الأحد، 27 نوفمبر 2016

( حرائق فلسطين .. شعلة في طريق الحرية )

بعد الجهاد بالحجارة والسكاكين جاء دور المقاومة بأعواد الثقاب
 
 
د. أحمد بن حامد الغامدي
في العقل الجمعي للبشرية لطالما حملت النار معاني وأبعاد مزدوجة ومتضادة فهي مادة الدمار ورمز للحرب والفوضى كما أنها في المقابل أساس العمار ورمز للتطهير والتجديد. تقول الاسطورة أن العنقاء أو طائر الفينيق (طائر النار) إذا شاخ وهرم وبلغ خمسمائة سنه يبني له عشا من أغصان الشجر وبعد أن يحترق فيه يخرج من بين الرماد طائر عنقاء يافع ومتجدد القوة. وهذه اسطورة رمزية شائعة في ذاكرة أغلب الشعوب للدلة على تجدد الحضارة الانسانية بعد أن تمر بمرارة الدمار والخراب وهذا هو محور الرواية الادبية الجهنمية الفكرة والواسعة الانتشار رواية (الجحيم) للكاتب الامريكي دان براون التي تدور حول عالم مجنون يعتقد أنه لا خلاص للبشرية من الطفرة السكانية إلا بحدوث كارثة تطهيرية مهولة تفني عدد كبير من سكان الارض.
الحريق دمار أم عمار
الغريب في الأمر أن التاريخ البشري عبر العصور اختلطت فيه الاسطورة بالحقيقة فالعديد من الحرائق الحقيقية أو السياسية  المعنوية انتجت واقع سياسي أو ديني مختلف عما سبقها حيث ظهرت كيانات سياسية أو دينية جديدة على أنقاض أخرى ضعفت وتلاشت جراء حصول حريق فعلي يتطاير شظاه ولهيبه. من ذلك مثلا  أن حادث حريق روما الكبير الذي وقع في عام 64 ميلادي والذي يقال أنه من تخطيط وتدبير الامبراطور الروماني الطاغية نيرون الذي كان يهدف إلى توسعة قصره ولهذا قام بتدبير حرق واشعال الاحياء القريبة منه. ما يهمنا هنا ليس خرافة أن نيرون كان يغني بالعزف على قيثارته على اطلال مدينة روما المشتعلة ولكن ما يهمنا أن هذا الحريق الهائل لم يورث رمادا راكدا وإنما أورث تغيير سياسي وديني هائل تمثل في اضعاف  الطاغية نيرون الذي اجبر على الانتحار وبهذا أسدل الستار على تلك الاسرة الملكية التي انتجت سلسلة شنيعة من الاباطرة الطغاة (مثل كاليغولا و تايبيريوس). أما التغير الديني فقد حصل للمسيحيين الاوائل الذين تنفسوا الصعداء بعد اضطهاد نيرون الشنيع ضدهم بعد ان اتهمهم بالتسبب بحريق روما. بصورة عامة بدأ المجتمع الروماني الوثني شيئا فشيئا يتقبل ويتسامح مع وجود المسيحيين بسبب بعض التعاطف الذي كسبوه من الظلم الذي وقع بهم على يد الامبراطور نيرون المكروه من الشعب الروماني.
زلزال من اللهب اشتعل في مدينة وعاصمة كبرى خلف واقع سياسي وديني جديد على ساحة الارض المحروقة في قلب الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. لقد كانت من نتائج اشتعال حريق مدينة لندن الكبير الذي وقع عام 1666 والذي ألتهم كامل المنطقة المركزية في قلب مدينة لندن أن حاولت الحكومة البروتستنتية التغطية على هذه الكارثة الطبيعية بنسبتها إلى طائفة الكاثوليك وإلى خيانة جماعة البابا وشرورهم. وكما حصل أن كسب المسيحيون الاوائل من اضطهاد نيرون روما لهم فكذلك كسب في النهاية الكاثوليك من هذه التهمة الملفقة وخفت كثيرا فيما بعد حالة العداء والاقصاء ضدهم لدرجة أنه صدر قانون ملكي ينص على التسامح والغفران. أما الاثار السياسية (المكتسبة) من هذا الحريق فنتجت من أن الملك الانجليزي تشارلز الثاني الذي حصل في عهده هذا الحريق اضطر بعد أن انتشرت الفوضى والشغب في أغلب المدن البريطانية، للتنازل في أكثر من موقف لصالح البرلمان الانجليزي والغاء بعض المراسيم الملكية التي أصدرها ضد رغبة البرلمان فقد تعلم الملك تشارلز الثاني الدرس من رأس والده المقطوع الذي تسببت الثورة الشعبية (الثورة الدستورية) في عزل والده وإعدامه فيما بعد.
حريق آخر اشعله الانجليز سبب لهم خسائر سياسية فادحة كانت أشد مرارة عليهم وإن كانت وقعت على الاراضي الامريكية هذه المرة. صحيح أن الولايات الامريكية الثلاثة عشر أعلنت الاستقلال عن التاج البريطاني عام 1776 ولكنها خاضت بعد ذلك سلسلة طويلة من الحروب مع القوات البريطانية وصلت لدرجت أن العاصمة الامريكية الجديدة مدينة واشنطن تم اقتحمها واحتلالها من قبل الانجليز. وكوسيلة للتعبير عن السخط والحقد الانجليزي المشهور قام الجنود البريطانيين في عام 1812بحرق مدينة واشنطن العاصمة بما في ذلك حرق المقر الرئاسي البيت الابيض ومبنى البرلمان الكابيتول وعدد كبير من الباني الأخرى العامة. الامر الذي كسبه الشعب الامريكي من هذه الهمجية الانجليزية الغاشمة أن الضغط السياسي والعشبي في الجزر البريطانية نفسها وفي بقية الدول الاوروبية أثمر في النهاية تلاشي النفوذ البريطاني بالكامل ليس في الولايات الامريكية فقط بل وحتى في كندا وبهذا تحولت الولايات المتحدة ذات العاصمة المحروقة لواحدة من أقوى الدول العالمية.
لا شك بأنه سوف يطول بنا الحديث ويتشعب بنا بعيدا لو ناقشنا هنا الشواهد والامثلة للحرائق الأخرى التي اصابت مدنا عظمى وتسببت في تغيير تاريخها فروسيا القيصرية علي سبيل المثال تغير حالها كثيرا للأفضل بعد قيام نابليون بحريق مدينة موسكو في عام 1812 والذي أتلف ثلاثة ارباع تلك المدينة المنكوبة ولكن هذا الحدث بعينة مثل آخر انتصار كبير لنابليون الذي توالت عليه الهزائم بعد ذلك.  بينما تسببت الحرائق في القاعات والقصور الامبراطورية في المدينة المحرمة في العاصمة الصينية بكين عام 1644 في تضعضع مكانة إمبراطورية سلالة مينغ الصينية وتلاشيها أمام ثورة الفلاحين. أما في عصرنا الحديث فالجميع يعلم أن أكبر وأشنع شعلة لهب شهدتها البشرية هي القنابل الذرية التي أحرقت البشر والحجر في مدن هيروشيما  وناجازاكي اليابانية لكنها في نفس الوقت جعلت الأمة اليابانية مثال حي لأسطورة العنقاء التي تولد من تحت الرماد فالتفوق الاقتصادي للشعب الياباني كان في أحد جوانه محاولة لأثبات الذات امام تلك الكارثة النارية المهينة.
