الجمعة، 23 ديسمبر 2016

( من الله أكبر فتحت كابل .. إلى الله المستعان سقطت حلب )

بعد خراب مدينة الشهباء.. لك الله يا حلب
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
خمس وعشرون سنة في تاريخ الشعوب هي كلمح بالبصر أو هو أقرب ومع ذلك شهدت منطقتنا العربية والاسلامية تغيرات سياسية محيرة ومريعة ففي عام 1992 احتفلنا جميعا وعبر بلساننا الجمعي أحد الفضلاء عندما ألقى محاضرة رنانة بعنوان (الله أكبر فتحت كابل). وفي لحظتها كان الاتحاد السوفيتي قد تفتت وروسيا الاتحادية في وضع اقتصادي كارثي وبعد إعلان (النظام العالمي الجديد) وسياسية القطب الواحد الامريكي (لا شريك له) اسقطنا تماما من حساباتنا أي أهمية أو تأثير للملاعين الحمر شيوعي روسيا ولم ننتبه أن التاريخ ربما يعيد نفسه. صحيح أننا صعقنا بهمجية وبربرية الجيش الروسي الغاشم وهو يدك مدينة جروني الشيشانية على رؤوس سكانها المدنيين إلا أننا ظننا هذه المأساة والمصيبة هي في (أطراف العالم الاسلامي الشرقي) كما أن مصيبة سراييفو في نفس التوقيت تقريبا هي بعيدة عنا في (أطراف العالم الاسلامي الغربي) ولم نكن نعلم أن الاعداء الشيوعيين أو الصلبيين على حدا سواء يمكن أن يتغلغلوا في غفلة من الزمن إلى قلب ساحات العالم العربي في بغداد وحلب والموصل.
حلب والموصل .. قصة مدينتين
في فترات متعددة من التاريخ لطالما ارتبط واقع ومصير مدينتي حلب والموصل كما ارتبط كثيرا واقع ومصير مدينتي القاهرة ودمشق ونتيجة لهذا التوأمة المدنية كانت مآسي وأحزان أو نصر ورفعة إحدى المدينتين هي عنوان الحقيقية للمدينة الأخرى. إن الاهمية الاستراتيجية والحضارية للمدينتي حلب والموصل ليس تعود فقط لأنهما عمق التواجد العربي السني في المشرق لكن ايضا أنهما كثيرا ما كانتا (جدار الصد) وخطوط الدفاع الامامية للعالم العربي. في القرن الرابع الهجري تعرض العالم الاسلامي لاستفزازات وحملات عسكرية متوالية من قبل الامبراطورية المسيحية البيزنطية وكان جدار الصد لنا نحن العرب مملكة بني حمدان لسيف الدولة في حلب وأخية ناصر الدولة في الموصل وهي الحروب التي خلد بعضها المتنبي في قصائده التي كان يمدح فيها سيف الدولة أو شعر أبي فراس الهمداني في قصائده التي عرفت (بالروميات).  أما في القرن السادس الهجري فنجد أن الدولة الزنكية تبسط نفوذها على مدينتي حلب والموصل وهنا مرة ثانية كان لهاتين المدينتين دور بارز في تقليص نفوذ الصليبيين في العمق العربي وطردهم من العديد من المدن الاسلامية.
دروس التاريخ تخبرنا انه إذا كانت هاتين المدينتين في عز قوتها ومنعتها كنا محميين بفضل الله من شرور الشعوب الأخرى أما إذا أصابهما الضعف والترهل السياسي والتشظي كما في أواخر حكم الدولة الأيوبية فإن الموصل وحلب تصبحان في الغالب وللأسف الشديد ممر ومعبر سهل للغزاة والبرابرة كما حصل مع التتار في القرن السابع الهجري زمن هولاكو أو القرن الثامن الهجري زمن تيمورلنك.
لذا بعد سقوط حلب والموصل في الطريق نقول ( ويلٌ للعرب من شر قد أقترب) ففي الحديث الشريف أنه في حال ضعف الأمة تتكالب عليها الاعداء وتتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها وهذا ما نشاهده رأي العين في واقعنا المعاصر فلعله لأول مرة في التاريخ يجتمع الشرق والغرب في حرب مشتركة علينا. فمدينة حلب تباد على يد الصفويين الرافضة بدعم وقصف روسي أثيم ومدينة الموصل تباد بنفس الايدي الخبيثة ولكن بدعم وقصف أمريكي أثيم وكأن حالنا كما قال المتنبي لسيف الدولة الحمداني صاحب حلب:
وسوى الرّوم خلف ظهرك رُومُ      فعلى أي جانبيك تميلُ
والعالم العربي والاسلامي كالجسد الواحد والداء والجائحة التي تصيب الاطراف تنتقل إلى أعماق الجسد كما قال الأول:
إذا مات بعضك فأبك بعضا         فإن البعض من بعض قريب
والله المستعان وعليه التكلان وما لنا إلا أن نقول كما كان يردد أهل سوريا من خمس سنوات (ما لنا غيرك يا ألله).


( تسمية عناصر الجدول الدوري .. تشريف أم تكليف )

نحن بالانتظار للحصول على صورة العالم الروسي أوغانيسيان وهو يشير للعنصر الجديد الذي يحمل أسمه
 
