهد الإحصاء التابع لليونسكو تعتبر نسبة النساء في ميادين العلوم (الجامعات والمعاهد البحثية) أقل من ثلاثين بالمائة والغريب في هذه الإحصاءات أن هذه النسبة تزيد في دول العالم الثالث وتقل في الدول المتقدمة. فهذه النسبة مثلا في العالم العربي 42% وفي دول وسط آسيا 48% بينما متوسطها في الدول الأوروبية 33% والأغرب من ذلك أن هذه النسبة في أذربيجان هي 59% بينما هي في هولندا 26% فقط. وبالانتقال من دنيا الإحصاء إلى عالم التاريخ يمكن أن نستشف (وربما نصعق) بمعرفة جذور التفرقة العنصرية التي مارسها علماء الغرب ضد المرأة. كما هو معلوم الحضارة الغربية هي مزيج ما بين الحضارة الإغريقية والديانة المسيحية وكلا منهما له نظرة دونية وإقصائية ضد المرأة ومن ذلك أنها كانت قديما تمنع من التعليم والاستقلال الاقتصادي أو المشاركة السياسية. وفي هذا السياق نفهم القصص والأخبار العجيبة لمنع النساء في المجتمعات الغربية حتى عقود قريبة من التعليم وفتح المجال لها لدخول المختبرات العلمية.

الغرب وإقصاء المرأة من ميادين العلوم

في بداية المقال عرجنا بالحديث على ذكر الجمعية الملكية البريطانية والتي ظلت لمدة ثلاثة قرون تمنع النساء من الحصول على عضويتها ولم يتغير هذا الموقف غير الحضاري إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. الطريف في الأمر أنه ليس فقط كان يمنع على النساء الحصول على عضوية الجمعيات العلمية، ولكن حتى عندما كن يرغبن في إلقاء نتائج أبحاثهن العلمية لم يكن يسمح لهن بالدخول وإنما يتم تقديم أبحاثهن من خلال إلقائها بواسطة أقاربهن الرجال الذين كانوا يقرؤون أبحاثهن العلمية نيابة عنهن. كما هو معلوم فإن السيدة ماري كوري ليس فقط هي أشهر امرأة في تاريخ العلوم، ولكن هي حتى الآن الشخص الوحيد الذي استطاع نيل جائزة نوبل في الفيزياء وفي الكيمياء. في عام 1911م وبعد أن حصلت ماري كوري على جائزتها الثانية من جوائز نوبل شعرت في نفسها الاستحقاق للتقدم للحصول على عضوية أكاديمية العلوم الفرنسية والغريب في الأمر ليس رفض ترشيحها والتصويت ضد انضمامها لهذا لصرح العلمي المرموق، ولكن حملة العداء والاستهجان من قبل بعض العلماء ضد جرأة مدام كوري بلغت أن يقول عالم الفيزياء الفرنسي إيميل أماغات (لا يمكن للمرأة أن تكون جزءا من معهد فرنسا). وكذلك نجد أن ابنة مدام كوري عالمة الفيزياء إيرين كوري وبالرغم من كونها ثاني امرأة على الإطلاق تحصل على جائزة نوبل في المجالات العلمية إلا أنها هي الأخرى رفض طلبها للانضمام إلى أكاديمية العلوم الفرنسية.

قد يتوقع البعض منا أن موقف النفور من تواجد المرأة في (أندية الرجال) العلمية والبحثية ظاهرة قديمة في المجتمع الأوروبي والغربي بينما هي ظاهرة كانت شبه متواصلة حتى لزمننا المعاصر. ومن ذلك مثلا أن أعرق جامعة في العالم وهي جامعة هارفرد الأمريكية كانت حتى عام 1943م لا تسمح للنساء بدخول قاعات المحاضرات فيها. وللفتيات أو النساء الرغبات في الحضور للاستماع لمحاضرات أينشتاين في الجامعة الأمريكية التي يدرس بها وهي جامعة برينستون كان ذلك أمرا مستحيل لأنه حتى وفاة أينشتاين في منتصف الخمسينات من القرن العشرين كان قسم الفيزياء بتلك الجامعة يمنع النساء من الدخول بحجة أنهن يتسببن في تشتيت انتباه الباحثين بالمعهد العلمي. وعلى ذكر أينشتاين والنساء فقد كان يثني كثيرا على عالمة الرياضيات الألمانية إيمي نويثر ويصفها بالعبقرية ومع ذلك عندما تقدمت عام 1915 للتدريس بجامعة غوتنجن الألمانية نظرا لنقص الرجال بسبب الحرب العالمية الأولى رفض بعض أستاذة الجامعة المتنفذين ذلك. حيث أصر أحد الأساتذة على أن النساء لا ينبغي أن يصبحن معلمات جامعيات في حين كان حجة أستاذ جامعي آخر في رفض طلب إيمي نويثر بقوله (ماذا سيفكر فيه جنودنا عند عودتهم إلى الجامعة ليجدوا أنهم مطالبون بالتعلم عند أقدام امرأة؟!).