 للأسف الشديد وضعنا العربي عصي على الاصلاح بل أنه أحيانا ما يعاكس حركة التاريخ فحرائق روما ولندن وواشنطن كانت لسكان وشعوب هذه المدن والدول منحة في إيهاب محنة حيث تغير واقعهم الديني والسياسي بعد تلك الحرائق فهل اللهيب العربي كان كذلك محنة تحمل في طياتها منحة. المحزن في الأمر أن الواقع السياسي بل وحتى الديني تغير في مجتمعنا العربي بشكل حاد بعد حريق القاهرة الكبير الذي حدث عام 1952 في أواخر أيام الملك فاروق في الحكم. العديد من المصادر التاريخية أصبحت تؤكد أن من تسبب في بداية حريق القاهرة الكبير هو تنظيم الضباط الاحرار في الجيش المصري بهدف زعزعت مكانة الملكية أمام الشعب المصري ولهذا بعد أشهر قليلة من حصول الحريق في شهر يناير حصلت ثورة الضباط الاحرار في شهر يوليو . إن كل منصف يعرف  واقع وأبعاد الحياة السياسية قبل الانقلاب العسكري وبعده يعرف أن أرض الكنانة ليس فقط خسرت الرفاهية والثراء الاقتصادي الذي كانت تعيش فيه ولكن ايضا خسرت الحرية السياسية وفعالية الاحزاب السياسية كما خسرت الصفاء الديني في ظل حكم العسكر الذي جفف المنابع الدينية وحارب الجماعات الاسلامية النشطة في المجتمع المصري. قد أكون متحامل ضد الافكار القومية العربية الجوفاء ولكن حتى مشاهير الادباء المصريين انفسهم سطروا كيف تدهورت وتردت الاوضاع في مصر قبل الثورة وبعدها كما تجد ذلك في ثنايا رواية ميرمار لنجيب محفوظ أو رواية حتى لا يطير الدخان لإحسان عبدالقدوس.
الشعلة الفلسطينية .. المقاومة فن الممكن
ونصل الآن لبيت القصيد والموقد الذي لا ينطفئ لممانعة الطغيان ألا وهو المقاومة والجهاد الفلسطيني والعربي في أراضي فلسطين السليبة. كما هو معلوم قام الضعفاء والخونة من السياسيين من بني جلدتنا بمحاولة تطبيع الشعوب مع العدو المحتل من خلال بث أكذوبة أنه يستحيل مقامة الاحتلال الصهيوني الغاشم وأنه ليس فقط (السياسة فن الممكن) بل أنه لا مفر من تبني عقيدة أن (السلام مع الصهاينة خيار استراتيجي). قديما وحديثا نجد أن الشعوب الحية الابية لا تعدم الوسيلة في مقاومة العدوان والاحتلال وبقواعد الاشتباك الجديدة هذه مع العدو الغاشم أصبح الخيار الاستراتيجي أنه بدلا من شعار (السياسة فن الممكن) فيجب أن يصبح شعارنا (المقاومة فن الممكن). لقد اثبتت المقاومة الفلسطينية الباسلة أنه لا يشترط لممانعة ومجابهة العدوان أن تمتلك المدفع والطائرة بل بإمكانك أن تزلزل كيانه وتبث الرعب في قلوب شعبه بسكاكين المطبخ وأعواد الثقاب. الكيان الصهيوني الغاشم قد اكتوى أكثر من مرة باندلاع الحرائق الكبرى على الاراضي المحتلة كما حصل في عام 2010 في حريق غابات جبل الكرمل جنوب مدينة حيفا والذي تسبب في مصرع حوالي 44 قتيل. ما استجد الان بعد الربيع العربي أن الشعب الفلسطيني المقاوم بعد أن كان يقف موقف المتفرج على الحريق الاسرائيلي عام 2010 أصبح الآن هو من يساعد في إشعال النار وتأجيجها ونقلها من مكان إلى مكان كنوع ووسيلة جديدة من وسائل (حرب الاستنزاف) ضد المحتل الغاشم وهذا ما يفسر بدرجة معقولة سبب انتشار الحرائق بشكل كثير في مناطق متنوعة من جغرافية الكيان الصهيوني .  في زمن المقاومة يصبح  تقريبا كل شيء مباح فكما قال معاوية بني ابي سفيان (إن لله جنودا من عسل) عندما بلغه مقتل أحد أعدائه فكذلك من حق الفلسطينيين مقاومة المحتل بسكاكين المطبخ كما حصل في الصيف الماضي في (غزوة السكاكين) أو بأعواد الثقاب وقداحات السجائر هذا الشتاء في (غزوة الكباريت) وقبل ذلك بسنوات كان سلاح المقاومة صخور الارض (غزوة اطفال الحجارة). من المحتمل أن هذه الحرائق ولهيب المقاومة قد تنطفئ  قريبا  ويخفت وهج نار النضال وقد لا يتأثر العدو الصهيوني كثيرا من حفلة الالعاب النارية هذه (كما كان محمود عباس يسخر من صواريخ القسام) لكن المهم أن تستمر جذوة (الحماس) لمناكفة ومشاغلة وإرهاق العدو (بفن الممكن) من اساليب المقاومة وحرب الاستنزاف.
 وختاما لعلنا نبشر دولة الصهاينة وجيشها بما ورد في الكتاب المقدس والاسفار اليهودية الدينية والتي تصف الجيوش التي سوف تنتصر في يوم غضب الرب على رجسة الخراب أورشليم وأن الابطال الذين يناكفونها ويقاومونها لا يمكون الاسلحة المتطورة وإنما بقدراتهم البسيطة والمحدودة يحققون النصر فهم كما ينصح ويحمس بعضهم بعضا (اطرقوا محاريثكم سيوفا ومناجلكم رماحا). وهذا ما نقصده (بفن الممكن) فقد لا تملك السلاح لكن يا أخي المحارب حول فولاذ محارثك إلى سيف بتار وحديد منجلك إلى رمح ثاقب. وعلى ذكر الحرائق الفلسطينية المشتعلة على أرض المحشر أليس غريبا أن تصف النبوءة الاسرائيلية في الكتاب المقدس في سفر النبي يوئيل بن فتوئيل حال اسرائيل في آخر الزمان (إليك يا رب أصرخ لأن النار التهمت مروج البرية واللهيب أحرق جميع أشجار الحقول). ثم بعد ذلك يأتي وصف جيش المجاهدين الذين سوف ينتصرون على أهل أورشليم الفسقة (قدامه النار تأكل .. وخلفه اللهيب يحرق .. ولا ينجو منه شيء .. ومثل الفرسان يسرعون كصوت المركبات على رؤوس الجبال يقفزون .. كصوت لهيب النار الآكلة القش).   
 