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
أُسدل الستار أخيراً في الاسبوع الماضي على (سباق التنافس اللغوي) والمتعلق بحدث رمزي بالغ الأهمية في تاريخ علم الكيمياء في العصر الحديث إلا وهو اكتمال تسمية جميع العناصر 118 للجدول الدوري الكيميائي حيث أعلن بشكل رسمي من قبل الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية IUPAC تسمية آخر أربعة عناصر كيميائية. أشتهر عن عالم الفلك الامريكي البارز كارل ساجان قولة أنه لو حصل دمار شامل لكوكب الارض وطلب منه قبل أن يغادر الارض لكوكب جديد أن يأخذ معه معلومة أو نظرية علمية واحدة فقط لينشأ بها حضارة جديدة لكانت تلك معلومة هي (الجدول الدوري للعناصر الكيميائية). وبحكم مركزية مفهوم ترتيب العناصر الكيميائية على شكل جدول دوري وأثرها البارز في تطور العلم والتقنية الحديثة لذا تناقلت جميع وسائل الاعلام والصحافة الدولية هذا الخبر بمزيد من الاهتمام والحماسة. وفيما يخصنا نحن المتطفلين على ميادين أبحاث التطور العلمي يكفي أننا تخلصنا أخيرا من إحراج النطق بالأسماء السخيفة والشنيعة المؤقتة لعناصر الجدول الدوري المكتشفة (أو المصنعة في الحقيقة) في الازمنة الاخيرة من مثل الاسم البشع للعنصر رقم 113 (أن أن ترايوم ununtrium) أو اسم العنصر رقم 117 (أن أن سبتيوم ununseptium). وقبل عدة سنوات قمت بنشر مقال حمل عنوان (تسمية عناصر الجدول الدوري .. بين اللغة والتاريخ) استعرضت فيه المراحل الزمنية المختلفة (المجهولة والتقليدية والادبية الجمالية والتكريمية) لطرق واسباب تسمية العناصر الكيميائية وناقشت في نهاية المقال مشكلة الاسماء المؤقتة المستنكرة  للعناصر المتبقية ولعل غالبية العلماء  تنفست الصعداء بعد هذا العناء في نطق تلك الاسماء الثقيلة.
الجدير بالذكر أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر بدأ العلماء يستخدمون أسلوب جديد تماما في طريقة  تسمية العناصر الكيميائية المكتشفة حديثا (وهي ما سميتها المرحلة التكريمية) حيث اخذ العلماء والمكتشفون يكرمون بلدانهم أو عواصمهم أو جامعاتهم بإطلاق اسمائها على تلك العناصر الجديدة. ولكن في واقع الأمر تقريبا لم تتم بداية (تشريف وتكريم) بعض العلماء بإطلاق اسمائهم على العناصر الكيميائية الجديدة إلا في عام 1945م وكان ذلك من نصيب العالمة الشهيرة مدام كوري صاحبة عنصر الكوريوم رقم 96 ولم ينال هذا (التشريف العلمي البالغ) غيرها إلا ثلاثة عشر شخص فقط. بالرغم من أن الجدول الدوري للعناصر (الكيميائية) هو في الأصل بيت الكيميائيين وميدان أبحاثهم إلا أنهم أصابهم الغبن والحيف نتيجة أن غالبية العلماء الذين تم تشريفهم بالإطلاق أسمائهم على بعض العناصر الكيميائية كانوا من الفيزيائيين في حين كان عدد الكيميائيين المكرمين أربعة فقط وربما هذا بسبب سطوة ومكانة علم الفيزياء بعد الحرب العالمية الثانية أو كما قال عالم الفيزياء البريطاني الشهير رذرفورد (العلم هو الفيزياء والباقي جمع طوابع).  ومن حسن الطالع أنه كان من الملائم أن يكون أول كيميائي يتم تشريفه وتكريمه بإطلاق اسمه على عنصر كيميائي هو عالم الكيمياء الروسي البارز ديمتري مندلييف الذي يلقب بأنه (أبو الجدول الدوري للعناصر) حيث أنه كان من أوائل من طرح فكرة التوزيع (الدوري) للعناصر الكيميائية.
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
صحيح أن مندلييف تم تشريفه بعد وفاته بحوالي نصف قرن بإطلاق اسمه على العنصر رقم 101 مندلييفيوم Md وذلك في عام 1955 إلا أن كل منصف يشعر أن هذا التكريم المستحق لمندلييف جاء متأخر بشكل غير مقبول على الاطلاق. لا شك أن تشريف أي عالم بإطلاق أسمه على عنصر من عناصر الجدول الدوري يعني بالضرورة تميزه الفائق والبيّن في مجال الابحاث العلمية وهذا بدوره يتطلب (تكليف) المجتمع والدوائر العلمية بتكريمه بمنحة الجوائز العلمية المرموقة. كما هو معلوم فإن أعرق وأهم جائزة علمية على الاطلاق هي (جائزة نوبل) والتي فاز بها ونالها حتى الان عدد 379 باحث من علماء الفيزياء والكيمياء (و 211 في الطب) وبحكم أن عدد العلماء الذين استحقوا وضع اسمائهم في الجدول الدوري محدود جدا (14 عالم فقط) فهذا يشير بدلالة قاطعة أن جودة وأهمية أبحاث هؤلاء العلماء الاربعة عشر تؤهلهم للفوز بجائزة نوبل ولكن للأسف لم يكن هذا هو الحال.  بعد مرور أكثر من قرن على بداية طرح جائزة نوبل وعبر العقود الماضية بدأت تتجمع شواهد وأخبار متوالية أن اللجان المشرفة على منح هذه الجائزة تقع أحيانا في أخطاء كارثية في اختيار (أو تجاهل اختيار) العلماء الجديرين بالفوز بهذه الجائزة في المجالات العلمية حيث أن مشاكل وفضائح هذه الجائزة في شق الفائزين بها في مجال السلام أو الادب معروفة للقاصي والداني.
أوضح مثال صارخ لإخفاق جائزة نوبل في اختيار العلماء المؤثرين في مسيرة تاريخ العلم أن هذه الجائزة لم تمنح للكيميائي الروسي ديمتري مندلييف السابق الذكر والذي كما اشرنا ربما تعتبر فكرته العلمية أهم فكرة علمية يمكن المحافظة عليها ونقلها لكوكب آخر. لقد كانت أول سنة يتم فيها طرح جائزة نوبل هي عام 1901م وبعد ذلك بسنة أوسنتين ظلت أكاديمية العلوم الروسية تقوم سنويا بترشيح مندلييف للفوز بجائزة نوبل في الكيمياء بدون أن يلقى هذا (الطلب المنطقي) آذان صاغية من القائمين على جائزة نوبل. في واقع الحال وقع ناقش حاد في عام 1906 حول الاشخاص المرشحين لجائزة نوبل في الكيمياء وبالرغم من حماس بعض العلماء لمنحها هذه المرة لمندلييف  إلا أنه استقر قرار لجنة جائزة نوبل بمنحها لكيميائي اقل بكثير في أهمية اثره العلمي من مندلييف حيث منحت الجائزة للكيميائي الفرنسي هنري مواسان نظيرا نجاحه في استخلص عنصر الفلور من مركباته بينما الكيميائي الاسطورة الذي نجح قبل ذلك بعقود من الزمن في التوصل لاكتشاف هام لجميع عناصر الجدول الدوري لم ينل اعجاب هيئة الجائزة. الجدير بالذكر أن مندلييف توفي عام 1907 بعد عدة اشهر فقط من فرصته الاخيرة لنيل جائزة نوبل وهو في سن الثالثة والسبعين ولا يعلم أن كان لهذه الحادثة المؤسفة أي أثر في اضعاف روحة المعنوية حيث أن سبب وفاة المعلن هو فقط أصابته بالأنفلونزا.
كيميائي آخر (أو كيميائية بالأحرى) لاقى الاهمال والصدود من جائزة نوبل ثم احتضنته العناصر الكيميائية في بيتها الدوري تلك هي عالمة الكيمياء النمساوية ليز مايتنر مكتشفة ظاهرة الانشطار النووي (لذا تلقب بأم القنبلة النووية !!) فغالبا بسبب التمييز الجنسي ضد النساء استبعدتها لجنة جائزة نوبل من الفوز بالجائزة في الكيمياء لعام 1944 بينما منحت الجائزة فقط لزملائها من الرجال مثل عالم الكيمياء الالماني أوتو هان. وفي عام 1997 وبعد حوالي عشرين سنة من وفاة ليز ماينتر وربما كوسيلة من المجتمع العلمي للتكفير عن الظلم والضيم البالغ والتحيز ضد تلك العلمة تم تشريفها وتكريمها بأن أطلق اسمها على العنصر الكيميائي رقم 109 والذي اصبح يعرف باسم مايتنريوم Mt وهي بهذا ثاني وآخر امرأة بعد السيدة كوري تكرم بإطلاق اسمها على أحد عناصر الجدول الدوري.  للأسف الشديد ولأمور وتعقيدات سياسية وعلمية بل وحتى دينية تجاهلت لجان جائزة نوبل منح هذه الجائزة لعدد من أهم وابرز مشاهير العلوم من مثل عالم الفيزياء البريطاني اللورد كالفن وعالم الفيزياء الامريكي جيبس وكلاهما من رواد وأعمدة علم الثيرموديناميك وكذلك تم تجاهل عالم الكيمياء الامريكي لويس (صاحب أشكال لويس التي يستخدمها جميع طلاب الثانوية) وذلك بالضافة لإهمال عالم الفلك الامريكي البارز إدوارد هابل وكذلك اسطورة العلم المعاصر الفيزيائي البريطاني ستيف هاوكنغ. وكل هذه الامثلة وغيرها كثير تشي بأنه توجد أحيانا بعض صور ومناحي الخلل في آلية عمل لجان جوائز جائزة نوبل حتى في المجالات العلمية والطبية وفي المقابل تم منح هذه الجائزة المرموقة لشخصيات علمية دون المستوى ولولا خشية الاطالة لم استعراض بعض هذه الفضائح العلمية وردود الافعال حيال الاختيار الغريب والضعيف لبعض الفائزين بهذه الجائزة.
من التكريم الاكبر إلى التكريم الاصغر
للعنصر الكيميائي رقم 118 مكانة مميزة وفريدة في دنيا العلم فهو حاليا آخر عنصر مكتشف/ مُصنَع من عناصر الجدول الدوري كما  أن له حادثة نادرة حصلت الاسبوع الماضي فبعد تسمية هذا العنصر باسم أوغانيسون Oganesson (Og 118) وذلك على أسم عالم الفيزياء النووية الروسي يوري أوغانيسيان وبذلك يكون هو العنصر الوحيد الذي اجتمع فيه ميزتين: سمي على شخص ما زال على قيد الحياة وهذا الشخص ويا للعجب لم يحصل على جائزة نوبل. ينبغي ان نقول بهذه المناسبة أن الشخصية العلمية التي نالت شرف أنها كانت أول انسان في التاريخ يحمل أسم عنصر كيميائي وهو على قيد الحياة كانت في واقع الأمر عالم الكيمياء الامريكي غلين سيبورج والذي تم تكريمه عام 1997 بإطلاق اسمه على العنصر الكيميائي رقم 106 والذي أصبح يعرف باسم سيبورجيوم  Sg 106 وبهذا خُلد في تاريخ العلم تلك الصورة الشهيرة لسيبورج وهو يشير بإصبعه للعنصر المسمى باسمه في الجدول الدوري. صحيح أن سيبورج حصل على هذا التشريف الاسطوري وهو في أواخر خريف العمر حيث توفي بعد سنتين فقط من هذا التكريم إلا أن غلين سيبورج قد تم تكريمه بالطريقة التقليدية منذ وقت مبكر جدا بحصوله على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1951 نظيرا اسهامه في تصنيع عشرة من عناصر الجدول الدوري كان أخطرها عنصر البولتونيوم المستخدم في تصنيع القنبلة الذرية. لا شك أن قيام غلين سيبورج وفريقة العلمي بإنتاج عشرة من العناصر الكيميائية هو إنجاز علمي يستحق عليه جائزة نوبل ولكن السؤال المهم هل سوف تجد لجنة جائزة نوبل نفسها وهي مضطرة (تكليفاً وليس اختياراً) أن لا تستمر في تجاهل العلماء الرووس المميزين بعدم منحهم جائزة نوبل التي يستحقونها. كمثل نظيره الامريكي أستطاع العالم الروسي يوري أوغانيسيان من تصنيع ثلاثة من عناصر الجدول الدوري (114 و 115 و 118)  تعرف بالعناصر الفائقة الثقل super heavy elements  كما إن لأبحاثه النظرية أهمية كبيرة في إثبات مفهوم العناصر الكيميائية الضخمة المستقرة (فيما يعرف بنظرية جزر الثابتية). من هذا وذلك أعتقد أنه بعد التشريف للعالم يوري أوغانيسيان  بإطلاق اسمه على  آخر عنصر كيميائي (التكريم الأكبر) ربما يتوجب تكليف لجنة جائزة نوبل أن تمنحه الجائزة (التكريم الأصغر) فليس من المقبول أو المستساغ أن يحصل عالم على أهم تشريف وتكريم علمي ممكن يحلم به أي عالم بوضع اسمه على الجدول الدوري ثم يزعم بعد ذلك أن اكتشافه العلمي تقليدي لا يؤهله أن ينال جائزة نوبل.


الجمعة، 9 ديسمبر 2016

( رُبَ كلمةٍ قالت لشاعرها دعني !! )