الإنجليز يشتهر عنهم شدة الانضباط والاعتزاز بالأصالة والموروث القديم ولهذا لا غرو أنهم كانوا آخر من استمر في تقاليد الأنفة من دخول النساء لمعاقل العلم والحرم الجامعي. ربما أمر يصعب تصديقه أنه حتى الثمانينيات من القرن العشرين كانت بعض الكليات بجامعة أكسفورد وجامعة كامبريدج حكرا فقط على الرجال والطلبة الذكور مصداقا لما أشيع من قبل في المجتمع العلمي البريطاني بأن (العلم ذو فلسفة ذكورية). فهذه كلية ماجدلينMagdalene بالرغم من اسمها النسائي (نسبةً إلى الشخصية المسيحية البارزة: مريم المجدلية) لم تسمح هذه الكلية بجامعة كامبريدج بدخول النساء والفتيات للدراسة فيها إلا عام 1988 ميلادي. وعندما حصل ذلك قام بعض الأستاذة والطلاب بجامعة كامبريدج بالتعبير عن اعتراضهم بتنظيم مسيرة جنازة للكلية وهم يحملون كفن الكلية التي اعتبروها ماتت في ذلك الوقت.

لا أخفي القارئ الكريم أن ظاهرة التفرقة ضد النساء في ميادين العلوم لفتت انتباهي منذ زمن أثناء قراءاتي المتوسعة في تاريخ العلوم وقد جمعت ملف خاص يحتوي على عشرات الأمثلة والصفحات المطولة لهذا الأمر وما سبق ذكره هو فقط أمثلة منتقاة نظرا لمحدودية المساحة في مثال هذا المقال الثقافي. وفي مقابل التضييق القديم من المجتمع العلمي الغربي لمشاركة المرأة في دنيا العلوم لدرجة أن أول سيدة يمكن وصفها بأنها هاوية للعلوم هي الفرنسية إيميلي دو شاتيله التي عاشت في منتصف القرن الثامن عشر، في مقابل ذلك نجد أنه في الحضارة الإسلامية ومنذ زمن مبكر نسبيا وجد العديد من النساء العاملات في مجال العلوم. من الأمثلة على ذلك يمكن أن نذكر هنا أن عالمة الفلك المسلمة المسماة (مريم الإسطرلابي) التي عاشت في مدينة حلب في القرن العاشر الميلادي يقال إنها اخترعت آلة فلكية متطورة تدعى الإسطرلاب المعقد. وفي نفس الفترة الزمنية تقريبا، ولكن في مدينة بغداد نجد عالمة الرياضيات العربية (سُتيتة المحمالي) كان لها اطلاع على علم الجبر والحساب ويقال انها اخترعت حلولا لبعض المعادلات الرياضية كما إنها كانت خبيرة في علم الفرائض وحساب المواريث. وعلى نفس النسق يقال إن (لبنى القرطبية) كانت كذلك عالمة بالرياضيات ولها خبرة بمجال الهندسة والجبر وكانت تعمل كاتبة وناسخة في بلاط حاكم الأندلس الخلفية الأموي الحكم المستنصر بالله.

وبالعودة إلى الموضوع الأساسي لهذا المقال وهو التوجه الدولي لمحاولة تحفيز وتشجيع النساء والفتيات للانخراط في المهن العلمية والتخصص في مجال الدراسات التقنية والتجريبية، تجدر الإشارة إلى أن أعداد متزايدة من النساء مع الزمن تتجه لمزاحمة الرجال في ميادين العلم. صحيح أن النساء هم حاليا أقلية في المجتمع العلمي ولكنها أقلية متوثبة وذات رغبة جامحة وطموح حاد لغزو واحتلال مساحات متزايدة في المختبرات البحثية ومقاعد الدراسة الأكاديمية في التخصصات العلمية وقد ناقشت هذه الظاهرة في عدة مقالات سابقة كان من أمثلتها مقال (النساء قادمات .. ولو بعد حين) ومقال (نون النسوة يزاحم واو الجماعة على جوائز نوبل).

على كل حال من المشجع أن وضع النساء يتحسن مع الزمن وأن كان ببطء فمثلا نجد أن عدد الطالبات الأمريكيات اللاتي يدرسن الكيمياء في المرحلة الجامعية في منتصف الستينات من القرن الماضي كن حوالي 20% بينما تضاعف هذا العدد حاليا ليصل ما يقارب أقل من 50% وفق إحصاءات المركز الوطني الأمريكي للإحصاءات التعليمية. ومع ذلك الإشكال حاليا ليس قلة عدد الفتيات والطالبات الراغبات في دراسة التخصصات العلمية، ولكن المشكلة تكمن في إقناعهن بإكمال مسيرتهن التعليمة العليا ونشاطهن المهني. في الواقع في الغالب توجد وفرة من الفتيات في بداية شبكة التعليم الجامعي لكنهن يتسربن ويهدرن لاحقا في شبكة الحياة والعمل. ومن هنا نستوعب الجهود المبذولة دوليا لتسهيل العوائق ورفع الحواجز عن هذه الأقلية النسائية في ميدان العلوم والتي يتوقع لهن في المستقبل دور أكثر أهمية وفعالية في تقدم عجلة التطور العلمي والتقني.


