السبت، 19 ديسمبر 2020

( علماء على قوائم الاغتيال )


العلماء والمخترعين هم من أوائل ضحايا السياسة

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 الروائي الأمريكي المعاصر تيم اوبراين اشترك في حرب فيتنام ولاحقا كتب رواية أدبية عنها وذاعت شهرته أكثر عندما قال (القصة الحقيقة للحرب لا تكون أخلاقية). وفي الواقع تجريم جميع الحروب هو تيار قديم في الحضارة الغربية والذي يسخر وينتقد فكرة احتمالية وجود أي حرب عادلة مثل تلك التي تزعمها تعاليم الكنيسة على لسان أشهر منظريها مثل القديس أوغسطين أو القديس توماس الاكويني. ولهذا نجد الدول الغربية لا تتورع كثيرا في ارتكاب المجازر وجرائم الحرب حتى خارج زمن القتال الفعلي. ومن نتائج فلسفة (الحرب الاستباقية) التي تتبعها الدول العظمى خارج القانون الدولي لا يستغرب كثيرا قيام بعض تلك الدول الغربية بتعمد اغتيال العلماء والباحثين المدنيين من رعايا الدول المعادية. حصل هذا الأسبوع قيام الكيان الصهيوني باغتيال العالم النووي محسن فخري زاده أستاذ الفيزياء بجامعة الإمام الحسين بمدينة طهران ورئيس البرنامج النووي الإيراني. لقد نجحت الاستخبارات الإسرائيلية في تصفية (أبو القنبلة الإيرانية) وهي في ذلك تسير على خطى ومسار الاستخبارات الأمريكية عندما حاولت تصفية واغتيال (أبو القنبلة النازية). كان ذلكم العالم الألماني الشهير فيرنر هايزنبرغ أحد رواد علم ميكانيكا الكم والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1932م ونتيجة لارتباطه بعلوم الذرات اختاره هتلر لتولي مهام رئاسة مشروع إنتاج القنبلة الذرية للنظام النازي. وبحكم أن دول الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية كانت على سباق للتسلح مع ألمانيا النازية أيهم ينجح في تصنيع القنبلة الذرية أولا ولهذا كان هايزنبرغ هدف مشروع التخلص منه وفق مبادئ الحرب الاستباقية.

ففي عام 1944م قامت وكالة الخدمات الاستراتيجية OSS agency (المنظمة السابقة لجهاز الاستخبارات الأمريكية CIA) بإرسال عميل سري ليحضر محاضرة علمية يلقيها هايزنبرغ في مدينة زيورخ السويسرية. وطلب من ذلك الجاسوس أنه إذا استنتج من المعلومات التي يطرحها هايزنبرغ في تلك المحاضرة بأن المشروع الألماني لتصنيع القنبلة الذرية يحقق تقدماً فعليه حين ذاك أن يقوم بإطلاق النار مباشرة على المحاضر. ولقد ظل هذا العميل طوال المحاضرة وهو يضع يده على مسدسه المخفي وكما هو متوقع فإن هايزنبرغ لم يكن على درجة من الحماقة أن يفشي أسرار علمية خطيرة على الملأ ولهذا نجى من الاغتيال وإن كان لن ينجو في نهاية الحرب من الاعتقال والسجن.

الحرب سجال كما يقال ولهذا لا غرابة أن نجد ألمانيا النازية تقوم بحرب استباقية مضادة ضد دول الحلفاء وتستهدف هي بدورها أبرز علماء الفيزياء المساهمين في تصنيع القنبلة الذرية الأمريكية. جميع طلاب العلوم في المرحلة الثانوية يعرفون اسم عالم الفيزياء الدنماركي نيلز بور صاحب نموذج تركيب الذرة وكذلك أحد أبرز علماء الكم والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1922م أي بعد سنة واحدة مباشرة بعد حصول أينشتاين عليها. ما يهم هنا أن نيلز بور كان له دور كبير في تهريب العديد من أبرز علماء الفيزياء المناهضين للنازية من ألمانيا وتسهيل وصولهم لبريطانيا أو أمريكا أو كندا ومن ثم حشدهم في مشروع مانهاتن لتصنيع القنبلة الذرية. ولهذا عندما غزت القوات النازية مدينة كوبنهاجن عاصمة الدنمارك أصدر هتلر شخصيا أوامره باعتقال نيلز بور أو القضاء عليه إن تعذر ذلك. وبعد بحث مكثف عن نيلز بور فشل جنود الجيش النازي في القبض عليه حيث استطاع التخفي لفترة من الزمن داخل منازل كوبنهاجن قبل أن يتم تهريبه بواسطة قارب لصيد الأسماك إلى السويد. وبالرغم من دولة السويد أنها كانت بشكل رسمي في حالة حياد في الحرب بين دول الحلفاء ودول المحور إلا إن إقامة نيلز بور في ستوكهولم كانت غير آمنه فربما يسهل عملية اغتياله ولهذا سارع البريطانيين لترحيله من السويد باستخدام طائرة حربية. قديما الطائرات الحربية لم يكن يوجد بها إلا مقعد واحد مخصص للطيار ولهذا تم وضع نيلز بور في المكان المخصص لتخزين القنابل كما تم إصدار التعليمات المشددة على قائد تلك الطائرة المقاتلة أنه في حال حصل اعتراض للطائرة في الجو من قبل الطائرات الحربية الألمانية فيجب اسقاط نيلز بور بواسطة مضلة البراشوت !!.