الشعراء ومزالق اللسان .. رب كلمة قالت لصاحبها دعني
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
قد تكون قدراتك الشعرية مميزة ومع ذلك (فلا تحزن) إذا قال لك أحد نقاد الادب أن أبياتك الشعرية ركيكة فهذا عباس العقاد كان ينكر أن يكون أمير الشعراء أحمد شوقي شاعرا وكان يقول عنه أنه فقط مجرد ( نظّام )، وتوصيفه بأنه ( ينظم الشعر) دلالة على أنه شاعر مبتدئ. وإذا كان لك ملكه إبداعية في قول الشعر ووجدت من القراء من يستفزك بقوله إن أشعارك غامضة فلا تبتأس فقديما قيل لشاعر العربية الفحل أبي تمام (لما لا تقول ما يُفهم) كما أن الفرزدق جاء من يصفه بأنه (ينحت من صخر) دلالة على وحشي عباراته وصعوبتها. أما إذا تم تفضيل أحد أقرانك من الشعراء عليك وهو اقل منك شهرة شعرية فلك في المتنبي أسوةٌ حسنة فقد حكم عليه أبو العلاء المعري أنه (أقل شاعرية) من البحتري بينما الاديب المعاصر الدكتور راشد المبارك رحمة الله كتب مقال مثير للجدل كان عنوانه بكل جرئه: (المتنبي ليس شاعرا). من هذا وذلك فيا أيها الشاعر المرخي عمامته وطن نفسك لتلقي سهام النقد ومقصات التشريح والتجرح.
إن طريق الشعراء أحيانا يكون كدرب الزلق ولذا أهون ما يمر به المرء الوحول كما قال طيب الذكر أبو الطيب ولكن ليحذر الشاعر من (زلة اللسان) فقد تكون أخطر من زلة القدم وهي قد تزلزل مكانتك الادبية بشكل مؤلم. زلة اللسان الشعرية قد تكون أحيانا بمجرد ورود كلمة شاذه غير مألوفة أو كلمة نابية مستقبحة ولهذا تصبح هذه الكلمة مصدر تشنيع وسبب سخرية واستنقاص من الشاعر حتى ولو ارتفعت مرتبته.  يقال انه كان للأديب الكبير عباس العقاد كلب يعزه كثيرا وعندما مات رثاه بأبيات شعرية جاء فيها (مرحاضه أعز أثوابنا) إشارة إلى أنه كان كلب مدلل كثيرا ما يحمل ولذا كان يتبول على ثياب العقاد وقيل أنه هذه الابيات قيلت في طفل صغير كان العقاد خاله. على كل حال لا شك ان هذه التشبيه الشعري مستهجن جدا كما أن ورود كلمة (مرحاض) في قصيدة أدبية حماقة شعرية لا تغتفر ولهذا أخذ الاديب الكبير مصطفى صادق الرفاعي (العدو اللدود للعقاد) يسخر ويشنع على العقاد لدرجة أنه كان يسميه (الشاعر المراحيضي). والجدير بالذكر أن الهمز واللمز من الشاعر عن طريق تسميه وتلقيبه بكلمة غريبة أو شاذه في شعره أمر مشهور وواسع الانتشار بشكل ملحوظ في الادب العربي القديم ومن الشعراء الذين قالوا بيتا من الشعر فتم تسميتهم وتلقيبهم بكلمة منه نجد بعض فحول ومشاهير الشعراء مثل: المرقش الأكبر والمتلمس والمثقب البعدي والبعيث والشريد وذو الرمة  والحطيم والقطامي وصريع الغواني وغيرهم كثير سموا بهذه الاسماء والالقاب الغريبة بسبب ورود عبارة أو كلمة في أشعارهم وكما قيل (رُبَ كلمةٍ قالت لصاحبها دعني). بعض الشعراء قد تورثه قصيدته لقب وأسم سخيف ومستهجن لكن في المقابل البعض الاخر قد تورده بعض كلمات قصائده موارد الهلاك حيث تتسبب في مقتله وكم وكم من شعراء العربية كانت ابياتهم الشعرية سبب أساسي في قتلهم وسفك دمائهم من أشهرهم المتنبي وطرفة بن العبد وبشار بن برد وعبيد بن الابرص و الاعشى الهمداني ولسان الدين ابن الخطيب والقائمة تطول وتطول.
آداب السلوك في مخاطبة الملوك
لطالما كان الأعم الغالب من شعراء العربية من المرتزقة والمتزلفين ولا يمكن تصور استمرار الشعر العربي لولا الطمع والفزع من ذهب المعز وسيفه وقد أعلنها الحطيئة صريحة ومدوية عنما أجاب عن سؤال وجه له: (أشعر العرب النابغة إذا رَهب وزُهير إذا رَغب). ولهذا نتفهم حالة الاستنفار والترقب التي دفعت فحول شعراء العربية الكبار للتجمع عند باب الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز بعد توليه الخلافة مباشرة لكي يستشفوا حالهم عنده ولكي يمدحوه وينافقوه. وكما هو معلوم من القصة الشهيرة ان الخليفة عمر بن عبدالعزيز تجاهل كبار الشعراء هؤلاء الذين منهم جرير والفرزدق والاخطل وعمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر وكثير عزه والاحوص الانصاري وبعد أن تجاهلهم الخليفة لزمن طويل واصابهم الاجهاد والانقطاع عن أهاليهم واشغالهم توسطوا ببعض الاعيان أن يدخلهم على الخلفية فلم يسمح إلا بدخول جرير وعندما أسمعه قصيدته في مدحة منحه الخليفة العادل بعد تمنع  وتردد عشرة دنانير فقط. الموقف الرمزي من القصة أنه عندما خرج جرير من عند الخليفة عمر بن عبدالعزيز سأله بقية الشعراء المهمشين (ما وراءك يا جرير) أي ماذا حصل لك مع الخليفة فقال: ورائي ما يسوءكم خرجت من عند امير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء. إن الناس على دين ملوكهم كما يقال ولذا إذا أتبع بقية الوزراء والامراء والوجهاء سيرة الخليفة المجافية للشعراء والادباء بارت تجارتهم الصوتية وخسروا مكانتهم الاجتماعية.
في القديم والحديث كان الملوك والحكام والامراء هم رأس المال الحقيقي للشعراء والادباء ولذا حرصوا بشتى الوسائل والسبل ليس فقط أن يتقربوا إليهم بالمديح والثناء ولكن ايضا ببذل الجهد والحرص على اتباع قواعد الاتيكيت واللباقة في (فن التعامل) مع أصحاب المقام العالي. لهذا لا عجب أن الادباء والشعراء تبع لهم أهتموا بشكل بالغ بما يسمى (أدب السلاطين أو أدب الملوك) وتم تأليف العديد من الكتب في مجال (المنادمة والنديم) لعل أشهرها وأهمها كتاب الجاحظ (التاج في أخلاق الملوك) والذي يقصد به أخلاق (التعامل) مع الملوك كما إن في ثنايا كتاب العقد الفريد لأبن ربه العديد من الفصول حول هذا الامر أهمها فصل (المرجانة في مخاطبة الملوك). ومع كل هذا الاعتناء (التنظيري) لفنون الالقاء والمخاطبة للملوك والحاكم إلا إن بعض كبار الشعراء وقعوا في أخطاء فادحة وقادحة. من ذلك مثلا يقال أن أول قصيدة ألقها الشاعر جرير بين يدي الخليفة عبدالملك بن مروان كان قد سبقها حالة فتور لأن جرير كان يميل مع عبدالله بن الزبير الذي ثار على الحكم الاموي. ولهذا ربما ساد جو من الترقب والتحفز لأول قصيدة لجرير امام الخليفة وقد كانت قصيدته الخالدة التي مطلعها (أتصحوا أم فؤادك غير صاحِ) وهو من أقبح الاستهلال أن تخاطب حاكم كان يعتبرك من أعدائه بأن توجه له خطاب يفهم منه أنك تقوله (هل انت صاحي أم ما زلت سادر في غفلتك) ولهذا لا عجب أن تكون ردة فعل الخليفة أنه غضب وسب جرير وقال له محتدا (بل فؤادك .. يا كذا وكذا). بقي أن نقول أن خطأ جرير كان اقل شناعة من سطحية وسذاجة الشاعر العباسي على بن الجهم في التعامل مع الملوك والحكام فكيف يعقل أن يوجد شخص يقول لخليفة المسلمين (أنت كالكلب). وهذه القصة الشعرية المشهورة تعتبر من نوادر وعجائب الادب العربي وكما هو معلوم أن الشاعر البدوي الطباع والتطبع على بن الجهم ضاقت به الحال فقصد الخليفة العباسي المتوكل لكي بمدحه بقصيدته التي مطلعها:
أنت كالكلب في حِفاظِكَ للود        وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِ
أنت كالدلوِ لا عدمناك دولا          من كبار الدلا كثير الذنوبِ


ومن جانب آخر نجد أن من الأخطاء الشنيعة المستنكرة أمام الملوك التي وقع فيها أحد رموز الرعيل الاول من الشعراء أن يتبسط ويتساهل الشاعر في التغزل والوصف الصريح لمحارم وحليلة الحاكم. وهذا ما حصل مع الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني فبالرغم من لقبه الذي قد نترجمه في عصرنا على أنه يعني (عبقري) إلا أنه كان في قمة السذاجة أن وافق على طلب الملك النعمان بن المنذر أن يصف له زوجته الملقبة بالمتجردة في قصيدة شعرية تخلد ذكرها. العبقرينو الاحمق الملقب (بالنابغة) ليس فقط (أخذ راحته) في قصيدة (سقط النصيف ولم ترد اسقاطه) في وصف أخص خصوصيات المرأة بل انتقل لوصف (مشاعر الالتحام العاطفي) في ابيات تؤكد صدق الكاتب العراقي على الوردي في كتابه الذائع الصيت (اسطورة الأدب الرفيع). لقد كان للملك النعمان شاعر من ندمائهم أسمه المنخّل اليشكري وقد كان يتهم بأن على علاقة غير اخلاقية مع المتجردة ولهذا عندما سمع قصيدة النابغة المتجردة من الاخلاق تلك وجدها فرصة أن يلفت الانظار بعيدا عنه فقال للنعمان: ما يستطيع أن يقول مثل هذا الشعر إلا من قد جرّب، فوقر ذلك في نفس النعمان وعندما بلغ ذلك النابغة هرب من الحيرة للنجاة بحياته ولهذا اشتهر لاحقا بقصائده واعتذارياته للنعمان.
(جانب السلطان وأحذر بطشه) كان حكمة تمثلها وطبقها العديد من الفقهاء والادباء عبر التاريخ فالجمع الغفير منهم كان يستنكف أن يكون من ندماء الحاكم وحاشية السلطان ولهذا عندما استفسر الخليفة هشام بن عبدالملك من أحد الفضلاء: ما يمنعك يا أبا حزام أن تأتينا؟ فقال: وما أصنع بإيتيانكم يا أمير المؤمنين إن أدنيتني فتنتني وإن أقصيتني أخزيتني. وكما لاحظنا أن النابغة الذبياني كاد ان يفقد حياته جراء تحقيق مطلب غريب من الحاكم أن يصف زوجته نجد أن الشاعر الكبير ابن  الرومي قد خسر حياته بالفعل من جراء طلب ونزوة أكثر غرابة من الخليفة المعتصم أن يهجوه. في حدثة يطول  سمع الخليفة أن ابن الرومي قد هجا وزيره القاسم بن عبيدالله لمداعبة حصلت بينهما ولذا دعا الخليفة ابن الرومي وقال له أهجني، فقال: الله الله من ذلك يا أمير المؤمنين كيف أهجو من مدحة الله ورسوله؟ فقال له المعتصم  هذا على سبيل المداعبة لأجل خاطر الوزير لا يغتاظ فامتنع من ذلك فألح عليه المعتصم. الحماقة التي وقع فيها ابن الرومي كما وقع فيها النابغة من قبله أنه (أخذ راحته) في الهجاء كما أخذ صاحبه من قبله راحته في الوصف ولهذا ذهل الخليفة وندمائه عندما سمعوا ابن الرومي يهجو الخليفة هجاء مقذع بقولة:
ملوك بني العباس في الأرض سبعة            ولم تأتينا عن ثامن لهم كتبُ
كذلك أهل الكهف سبعة                          كرام إذا عدوا وثامنهم كلبُ
فضحك المعتصم وأسرها في نفسه أن ينتقم منه لأنه شبهه بكلب أهل الكهف ولهذا يقال أن ابن الروم لم يغادر مجلس الخليفة تلك الليلة إلا وقد تم تصفيته بالسم الذي دس له في الطعام.
وفي الختام يصعب أن نغادر قبل أن نشير إلى الحماقات المتكررة من قبل شاعر العربية الأوحد أبي الطيب المتنبي في كسر قواعد وآداب السلوك في مخاطبة الملوك حيث تسول له طبيعة (الكبرياء والهوى) في شخصيته المغرورة إلا أن يمدح نفسه في كل قصيدة يلقيها أمام الملوك والامراء. ربما تعتبر قصيدة (واحر قلباه ممن قلبه شَبِمُ) إحدى أشهر قصائد المتنبي الرنانة وهي التي يذكر فيها أن الخيل والليل والبيداء تعرفه وأنه هو من نظر الأعمى إلى أدبه ولم تكفيه هذه المبالغة في مدح نفسه أكثر من مديح سيف الدولة حتى ألقى بيت القنبلة الصاعقة إذ يخاطب سيف الدولة وعلية القوم من رواد بلاطه بقوله الأخرق:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا       بأنني خير من تسعى به قدمُ
ولهذا لا عجب ولا غرابة أنه أثناء ما كان المتنبي يلقي قصيدته تلك كان منافسه الشاعر ابو فراس الحمداني يشوش عليه وهنا ضجر الأمير سيف الدولة من كثرة المناقشات بين المتنبي وأبن عمه أبي فراس الحمداني فما كان منه إلا أن قذف المتنبي بقارورة الحبر التي كانت امامه وشج راسه ليجعله عبره لمن يتعدى حدوده ويخرج عن الدور المفصل له بأن يكون نديم الملك وفرد حاشية السلطان.