( حكاية رحلات الجليد )



د/ أحمد بن حامد الغامدي

اليوم السبت الرابع من شهر رجب والمتوافق مع بدايات شهر فبراير ولذا بنهاية إجازة نهاية الأسبوع المطولة هذه تبدأ تقل كثيرا فرصة السفر لمشاهدة الثلج في أرض الصحراء في شمال المملكة سواءً في منطقة تبوك أو محافظة طريف. قديما كان السفر والترحال (وظيفة) بشرية أساسية لأسباب متعددة، ولكن منذ القرون الأخيرة أصبح (سفر الدهشة) يهدف إلى البهجة الذهنية أو المتعة البدنية أو الصفاء الروحي. ولذا ليس بمستغرب أن نجد المئات من مختلف مناطق المملكة يشدون الرحال إلى أرض الجليد المؤقت لإشباع نهمهم بمعايشة هذه التجربة الفريدة (الثلج والجليد في جزيرة العرب).

منذ فجر التاريخ العربي اشتهرت جزيرة العرب بالجفاف والقيظ ولهذا يذكر الإمام القرطبي في تفسيره عند الإشارة لقوله تعالى (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) فقال إن الله سبحانه وتعالى خاطبهم بالبرد لأنهم كانوا يعرفون نزوله كثيرا عندهم وسكت عن ذكر الثلج لأنه لم يكن في بلادهم. ومما يذكر عن حبر هذه الأمة ابن عباس قوله عن الثلج: الثلج شيء أبيض ينزل من السماء وما رأيته قط ومن هنا قد نفهم لماذا ارتبك بعض الصحابة وبعض الفقهاء عندما انتشروا في الأمصار وشاهدوا الثلج. في إحدى الفتاوى الشرعية لمحدث العصر العلامة الألباني أشار إلى خبر أحد الصحابة رضوان الله عليهم أنه عندما حصل أن نزل الثلج في شهر رمضان وأخذ ذلك الصحابي يأكل الثلج وعندما قيل له ألست صائما قال (هذا بركة من السماء وليس بطعام) وكذلك تذكر كتب الفقه حيرة واختلاف بعض الفقهاء في التعامل مع الثلج مثلا هل هو مثل التراب فيجوز التيمم به أو إذا تجمدت مياه الأنهار أو البحيرات فهل تجوز الصلاة مباشرة على ذلك الجليد.

حال (الدهشة) من نزول الثلج في المدن العربية الصحراوية المشهورة بالحر جعلت رجال التاريخ قديما يحرصون على توثيق تلك الحالات المناخية العجيبة التي يصاحبها تساقط الثلج في تلك البيئات الحارة. فهذا المؤرخ الكبير ابن كثير في كتاب البداية والنهاية يؤرخ لسقوط الثلج على مدينة بغداد في مواقع متعددة من كتابه وسنوات مختلفة من تاريخه ومنذ ذلك مثلا قوله عن سنة 620 هـ أنه سقط بها ثلج كثيف بالعراق في آخر الشتاء في شهر آذار (مارس) ثم ذكر تعجب المؤرخ ابن الأثير الذي ذكر هذه الحداثة فقال: وهذا شيء لم يعهد مثله والعجب كل العجب من العراق مع كثرة حره كيف وقع فيه مثل هذا. ومن بغداد إلى القاهرة ومن ابن كثير إلى المقريزي وفي الأحداث التاريخية المسطرة في كتاب (السلوك لمعرفة دول الملوك) نجد أن المقريزي يذكر خبر نزول الثلج الكثير على أرض مصر سنة 738هـجري. وعلى ذكر المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي واهتمامه العجيب بذكر التفاصيل التاريخية نجده في كتابه (الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك) يذكر الخبر الفريد عن وجود الثلج في مكة المكرمة وقت الحج. ولكن هذه المرة لم ينزل الثلج على الأراضي المقدسة، ولكن حصل في عام 160هجري ولأول مرة في التاريخ أن تم جلب الثلج إلى مكة المكرمة وذلك عندما حمل الثلج إلى الخليفة العباسي أبو عبد الله المهدي لتخفيف الحر عنه في حجه في تلك السنه.