الأربعاء، 16 نوفمبر 2016

( الشعب الأمريكي واختيار البلطجة )

لم يكن يوجد في الانتخابات الأمريكية مرشح (طيب) ولذا فاز المرشح (السيء والقبيح)
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في عام 1999 نشر المفكر الفرنسي المشهور روجيه جارودي كتابه المثير (أمريكا طليعة الانحطاط) حشد فيها تلال من الحقائق والأمثلة لعجرفة (وبلطجة) الحكومات الأمريكية المتتالية في الخروج عن القانون الدولي بشن الحروب المباشرة أو تدخلها السافر بدعم الانقلابات في العديد من الدول (فيتنام، الصومال، بنما، نيكاراغو، تشيلي .. الخ). كما هو معلوم تم انتخاب الرئيس الأمريكي سيء الصيت جورج بوش الابن بعد نشر هذا الكتاب بعام واحد ولهذا لم يفجع جارودي قارئيه بتسطير مخازي الأمريكان وجرائمهم في العراق وأفغانستان.  اللافت للنظر أن غالب تلك الجرائم والمجازر التي ارتكبتها (الحكومات الأمريكية) كانت في الغالب تحدث ضد رغبة شرائح واسعة من (الشعب الأمريكي) المسالم بطبعة والذي كثيرا ما يوصف ممن خالطه بأنه شعب ودود friendly . وللتدليل على ممانعة طوائف من الشعب الأمريكي للحروب والعدوان لك أن تراجع المواقف المعارضة للحرب الأمريكية في فيتنام من قبل حركة السلم الأمريكية وجماعات الحقوق المدنية وتيارات طلبة الجامعات بل وحتى متسكعي وخنافس الهيبيز. وفي وقتنا المعاصر جميعنا ما زال يتذكر بشي من التقدير في عام 2003 نزول الملايين من الشعب الأمريكي (وغيره من شعوب العالم وخصوصا في بريطانيا التي شهدت مدينة لندن لوحدها مظاهرة شارك فيها أكثر من عشرة  ملايين شخص) للاحتجاج في الشوارع بمسيرات مليونية للاعتراض على اجتياح الجيش الأمريكي للعراق.
للأسف الشديد الشعوب كما الافراد نجدها وقت الازمات متقلبة المزاج moody وهذا مصدر الخطورة والقلق فيما يتعلق باختيار غالبية الشعب الامريكي يوم أمس لمرشح الرئاسة دونالد ترامب بأن يصبح رئيس الولايات المتحدة القادم بالرغم من أنه صعق العالم من أقصاه إلى اقصاه أثناء الحملات الانتخابية بخطابه الإقصائي والمتشنج والاهوج. كما لاحظنا سابقاً شخصية راعي البقر الهوجاء للرئيس الامريكي تاريخيا كان يتم شكم تهورها وتحجيمها بالجانب الانساني الودود ليعض شرائح المجتمع الامريكي ولكن مع (حالة المزاجية) الاخيرة التي تفشت في المجتمع الامريكي فقدت السياسة الخارجية الامريكية أحد أهم أدواتها الذاتية لكبح جماح الآلة السياسية والعسكرية الجامعة للعم سام فبدرجة ما ربما لن يعد الشعب الامريكي كما كان صمام الامان ورمانة الميزان.
عندما بلغ الصحابي الحكيم عمرو بن العاص الخبر عن الرسول الكريم أنه قال عندما تقوم الساعة يكون الروم أكثر الناس بمعنى أن الغلبة والسيطرة لهم وقد علل الصحابي عمرو بن العاص ذلك بسبب أن في أمة الروم أربع خصال ومميزات ثم ذكر خصلة خامسة وصفها بأنها حسنة وجميلة وهي أنهم (وأمنعهم من ظلم الملوك). على خلاف الحضارات الشرقية الابوية الطابع التي تخنع للمستبد الطاغية كانت الشعوب الغربية غالبا أكثر عقلانية وأنفة ولهذا حرص رجال السياسية في روما القديمة على تقليص وتشذيب صلاحيات الملك الحاكم عندما تم تطبيق نظام (حكومة القناصل) بمعنى أن يحكم الدولة الرومانية أكثر من حاكم (قنصل) في نفس اللحظة وبنفس الصلاحيات. وهذا ما أنعكس لاحقا في التراث الشعبي والاساطير الاوروبية القوطية التي تحكي عن دولة الملك آرثر الاسطورية والطاولة المستديرة للحكم التي يتساوى فيها مع قواده ومساعديه. وفي التاريخ السياسي البريطاني منذ حوالي ثمانية قرون انتزع الشعب البريطاني حقوق واسعة من صلاحيات ونفوذ الملك الانجليزي فيما يسمى بوثيقة العظمى (الماجنا كارتا) وبعد ذلك بقرون أصبح البرلمان الانجليزي بعد ثورة كرومويل (الملقبة بالثورة الدستورية) يعامل الملكية البريطانية معاملة الند للند.
في سياق شغف الشعوب الاوروبية الحرة لتحجيم سلطة وسطوة الحكام نفهم لماذا أخفق كلا من رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل ورئيس الجمهورية الفرنسية شارل ديغول في الفوز بالانتخابات البريطانية أو الفرنسية التي تلت الحرب العالمية الثانية بالرغم من شهرتهم الواسعة وكون شعوبهم تعدهم أشبه بالأبطال المقدسين والسبب أن تلك الشعوب (الواعية) خمنت عن فطنة أن رجل السياسية المنتشي والمفتخر بالنصر الحربي إذا أمتلك زمام الحكم فهذه الخلطة السحرية والتوليفة المشؤومة المغرية بالاستبداد وهو بالضبط ما حصل مع نابليون بالرغم من كونه فقط أحد القناصل الثلاثة الذين كانوا يحكموا الامة الفرنسية.
ما أود أن اقوله بعد هذا التطواف التاريخي أن الشعب الأمريكي مع سبق الاصرار والترصد وافق أن ينتخب وبحماسة ملموسة رئيس جديد أطلق العديد من التصريحات والتعهدات الكارثية ذات الأبعاد العنصرية ضد السود والنساء أو ضد الشعوب الاخرى الاسلامية واللاتينية التي تبصر العقلاء من الناخبين بعدم جدارته بالقيادة والرئاسة. من الواضح أن تغيرا بنيويا وفكريا حصل للشعب الامريكي قادة مرة أخرى لسياسة العزلة والانكفاء والانزلاق لمستنقع الانانية والنفور من الاجانب. لا يمكن ان نغفل في هذا السياق أن هذا الداء الاقصائي الانعزالي هو عين ما حصل للشعب البريطاني قبل عدة أشهر عندما فاجأ العالم برغبته هو الآخر بالانعزال والاستقلال عن الاتحاد الاوروبي والتضييق على المهاجرين والاجانب. نفس ردة الفعل هذه نجدها آخذه بالتصاعد في المجتمع الالماني الذي اصبح يجاهر بعدم الترحيب بالمهاجرين واللاجئين السياسيين . 
لا شك أنه في ظل الاحداث والزلازل السياسية والاقتصادية الأخيرة حصلت عملية استقطاب حادة للعديد من الشعوب المتناحرة فكما أصبحت فئام وطوائف من بني جلدتنا تمجد وتحن لشخصية صدام حسين الطاغية فكذلك الشعوب الأخرى ترغب في ان يكون قائدها شخصية جريئة وصدامية مع أعدائها. لا يمكن أن نتجاهل أن الامة والشعب الالماني الذي تجرع الذل والمرارة بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى أختار طواعية هتلر وحكومته النازية وهو ما حصل مع الشعب الايطالي الذي انتخب موسيليني وحكومته الفاشية. صرخة التحذير التي يمكن ان تطلق هي إن الشعب الامريكي إذا تخلى عن إرثه السياسي والديمقراطي العتيق في تحجيم وتكبيل القادة السياسيين فهو ولا شك سوف يساهم في تنصيب ( بلطجي ) جديد يثير العدوان والطغيان على الشعوب المستضعفة خصوصا الشعوب العربية وفي القلب منها أرض الحرمين التي سوف توصم بكل نقيصة بعد تفعيل قانون جيستا المريب.
ختاما في العقود الأخيرة أصبح العديد من الكتاب الغربيين عند إجراء مقارنة بين عدة أشخاص أو اشياء مختلفة عن بعضها من ناحية الجودة والسوء يستخدمون توصيف ثلاثية (الطيب والشرير والقبيح) وهذه التقسيمة الثلاثية مقتبسة من عنوان أحد أشهر افلام الكاوبوي الامريكية (the good, the bad and the ugly). طبعا سباق انتخابات الرئاسة الامريكية كان من الاساس خاليا من المرشح الطيب ولذا لا غرابة أن ينتهي السباق وللأسف بانتخاب الشرير والقبيح.


الأربعاء، 9 نوفمبر 2016

( رحلة السيد ماكينزي الاستكشافية الفاشلة )

رحلة استكشافية فاشلة قديمة  .. هل هي جذر الشؤم المرتبط بفشل شركة ماكينزي  الاستشارية


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 لله در من قال أن ( الانتهاء من قراءة كتاب جيد كلحظة توديع صديق حميم ) حيث أنني هذه الأيام أشعر بالحسرة لاقترابي من نهاية قراءة كتاب جيد وغاية في التشويق عنوانه (أعظم سبعين رحلة في التاريخ The Seventy Great Journeys in History ) اشترك في تأليفه أكثر من خمسين خبير ومؤرخ مرموق. ولأن الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون يقرر أن ( المعرفة قوة ) تبين لي بشكل جلي من هذا الكتاب كيف أن الدول والإمبراطوريات استطاعت امتلاك زمام القوة الاقتصادية والسياسية من جراء الاكتشافات الجغرافية لعدد من رواد الرحلات والمستكشفين التابعين لها.