لقد بذل الحلفاء كل الجهد الممكن للمحافظة على سلامة ذلك العالم الدنماركي البالغ الأهمية (للمجهود الحربي) وهو أمر سوف يتكرر بعد ذلك بسنوات عندما بذلت السلطات السوفيتية كل ما في وسعها للمحافظة على سلامة وحياة مهندس الصواريخ الروسي سيرجي كوروليوف الملقب بأبو برنامج الفضاء الروسي. في حين أن الجميع يعرف من هم العلماء والمهندسين المشرفين على برنامج تطوير الصواريخ الفضائية والحربية الأمريكية من مثل المهندس فيرنر فون براون وعالم الفضاء روبرت جودارد والذين أصبحوا من نجوم المجتمع الأمريكي. إلا أنه في المقابل وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي لم يكشف بشكل جلي عن قادة برنامج تطوير الصواريخ الروسية وظلت شخصيتهم سرية بشكل تام وذلك حماية لهم من أن يتم ارسال جواسيس من الغرب لاغتيالهم كما حصل مع هايزنبرغ السالف الذكر.

عند زيارتنا لساحة متحف غزو الفضاء في قلب العاصمة الروسية موسكو كان من السهل جدا لي التعرف على تمثال يوري غاغارين أول رائد فضاء في التاريخ وكذلك تمثال السيدة فالنتينا تريشكوفا أول رائدة فضاء روسية. ولكن ما لفت انتباهي أن أكبر تمثال في تلك الساحة والمقام في موضع مميز جدا كان لشخص مجهول تماما لي ولقد وقفت حائر أمام هذا التمثال الضخم والذي كنت أتمنى أن أعرف لمن هو لأن الاسم المسجل على التمثال كان مكتوب بالأحرف الروسية المختلفة عن الاحرف الإنجليزية المعتادة. ولاحقا بعد قراءتي لكتاب (سباق الفضاء Space Race) بين الأمريكان والروس تبين لي أن ذلك التمثال المميز كان لتلك الشخصية العلمية الهامة والمجهولة والتي أخفها الاتحاد السوفيتي عن العالم أجمع حفاظا على حياته وقد كان لكوروليوف حظوة ومكانه عند الرئيس الروسي خرتشوف حيث كان يدعم مشاريعه الكبرى في إنتاج الصواريخ لأسباب عسكرية أكثر منها أسباب علمية لاكتشاف الفضاء.

نزيف العقول بين الحقيقة والمجاز

عندما أرسلت الولايات المتحدة عميلها السري لاغتيال عالم الفيزياء هايزنبرغ السالف الذكر يقال إن الجنرال الأمريكي نيد بوكستون مدير وكالة الاستخبارات OSS برر ذلك الفعل بقوله (أنت تحرم عدوك من عقله). ففي الحروب والصراعات الكبرى لا تتردد الدول من القضاء على القوى الناعمة ومصادر التفوق لدى الخصم من مثل العلماء والمخترعين وعباقرة الاقتصاد والإدارة. في السابق كانت ظاهرة العقول المهاجرة توصف أحيانا (بنزيف العقول) وفي بعض الحالات عندما يتم تصفية وقتل تلك العقول النابغة وسفك دمائها يصبح ذلك الوصف حقيقة لا مجاز. والجدير بالذكر أن حرص الحكام والقادة على حرمان أعدائهم من ذخيرتهم من العقول العبقرية لا يقف فقط عند قتل البشر بل وحتى هدم الحجر ممثلا في تدمير المختبرات العلمية والمراكز البحثية ذات الطبيعة المدينة البحتة. في نفس الفترة التي كان الأمريكان يخططون فيها لاغتيال هايزنبرغ على رؤوس الأشهاد في قاعة المحاضرات كانت الطائرات الحربية الأمريكية والبريطانية تقصف وتدمر بشكل متعمد المختبرات العلمية في جمعية القيصر فيلهام لتقدم العلوم في برلين حيث كان هايزنبرغ يدير معهد الفيزياء بها.