من هذا وذاك نعلم أن نزول الثلج في البيئة العربية القديمة كان حدثاً غريباً ونادر الحصول ولهذا منذ القدم أهتم ابن الصحراء بتتبع وتوثيق هذه الأحداث المناخية الفريدة والسعي قدر المستطاع لمشاهدتها عن كثب. وباستثناء بلاد الشام وجبال الأطلس من أرض المغرب ومرتفعات المنطقة الكردية في العراق لم تعرف أغلب المناطق والأقاليم العربية ظاهرة سقوط الثلج. ولاحقا عندما توسعت الفتوحات الإسلامية إلى مناطق وسط آسيا وأرض الأندلس أصبح وجود الثلج منظر طبيعي في التاريخ الإسلامي العام. ومنذ فترة مبكرة تقابل العرب خارج جزيرتهم مع الثلج في الأقاليم الإسلامية الحدودية فتذكر كتب الفقه قبل كتب التاريخ أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا مثلا يقصرون الصلاة لشهور طويلة بسبب الثلج كما حصل مع عبد الله بن عمر رضي الله عليه الذي ظل يقصر الصلاة لمدة ستة أشهر في أذربيجان عندما حال الثلج دون مقدرة الجيش الذي كان فيه من السفر والعودة. ومع ذلك يبقى التوثيق التفصيلي لتجربة اللقاء بالثلج القارص خارج المناطق العربية محدود وعبارة فقط عن شذرات عابرة ترد في كتب التاريخ المطولة. في مقال سابق حمل عنوان (الحج .. سيرة ذاتية) نشر قبل عدة سنوات ناقشت الظاهرة الغريبة في التأخر الحضاري في موروثنا العربي القديم في توثيق أدب الرحلات. فحتى بداية القرن الرابع الهجري لأول مرة يظهر كتاب يوثق أخبار ومشاهدات الرحالة العرب ومن غرائب الموافقات أن إرهاصات هذا التوثيق كانت تركز على مشاهدات العرب في أرض الثلج والجليد.

من المعلوم أن عصر الرحلات العربية تم تدشينه بالرحلة المشهورة لأحمد بن فضلان إلى بلاد الصقالبة وأرض البلغار (دولة تترستان حاليا في روسيا) زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله وبهذا كانت (رحلات الشتاء) والمشاهدات الثلجية هي في صلب تفاصيل كتاب (رسالة ابن فضلان). وما يهمنا هنا أنه في عام 309 هجري داهم فصل الشتاء ابن فضلان ورفاقه وهم في مدينة جرجانية غرب أوزباكستان وهنا يصف ابن فضلان كيف أن نهر جيحون جمد من شدة البرد والصقيع لدرجة أن الخيل والبغال أصبح بإمكانها المشي فوقه. ويصف ابن فضلان أنه من شدة البرد (.. كنت أخرج من الحمام فإذا دخلت البيت نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى كنت أدنيها من النار) وفي موضوع آخر يصف الملابس الثقيلة التي كانوا يحتاجونها لاتقاء الزمهرير (.. كان كل رجل منا عليه قرطق وفوقه خفتان وفوقه بوستين وفوقه لبادة وبرنس ولا تبدو منه إلا عيناه، وسراويل طاق وآخر مبطن وران وخف كيمخت وفوق الخف خف آخر فكان الواحد منا إذا ركب الجمل لم يقدر أن يتحرك لما عليه من الثياب).

وأما أسطورة المسافرين العرب ابن بطوطة فقد جاب الآفاق وكان على وشك أن تصل به أسفاره المتواصلة إلى سيبيريا فبعد أن وصل إلى شبه جزيرة القرم (في أوكرانيا حاليا) ونهر الفولجا أراد أن يسافر إلى سيبيريا وهي التي يسميها أرض الظلمة لكنه غير رأيه في الأخير وقال (.. أضربت عن ذلك لعظم المؤونة وقلة الجدوى والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار فإن تلك المفازة فيها الجليد ولا تثبت قدما الآدمي ولا حافر الدابة فيها). وبعد إخفاق ابن بطوطة في الوصول إلى سيبيريا لا يعلم على وجهة الدقة من أول رحالة عربي حقق هذا الإنجاز في الوصول إلى أطراف الدائرة القطبية الشمالية. ومع ذلك وبالانتقال من سيبيريا إلى ألاسكا يبدو أن اكتشاف الذهب بها في نهاية القرن التاسع عشر تسبب بموجة (حمى الذهب) جديدة كما حصل في كالفورنيا قبل ذلك بنصف قرن. وكان من ضمن المئات من المغامرين والمنقبين عن الذهب شاب عربي يدعى علي أبو شادي وصل إلى ألاسكا في عام 1905م وهو بهذا ربما يعتبر أول شخص من أصول عربية يصل إلى مناطق الدائرة القطبية الشمالية. أما أول رحلة لشخصية عربية تصل إلى القطب المتجمد الجنوبي المنعزل ففي الغالب هو العالم المصري سيد زكريا السيد الذي قام في أواخر السبعينيات من القرن العشرين أثناء عمله بجامعة تكساس بالمشاركة في رحلة علمية لقارة أنتاركتيكا المتجمدة. ونظيراً للإسهامات العلمية المميزة للدكتور سيد زكريا حيث كان المؤسس لبرنامج البحثي للنظام البيئي البحري في القطب المتجمد الجنوبي تم تسمية بعض الأنهار الجليدية في أنتاركتيكا باسمه وعندما توفي رحمه الله تم نعيه في جريدة الواشنطن بوست.