الأحد، 27 نوفمبر 2016

( حرائق فلسطين .. شعلة في طريق الحرية )

بعد الجهاد بالحجارة والسكاكين جاء دور المقاومة بأعواد الثقاب
 
 
د. أحمد بن حامد الغامدي
في العقل الجمعي للبشرية لطالما حملت النار معاني وأبعاد مزدوجة ومتضادة فهي مادة الدمار ورمز للحرب والفوضى كما أنها في المقابل أساس العمار ورمز للتطهير والتجديد. تقول الاسطورة أن العنقاء أو طائر الفينيق (طائر النار) إذا شاخ وهرم وبلغ خمسمائة سنه يبني له عشا من أغصان الشجر وبعد أن يحترق فيه يخرج من بين الرماد طائر عنقاء يافع ومتجدد القوة. وهذه اسطورة رمزية شائعة في ذاكرة أغلب الشعوب للدلة على تجدد الحضارة الانسانية بعد أن تمر بمرارة الدمار والخراب وهذا هو محور الرواية الادبية الجهنمية الفكرة والواسعة الانتشار رواية (الجحيم) للكاتب الامريكي دان براون التي تدور حول عالم مجنون يعتقد أنه لا خلاص للبشرية من الطفرة السكانية إلا بحدوث كارثة تطهيرية مهولة تفني عدد كبير من سكان الارض.
الحريق دمار أم عمار
الغريب في الأمر أن التاريخ البشري عبر العصور اختلطت فيه الاسطورة بالحقيقة فالعديد من الحرائق الحقيقية أو السياسية  المعنوية انتجت واقع سياسي أو ديني مختلف عما سبقها حيث ظهرت كيانات سياسية أو دينية جديدة على أنقاض أخرى ضعفت وتلاشت جراء حصول حريق فعلي يتطاير شظاه ولهيبه. من ذلك مثلا  أن حادث حريق روما الكبير الذي وقع في عام 64 ميلادي والذي يقال أنه من تخطيط وتدبير الامبراطور الروماني الطاغية نيرون الذي كان يهدف إلى توسعة قصره ولهذا قام بتدبير حرق واشعال الاحياء القريبة منه. ما يهمنا هنا ليس خرافة أن نيرون كان يغني بالعزف على قيثارته على اطلال مدينة روما المشتعلة ولكن ما يهمنا أن هذا الحريق الهائل لم يورث رمادا راكدا وإنما أورث تغيير سياسي وديني هائل تمثل في اضعاف  الطاغية نيرون الذي اجبر على الانتحار وبهذا أسدل الستار على تلك الاسرة الملكية التي انتجت سلسلة شنيعة من الاباطرة الطغاة (مثل كاليغولا و تايبيريوس). أما التغير الديني فقد حصل للمسيحيين الاوائل الذين تنفسوا الصعداء بعد اضطهاد نيرون الشنيع ضدهم بعد ان اتهمهم بالتسبب بحريق روما. بصورة عامة بدأ المجتمع الروماني الوثني شيئا فشيئا يتقبل ويتسامح مع وجود المسيحيين بسبب بعض التعاطف الذي كسبوه من الظلم الذي وقع بهم على يد الامبراطور نيرون المكروه من الشعب الروماني.
زلزال من اللهب اشتعل في مدينة وعاصمة كبرى خلف واقع سياسي وديني جديد على ساحة الارض المحروقة في قلب الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. لقد كانت من نتائج اشتعال حريق مدينة لندن الكبير الذي وقع عام 1666 والذي ألتهم كامل المنطقة المركزية في قلب مدينة لندن أن حاولت الحكومة البروتستنتية التغطية على هذه الكارثة الطبيعية بنسبتها إلى طائفة الكاثوليك وإلى خيانة جماعة البابا وشرورهم. وكما حصل أن كسب المسيحيون الاوائل من اضطهاد نيرون روما لهم فكذلك كسب في النهاية الكاثوليك من هذه التهمة الملفقة وخفت كثيرا فيما بعد حالة العداء والاقصاء ضدهم لدرجة أنه صدر قانون ملكي ينص على التسامح والغفران. أما الاثار السياسية (المكتسبة) من هذا الحريق فنتجت من أن الملك الانجليزي تشارلز الثاني الذي حصل في عهده هذا الحريق اضطر بعد أن انتشرت الفوضى والشغب في أغلب المدن البريطانية، للتنازل في أكثر من موقف لصالح البرلمان الانجليزي والغاء بعض المراسيم الملكية التي أصدرها ضد رغبة البرلمان فقد تعلم الملك تشارلز الثاني الدرس من رأس والده المقطوع الذي تسببت الثورة الشعبية (الثورة الدستورية) في عزل والده وإعدامه فيما بعد.
حريق آخر اشعله الانجليز سبب لهم خسائر سياسية فادحة كانت أشد مرارة عليهم وإن كانت وقعت على الاراضي الامريكية هذه المرة. صحيح أن الولايات الامريكية الثلاثة عشر أعلنت الاستقلال عن التاج البريطاني عام 1776 ولكنها خاضت بعد ذلك سلسلة طويلة من الحروب مع القوات البريطانية وصلت لدرجت أن العاصمة الامريكية الجديدة مدينة واشنطن تم اقتحمها واحتلالها من قبل الانجليز. وكوسيلة للتعبير عن السخط والحقد الانجليزي المشهور قام الجنود البريطانيين في عام 1812بحرق مدينة واشنطن العاصمة بما في ذلك حرق المقر الرئاسي البيت الابيض ومبنى البرلمان الكابيتول وعدد كبير من الباني الأخرى العامة. الامر الذي كسبه الشعب الامريكي من هذه الهمجية الانجليزية الغاشمة أن الضغط السياسي والعشبي في الجزر البريطانية نفسها وفي بقية الدول الاوروبية أثمر في النهاية تلاشي النفوذ البريطاني بالكامل ليس في الولايات الامريكية فقط بل وحتى في كندا وبهذا تحولت الولايات المتحدة ذات العاصمة المحروقة لواحدة من أقوى الدول العالمية.
لا شك بأنه سوف يطول بنا الحديث ويتشعب بنا بعيدا لو ناقشنا هنا الشواهد والامثلة للحرائق الأخرى التي اصابت مدنا عظمى وتسببت في تغيير تاريخها فروسيا القيصرية علي سبيل المثال تغير حالها كثيرا للأفضل بعد قيام نابليون بحريق مدينة موسكو في عام 1812 والذي أتلف ثلاثة ارباع تلك المدينة المنكوبة ولكن هذا الحدث بعينة مثل آخر انتصار كبير لنابليون الذي توالت عليه الهزائم بعد ذلك.  بينما تسببت الحرائق في القاعات والقصور الامبراطورية في المدينة المحرمة في العاصمة الصينية بكين عام 1644 في تضعضع مكانة إمبراطورية سلالة مينغ الصينية وتلاشيها أمام ثورة الفلاحين. أما في عصرنا الحديث فالجميع يعلم أن أكبر وأشنع شعلة لهب شهدتها البشرية هي القنابل الذرية التي أحرقت البشر والحجر في مدن هيروشيما  وناجازاكي اليابانية لكنها في نفس الوقت جعلت الأمة اليابانية مثال حي لأسطورة العنقاء التي تولد من تحت الرماد فالتفوق الاقتصادي للشعب الياباني كان في أحد جوانه محاولة لأثبات الذات امام تلك الكارثة النارية المهينة.
 للأسف الشديد وضعنا العربي عصي على الاصلاح بل أنه أحيانا ما يعاكس حركة التاريخ فحرائق روما ولندن وواشنطن كانت لسكان وشعوب هذه المدن والدول منحة في إيهاب محنة حيث تغير واقعهم الديني والسياسي بعد تلك الحرائق فهل اللهيب العربي كان كذلك محنة تحمل في طياتها منحة. المحزن في الأمر أن الواقع السياسي بل وحتى الديني تغير في مجتمعنا العربي بشكل حاد بعد حريق القاهرة الكبير الذي حدث عام 1952 في أواخر أيام الملك فاروق في الحكم. العديد من المصادر التاريخية أصبحت تؤكد أن من تسبب في بداية حريق القاهرة الكبير هو تنظيم الضباط الاحرار في الجيش المصري بهدف زعزعت مكانة الملكية أمام الشعب المصري ولهذا بعد أشهر قليلة من حصول الحريق في شهر يناير حصلت ثورة الضباط الاحرار في شهر يوليو . إن كل منصف يعرف  واقع وأبعاد الحياة السياسية قبل الانقلاب العسكري وبعده يعرف أن أرض الكنانة ليس فقط خسرت الرفاهية والثراء الاقتصادي الذي كانت تعيش فيه ولكن ايضا خسرت الحرية السياسية وفعالية الاحزاب السياسية كما خسرت الصفاء الديني في ظل حكم العسكر الذي جفف المنابع الدينية وحارب الجماعات الاسلامية النشطة في المجتمع المصري. قد أكون متحامل ضد الافكار القومية العربية الجوفاء ولكن حتى مشاهير الادباء المصريين انفسهم سطروا كيف تدهورت وتردت الاوضاع في مصر قبل الثورة وبعدها كما تجد ذلك في ثنايا رواية ميرمار لنجيب محفوظ أو رواية حتى لا يطير الدخان لإحسان عبدالقدوس.
الشعلة الفلسطينية .. المقاومة فن الممكن
ونصل الآن لبيت القصيد والموقد الذي لا ينطفئ لممانعة الطغيان ألا وهو المقاومة والجهاد الفلسطيني والعربي في أراضي فلسطين السليبة. كما هو معلوم قام الضعفاء والخونة من السياسيين من بني جلدتنا بمحاولة تطبيع الشعوب مع العدو المحتل من خلال بث أكذوبة أنه يستحيل مقامة الاحتلال الصهيوني الغاشم وأنه ليس فقط (السياسة فن الممكن) بل أنه لا مفر من تبني عقيدة أن (السلام مع الصهاينة خيار استراتيجي). قديما وحديثا نجد أن الشعوب الحية الابية لا تعدم الوسيلة في مقاومة العدوان والاحتلال وبقواعد الاشتباك الجديدة هذه مع العدو الغاشم أصبح الخيار الاستراتيجي أنه بدلا من شعار (السياسة فن الممكن) فيجب أن يصبح شعارنا (المقاومة فن الممكن). لقد اثبتت المقاومة الفلسطينية الباسلة أنه لا يشترط لممانعة ومجابهة العدوان أن تمتلك المدفع والطائرة بل بإمكانك أن تزلزل كيانه وتبث الرعب في قلوب شعبه بسكاكين المطبخ وأعواد الثقاب. الكيان الصهيوني الغاشم قد اكتوى أكثر من مرة باندلاع الحرائق الكبرى على الاراضي المحتلة كما حصل في عام 2010 في حريق غابات جبل الكرمل جنوب مدينة حيفا والذي تسبب في مصرع حوالي 44 قتيل. ما استجد الان بعد الربيع العربي أن الشعب الفلسطيني المقاوم بعد أن كان يقف موقف المتفرج على الحريق الاسرائيلي عام 2010 أصبح الآن هو من يساعد في إشعال النار وتأجيجها ونقلها من مكان إلى مكان كنوع ووسيلة جديدة من وسائل (حرب الاستنزاف) ضد المحتل الغاشم وهذا ما يفسر بدرجة معقولة سبب انتشار الحرائق بشكل كثير في مناطق متنوعة من جغرافية الكيان الصهيوني .  في زمن المقاومة يصبح  تقريبا كل شيء مباح فكما قال معاوية بني ابي سفيان (إن لله جنودا من عسل) عندما بلغه مقتل أحد أعدائه فكذلك من حق الفلسطينيين مقاومة المحتل بسكاكين المطبخ كما حصل في الصيف الماضي في (غزوة السكاكين) أو بأعواد الثقاب وقداحات السجائر هذا الشتاء في (غزوة الكباريت) وقبل ذلك بسنوات كان سلاح المقاومة صخور الارض (غزوة اطفال الحجارة). من المحتمل أن هذه الحرائق ولهيب المقاومة قد تنطفئ  قريبا  ويخفت وهج نار النضال وقد لا يتأثر العدو الصهيوني كثيرا من حفلة الالعاب النارية هذه (كما كان محمود عباس يسخر من صواريخ القسام) لكن المهم أن تستمر جذوة (الحماس) لمناكفة ومشاغلة وإرهاق العدو (بفن الممكن) من اساليب المقاومة وحرب الاستنزاف.
 وختاما لعلنا نبشر دولة الصهاينة وجيشها بما ورد في الكتاب المقدس والاسفار اليهودية الدينية والتي تصف الجيوش التي سوف تنتصر في يوم غضب الرب على رجسة الخراب أورشليم وأن الابطال الذين يناكفونها ويقاومونها لا يمكون الاسلحة المتطورة وإنما بقدراتهم البسيطة والمحدودة يحققون النصر فهم كما ينصح ويحمس بعضهم بعضا (اطرقوا محاريثكم سيوفا ومناجلكم رماحا). وهذا ما نقصده (بفن الممكن) فقد لا تملك السلاح لكن يا أخي المحارب حول فولاذ محارثك إلى سيف بتار وحديد منجلك إلى رمح ثاقب. وعلى ذكر الحرائق الفلسطينية المشتعلة على أرض المحشر أليس غريبا أن تصف النبوءة الاسرائيلية في الكتاب المقدس في سفر النبي يوئيل بن فتوئيل حال اسرائيل في آخر الزمان (إليك يا رب أصرخ لأن النار التهمت مروج البرية واللهيب أحرق جميع أشجار الحقول). ثم بعد ذلك يأتي وصف جيش المجاهدين الذين سوف ينتصرون على أهل أورشليم الفسقة (قدامه النار تأكل .. وخلفه اللهيب يحرق .. ولا ينجو منه شيء .. ومثل الفرسان يسرعون كصوت المركبات على رؤوس الجبال يقفزون .. كصوت لهيب النار الآكلة القش).   
 