وبالقرب من مختبرات هايزنبرغ المدمرة حصل تناقض سياسي وعلمي غريب حيث يقع هنالك معهد القيصر فيلهام للكيمياء وهو المكان الذي اكتشف فيه الكيميائي الألماني أوتو هان ظاهرة الانشطار النووي. كما هو معلوم ظاهرة الانشطار النووي هي التي مكنت العلماء الأمريكان من تصنيع القنبلة الذرية عام 1944م وفي نفس ذلك العام حصل أوتو هان على جائزة نوبل في الكيمياء (تقديرا) لإنجازه العلمي التاريخي ذاك. وفي نفس ذلك التوقيت يأمر الجنرال الأمريكي ليزلي غروفز مدير مشروع مانهاتن لتصنيع القنبلة الذرية، يأمر الجيش الأمريكي بقصف مختبر ومكتب أوتو هان في معهد الكيمياء في بارلين. وذلك كخطوة (استباقية واحترازية) تهدف لحرمان الألمان من عقل أوتو هان المتمثل في الوثائق العلمية التي كانت موجودة في مختبرة وتتعلق بالتفاعلات المتسلسلة الذرية. ومع تكرر الغارات الجوية الأمريكية وقصفها لمعهد الكيمياء بمدينة برلين تم كذلك تدمير مختبر عالم الكيمياء الألماني المعروف لجميع طلاب الجامعة في مجال الكيمياء والصيدلة أوتو ديلز (صاحب تفاعل ديلز – ألدر في الكيمياء العضوية) والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام مع 1950م مع تلميذه كورت ألدر. ونظرا لأن أتو ديلز كان متقدما في السن فقد أثر تدمير مختبره على مستقبله العلمي وجعله يستقيل بشكل نهائي وبالفعل حرم الأمريكان المجتمع العلمي الألماني من هذا العقل العبقري.

تشير المراجع التاريخية إلى أن الطائرات الحربية الأمريكية والبريطانية قصفت وبشكل متعمد حوالي عشرين جامعة ألمانية وفي مختلف المدن وما يهمنا هنا هو الإشارة إلى قصف جامعة ميونخ الألمانية. والذي تسبب في نسف مختبر عالم الكيمياء العضوية الألماني البارز هانس فيشر والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1930 ميلادي. من الأمور المحزنة ذكرها هنا عن نتائج القصف الأمريكي لجامعة ميونخ أنه أتلف بشكل شبه كامل المتحف والمعهد الخاص بالمخطوطات الإسلامية النادرة جدا والتي كان من ضمنها عدد كبير من أقدم نسخ القرآن الكريم.

 في سياق ما تم ذكره نستوعب الآن أكثر ما يحصل في واقعنا القريب من عدم تورع بعض الدول من خرق القانون الدولي وبحجة حفظ مصالح أمنها الوطني قد تتعدى على سيادة ومواطني الدول الأخرى. وهذا ما تكرر بشكل فج وإجرامي من العدو الإسرائيلي عندما تعدى على الحجر والبشر في العراق حيث لم يكتف عام 1981م بتدمير مشروع المفاعل النووي العراقي ولكن استهدف البشر كذلك وفق السياسة المذكورة سابقا حيال نزيف العقول (أنت تحرم عدوك من عقله). توجد شكوك قوية بأن استخبارات الموساد للعدو الإسرائيلي تسببت في تصفية بعض علماء الذرة العرب الذين كانوا يعملون في مفاعل تموز العراقي مثل عالم الذرة العراقي رشيد اللامي الذي توفي في ظروف غامضة في مدينة جنيف وكذلك تم قتل عالم الذرة المصري المعروف يحي المشد في مدينة باريس. نزيف دماء وتجريف عقول العلماء العراقيين وصل لمرحلة المجازر الجماعية بعد غزو القوات الأمريكية للعراق عام 2003م حيث تنافس عملاء المخابرات الإيرانية والإسرائيلية كلا على حدة في تصفية واغتيال العشرات من أبرز وأهم علماء العراق. وكلمحة خاطفة لهذه الكارثة العلمية والحضارية العربية نشير فقط لأسماء العلماء في التخصصات العلمية في جامعة بغداد الذي تم قتلهم بعد سقوط بغداد مثل عالم الذرة مجيد حسين علي والفيزيائي علي حسين كامل والفيزيائية هيفاء الحلي والكيميائي محمد الأزميرلي والكيميائي باسل الكرخي وعالم الأحياء رعد شلاش.