أما في تاريخ الرحلات الجليدية في واقعنا المحلي فقد كان أول من وصل إلى القطب المتجمد الجنوبي هو الدكتور مصطفى معمر رحمة الله من جامعة الملك عبد العزيز مع الدكتور إبراهيم عالم من جامعة الملك فهد والذين شاركا في 1989م في رحلة علمية دولية استكشافية للقطب المتجمد الجنوبي استمرت لثلاثة أشهر. وبعد ذلك بسنة شارك الدكتور إبراهيم عالم في رحلة استكشافية دولية كانت وجهتها هذه المرة القطب المتجمد الشمالي. وكذلك شارك لاحقا الدكتور عبد العزيز اللعبون من قسم الجيولوجيا بجامعة الملك سعود في رحلة استكشافية دولية للقطب المتجمد الجنوبي عام 2014م علما بأنه حصل في عام 2010م وصول المغامر السعودي وليد زاهد هو وولديه هيثم ومحمد إلى مركز القطب في القارة المتجمدة الجنوبية. الجدير بالذكر أنه في السنوات الأخيرة أصبح يوجد رحلات سياحية لزيارة القطب المتجمد الشمالي أو الجنوبي وقد قامت سفارة المملكة في بريطانيا عام 2005م بالإشراف على تمويل رحلة استكشافية لستة طلاب من المرحلة المتوسطة للمنطقة القطبية الشمالية في رحلة مشتركة مع فريق مماثل من طلاب المدارس البريطانية.


( أحوال السلف الصالح مع الثلج )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

بعض المواضيع الدينية والإرشادات الفقهية والتنويهات التربوية يكون لها مواسم ثابتة ومتكررة من مثل طرح مواضيع أحوال السلف في رمضان أو العشر الأواخر أو في عصر يوم الجمعة ومن ذلك أيضا أحوال السلف الصالح في الشتاء. وعند الكتابة في المواضيع الثقافية العامة قد يكون من الملائم طرح بعض الأفكار من زوايا مختلفة وتسليط الضوء على أركان مخفية وأبعاد مهملة. حال الصحابة والسلف الصالح في القديم والحديث مع موسم الشتاء معروف باستغلالهم لهذه (الغنيمة الباردة) في تكثيف العبادة والأعمال الصالحة ففصل الشتاء كما ورد في الأثر (الشتاء ربيع المؤمن .. طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه).

ومع ذلك ربما نحتاج للإلقاء الضوء على التوظيف التربوي والتوجيه الوعظي التزكية النفسية التي استخدم فيها السلف الصالح لبعض مظاهر الأجواء الشتوية من الصقيع والجليد وتساقط للثلوج. في كتاب التفسير الكبير لفخر الدين الرازي إشارة وعظيه وفائدة تربوية عندما ذكر خبر أحد السالف أنه قال: تعلمت معنى سورة العصر من بائع ثلج كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله. فقلت هذا معنى (إن الإنسان لفي خسر) يمر به العصر فيمضي عمرة ولا يكتسب فإذا هو خاسر. ومن القبسات التربوية المستلهمة من هشاشة وسرعة ذوبان رقائق الثلج أن بعض الحكماء الحريص على وقته من أن يضيع سداً كان يقول: الوقت كالثلج سريعا زواله وكأنه بذلك يشابه ذلك السلفي الآخر الذي قال له أحدهم: قف أكلمك فكان أن رد عليه بقوله (أوقف الشمس). ولهذا أخذ هذا المعنى زاهد السلف الإمام الغزالي وذكره في كتابه إحياء علوم الدين فقال: الدنيا كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض والآخرة كالجوهر الذي لا فناء له. وقريب من هذا المعنى سطره جلال الدين السيوطي في كتابه (تحذير أهل الآخرة من الدنيا الدائرة) وذكر فيه: الدنيا كقطعة الثلج رخيصة الثمن سريعة الذوبان والآخرة كالجوهرة غالية الثمن باقية.

جليد وصقيع الشتاء قد يساعد على تكثيف العبادة كما ذكرنا وأيضا قد تكون مظاهر الشتاء المناخية (تذكرة) وجدانية تهز الروح وتنبه الغافل ولذا الشتاء كما هو (غنيمة للمؤمن العابد) هو كذلك قد يكون (موعظة للمؤمن المتفكر). قال أحد الصالحين (ما رأيت الثلج يتساقط من السماء إلا تذكرت تطاير الصحف يوم الحشر والنشر). ومن الإضاءات المستلهمة من ندف الثلج المتطايرة أنه في بدايتها رقائق من جليد خفيفة المحمل سريعة الذوبان، ولكن إذا تجمعت وانضمت إلى بعضها البعض أصبحت كما يقال في التشبيه: كرة الثلج التي تكبر مع الوقت حتى يزداد ثقلها وأثرها. وهذا ربما حال صغائر الذنوب فهي خفيفة المحمل سهلة الزوال والذوبان بالاستغفار، ولكن تجمع الذنوب مع الوقت وتراكمها يولد (ثقل) الإحساس بالذنب وكذلك يولد (حرارة المعصية) المهلكة للحسنات. وقد ألتقط عالم السلف ابن حزم الأندلسي والخبير بعلم مداواة النفوس بعض الإرشادات السلوكية من عالم الثلج فقال: الثلج إذا ُأدمن حبسه في اليد فَعلَ فِعل النار.