الأربعاء، 16 نوفمبر 2016

( الشعب الأمريكي واختيار البلطجة )

لم يكن يوجد في الانتخابات الأمريكية مرشح (طيب) ولذا فاز المرشح (السيء والقبيح)
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في عام 1999 نشر المفكر الفرنسي المشهور روجيه جارودي كتابه المثير (أمريكا طليعة الانحطاط) حشد فيها تلال من الحقائق والأمثلة لعجرفة (وبلطجة) الحكومات الأمريكية المتتالية في الخروج عن القانون الدولي بشن الحروب المباشرة أو تدخلها السافر بدعم الانقلابات في العديد من الدول (فيتنام، الصومال، بنما، نيكاراغو، تشيلي .. الخ). كما هو معلوم تم انتخاب الرئيس الأمريكي سيء الصيت جورج بوش الابن بعد نشر هذا الكتاب بعام واحد ولهذا لم يفجع جارودي قارئيه بتسطير مخازي الأمريكان وجرائمهم في العراق وأفغانستان.  اللافت للنظر أن غالب تلك الجرائم والمجازر التي ارتكبتها (الحكومات الأمريكية) كانت في الغالب تحدث ضد رغبة شرائح واسعة من (الشعب الأمريكي) المسالم بطبعة والذي كثيرا ما يوصف ممن خالطه بأنه شعب ودود friendly . وللتدليل على ممانعة طوائف من الشعب الأمريكي للحروب والعدوان لك أن تراجع المواقف المعارضة للحرب الأمريكية في فيتنام من قبل حركة السلم الأمريكية وجماعات الحقوق المدنية وتيارات طلبة الجامعات بل وحتى متسكعي وخنافس الهيبيز. وفي وقتنا المعاصر جميعنا ما زال يتذكر بشي من التقدير في عام 2003 نزول الملايين من الشعب الأمريكي (وغيره من شعوب العالم وخصوصا في بريطانيا التي شهدت مدينة لندن لوحدها مظاهرة شارك فيها أكثر من عشرة  ملايين شخص) للاحتجاج في الشوارع بمسيرات مليونية للاعتراض على اجتياح الجيش الأمريكي للعراق.
للأسف الشديد الشعوب كما الافراد نجدها وقت الازمات متقلبة المزاج moody وهذا مصدر الخطورة والقلق فيما يتعلق باختيار غالبية الشعب الامريكي يوم أمس لمرشح الرئاسة دونالد ترامب بأن يصبح رئيس الولايات المتحدة القادم بالرغم من أنه صعق العالم من أقصاه إلى اقصاه أثناء الحملات الانتخابية بخطابه الإقصائي والمتشنج والاهوج. كما لاحظنا سابقاً شخصية راعي البقر الهوجاء للرئيس الامريكي تاريخيا كان يتم شكم تهورها وتحجيمها بالجانب الانساني الودود ليعض شرائح المجتمع الامريكي ولكن مع (حالة المزاجية) الاخيرة التي تفشت في المجتمع الامريكي فقدت السياسة الخارجية الامريكية أحد أهم أدواتها الذاتية لكبح جماح الآلة السياسية والعسكرية الجامعة للعم سام فبدرجة ما ربما لن يعد الشعب الامريكي كما كان صمام الامان ورمانة الميزان.
عندما بلغ الصحابي الحكيم عمرو بن العاص الخبر عن الرسول الكريم أنه قال عندما تقوم الساعة يكون الروم أكثر الناس بمعنى أن الغلبة والسيطرة لهم وقد علل الصحابي عمرو بن العاص ذلك بسبب أن في أمة الروم أربع خصال ومميزات ثم ذكر خصلة خامسة وصفها بأنها حسنة وجميلة وهي أنهم (وأمنعهم من ظلم الملوك). على خلاف الحضارات الشرقية الابوية الطابع التي تخنع للمستبد الطاغية كانت الشعوب الغربية غالبا أكثر عقلانية وأنفة ولهذا حرص رجال السياسية في روما القديمة على تقليص وتشذيب صلاحيات الملك الحاكم عندما تم تطبيق نظام (حكومة القناصل) بمعنى أن يحكم الدولة الرومانية أكثر من حاكم (قنصل) في نفس اللحظة وبنفس الصلاحيات. وهذا ما أنعكس لاحقا في التراث الشعبي والاساطير الاوروبية القوطية التي تحكي عن دولة الملك آرثر الاسطورية والطاولة المستديرة للحكم التي يتساوى فيها مع قواده ومساعديه. وفي التاريخ السياسي البريطاني منذ حوالي ثمانية قرون انتزع الشعب البريطاني حقوق واسعة من صلاحيات ونفوذ الملك الانجليزي فيما يسمى بوثيقة العظمى (الماجنا كارتا) وبعد ذلك بقرون أصبح البرلمان الانجليزي بعد ثورة كرومويل (الملقبة بالثورة الدستورية) يعامل الملكية البريطانية معاملة الند للند.
في سياق شغف الشعوب الاوروبية الحرة لتحجيم سلطة وسطوة الحكام نفهم لماذا أخفق كلا من رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل ورئيس الجمهورية الفرنسية شارل ديغول في الفوز بالانتخابات البريطانية أو الفرنسية التي تلت الحرب العالمية الثانية بالرغم من شهرتهم الواسعة وكون شعوبهم تعدهم أشبه بالأبطال المقدسين والسبب أن تلك الشعوب (الواعية) خمنت عن فطنة أن رجل السياسية المنتشي والمفتخر بالنصر الحربي إذا أمتلك زمام الحكم فهذه الخلطة السحرية والتوليفة المشؤومة المغرية بالاستبداد وهو بالضبط ما حصل مع نابليون بالرغم من كونه فقط أحد القناصل الثلاثة الذين كانوا يحكموا الامة الفرنسية.
ما أود أن اقوله بعد هذا التطواف التاريخي أن الشعب الأمريكي مع سبق الاصرار والترصد وافق أن ينتخب وبحماسة ملموسة رئيس جديد أطلق العديد من التصريحات والتعهدات الكارثية ذات الأبعاد العنصرية ضد السود والنساء أو ضد الشعوب الاخرى الاسلامية واللاتينية التي تبصر العقلاء من الناخبين بعدم جدارته بالقيادة والرئاسة. من الواضح أن تغيرا بنيويا وفكريا حصل للشعب الامريكي قادة مرة أخرى لسياسة العزلة والانكفاء والانزلاق لمستنقع الانانية والنفور من الاجانب. لا يمكن ان نغفل في هذا السياق أن هذا الداء الاقصائي الانعزالي هو عين ما حصل للشعب البريطاني قبل عدة أشهر عندما فاجأ العالم برغبته هو الآخر بالانعزال والاستقلال عن الاتحاد الاوروبي والتضييق على المهاجرين والاجانب. نفس ردة الفعل هذه نجدها آخذه بالتصاعد في المجتمع الالماني الذي اصبح يجاهر بعدم الترحيب بالمهاجرين واللاجئين السياسيين . 
لا شك أنه في ظل الاحداث والزلازل السياسية والاقتصادية الأخيرة حصلت عملية استقطاب حادة للعديد من الشعوب المتناحرة فكما أصبحت فئام وطوائف من بني جلدتنا تمجد وتحن لشخصية صدام حسين الطاغية فكذلك الشعوب الأخرى ترغب في ان يكون قائدها شخصية جريئة وصدامية مع أعدائها. لا يمكن أن نتجاهل أن الامة والشعب الالماني الذي تجرع الذل والمرارة بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى أختار طواعية هتلر وحكومته النازية وهو ما حصل مع الشعب الايطالي الذي انتخب موسيليني وحكومته الفاشية. صرخة التحذير التي يمكن ان تطلق هي إن الشعب الامريكي إذا تخلى عن إرثه السياسي والديمقراطي العتيق في تحجيم وتكبيل القادة السياسيين فهو ولا شك سوف يساهم في تنصيب ( بلطجي ) جديد يثير العدوان والطغيان على الشعوب المستضعفة خصوصا الشعوب العربية وفي القلب منها أرض الحرمين التي سوف توصم بكل نقيصة بعد تفعيل قانون جيستا المريب.
ختاما في العقود الأخيرة أصبح العديد من الكتاب الغربيين عند إجراء مقارنة بين عدة أشخاص أو اشياء مختلفة عن بعضها من ناحية الجودة والسوء يستخدمون توصيف ثلاثية (الطيب والشرير والقبيح) وهذه التقسيمة الثلاثية مقتبسة من عنوان أحد أشهر افلام الكاوبوي الامريكية (the good, the bad and the ugly). طبعا سباق انتخابات الرئاسة الامريكية كان من الاساس خاليا من المرشح الطيب ولذا لا غرابة أن ينتهي السباق وللأسف بانتخاب الشرير والقبيح.