ما لفت نظري في المقابل أنه ليس شرطا أن تكون جميع الرحلات الاستكشافية المفصلية ناجحة لتضمن لها مكان في كتب التاريخ والجغرافيا فحتى الرحالة الذي يخبط خبط عشواء ولا يمتلك أدوات ومهارات ( الرؤية ) الاستكشافية يمكن أن تفتح له صفحات التاريخ كما تفتح له مجالس وبلاط قادة الدول بالرغم من كونه مستكشف هاوي ومتخبط. ومن أغرب الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا السياق تلك الرحلة التي قام بها المستكشف الاسكتلندي الشاب ألكسندر ماكينزي الذي كان يعمل في نهاية القرن الثامن عشر في شركة بريطانية تتاجر في فراء الحيوانات الكندية. وكرغبة ومحاولة من السيد ماكينزي لتطوير أعمال وتجارة الشركة التي يعمل بها والتي مقرها مدينة مونتريال الكندية أقترح أن ينطلق في مغامرة استكشافية في الأراضي الشمالية لكندا بهدف إيجاد طريق تجاري يربط بين المحيط الاطلسي والمحيط الهادي في غرب كندا وبذلك يفتح ممر لأسواق جديدة للشركة في الشرق وأسيا.

وبحكم أن الخبرة الجغرافية والاستكشافية للسيد ماكينزي كانت محدودة كانت رؤيته التخطيطية تخبط خبط عشواء فأولا لم يكن يعلم أن المسافة بين الساحلين الشرقي والغربي تبلغ عدة الاف من الاميال كما أنه اتخذ وسيلة سفر غير مريحة على الاطلاق تمثلت في قارب طويل وضيق  canoe يجدف فيه تسعة رجال أحدهم خلف الآخر. وثالثة الاثافي كما يقال أنه قطع تلك الرحلة النهرية الشاهقة الطول وهو يجدف ورجاله عكس تيار النهر الذي غالبا ما كان يندفع بقوة كما إن السيد ماكينزي لفرط غروره بنفسه لم يحرص على أن يتخذ له دليل يرشده على الطريق من السكان الاصليين وهم القبائل الهندية التي كانت تقيم في شمال كندا. ولهذا لا عجب أن تنتهي رحلة السيد ماكينزي بالاتجاه شمالا بدلا من الاتجاه غربا مما أسفر في الوقع في خطأ استراتيجي فاحش في الرؤية الاستكشافية حيث انتهى به المطاف أن يصل إلى المحيط المتجمد الشمالي بدلا من أن يكتشف طريق إلى المحيط الهادي.

الغريب في الامر أنه بالرغم من أن الهدف الاساسي لرحلة السيد ماكينزي الاستكشافية وهو الهدف الاقتصادي والتجاري لم يتحقق وأخفق بشكل صارخ إلى أن شهرة ماكينزي ومكانته الاجتماعية كانت عالية ربما لأنه أول شخص يقوم برحلة استكشافيه في شمال أمريكا وكندا. صحيح أن الطريق التجاري  لبيع الفراء الذي اكتشفه ماكينزي كان مفلس تماما لكن هذا لم يحول دون ترسيخ مكانته السيد ماكينزي لدى الامبراطورية البريطانية لدرجة أنه تم منح لقب سير في عام 1802 على يد الملك الانجليزي جورج الثالث.

 في واقع الأمر لم تتأثر كثيرا شركة الشمال الغربي الكندية التي تتاجر بالفراء والتي يعمل بها السيد ماكينزي من فشلة الجغرافي الفاضح ذلك ولكن حذاري فليس كل (مغامرة استثمارية) ذات رؤية استكشافية متخبطة تنتهي بسلام وهذا درس دفعت ثمنه شركة تجارية كبرى بكلفة باهضه جدا. قبل قرن ونصف من قصة (السير ماكينزي) الغريبة تلك وفي نهاية القرن السادس عشر حاولت الشركة الصينية البريطانية The Cathay Company أن تقلد النجاح التجاري الكبير لشركة الهند الشرقية (البريطانية) في توسيع تجارتها مع الشرق وكما حاول السير ماكينزي أن يجد طريق تجاري لإيصال تجارة الفراء إلى الصين مولت الشركة الصينية البريطانية المستكشف والملاح الانجليزي مارتن فروبيشر لكي يحاول أن يكتشف لها ممر ملاحي يمكن أن يربط اوروبا بأسيا عبر ما يسمى الممر البحري الشمالي الغربي northwest passage الذي يقع إلى الشمال من كندا. المشكلة أن المستكشف الجغرافي فروبيشر كان مبالغ جدا في متطلباته المادية لإجراء هذه الرحلة الاستكشافية حيث اصطحب معه في عام 1578 اسطول بحري مكون من خمسة عشر سفينة لها طواقم من عدة مئات من البحارة ولكن بسبب الضباب والجبال الجليدية لم يستطع هذا المستكشف إلى يحقق الهدف الاساسي للرحلة مما تسبب في النهاية إلى وقوع الشركة الصينية البريطانية في خسائر مالية ضخمة نتج عنها إفلاس تلك الشركة بالرغم من دعم الملكة إليزابيث الاولى لهذه الرحلة وثقتها الكبيرة في قدرات ورؤية السيد فروبيشر الاستكشافية.