كلمة أخيرة قد يكون عدونا وأحد وأزلي فينبغي أن نتحد جميعا لمواجهته فها هو ذا العدو نفسه لا يفرق بيننا حال الحرب والقتال وكما قاتل العدو الصهيوني أغلب الجيوش العربية فهو كذلك قتل واغتال جميع جنسيات العلماء العرب مثل رشيد اللامي العراقي ويحي المشد المصري والمهندس الكهربائي الفلسطيني يحي عياش ومهندس الطيران التونسي محمد الزواري وغيرهم كثير.

 


 

( الكفاح لاكتشاف اللقاح )


 كم من المجهود والمال يصرف حتى نصل لهذه اللحظة

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

 في الطب أول العلاج تعزيز المناعة ومع ذلك كان اكتشاف التطعيمات الطبية واللقاحات المناعية هي آخر الأسلحة من الناحية التسلسل التاريخي التي تم ضمها لترسانة أسلحة (الحرب على الأمراض). منذ فجر التاريخ وحتى الآن تعرف الأطباء على آلاف الأمراض ومثل ذلك العدد من الأدوية والعقاقير ولكن حتى الآن عدد اللقاحات والتطعيمات الطبية قليل جدا بشكل غريب. من طبيعة الأشياء أن الأمور الصعبة والمكلفة تحتاج إلى محفزات ومغريات جمة لحث البشر على أدائها وبحكم أن اكتشاف وتطوير التطعيمات الطبية عملية صعبة وعدد قليل من الأمراض يمكن إنتاج تطعيم لها فلهذا لابد من (الكفاح لاكتشاف اللقاح). والدوافع لتحقيق إنجازات طبية كبرى متنوعة ويمكن اختزالها بأنها دوافع إنسانية أو مالية أو سياسية وهو ما سوف نحاول استعراضه بشكل مختزل في هذا المقال.

الإمام الكبير الحافظ ابن حجر العسقلاني له كتاب فريد حمل اسم (بذل الماعون في فضل الطاعون) والدافع والمحرك لاهتمام ابن حجر بتأليف هذا الكتاب أنه فجع في عام 883هـ بتسبب الطاعون الكبير الذي أصاب مصر والعالم أجمع (الطاعون الأسود) في مقتل ثلاث من بناته. الفجيعة الإنسانية بفقد الأبناء والبنات من جراء الأوبئة والأمراض كانت هي الدافع والحافز لظهور أهم وأعظم شخصية علمية على الإطلاق في مجال علم اللقاحات الطبية. وذلك هو العالم الفرنسي الشهير لويس باستور وهو وإن كان في الأصل عالم كيميائي إلا أن من الدوافع الحاسمة في اتجاهه لمجال الدراسات والأبحاث الطبية لاكتشاف أسباب بعض الأمراض وطرق الوقاية منها بإنتاج التطعيمات المناعية أنه عانى هو الآخر من وفاة ثلاثة من بناته بوباء التيفوئيد القاتل. لقد دخل باستور التاريخ من أوسع وأزهى أبوابه بكونه أول من اكتشف وطور لقاح طبي في المختبرات العلمية وهو لقاح مرض الكوليرا بالإضافة لاكتشافه للقاح وتطعيم مرض الجمرة الخبيثة ومرض داء الكلب. بالمناسبة من المشهور إن الطبيب الإنجليزي المعروف إدوارد جينر هو أول من اكتشف مفهوم اللقاحات المناعية وهذا وإن كان خطأ تاريخي شائع إلا أنه يقصد به اللقاحات التي تنتج طبيعيا من خلال الحيوانات (مثل الأبقار المصابة بمرض الجدري) بينما كان إسهام لويس باستور أنه أول من أنتج لقاح طبي مصنع في المختبر (بدون أبقار ولكن باستخدام بيض الدجاج !!). من غرائب الصدف في (الارتباط التاريخي) بين لويس باستور وإدوارد جينر أن ولادة أحدهما كانت متزامنة تقريبا بوفاة الآخر فعندما ولد باستور في نهاية شهر ديسمبر من عام 1822م حصلت وفاة جينر بعد ذلك التاريخ بشهر واحد فقط أي في نهاية شهر يناير. حادثة مشابهة إلى حدا ما حصلت قبل ذلك بحوالي مائتين سنة عندما تزامن ولادة ووفاة عملاقي العلم إسحاق نيوتن وغاليليو غاليلي في نفس تلك الشهور من عام 1642 ميلادي.