الأربعاء، 9 نوفمبر 2016

( رحلة السيد ماكينزي الاستكشافية الفاشلة )

رحلة استكشافية فاشلة قديمة  .. هل هي جذر الشؤم المرتبط بفشل شركة ماكينزي  الاستشارية


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 لله در من قال أن ( الانتهاء من قراءة كتاب جيد كلحظة توديع صديق حميم ) حيث أنني هذه الأيام أشعر بالحسرة لاقترابي من نهاية قراءة كتاب جيد وغاية في التشويق عنوانه (أعظم سبعين رحلة في التاريخ The Seventy Great Journeys in History ) اشترك في تأليفه أكثر من خمسين خبير ومؤرخ مرموق. ولأن الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون يقرر أن ( المعرفة قوة ) تبين لي بشكل جلي من هذا الكتاب كيف أن الدول والإمبراطوريات استطاعت امتلاك زمام القوة الاقتصادية والسياسية من جراء الاكتشافات الجغرافية لعدد من رواد الرحلات والمستكشفين التابعين لها.

ما لفت نظري في المقابل أنه ليس شرطا أن تكون جميع الرحلات الاستكشافية المفصلية ناجحة لتضمن لها مكان في كتب التاريخ والجغرافيا فحتى الرحالة الذي يخبط خبط عشواء ولا يمتلك أدوات ومهارات ( الرؤية ) الاستكشافية يمكن أن تفتح له صفحات التاريخ كما تفتح له مجالس وبلاط قادة الدول بالرغم من كونه مستكشف هاوي ومتخبط. ومن أغرب الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا السياق تلك الرحلة التي قام بها المستكشف الاسكتلندي الشاب ألكسندر ماكينزي الذي كان يعمل في نهاية القرن الثامن عشر في شركة بريطانية تتاجر في فراء الحيوانات الكندية. وكرغبة ومحاولة من السيد ماكينزي لتطوير أعمال وتجارة الشركة التي يعمل بها والتي مقرها مدينة مونتريال الكندية أقترح أن ينطلق في مغامرة استكشافية في الأراضي الشمالية لكندا بهدف إيجاد طريق تجاري يربط بين المحيط الاطلسي والمحيط الهادي في غرب كندا وبذلك يفتح ممر لأسواق جديدة للشركة في الشرق وأسيا.

وبحكم أن الخبرة الجغرافية والاستكشافية للسيد ماكينزي كانت محدودة كانت رؤيته التخطيطية تخبط خبط عشواء فأولا لم يكن يعلم أن المسافة بين الساحلين الشرقي والغربي تبلغ عدة الاف من الاميال كما أنه اتخذ وسيلة سفر غير مريحة على الاطلاق تمثلت في قارب طويل وضيق  canoe يجدف فيه تسعة رجال أحدهم خلف الآخر. وثالثة الاثافي كما يقال أنه قطع تلك الرحلة النهرية الشاهقة الطول وهو يجدف ورجاله عكس تيار النهر الذي غالبا ما كان يندفع بقوة كما إن السيد ماكينزي لفرط غروره بنفسه لم يحرص على أن يتخذ له دليل يرشده على الطريق من السكان الاصليين وهم القبائل الهندية التي كانت تقيم في شمال كندا. ولهذا لا عجب أن تنتهي رحلة السيد ماكينزي بالاتجاه شمالا بدلا من الاتجاه غربا مما أسفر في الوقع في خطأ استراتيجي فاحش في الرؤية الاستكشافية حيث انتهى به المطاف أن يصل إلى المحيط المتجمد الشمالي بدلا من أن يكتشف طريق إلى المحيط الهادي.

الغريب في الامر أنه بالرغم من أن الهدف الاساسي لرحلة السيد ماكينزي الاستكشافية وهو الهدف الاقتصادي والتجاري لم يتحقق وأخفق بشكل صارخ إلى أن شهرة ماكينزي ومكانته الاجتماعية كانت عالية ربما لأنه أول شخص يقوم برحلة استكشافيه في شمال أمريكا وكندا. صحيح أن الطريق التجاري  لبيع الفراء الذي اكتشفه ماكينزي كان مفلس تماما لكن هذا لم يحول دون ترسيخ مكانته السيد ماكينزي لدى الامبراطورية البريطانية لدرجة أنه تم منح لقب سير في عام 1802 على يد الملك الانجليزي جورج الثالث.

 في واقع الأمر لم تتأثر كثيرا شركة الشمال الغربي الكندية التي تتاجر بالفراء والتي يعمل بها السيد ماكينزي من فشلة الجغرافي الفاضح ذلك ولكن حذاري فليس كل (مغامرة استثمارية) ذات رؤية استكشافية متخبطة تنتهي بسلام وهذا درس دفعت ثمنه شركة تجارية كبرى بكلفة باهضه جدا. قبل قرن ونصف من قصة (السير ماكينزي) الغريبة تلك وفي نهاية القرن السادس عشر حاولت الشركة الصينية البريطانية The Cathay Company أن تقلد النجاح التجاري الكبير لشركة الهند الشرقية (البريطانية) في توسيع تجارتها مع الشرق وكما حاول السير ماكينزي أن يجد طريق تجاري لإيصال تجارة الفراء إلى الصين مولت الشركة الصينية البريطانية المستكشف والملاح الانجليزي مارتن فروبيشر لكي يحاول أن يكتشف لها ممر ملاحي يمكن أن يربط اوروبا بأسيا عبر ما يسمى الممر البحري الشمالي الغربي northwest passage الذي يقع إلى الشمال من كندا. المشكلة أن المستكشف الجغرافي فروبيشر كان مبالغ جدا في متطلباته المادية لإجراء هذه الرحلة الاستكشافية حيث اصطحب معه في عام 1578 اسطول بحري مكون من خمسة عشر سفينة لها طواقم من عدة مئات من البحارة ولكن بسبب الضباب والجبال الجليدية لم يستطع هذا المستكشف إلى يحقق الهدف الاساسي للرحلة مما تسبب في النهاية إلى وقوع الشركة الصينية البريطانية في خسائر مالية ضخمة نتج عنها إفلاس تلك الشركة بالرغم من دعم الملكة إليزابيث الاولى لهذه الرحلة وثقتها الكبيرة في قدرات ورؤية السيد فروبيشر الاستكشافية.

بقي أن نختم بأن هذا الكتاب الشيق (أعظم سبعين رحلة في التاريخ)  نظرا لأنه مؤلف من قبل طائفة من العلماء والمؤرخين الغربيين فإنه (كما هو متوقع) ركز وبشكل طاغي على استعراض تاريخ الرحالة والمستكشفين الاوروبيين إلا أن الكتاب أشاد بشكل مشرف برحلات المستكشف العربي ابن بطوطة. كنت أعلم مسبقا أن الغربيين يعرفون وبشكل جيد الرحالة الكبير ابن بطوطة وقد قرأت عنه أكثر من مره في بعض الكتب الانجليزية ولكن ما فاجأني في هذا الكتاب أنه ليس فقط لم يذكر في مقدمة الكتاب إلا عدد محدود من أشهر الرحالة والمستكشفين مثل كولومبوس وماركو بولو لكن عندما ذكر ابن بطوطة في هذه المقدمة تم توصيفه بأنه (ربما كان ابن بطوطة اكثر الرحالة هوسا بالسفر وحتى اليوم عدد قليل من الرحالة بإمكانهم أن يجاروا المسافات التي قطعها).

من هذا وذاك ربما نؤكد بديهية أنه ليس فقط الرحالة العرب قد لا يقلون جودة وشهرة عن الرحالة الغربيين ولكن ايضا الأمة العربية والاسلامية فيها طاقات ذهنية محلية حكيمة ذات رؤية سليمة مشبعة بحرص حقيقي وصادق لنهضة وطنها وأمتها. المظاهر قد تخدع أحيانا ولهذا حذر الشاعر العربي الحكيم كُثير عزة الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان من الاعتماد الكلي على المظهر العام لتقييم الشخص ما بأنه هل هو حكيم وذو رؤية نافذة أم لا :

ترى الرجل النحيف فتزدريهِ      وفي أثوابهِ أسدٌ هصورُ

ويعجبك الطريرُ إذ تراهُ       فيُخلف ظنّك الرجلُ الطريرُ



الثلاثاء، 1 نوفمبر 2016

( نبي المرحمة .. في الادب الغربي )