بقي أن نختم بأن هذا الكتاب الشيق (أعظم سبعين رحلة في التاريخ)  نظرا لأنه مؤلف من قبل طائفة من العلماء والمؤرخين الغربيين فإنه (كما هو متوقع) ركز وبشكل طاغي على استعراض تاريخ الرحالة والمستكشفين الاوروبيين إلا أن الكتاب أشاد بشكل مشرف برحلات المستكشف العربي ابن بطوطة. كنت أعلم مسبقا أن الغربيين يعرفون وبشكل جيد الرحالة الكبير ابن بطوطة وقد قرأت عنه أكثر من مره في بعض الكتب الانجليزية ولكن ما فاجأني في هذا الكتاب أنه ليس فقط لم يذكر في مقدمة الكتاب إلا عدد محدود من أشهر الرحالة والمستكشفين مثل كولومبوس وماركو بولو لكن عندما ذكر ابن بطوطة في هذه المقدمة تم توصيفه بأنه (ربما كان ابن بطوطة اكثر الرحالة هوسا بالسفر وحتى اليوم عدد قليل من الرحالة بإمكانهم أن يجاروا المسافات التي قطعها).

من هذا وذاك ربما نؤكد بديهية أنه ليس فقط الرحالة العرب قد لا يقلون جودة وشهرة عن الرحالة الغربيين ولكن ايضا الأمة العربية والاسلامية فيها طاقات ذهنية محلية حكيمة ذات رؤية سليمة مشبعة بحرص حقيقي وصادق لنهضة وطنها وأمتها. المظاهر قد تخدع أحيانا ولهذا حذر الشاعر العربي الحكيم كُثير عزة الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان من الاعتماد الكلي على المظهر العام لتقييم الشخص ما بأنه هل هو حكيم وذو رؤية نافذة أم لا :

ترى الرجل النحيف فتزدريهِ      وفي أثوابهِ أسدٌ هصورُ

ويعجبك الطريرُ إذ تراهُ       فيُخلف ظنّك الرجلُ الطريرُ



الثلاثاء، 1 نوفمبر 2016

( نبي المرحمة .. في الادب الغربي )