وبالعودة إلى موضوع إن المشاعر الإنسانية والوشائج الأسرية قد تكون هي الدافع الأكبر في مسيرة كبار العلماء لتحقيق كبرى الاكتشافات الطبية كما حصل مع باستور من جراء وفاة بناته الثلاث نجد هذه الظاهرة شائعة في كتب تاريخ العلوم. فهذا الطبيب الألماني جيرهارد دوماك الذي اكتشف أدوية السلفا وحصل نظير ذلك على جائزة نوبل في الطب لعام 1932م كان من دوافعه لإنتاج أول أدوية مضادات البكتيريا في التاريخ حتى يستطيع إنقاذ حياة طفلته الصغيرة التي كانت تصارع الموت بسبب تعرضها لالتهاب وتسمم بكتيري. بينما يقال إن الطبيب الكندي فريدريك بانتنغ بعد معاناته في مرحلة الشباب من جراء وفاة والدته بسبب مضاعفات مرض السكر لهذا حرص بانتنغ على دراسة الطب ومحاولة إيجاد علاج لمرض السكر ولاحقا اكتشف هرمون الأنسولين وحصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1923 ميلادي. وعالمة الكيمياء والصيدلانية الأمريكية جيرترود إليون عندما كانت في سن المراهقة وبعد مشاهدتها لوفاة جدها بسرطان المعدة صممت على دراسة الكيمياء لتتمكن من إنتاج الأدوية لعلاج السرطان وهذا من حصل لاحقا وخصوصا مع مرض سرطان الدم مما حقق لها الحصول على جائزة نوبل في الطب عام 1988 ميلادي.

كما لاحظنا بعض العلماء والأطباء قادتهم وشائجهم الأسرية للتعمق في العلم وعلى العكس من ذلك البعض من العلماء والباحثين قادهم التعمق في العلم للتأثير على علاقاتهم الأسرية ليس فقط في ضعف ترابطهم الأسري ولكن لتوظيف أفراد أسرهم كفئران تجارب أن صح التوصيف. وبالعودة إلى إدوارد جينر فمن الأخطاء التاريخية الشائعة مقولة أنه أول من اكتشف ظاهرة المناعة ضد الأمراض من خلال التطعيم ومن الأخطاء التاريخية الشائعة أيضا الزعم أنه أجرى أول عملية تطعيم بلقاح مرض الجدري على طفله الصغير. وإذا كان جينر هو أول عالم تطعيمات مشهور فإن آخر عالم مشهور في دنيا اكتشاف اللقاحات المناعية هو ولا شك الطبيب الأمريكي جوناس سولك والذي استطاع عام 1955م تطوير لقاح طبي لمرض شلل الأطفال. حتى منتصف القرن العشرين كان ذلك المرض الشنيع يسبب الكثير من المآسي للمصابين به من الأطفال ولأسرهم كذلك ونظرا لفشل المحاولات الأولى من لقاح شلل الأطفال تردد غالبية الأهلي من إعطاء هذا اللقاح لأطفالهم خشية أن يصابوا بهذا المرض المرعب. وهنا حاول سولك أن يكسب ثقة الآباء والأمهات فنشر في وسائل الإعلام صورة وهو يقوم بتطعيم أطفاله الثلاث الصغار بهذا اللقاح الجديد ليثبت لهم فعالية وسلامة التطعيم الجديد.