الشاعر الالماني غوتيه .. حامل لواء شعر قصائد المديح النبوية في نسختها الاوروبية
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
في نظرة ثاقبة للحياة يقول الأديب الأمريكي البارز مارك توين: الاشياء ليست كما تبدو عادةً (والبعض يضيف: وكذلك الاشخاص) وهذا ما تبين لي حقيقته بصورة غير متوقعة عندما اكتشفت أن قراءة رواية من الأدب المكشوف قد تولد تأثير واعظ. جال بفكري هذا الأمر خلال الايام الماضية عندما شرعت في قراءة رواية (عوليس Ulysses) للروائي الايرلندي جيمس جويس الذي يعد أحد أشهر الادباء في بداية القرن العشرين بينما اختيرت روايته تلك في قائمة أهم 50 كتاب غيرت تاريخ البشرية. مثار الاستغراب أن تلك الرواية الادبية المثيرة للجدل كان مصيرها في بداية الامر أن منعت من النشر في بريطانيا وفي الولايات المتحدة نظرا للحكم المسبق عليها بأنه رواية إباحية ولكن ما لفت نظري أنها في نسختها العربية على الأقل تم تشذيبها وإعادة تأهيلها ليس فقط ليتم تقليل مشكلة أجواء الأدب المكشوف عنها ولكن لأن بعض المقاطع الأصلية منها تتحدث عن الموت والقبور والجثث بكفاءة تؤهل توظيفها في سياق الوعظ والزهد من الدنيا.
على كل حال في مثل هذه الاجواء المشبوهة لهذه الرواية كان من الغريب أن نلتقي فيها بذكر خبر للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وكأن سيرته في هذا المساق (وجه غريب في أرض غريبة) وربما يرجع السبب في ذلك أن الكاتب الايرلندي جيمس جويس كان على درجة عالية من الثقافة لدرجة أنه شحن روايته تلك بالعديد من الاحداث والاشخاص والمعلومات فعلى سبيل المثال ليس فقط ناقش فيها القانون الثاني للحركة لنيوتن ولكن ايضا اشار لإعجابه بفن العمارة الاسلامية في الاندلس وعلق على طريقة تناول الطعام المصري فضلا عن الاشارة لشخصية هارون الرشيد. أما فيما يتعلق برسولنا الكريم فقد ذكر الكاتب جيمس جويس طرف خبر يدل على مدى (الرحمة والشفقة) التي يتمتع بها (نبي المرحمة) في تعامله مع الحيوانات فضلا عن رحمته بالبشر وذلك أنه لم يرد أن يزعج هرة كانت نائمة على طرف ردائه وبدلا من أن يسحب ثوبه من تحتها بما يتسبب في إيقاظها قام بقطع ردائه من الطرف البعيد عن الهرة. في هذا المقطع من الرواية يقول السيد بلوم Bloom بطل القصة (ليس من الشفقة أن تزعج الهرة، قد مزق محمد نبي المسلمين شقاً من عباءته حرصاً على نوم الهرة وراحتها) وإن كانت هذه القصة غلبا غير صحيحة وهي قصة مجهولة تماما في الثقافة الاسلامية إلا أننا من جانب آخر نستشف أنه بالرغم من حملة التشويه والتشنيع الحاقدة للنبي الكريم في غالب التاريخ الاوروبي إلا أنه تسرب لهذه الحضارة أمثال هذه الاخبار والقصص التي تدل على سمو أخلاق نبي الاسلام وصحة دينة وشريعته. والجدير بالذكر أن قصة الهرة النائمة على بردة النبي تم ذكرها في كتاب تاريخي رصين للكاتبة البريطانية المشهورة كارين أرمسترونج خصصته لذكر سيرة الرسول الكريم وكيف أنه (يتميز بأقصى درجات الشفقة ورقة المشاعر) مما يشر لدرجة شيوع انتشار هذه القصة في الثقافة الغربية.
صورة النبي في الغرب .. تشويه متعمد أم مشكلة معرفية
للأسف الشديد لم يكن في التراث الاوروبي القديم أي شيء يساعد الغربيين (الفرنجة) على فهم الاسلام كديانة أو معرفة حقيقية نبي الاسلام الكريم وبحكم أن (أهل الثقافة) والمتعلمين الاوروبيين الاوائل كانوا بالدرجة الاساسية من الرهبان لذا غلب عليهم العداء المبرمج ضد الاسلام ونبيه الكريم كما وقعوا في خطيئة الرغبة في (عدم المعرفة) وهو ما أنعكس في جهل كبار رجال الكنيسة المسيحية بحقيقة دين الاسلام بالرغم من أن طائفة من كبار رهبان الكنيسة الشرقية (مثل يوحنا الدمشقي) كانوا ممن عاشوا في ظل الدولة الاسلامية في الخلافة الاموية. وعليه إذا كان الرعيل الأول من رجال الفكر والعلم والدين المسيحي جهلوا أو تجاهلوا حقيقة الاسلام وسمو نبيه الكريم فلذا لا عجب أن نجد مشاهير الادباء والشعراء الغربيين وحتى عصر شكسبير يجهلون مكانة النبي الكريم وصحة رسالته.
ربما تكون الملحمة الشعرية (الكوميديا الالهية) التي ألفها شاعر فلورنسا البارز دانتي في بداية القرن الرابع عشر هي أول عمل أدبي غربي يتم فيه ذكر نبينا الكريم وبالرغم من أنه توجد اشارات على أن الشاعر الايطالي دانتي كان على اطلاع بشي من الحضارة الاسلامية (غالبا فكرة الرحلة الخيالية للجحيم التي تقوم عليها الكوميديا الالهية مقتبسه من كتاب رسالة الغفران لأبو العلاء المعري) إلا أن دانتي تعمد (عدم المعرفة) ونسب للنبي الكريم أقبح الصفات ومن ثم زعم لعنه الله أنه شاهده في الخندق التاسع لدائرة الجحيم الثامنة ووصف له طريقة تعذيب شنيعة هو وابن عمه الامام على رضي الله عنه. في تاريخ الأدب الاوروبي غلبا ما تأتي رواية (دون كيشوت) الرجل الذي حارب طواحين الهواء للكاتب الاسباني ميجل سيرفانتس والتي نشرت في بدايات القرن السابع عشر كثاني أهم قصة أدبية من ناحية تطور الروايات الادبية الغربية. وبالرغم من أن المحور الرئيسي للرواية يدور حول (أخلاق الفروسية) التي تشير المصادر الغربية نفسها إلى أن (الفرنجة) اكتسبوها من العرب أثناء احتكاكهم بهم وقت الحروب الصليبية إلا أن الكاتب الاشبيلي الاسباني سيرفانتس سليل حضارة الاندلس الباهرة وصف في هذه الرواية الرسول الكريم واتباعه بأنهم (مخلوقات دنيئة الصفة).
خلال عصر النهضة الاوروبية خفت تدريجيا حدة النقد والتشوية والعداء للنبي الكريم في الاعمال الأدبية والقصائد الشعرية وبدلا من اتهامه صلى الله عليه وسلم بالعنف والشر والشهوانية أصبح الاتهام يتردد بأنه (نبي زائف أو مخادع). ومن أشهر الامثلة على الاطلاق في هذا السياق أن الأديب الانجليزي البارز وليم شكسبير على الرغم من ثقافته الواسعة لم يشر للنبي الكريم بشكل صريح إلا في سطر واحد فقط وبالتحديد في مسرحية هنري السادس حيث قال فيها (أما كان محمد تلهمه يمامة was Mahomet inspired with a dove) وكأنه يشير للقصة المنتشرة في الثقافية الاوروبية قديما للدلالة على أن الرسول الكريم كان محتال في نبوءته (حاشاه ربي) حيث كان يضحك على السذج من بدو الصحراء وذلك بأن قام بتدريب حمامة أن تلتقط الحب من أذنه وبهذا كان يخدع أصحابه أن روح القدس جبريل يبلغه الوحي بالهمس في أذنه.
عصر الانوار وبداية رؤية الأنوار المحمدية
من المعروف أن الصراع الديني والطائفي كثيرا ما يسوق لظاهرة (الفجور في الخصومة) بمعنى أن الشخص المتعصب دينيا لا يعترف على الاطلاق بأي فضيلة لخصمة ويحرص دائما على نسبة جميع الشرور والنقائص له ويكون من جراء ذلك الوقوع في (خطيئة الرغبة في عدم المعرفة) كما سبق ذكره. ولهذا عندما بزغ عصر الانوار في اوروبا في بداية القرن الثامن عشر خفت بشكل ملحوظ شدة (العداوة) للدين الاسلامي ليس فقط بسبب ضعف هيمنة الديانة المسيحية المتعصبة ولكن لأن الاوروبيين بدأوا في التعرف على العالم الاسلامي من خلال ترجمة القرآن الكريم والعديد من الكتب العربية والاسلامية (ظاهرة الاستشراق) وكذلك من خلال قيام العديد من الاوروبيين بالرحلات الاستكشافية للبلدان العربية وايضا وصول العديد من البعثات الدبلوماسية الاسلامية إلى عواصم الدول الاوروبية. وبحكم أن مرحلة (التعارف) بين المجتمعات الاسلامية والمجتمعات الاوروبية احتاجت لبعض الوقت لهذا لا غرابة أن نجد بعض الادباء والشعراء والمفكرين يقعون في حالة (الحيرة والتناقض) في نظرتهم لشخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
 ومن ذلك أن أهم الرموز الادبية والفكرية لعصر الانوار وهو الاديب الفرنسي المشهور فولتير في بداية أمره كان قد كتب مسرحية سماها (التعصب أو النبي محمد) والتي وصم فيها الرسول الكريم بالخداع والاستبداد والنفاق. ويقول بعض المفكرين ومن ضمنهم مصطفى العقاد أن فولتير لم يقصد انتقاد شخصية الرسول حرفيا لكنه اراد انتقاد سلطان الدين المسيحي بطريقة غير مباشرة أي كأنه يهاجم من خلال الاسلام الدين بشكل عام. على كل حال لقد تغيرت نظرة فولتير كثيرا للنبي الكريم بعد أن تقدم في العمر ونضج فكريا فنجده بعد حوالي ثلاثين سنة من نشر تلك المسرحية المهينة يقول عن الرسول الكريم في كتابه دراسة عن الأخلاق: (لقد كان بالتأكيد رجلا عظيما جدا .. لقد قام بأعظم دور يمكن أن يقوم به إنسان).
وفي سياق تذبذب حكم الشخص حول موضوع ما نتيجة انتفاء الجهل في مرحلة لاحقة  كما حصل مع فولتير وموقفة المتناقض في الحكم على النبي الكريم يمكن بدرجة ما أن نفهم الظاهرة المحيرة لبعض رموز شعراء الحركة الرومانسية في الادب الانجليزي في القرن التاسع عشر حيث نجد ان بعض مشاهير هؤلاء الشعراء كتبوا قصائد تصب في الذم والانتقاص من الاسلام ونبيه الكريم ولكن في نفس الوقت كان لبعضهم قصائد أخرى تأتي في سياق تقديرهم وأعجابهم بالدين الاسلامي وشخصية نبيه. من ذلك مثلا أن كلا من الشاعر الانجليزي وليم وردزورث وصامويل كولريدج كان قد كتب قصيدة حملت اسم النبي الكريم (محمد) احتوت على تهجم على شخص النبي الكريم في حين أن شعراء آخرين بارزين جدا مثل اللورد بايرون والشاعر بيرسي شيلي لهم قصائد واعمال اشتهرت بمدح الاسلام ونبيه كما لهم في نفس الوقت أشعار أخرى على النقيض من ذلك تماما.
قصائد المديح النبوية .. النسخة الالمانية
وبعيدا عن (مرحلة التيه) المؤقتة لبعض الشعراء اللسان الغربي في موقفهم من الرسول الكريم نصل إلى (مرحلة الانبهار) الادبي بشخصية الرسول الخالد للعديد من مشاهير الادباء والشعراء الغربيين وعلى رأسهم شاعر ألماني الأوحد يوهان غوتيه الذي من شدة اعجابه بالإسلام ونبيه يزعم بعضهم انه ربما كان قد أسلم بالخفاء.  لقد كان للشاعر غوتيه موقف عجيب من القرآن الكريم ومن نبي الاسلام وهو يعترف صراحة بأنه مدين لشاعريته للشرق الذي منحه الثراء الروحي لذا كان كثير ما يستشهد و (يقتبس) في كتاباته بالآيات القرآنية أما إعجابه بالرسول الكريم فقد أنعكس في تأليفه مسرحية أدبية سماها (الدراما المحمدية) هدف منها بالدرجة الأولى الرد على مسرحية فولتير في ذم الرسول الكريم. ثم بعد ذلك قام غوته بتأليف قصية شعرية في مدح الرسول الكريم سماها (أنشودة محمد Mahomets Gesang) والتي تعتبر أول تبجيل للرسول الكريم من شاعر أوروبي وفيها يظهر شدة انبهار غوته بشخصية الرسول الكريم.
وكما أعجب أشهر اديب ألماني بالرسول الكريم فكذلك هو حال أهم واشهر رموز الأدب الروسي روسيا إلا وهو الروائي المعروف تولستوي (صاحب رواية الحرب والسلام) الذي ليس فقط اعترف بشكل جلي أنه (أحد المبهورين بالنبي محمد) بل أنه قام بتأليف كتاب خاص سماه (مختارات من أقوال الرسول) قام فيها بانتقاء حوالي ستين حديثا من الاحاديث النبوية الحكيمة يمكن تسميتها على نسق (الاربعين النووية)  بالستين الروسية. ومن سياق أخبار شدة انبهار بعض مشاهير الادباء الالمان والروس بالرسول الكريم ودين الاسلام لا نستغرب كثيرا الاخبار غير المؤكدة أن أشهر أديب فرنسي وهو الروائي الاسطورة فكتور هوغو (مؤلف رواية البؤساء الخالدة) قد اعتنق الاسلام في آخر حياته وغير أسمه إلى أبو بكر هوغو. وكما سطر غوته قصائد مديح الشمائل المحمدية وأهتم تولستوي بجمع الاحاديث النبوية الشريفة أهتم فكتور هوغو بأحداث السيرة النبوية فكتب قصيدة شعرية طويلة سماها (سنوات الهجرة التسع) استعرض فيها سيرة الرسول الكريم ابتداءً من احتفال الصحابة رضوان الله عليهم بوصوله للمدينة المنورة وانتهاءً بالأيام الاخيرة لمرض الرسول الكريم ووفاته مستعرضا في ثنايا ذلك خصال الرسول الكريمة ومواقفة النبيلة.
وختاما لو استفضنا في ذكر إعجاب وانبهار بقية مشاهير الادباء الغربيين بالنبي الكريم مثل الشاعر الفرنسي لامارتين والروائي الانجليزي إتش جي ويلز والاديب الروسي بوشكين والروائي الفرنسي بلزاك لطال بنا المقام (والمقال) لكن لا يجدر أن نختم قبل أن نذكر بالأعجاب والثناء الحماسي للأديب الانجليزي المشهور جورج برنارد شو في حق الرسول الكريم وتأتي أهمية شهادة برنارد شو الحاصل على جائزة نوبل في الادب (وإن كان رفض استلامها !!) أنه بعد وفاة قبل نصف قرن أنه لم يأتي بعده أي أديب غربي يفوقه أهمية. في الوقت الذي تتنامى فيه في الغرب حملات التشوية والاستنقاص للرسول الكريم عبر الرسومات المسيئة واتهامه بالتعصب والارهاب يجدر أن نذكر بالكلمات الخالدة لبرنارد شو الذي يصف فيها الرسول بأنه (منقذ الانسانية) ومقولته الخالدة في حق الرسول الكريم (ما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد ليحل قضاياه المعقدة بينما هو يتناول فنجاناَ من القهوة).
 