الشاعر الالماني غوتيه .. حامل لواء شعر قصائد المديح النبوية في نسختها الاوروبية
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في نظرة ثاقبة للحياة يقول الأديب الأمريكي البارز مارك توين: الاشياء ليست كما تبدو عادةً (والبعض يضيف: وكذلك الاشخاص) وهذا ما تبين لي حقيقته بصورة غير متوقعة عندما اكتشفت أن قراءة رواية من الأدب المكشوف قد تولد تأثير واعظ. جال بفكري هذا الأمر خلال الايام الماضية عندما شرعت في قراءة رواية (عوليس Ulysses) للروائي الايرلندي جيمس جويس الذي يعد أحد أشهر الادباء في بداية القرن العشرين بينما اختيرت روايته تلك في قائمة أهم 50 كتاب غيرت تاريخ البشرية. مثار الاستغراب أن تلك الرواية الادبية المثيرة للجدل كان مصيرها في بداية الامر أن منعت من النشر في بريطانيا وفي الولايات المتحدة نظرا للحكم المسبق عليها بأنه رواية إباحية ولكن ما لفت نظري أنها في نسختها العربية على الأقل تم تشذيبها وإعادة تأهيلها ليس فقط ليتم تقليل مشكلة أجواء الأدب المكشوف عنها ولكن لأن بعض المقاطع الأصلية منها تتحدث عن الموت والقبور والجثث بكفاءة تؤهل توظيفها في سياق الوعظ والزهد من الدنيا.
على كل حال في مثل هذه الاجواء المشبوهة لهذه الرواية كان من الغريب أن نلتقي فيها بذكر خبر للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وكأن سيرته في هذا المساق (وجه غريب في أرض غريبة) وربما يرجع السبب في ذلك أن الكاتب الايرلندي جيمس جويس كان على درجة عالية من الثقافة لدرجة أنه شحن روايته تلك بالعديد من الاحداث والاشخاص والمعلومات فعلى سبيل المثال ليس فقط ناقش فيها القانون الثاني للحركة لنيوتن ولكن ايضا اشار لإعجابه بفن العمارة الاسلامية في الاندلس وعلق على طريقة تناول الطعام المصري فضلا عن الاشارة لشخصية هارون الرشيد. أما فيما يتعلق برسولنا الكريم فقد ذكر الكاتب جيمس جويس طرف خبر يدل على مدى (الرحمة والشفقة) التي يتمتع بها (نبي المرحمة) في تعامله مع الحيوانات فضلا عن رحمته بالبشر وذلك أنه لم يرد أن يزعج هرة كانت نائمة على طرف ردائه وبدلا من أن يسحب ثوبه من تحتها بما يتسبب في إيقاظها قام بقطع ردائه من الطرف البعيد عن الهرة. في هذا المقطع من الرواية يقول السيد بلوم Bloom بطل القصة (ليس من الشفقة أن تزعج الهرة، قد مزق محمد نبي المسلمين شقاً من عباءته حرصاً على نوم الهرة وراحتها) وإن كانت هذه القصة غلبا غير صحيحة وهي قصة مجهولة تماما في الثقافة الاسلامية إلا أننا من جانب آخر نستشف أنه بالرغم من حملة التشويه والتشنيع الحاقدة للنبي الكريم في غالب التاريخ الاوروبي إلا أنه تسرب لهذه الحضارة أمثال هذه الاخبار والقصص التي تدل على سمو أخلاق نبي الاسلام وصحة دينة وشريعته. والجدير بالذكر أن قصة الهرة النائمة على بردة النبي تم ذكرها في كتاب تاريخي رصين للكاتبة البريطانية المشهورة كارين أرمسترونج خصصته لذكر سيرة الرسول الكريم وكيف أنه (يتميز بأقصى درجات الشفقة ورقة المشاعر) مما يشر لدرجة شيوع انتشار هذه القصة في الثقافة الغربية.
صورة النبي في الغرب .. تشويه متعمد أم مشكلة معرفية
للأسف الشديد لم يكن في التراث الاوروبي القديم أي شيء يساعد الغربيين (الفرنجة) على فهم الاسلام كديانة أو معرفة حقيقية نبي الاسلام الكريم وبحكم أن (أهل الثقافة) والمتعلمين الاوروبيين الاوائل كانوا بالدرجة الاساسية من الرهبان لذا غلب عليهم العداء المبرمج ضد الاسلام ونبيه الكريم كما وقعوا في خطيئة الرغبة في (عدم المعرفة) وهو ما أنعكس في جهل كبار رجال الكنيسة المسيحية بحقيقة دين الاسلام بالرغم من أن طائفة من كبار رهبان الكنيسة الشرقية (مثل يوحنا الدمشقي) كانوا ممن عاشوا في ظل الدولة الاسلامية في الخلافة الاموية. وعليه إذا كان الرعيل الأول من رجال الفكر والعلم والدين المسيحي جهلوا أو تجاهلوا حقيقة الاسلام وسمو نبيه الكريم فلذا لا عجب أن نجد مشاهير الادباء والشعراء الغربيين وحتى عصر شكسبير يجهلون مكانة النبي الكريم وصحة رسالته.