وكما إن الزمهرير ضد الرمضاء فكذلك برد الطاعة ضد حر وجمر المعصية ولهذا لائم غسل إثم المعصية الساخنة بالثلج البارد. ومن الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في دعاء الاستفتاح (اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد). وغسيل درن الذنوب كغسيل وسخ الثوب ولهذا من الناحية المبدئية قد يكون الماء الساخن أفضل من الماء البارد في عملية التنظيف. وهنا نسوق ذكر الخبر والحوار المشهور الذي حصل بين اثنين من كبار مشاهير وأعلام السالف الصالح وهما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه النجم ابن القيم. في كتاب (إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان) يذكر ابن قيم الجوزية أنه عندما استشكل هذا الأمر سأله عنه شيخه علامة السلف: سألتُ شيخ الإسلام عن معنى دعاء النبي اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد والماء الحار أبلغ في الإنقاء؟. فقال: الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا، فيرتخي القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه، فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه. والماء يغسل الخبث ويطفئ النار، فإن كان باردا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كــان أقوى في التبــريد وصـلابة الـجسم وشدته، فكـان أذهب لأثر الخطـايا.

وما زلنا في موضوع غسل إثم المعاصي والخطايا بالثلج والبرد، ولكن من منظور مختلف فبعض السلف حاول تفسير الحديث الشريف السابق الذكر من زاوية أن الثلج يشتهر كما هو معروف بالنقاء والصفاء والبياض. ومن الأمور التي تتفق عليها العقول والأذهان أنه عند تنظيف القماش من الأوساخ والأقذار يجب استخدام الماء النقي والنظيف وبحكم أن الثلج والبرد ينزل من السماء ولم ُيخالط بعد تراب الأرض أو لم يلمسه بعد لا إنسان ولا حيوان ولذا ناسب استخدام ماء الثلج الصافي في عملية الإنقاء من درن الخطايا. في كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري نجد عالم السلف ابن حجر العسقلاني يسرد ويقبل تفسير المحدث والعالم المتبحر في علم غريب الحديث أبو سليمان الخطابي عندما قال: ذكر الثلج والبرد تأكيدا أو لأنهما ماءان لا تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال.

والمقصود أن الشتاء والثلج والصقيع في الغالب كان يتم النظر لها في مقام العبادة من صيام أو قيام أو إحسان وعطف على الفقراء والمعدمين ومع ذلك زمن الثلج يمكن النظر له في مقام الوعظ ومن منظور التذكرة والتبصرة والتزكية ومداواة النفوس. قديما قيل كفى بالموت واعظا وهو قولٌ حق، ولكن الثلج بنقائه وبياض لونه يتشابه مع كفن الميت وقماش إحرام الحاج ولهذا عندما يكون الثلج واعظاً فلن نستغرب كثيرا قول الشاعر الفلسطيني المعاصر بكر زواهرة (الثلج واعظ مكفن بملابس الحجاج).


( الشتاء وفيض الإبداع )


د/ أحمد بن حامد الغامدي

للبعض منا يعتبر فصل الشتاء موسم للخمول والكسل وضعف الإنتاجية، ولكن في المقابل نجد أن شرائح واسعة من العلماء والمخترعين لا يعانون من ظاهرة (البيات الشتوي) ولهذا على خلاف المتوقع قد يكون موسم الشتاء من أكثر فصول سنة إنتاجية علمية بسبب التفرغ شبه الكامل (لأجواء) البحث العلمي. الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية التي تم التوصل لها في زمن الشتاء كثيرة ومتنوعة وما سوف يتم استقراؤه أو استدعائه في هذا المقال هو عينة مختارة تبين بحق أن جذوة الابتهاج النفسي بتحقيق اكتشاف علمي قد تؤجج زخم النشاط البحثي لبذل المزيد من الجهد حتى في أجواء الشتاء الكئيبة والمكبلة كما نشعر به هذه الأيام مع موجة الصقيع الأخيرة على منطقتنا العربية.

ولعلنا نبدأ بذكر مدير جامعة فورتسبورغ الألمانية والذي بالرغم من مشاغله الإدارية الجمة إلا أنه استمر يعمل بحماس واجتهاد في مختبره العلمي. ولهذا في بداية شتاء عام 1895م وبالتحديد في يوم الثامن من شهر نوفمبر توصل عالم الفيزياء الألماني المعروف فليهام روتنجن إلى اكتشاف أشعة إكس والذي يعتبر أحد أبرز الاكتشافات الفيزيائية في العصر الحديث. وحتى يتأكد روتنجن من صحة اكتشافه العلمي وكذلك لمحاولة تفسير تلك الأشعة الغريبة والجديدة تماما على علماء الفيزياء انعزل روتنجن لمدة ثلاثة أسابيع في مختبره بعيدا عن طلبته ومهامه الإدارة وهذا ما أثمر فيض وزخم كبير في تقدم المعرفة العلمية في هذا المجال.