 


الاثنين، 17 أكتوبر 2016

( شكسبير ممنوع بنص القانون من النطق بسم الله على المسرح )

كتاب مميز .. أشار لجدلية العلاقة بين الأدب والادين
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
انسياقا وراء عشقي القديم لقراءة الروايات والاعمال الادبية تحمست كثيرا لقراءة كتاب مختصر يهدف للتعريف بمفهوم وتاريخ (الأدب الانجليزي) للاكاديمي البريطاني جوناثان بيت وبالرغم من المعلومات الدسمة التي حفل بها الكتاب إلا أن معلومة وجدت في سطر واحد فقط كانت (صاعقة) بالنسبة لي وهي ما حفّزت لكتابة مقال شبة مستفيض. فقد أشار المؤلف إلى (أن النصوص الرسمية لمسرحيات شكسبير كانت قبل تمثيلها تعرض على عنصر رقابي نتيجة لقانون برلماني يحظر التلفظ بكلمة الله على المسرح).
 
للوهلة الاولى تبدو للنظرة السطحية المتعجلة أن هنالك تحيز (وعلمانية) ضد الدين في منع شكسبير من استخدام كلمة الله في أعماله الادبية والاستعاضة عنها غالبا بكلمة (السماء) ولكن بمعرفة أن شكسبير عاش في نهاية القرن السادس أو ما يسمى العصر الاليزابيثي وهي فترة تاريخية مميزة في التاريخ الاوروبي اشتهرت بازدهار حركة الاصلاح الديني المسيحي وطغيان التيارات الانجليكانية المتشددة. وبهذا المنظور التاريخي يتبين دون جدال أن منع ذكر اسم (الله) أثناء التمثيل على خشبة المسرح لم يكن إلا من باب التنزيه والتقديس للفظ الجلالة من الامتهان. كنت أعلم مسبقا أنه في أثناء حقبة الإصلاح الديني التطهيري انتشرت ظاهرة (تحطيم الأيقونات الدينية) من مثل تماثيل ومنحوتات المسيح والسيدة العذراء أو تدمير وإتلاف الآثار المزعومة للقديسين ومنع التبرك بها لكن الذي لم أكن أعلمه قط أن تعاليم هذا التيار الديني المحافظ وصلت لفرض سن قانون برلماني خاص يمنع ذكر اسم (الله) في المسارح وما شابهها من الأوضاع والامكان المبتذلة.
 
الدرس الذي يمكن أن يستخلص من القيود الدينية على الانتاج الادبي في عصر شكسبير أن فقط الأديب النكرة والخاوي من الملكة والمهارة الفنية هو من يبرر ويتعذر أن قريحته الأدبية ضعيفة بسبب أن (البيئة الادبية) في مجتمعه غير ملائمة وأن (الحاضنة الثقافية) للأوساط الادبية  عجفاء أو معادية.  أليس غريبا أن الحقبة الكلاسيكية التي عاش فيها شكسبير على صرمتها الدينية المتشددة كثيرا ما توصف (بالعصر الذهبي للأدب الانجليزي) حيث  ظهر فيها بالإضافة لشكسبير الشاعر البارز (جون ميلتون) أعظم شاعر انجليزي على الإطلاق وصاحب القصيدة الخالدة (الفردوس المفقود). لا شك أنها حجة وذريعة تافهة التي يرددها البعض من أدعياء الابداع الادبي أنه لابد من (كسر الموروث) و(الثورة على الثابت) وأنه بغير هذه الاتجاهات (الحداثية) لا يمكن الابداع والتميز والخلود في الأعمال الأدبية.
 
أليس غريبا مرة أخرى وعلى ذكر الشاعر الانجليزي جون ميلتون أن قصيدته الخالدة (الفردوس المفقود) والتي هي قمة الملاحم الأدبية الانجليزية على مر العصور ومع ذلك كان محور تلك الملحمة الشعرية موضوع ديني بحت حيث تدور هذه الملحمة البالغة الطول عن قصة خروج أدم وحواء من الجنة وهبوطهما على الأرض وغواية أبليس لهما. وفي نفس نسق ارتباط اشهر الاعمال الادبية بالدين تجدر الاشارة إلى أن أحد أقدم وأهم القصص الرواية في الادب الانجليزي هي المجموعة القصصية المسماة (حكايات كانتربيري) للأديب الانجليزي البارز جيفري تشوسر والتي تدور عن أحداث وقصص متنوعة حصلت لعدد من الحجاج المسيحيين القاصدين للتعبد عند ضريح القديس توماس في كاتدرائية مدينة كانتربيري والتي هي المقر الرسمي لكنيسة إنجلترا المناظرة لمقر البابوية في الفاتيكان بروما.
 
بلا شك يعتبر الجميع ظهور عصر النهضة إحدى الفترات الزمنية المفصلية في تاريخ البشرية حيث شهدت إرهاصات ضعف ارتباط المجتمعات الغربية بالدين وبداية الانعتاق منه ولهذا توهم البعض أن رموز عنصر النهضة كانوا ولا شك في حالة خصام وفصام مع المؤسسة الدينية. ومن المعلوم للقاصي والداني أن ازدهار الفنون يعتبر أحد أهم وأبرز سمات وملامح عصر النهضة فكيف كانت علاقة الدين المسيحي بأبرز مشاهير الرسامين والنحاتين في تلك الحقبة وسف نكتفي بالإشارة لموقف الكنيسة من (الأربعة الكبار). ولنبدأ أولا بالرسام والنحات الايطالي الاسطورة (مايكل أنجلو) الذي خلده التاريخ بأعماله الفنية الموجودة داخل حاضرة الفاتيكان نفسها مثل رسمة خلق آدم البالغة الشهرة على سقف كنيسة السيستاين وتمثال العذراء تنتحب وتمثال النبي موسى بالإضافة لتصميمه لقبة كاتدرائية القديس بطرس أهم معبد ديني مسيح. بينما تعتبر اللوحة الجدارية الفريدة المسماة مدرسة اثينا والتي تبين ابرز فلاسفة اليونان (ومن ضمنهم الفيلسوف العربي ابن رشد)هي أهم تحفة فنية في القصر البابوي المقر الرسمي لبابا الفاتيكان وهذه التحفة المميزة من إنجاز الرسام الايطالي المعروف رفائيل. أما  النحات الايطالي دوناتلو فإن اشهر أعماله على الاطلاق هي التمثال البرونزي للملك داود (في الكتاب المقدس يعتبر كلا من انبياء الله داود وسليمان ملوكا وليسوا أنبياء). وأخيرا يأتي ذكر أبرز فنانين عصر النهضة بدون منازع أي ذائع الصيت ليوناردو دافنتشيو الذي أحد أشهر إبداعاته الفنية (باستثناء لوحة الموناليزا) هي لوحة العشاء الاخير للمسيح مع حوارييه والموجودة حاليا في دير كنسي في مدينة ميلانو الايطالية وهذه اللوحة هي التي بنيت عليها الحبكة التاريخية والتشويقية لرواية (شفرة دافنتشي)واسعة الانتشار.
 
وختاما إذا أفلحنا في (تجميل) الصورة النمطية المشوهة لعلاقة الدين بالأدب والفن فربما يعتقد البعض أن علاقة التنافر والعداء بين الدين (المسيحي خاصة) وبين العلم من (الحقائق التاريخية) التي لا يمكن دحضها. الجدير بالملاحظة والتأكيد أنه بالرغم من اعتبار العالم الايطالي الشهير جاليليو أبرز مثال لاضطهاد الدين للعلماء إلا أن جاليليو نفسه كان يؤمن وبعمق أن العلم والدين بإمكانهما أن يتواجدا في حالة تناغم وانسجام متبادل. من غرائب الأمور أن نعلم بأن البابا المسيحي أوربان الثامن الذي وافق علي محاكمة جاليليو بتهمة الهرطقة كان قبل توليه منصب البابوية على علاقة جيدة بجاليليو وصلت لدرجة أن جاليليو عندما ألف كتابه المسمى (المجرب)قام في مقدمة ذلك الكتاب بإهدائه للبابا أوربان الثامن الذي كان في تلك الفترة ما زال يعرف باسم الكاردينال باربرينيبل ويقال انه بعد تم انتخابه لمنصب البابوية قام جاليليو بزيارة صديقة البابا في مقر الفاتيكانليس هذا وحسب في العلاقة الوطيدة بين العالم جاليليو وصديقه البابا وصلت لدرجة أن كتاب جاليليو الذي حوكم بسببه لأنه أيد نظرية كوبرنيكوس وهو الكتاب المسمى (حوار حول النظامين الرئيسيين للعالم) كان البابا أوربان الثامن نفسه قد سبق له الاطلاع عليه ولم يعترض عليه في البداية حتى تدخل بعض الوشاة واثأروا حنق البابا علي جاليليو.
  
كما ينبغي التنبيه على أن عدد من اكتشافات واختراعات جاليليو العلمية ارتبطت بوجوده داخل الكنيسة من مثل توصل لقانون حركة البندول وهو في كاتدرائية مدينة بيزا الايطالية وتجربته الشهيرة حول السقوط الحر للأجسام  نفذها بإسقاط صخور مختلفة الاحجام من أعلى برج بيزا المائل والذي في الواقع هو برج جرس كاتدرائية بيزا السالفة الذكر. كما اشتهر جاليليو بأنه أول من استخدم التلسكوب للدراسات الفلكية لكن في الواقع كان أول منظر رصده جاليليو بتلسكوبه لم يكن أجرام السماء بل السفن البحرية القادمة من الأفق ولم يكن الرصد لها من قلعة أو جبل بل من أعلي برج جرس كنيسة مدينة البندقية.
ولعلنا بهذا نكون بشكل أو آخر حاولنا أن نضيف مزيد إضاءة حول الموضوع الشائك (جدلية العلاقة بين الدين والأدب والفن ... والعلم).