ربما تكون الملحمة الشعرية (الكوميديا الالهية) التي ألفها شاعر فلورنسا البارز دانتي في بداية القرن الرابع عشر هي أول عمل أدبي غربي يتم فيه ذكر نبينا الكريم وبالرغم من أنه توجد اشارات على أن الشاعر الايطالي دانتي كان على اطلاع بشي من الحضارة الاسلامية (غالبا فكرة الرحلة الخيالية للجحيم التي تقوم عليها الكوميديا الالهية مقتبسه من كتاب رسالة الغفران لأبو العلاء المعري) إلا أن دانتي تعمد (عدم المعرفة) ونسب للنبي الكريم أقبح الصفات ومن ثم زعم لعنه الله أنه شاهده في الخندق التاسع لدائرة الجحيم الثامنة ووصف له طريقة تعذيب شنيعة هو وابن عمه الامام على رضي الله عنه. في تاريخ الأدب الاوروبي غلبا ما تأتي رواية (دون كيشوت) الرجل الذي حارب طواحين الهواء للكاتب الاسباني ميجل سيرفانتس والتي نشرت في بدايات القرن السابع عشر كثاني أهم قصة أدبية من ناحية تطور الروايات الادبية الغربية. وبالرغم من أن المحور الرئيسي للرواية يدور حول (أخلاق الفروسية) التي تشير المصادر الغربية نفسها إلى أن (الفرنجة) اكتسبوها من العرب أثناء احتكاكهم بهم وقت الحروب الصليبية إلا أن الكاتب الاشبيلي الاسباني سيرفانتس سليل حضارة الاندلس الباهرة وصف في هذه الرواية الرسول الكريم واتباعه بأنهم (مخلوقات دنيئة الصفة).
خلال عصر النهضة الاوروبية خفت تدريجيا حدة النقد والتشوية والعداء للنبي الكريم في الاعمال الأدبية والقصائد الشعرية وبدلا من اتهامه صلى الله عليه وسلم بالعنف والشر والشهوانية أصبح الاتهام يتردد بأنه (نبي زائف أو مخادع). ومن أشهر الامثلة على الاطلاق في هذا السياق أن الأديب الانجليزي البارز وليم شكسبير على الرغم من ثقافته الواسعة لم يشر للنبي الكريم بشكل صريح إلا في سطر واحد فقط وبالتحديد في مسرحية هنري السادس حيث قال فيها (أما كان محمد تلهمه يمامة was Mahomet inspired with a dove) وكأنه يشير للقصة المنتشرة في الثقافية الاوروبية قديما للدلالة على أن الرسول الكريم كان محتال في نبوءته (حاشاه ربي) حيث كان يضحك على السذج من بدو الصحراء وذلك بأن قام بتدريب حمامة أن تلتقط الحب من أذنه وبهذا كان يخدع أصحابه أن روح القدس جبريل يبلغه الوحي بالهمس في أذنه.
عصر الانوار وبداية رؤية الأنوار المحمدية
من المعروف أن الصراع الديني والطائفي كثيرا ما يسوق لظاهرة (الفجور في الخصومة) بمعنى أن الشخص المتعصب دينيا لا يعترف على الاطلاق بأي فضيلة لخصمة ويحرص دائما على نسبة جميع الشرور والنقائص له ويكون من جراء ذلك الوقوع في (خطيئة الرغبة في عدم المعرفة) كما سبق ذكره. ولهذا عندما بزغ عصر الانوار في اوروبا في بداية القرن الثامن عشر خفت بشكل ملحوظ شدة (العداوة) للدين الاسلامي ليس فقط بسبب ضعف هيمنة الديانة المسيحية المتعصبة ولكن لأن الاوروبيين بدأوا في التعرف على العالم الاسلامي من خلال ترجمة القرآن الكريم والعديد من الكتب العربية والاسلامية (ظاهرة الاستشراق) وكذلك من خلال قيام العديد من الاوروبيين بالرحلات الاستكشافية للبلدان العربية وايضا وصول العديد من البعثات الدبلوماسية الاسلامية إلى عواصم الدول الاوروبية. وبحكم أن مرحلة (التعارف) بين المجتمعات الاسلامية والمجتمعات الاوروبية احتاجت لبعض الوقت لهذا لا غرابة أن نجد بعض الادباء والشعراء والمفكرين يقعون في حالة (الحيرة والتناقض) في نظرتهم لشخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
 ومن ذلك أن أهم الرموز الادبية والفكرية لعصر الانوار وهو الاديب الفرنسي المشهور فولتير في بداية أمره كان قد كتب مسرحية سماها (التعصب أو النبي محمد) والتي وصم فيها الرسول الكريم بالخداع والاستبداد والنفاق. ويقول بعض المفكرين ومن ضمنهم مصطفى العقاد أن فولتير لم يقصد انتقاد شخصية الرسول حرفيا لكنه اراد انتقاد سلطان الدين المسيحي بطريقة غير مباشرة أي كأنه يهاجم من خلال الاسلام الدين بشكل عام. على كل حال لقد تغيرت نظرة فولتير كثيرا للنبي الكريم بعد أن تقدم في العمر ونضج فكريا فنجده بعد حوالي ثلاثين سنة من نشر تلك المسرحية المهينة يقول عن الرسول الكريم في كتابه دراسة عن الأخلاق: (لقد كان بالتأكيد رجلا عظيما جدا .. لقد قام بأعظم دور يمكن أن يقوم به إنسان).