في العادة الاكتشافات العلمية تحتاج لفترة زمنية أولاً للتوصل لها وثانياً للتأكد منها وثالثاً لتقديمها للمجتمع العلمي ورابعاً لمحاولة توظيفها والاستفادة منها. ومع ذلك وخلال أسابيع قليلة جدا خلال شتاء تلك السنة بذل روتنجن جهوداً متواصلة لتعريف المجتمع العلمي بهذا الاكتشاف وخلال أيام قليلة تم الاستفادة منه في التطبيقات الطبية واختراع أجهزة محسنة لإنتاج هذه الأشعة الجديدة. والأغرب من ذلك أنه في نفس تلك الفترة تقريبا حاول بعض العلماء تكرار تجارب روتنجن وهنا قادتهم أبحاثهم تلك إلى اكتشافات علمية مذهلة إضافية كما حصل مع عالم الفيزياء الفرنسي هنري بيكريل الذي ساقته أبحاثه عن أشعة إكس إلى أن يكتشف بمحض الصدفة ظاهرة النشاط الإشعاعي لبعض العناصر الكيمائية. ولاحقا وبعد مده من الزمن وفي ظروف تجريبية ليست مختلفة كثيرا توصل عالم الفيزياء البريطاني جوزيف طمسون إلى اكتشاف الإلكترون والذي يعتبر أحد أهم الاكتشافات العلمية في جميع العصور. والمقصود أنه بزخم النشاط العلمي خلال أشهر الشتاء الكئيبة توصل روتنجن لفتح بوابات الاكتشافات العلمية المتتابعة لأبرز ركائز العلوم الحديثة ولهذا ليس من المستغرب أن يتم تكريمه بمنحه أول جائزة نوبل في الفيزياء وذلك في عام 1901 ميلادي.

إذا كانت ليلي الصيف تمنح السمر فإن ليالي الشتاء تورث الحكمة حيث إن هدوء وسكون الليالي الشاتية يوفر الفرصة الكافية للتفكير والتدبر ولهذا لا عجب أن بعض أهم الاكتشافات العلمية تمت في سكون الليل وليس في ضجيج المعامل والمختبرات. في أول يوم من عام 1697م وكهدية رأس السنة قام عالم الرياضيات السويسري يوهان برنولي بطرح مسألة معقد جدا في علم الرياضيات تسمى مشكلة (منحنى الزمن الأقصر) وبحكم أن أبرز وأهم علماء الرياضيات في ذلك الزمن هم علماء الرياضيات الناطقين باللغة الألمانية في سويسرا وألمانيا والنمسا فقد تحداهم برنولي أن يحلوا هذه المسألة الرياضية في ستة أشهر. وتقريبا في مثل أيامنا هذه من آخر شهر يناير من عام 1697م أي بعد ثلاثة أسابيع من طرح تلك المسألة الرياضية قام أحدهم بإيصالها إلى عملاق العلوم إسحاق نيوتن. وخلال ليله واحدة من ليالي الشتاء استطاع نيوتن ليس فقط بالتوصل إلى حل تلك المسألة العويصة، ولكن لتطوير فرع جديد من علوم الرياضيات يدعى حساب المتغيرات. وبعدئذ قام نيوتن بإرسال الحل الرياضي لهذا التحدي العلمي إلى الجمعية الملكية في لندن ليتم نشره على المجتمع العلمي وقد حرص نيوتن على أن يتم النشر بدون أن يذكر اسمه بمعنى أن يكون صاحب الحل مجهولا. لاحقا عندما وصل الحل إلى برونلي خمن بشكل سليم أن من توصل لذلك الحل هو نيوتن ويقال إن برونلي علق على ذلك بقوله (إني أعرف الأسد من مخلبه).

 زخم الاكتشافات العلمية في الشتاء

ومن (ومضة) الإبداع لدى نيوتن في إحدى ليالي الشتاء لحل مسألة رياضية واحدة إلى (فيض) وغزارة الإبداع والابتكار لدى نيوتن في اكتشاف إحدى أهم وأحدث فروع علم الرياضيات الحديثة ألا وهو علم التفاضل والتكامل وقبل ذلك اكتشف نظرية ذات الحدين. حسب وصف نيوتن نفسه أنه في نوفمبر من عام 1665م توصل لذلك المفهوم الرياضي الإبداعي وكان ذلك في القصة المشهورة عندما حدث وباء الطاعون الكبير في تلك السنة وتم إغلاق جامعة كامبريدج ولهذا عاد الشاب نيوتن إلى مدينة الريفية الهادئة وولسثورب وهنالك توالت سلسلة الاكتشافات العلمية المذهلة والمتوالية بسرعة لهذا الشاب الصغير فيما عرف باسم (سنة العجائب). علاقة إسحاق نيوتن بالشتاء وثيقة فهو أصلا مولود في يوم عيد الميلاد الكريسماس (25 ديسمبر) وبالإضافة لاكتشافه الرياضي السابق الذكر يذكر نيوتن أنه في شهر يناير من مطلع سنة 1666  توصل إلى وضع أسس نظريته المشهور حول طبيعة الضوء وعلم البصريات. طبعا الأهم من ذلك أنه خلال تلك (السنة العجائبية) لنيوتن وبعد تفكيره العميقة مجال علم الحركة والميكانيكا توصل إلى قانونه الشهير المتعلق بالجاذبية. وهذا يقودنا لقصة سقوط التفاحة الملهمة وهي غالبا قصة غير حقيقية (ناقشت ذلك في ذلك مقال: أحداث علمية مشهورة من نسج الخيال) ومع ذلك فثمر التفاح في بريطانيا يستمر موسومة حتى نهاية الخريف وبهذا قد يتقاطع سقوط التفاح مع الأجواء الباردة (المؤججة) للاكتشافات العلمية الخالدة.