 الناس على دين ملوكهم .. حتى في الطب

يقولون الغريق يتعلق بقشة والمريض قد يتعالج بالوهم ولذا في الغالب يسهل إقناع المريض بأي علاج مهما كان لأنه في حاله ألم وقلق ولذا يقبل بأي حل متوفر. الحال يختلف تماما مع إقناع الأشخاص الأصحاء بتناول لقاح أو تطعيم يمنع عنهم مرض (محتمل) ولهذا لنجاح حملات التطعيم ضد أي مرض أو وباء لا يكفي توفر المال والخبرة الطبية بل يجب كذلك توفر الدعم السياسي والتشريعات النظامية الملزمة بأخذ اللقاحات المناعية لضمان سلامة صحة المجتمع. في الوقت الحالي وبدرجة واضحة جدا تعتبر الولايات المتحدة من أكثر دول العالم المتقدم التي فشلت بشكل مريع ومخزي في التصدي لجائعة وباء الكورونا. وقد يكون من أسباب ذلك أن هرم السلطة في تلك الديار تولاه شخص غير عقلاني مثل الرئيس دونالد ترامب والذي كان يناصر الحركة المناهضة للقاح خصوصا تطعيم لأطفال. أحد أبرز الأسماء السياسية المعارضة للتطعيم في أمريكا هو روبرت كينيدي الابن والذي في نفس الوقت يعتبر من رموز (نظرية المؤامرة) المتعلقة بالتطعيمات والذي كان يشكك في جدية اكتشاف أي لقاح مفيد ضد وباء الكورونا. الجدير بالذكر والتنويه هنا أنه بمجرد الإعلان عن فوز ترامب بالرئاسة قبل أربع سنوات وقبل دخوله للبيت الأبيض أعلن عن تشكيل لجنة خاصة برئاسة روبرت كينيدي الابن مهمتها التأكد من سلامة التطعيمات وفحص ارتباطها بمرض التوحد وتأثيراتها الطبية الجانبية على الأطفال وهذا كان قرار خاطئ جدا لأن روبرت كينيدي شخص متحيز جدا ضد التطعيمات وليس شخص محايد. وفي مقابل وضع ترامب ثقته في مثل هؤلاء الشاطحين فكريا نجده في المقابل يسخر من الخبير العالمي أنتوني فاوتشي كبير مستشاري الحكومة الأمريكية حيال الأوبئة ويصف ذلك العالم بأنه كارثة وكان يرغب في إقالته من منصبه. وفي مثل هذه الأجواء المتشككة في جدوى القواعد الطبية المتبعة لا غرابة أن نجد شرائح عريضة من الشعب الأمريكي تتقبل مثل هذه الأفكار المغلوطة والمتشنجة الرافضة لنتائج الدراسات الطبية مثل اللقاحات والتطعيمات الجديدة الخاصة بالكورونا أو طريقة التعامل الصحيح مع هذا الوباء وتخفيف أضراره على المجتمع.

ولنجري الآن مقارنة تاريخية عن موقف وتعامل حكام ورؤساء الدول الأوروبية قديما عند ظهور مفهوم التطعيم لأول مرة وكيف ساهموا في الدفاع عن هذا الإنجاز الطبي الهام. عندما حاول الطبيب الإنجليزي إدوارد جينر عام 1797م نشر فكرته الطبية حول أهمية ودور التطعيم في إنقاذ حياة البشر من مرض الجدري رفضت الجمعية الملكية البريطانية نشر البحث الطبي الذي أرسله لهم. ولكن مع الوقت بدأ خبر هذا الاكتشاف في الانتشار حتى وصل أخيرا إلى فرنسا وهنا وجد مساندة كبيرة من قبل الحاكم والجنرال المتفتح ذهنيا نابليون بونبارت. وبالإضافة لإصدار نابليون أوامره بأن يتم تطعيم أفراد الجيش الفرنسي بطريقة جينر الجديدة نجده كذلك وبالرغم من أن فرنسا كانت في حالة حرب مع بريطانيا يقوم بمنح الطبيب جينر ميدالية تكريمية (في نفس الفترة تقريبا منح نابليون عالم الكيمياء البريطاني همفري ديفي ميدالية ذهبية لاكتشافه عنصري الصوديوم والبوتاسيوم ودعاه للحضور لمدينة باريس وفي الواقع الجوانب العلمية في شخصية نابليون تحتاج مقال مستقل). وعندما قام جينر بالشفاعة لدى نابليون بطلب إطلاق بعض الأسرى من الجنود الإنجليزي استجاب نابليون في الحال وذكر أنه لا يمكن أن يرفض له أي طلب.