وفي سياق تذبذب حكم الشخص حول موضوع ما نتيجة انتفاء الجهل في مرحلة لاحقة  كما حصل مع فولتير وموقفة المتناقض في الحكم على النبي الكريم يمكن بدرجة ما أن نفهم الظاهرة المحيرة لبعض رموز شعراء الحركة الرومانسية في الادب الانجليزي في القرن التاسع عشر حيث نجد ان بعض مشاهير هؤلاء الشعراء كتبوا قصائد تصب في الذم والانتقاص من الاسلام ونبيه الكريم ولكن في نفس الوقت كان لبعضهم قصائد أخرى تأتي في سياق تقديرهم وأعجابهم بالدين الاسلامي وشخصية نبيه. من ذلك مثلا أن كلا من الشاعر الانجليزي وليم وردزورث وصامويل كولريدج كان قد كتب قصيدة حملت اسم النبي الكريم (محمد) احتوت على تهجم على شخص النبي الكريم في حين أن شعراء آخرين بارزين جدا مثل اللورد بايرون والشاعر بيرسي شيلي لهم قصائد واعمال اشتهرت بمدح الاسلام ونبيه كما لهم في نفس الوقت أشعار أخرى على النقيض من ذلك تماما.
قصائد المديح النبوية .. النسخة الالمانية
وبعيدا عن (مرحلة التيه) المؤقتة لبعض الشعراء اللسان الغربي في موقفهم من الرسول الكريم نصل إلى (مرحلة الانبهار) الادبي بشخصية الرسول الخالد للعديد من مشاهير الادباء والشعراء الغربيين وعلى رأسهم شاعر ألماني الأوحد يوهان غوتيه الذي من شدة اعجابه بالإسلام ونبيه يزعم بعضهم انه ربما كان قد أسلم بالخفاء.  لقد كان للشاعر غوتيه موقف عجيب من القرآن الكريم ومن نبي الاسلام وهو يعترف صراحة بأنه مدين لشاعريته للشرق الذي منحه الثراء الروحي لذا كان كثير ما يستشهد و (يقتبس) في كتاباته بالآيات القرآنية أما إعجابه بالرسول الكريم فقد أنعكس في تأليفه مسرحية أدبية سماها (الدراما المحمدية) هدف منها بالدرجة الأولى الرد على مسرحية فولتير في ذم الرسول الكريم. ثم بعد ذلك قام غوته بتأليف قصية شعرية في مدح الرسول الكريم سماها (أنشودة محمد Mahomets Gesang) والتي تعتبر أول تبجيل للرسول الكريم من شاعر أوروبي وفيها يظهر شدة انبهار غوته بشخصية الرسول الكريم.
وكما أعجب أشهر اديب ألماني بالرسول الكريم فكذلك هو حال أهم واشهر رموز الأدب الروسي روسيا إلا وهو الروائي المعروف تولستوي (صاحب رواية الحرب والسلام) الذي ليس فقط اعترف بشكل جلي أنه (أحد المبهورين بالنبي محمد) بل أنه قام بتأليف كتاب خاص سماه (مختارات من أقوال الرسول) قام فيها بانتقاء حوالي ستين حديثا من الاحاديث النبوية الحكيمة يمكن تسميتها على نسق (الاربعين النووية)  بالستين الروسية. ومن سياق أخبار شدة انبهار بعض مشاهير الادباء الالمان والروس بالرسول الكريم ودين الاسلام لا نستغرب كثيرا الاخبار غير المؤكدة أن أشهر أديب فرنسي وهو الروائي الاسطورة فكتور هوغو (مؤلف رواية البؤساء الخالدة) قد اعتنق الاسلام في آخر حياته وغير أسمه إلى أبو بكر هوغو. وكما سطر غوته قصائد مديح الشمائل المحمدية وأهتم تولستوي بجمع الاحاديث النبوية الشريفة أهتم فكتور هوغو بأحداث السيرة النبوية فكتب قصيدة شعرية طويلة سماها (سنوات الهجرة التسع) استعرض فيها سيرة الرسول الكريم ابتداءً من احتفال الصحابة رضوان الله عليهم بوصوله للمدينة المنورة وانتهاءً بالأيام الاخيرة لمرض الرسول الكريم ووفاته مستعرضا في ثنايا ذلك خصال الرسول الكريمة ومواقفة النبيلة.
وختاما لو استفضنا في ذكر إعجاب وانبهار بقية مشاهير الادباء الغربيين بالنبي الكريم مثل الشاعر الفرنسي لامارتين والروائي الانجليزي إتش جي ويلز والاديب الروسي بوشكين والروائي الفرنسي بلزاك لطال بنا المقام (والمقال) لكن لا يجدر أن نختم قبل أن نذكر بالأعجاب والثناء الحماسي للأديب الانجليزي المشهور جورج برنارد شو في حق الرسول الكريم وتأتي أهمية شهادة برنارد شو الحاصل على جائزة نوبل في الادب (وإن كان رفض استلامها !!) أنه بعد وفاة قبل نصف قرن أنه لم يأتي بعده أي أديب غربي يفوقه أهمية. في الوقت الذي تتنامى فيه في الغرب حملات التشوية والاستنقاص للرسول الكريم عبر الرسومات المسيئة واتهامه بالتعصب والارهاب يجدر أن نذكر بالكلمات الخالدة لبرنارد شو الذي يصف فيها الرسول بأنه (منقذ الانسانية) ومقولته الخالدة في حق الرسول الكريم (ما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد ليحل قضاياه المعقدة بينما هو يتناول فنجاناَ من القهوة).