بعد حوالي قرنين ونصف من الزمن سوف يمر شاب آخر بقصة مشابه في فيض الإبداع المكثف ومن سنة العجائب لنيوتن year of wonders ننتقل ما سمي باللغة اللاتينية Einstein's annus mirabilis سنة المعجزات لأينشتاين. كان ذلك في عام 1905م عندما أنجز الشاب المغمور ألبيرت أينشتاين وهو بعد في سنة 26 نشر أربعة أبحاث علمية تعتبر معالم فارقة رئيسة غيرت تماما قوانين علم الفيزياء الحديث. يجب أن اعترف أن بعض أشهر المقالات العلمية التي نشرها أينشتاين في تلك السنة كانت في فصل الصيف مثل ذلك البحث عن ظاهرة التأثير الكهروضوئي (وهو ما منحه جائزة نوبل) واكتشاف أينشتاين لمفهوم الفوتون أو ذلك البحث الأكثر شهرة عن النظرية النسبية الخاصة ومع ذلك نجد أن لأجواء الشتاء وميضها وفيضها المحفز لذهن ذلك العبقري. في يوم 21 من شهر نوفمبر لعام 1905م نشر أينشتاين ورقته العلمية التاريخية والتي احتوت لأول مرة على أهم وأشهر معادلة علمية في التاريخ البشري: E = mc2 أو بالعربي الفصيح: الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء.

وقبل أن نغادر ربما من الملائم الإشارة إلى أن فيض الإبداع وطفرة العبقرية هو أمر متكرر في حياة العديد من أبرز المبدعين في جمع مجالات المواهب البشرية وكثيرا ما نجد بعضهم ينتج أعمال إبداعية بشكل متزامن. خذ مثلا على ذلك في مجال الكتابة والأدب أن الروائي الروسي المعروف دوستويفسكي يؤلف روايته الذائعة الصيت (الجريمة والعقاب) بالتزامن مع كتابة روايته الممثلة لشخصيته الحقيقة رواية (المقامر). في شتاء شهر نوفمبر من عام 1865م خطرت في ذهن دوستويفسكي ملامح أحداث الجريمة التي سوف يقوم بها الشاب راسكولينكوف ودوافعه النفسية ثم ما أن حلّ شهر يناير التالي إلا وقد ظهر الجزء الأول من تلك الرواية الأدبية الخالدة. ومن الشتاء الروسي اللاذع إلى الشتاء النمساوي اللاسع ومن فن الرواية إلى عالم الموسيقى وإذا نحن أمام قائد ذلك الفن الأبرز الموسيقار الألماني الأصل والنمساوي الإقامة بيتهوفن. خلال الأيام والليالي الباردة من عام 1808م عكف بيتهوفن وبشكل متزامن على تلحين اثنتين من أعماله الموسيقية البارزة وهي السمفونية الخامسة (أشهر سمفونية له على الإطلاق والمعروفة باسم: ضربات القدر) والسمفونية السادسة وقد تم تقديم هذه السمفونيات في نفس التوقيت وذلك في ليلة 22 ديسمبر أي قبل حلول الكريسماس بقليل. على خلاف الموسيقار النمساوي الأشهر موزارت الذي أنتج 41 سمفونية نجد أن بيتهوفن لم يؤلف إلا تسع سمفونيات فقط وبحكم أن اثنتين منها تم تلحينها بشكل متزامن فلا شك أن (فيض الإبداع) وزخم العبقرية كان في أقصى مداه في ذلك الشتاء.

وهذا الرسام الإسباني بيكاسو وبحكم أنه عمّر طويلا وبسبب السرعة النسبية في رسم بعض اللوحات السريالية التي خربشها لذا يوجد تفاوت في تقدير عدد اللوحات والرسومات الفنية التي أنجزها قبل وفاته في سن التسعين. البعض يقول إن عدد رسوماته لا يقل عن خمسين ألف عمل فني تشكيلي ولهذا ليس من المستغرب على الإطلاق أنه كان يستطيع إنجاز أكثر من لوحة فنية في نفس اليوم. التميز الفني البارز لبيكاسو وبداية شهرته المدوية حصل عندما غادر ما يسمى الحقبة الزرقاء ثم الحقبة الحمراء في مسيرته الفنية لكي يبدع الموجه التشكيلية الجديدة المسماة بالتكعيبية وليس من المستغرب بعد كل ما سبق ذكره أن نذكر أن هذه النقلة الفنية في مسيرة بيكاسو حصلت في شتاء عام 1911م في مدينة باريس.