(الناس على دين ملوكهم) عبارة واستقراء حكيم يصح في الدين والسياسة بل وحتى في الطب فعندما تشكك ترامب من صحة الطب الوقائي وطب الأوبئة وقعت أكبر كارثة طبية في تاريخ أمريكا وفي المقابل حسمت الإمبراطورة البريطانية فكتوريا الجدل المثار في المجتمع عن أهمية وسلامة استخدام غاز التخدير أثناء العمليات الجراحية. في عام 1847م توصل الطبيب الأسكتلندي جيمس سمبسون لاكتشاف أن مخدر الكلوروفورم يمكن استخدامه في تخفيف آلام الوضع والولادة للنساء. ولعدة سنوات استمر الجدل في المجتمع البريطاني حول هذا الأمر ولم يحسم بشكل نهائي إلا بعد ذلك بحوالي ست سنوات عندما وافقت الملكة فيكتوريا على استخدام مخدر الكلوروفورم أثناء عملية ولادتها لطفلها السابع الأمير ليوبولد وليس هذا وحسب بل إنها لاحقا كرمت الطبيب سمبسون بمنح رتبة سير تقديرا لإنجازه الطبي التاريخي.

عندما يكون الحاكم أو الملك أو الرئيس متفهم ومتقبل للأفكار الطبية الجديدة هذا يساعد كثيرا في توفير الدعم المادي لها بالإضافة لتسخير جميع الإمكانات الحكومية والتشريعية لتذليل جميع الصعوبات التي تواجهها. ومن أسباب (تفهم وتقبل) الحاكم للاكتشافات والأفكار الطبية الجديدة أن يكون هو نفسه قد أصيب بمرض عضال في مرحلة ما من حياته وبهذا يستوعب المعاناة التي يحتاج المرضى لمن يخففها عنهم. وبحكم الحديث عن الأمراض والتطعيمات واللقاحات ربما بشكل أو آخر ساعد بعض رؤساء أمريكا في تسهيل تقدم الطب إذا علمنا أن الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أصيب بمرض شلل الأطفال بينما الرئيس إبرهام لينكولين تعرض في آخر عمره لمرحلة صحية حرجة بعد إصابته بمرض الحصبة في حين أن الرئيس الأمريكي القديم أندرو جاكسون أصيب في أوائل شباب بمرض الجدري. القائد أو الحاكم عندما يتعرض بشكل شخصي للمآسي والمصائب الناتجة من الأمراض يكون أحرص من غيره على بذل أقصى جهد لمنعها بالكلية أو التقليل من أخطارها. صحيح أن نابليون بونبارت شخصية منفتحة الذهن ومتقبله للعلم ولكن يجب ألا نغفل أنه قبل أن يكرم إدوارد جينر على اكتشافه للقاح ضد مرض الجدري ذاق قبل ذلك بخمس سنوات مرارة الهزيمة والفشل عندما تسبب وباء الطاعون في إنهاء حملته العسكرية على بلاد الشام. وعندما تسبب ذلك الطاعون في مقتل حوالي عشرين ألف جندي من الجيش الفرنسي نفهم الآن لماذا أمر نابليون لاحقا بتطعيم جنود جيشه بلقاح مرض الجدري بل أنه لم يتردد حتى في استخدام هذا اللقاح مع طفله الصغير وهو أمر مستحيل تصوره أن يقوم الرئيس الأمريكي ترامب بتعريض أطفاله أو أحفاده للقاح طبي جديد لا يعرف تماما فعاليته المناعية وسلامته الصحية.


الجمعة، 18 ديسمبر 2020

( إلا محمد ) بن إسماعيل البخاري


 قبر الإمام البخاري بالقرب من سمرقند

د/ أحمد بن حامد الغامدي

من الأسلحة القانونية بالغة الأهمية في الحملة المباركة ( إلا محمد ) للدفاع عن نبي الإنسانية الحكم الذي قضت به المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأن الإساءة إلى الرسول الكريم لا تندرج ضمن حرية التعبير عن الرأي. ومن المرتكزات التي بنت عليها تلك المحكمة حكمها التاريخي ذلك أنه من حق الأخرين حماية معتقداتهم ورموزهم الدينية. من بديهيات الحياة وطبائع الأشياء أن جميع المجتمعات لا تقبل المساس برموزها الدينية ولا بشخصياتها القومية ولا بأعلامها السياسية وأن أي مساس بهذه الرموز يسبب احتقان للسلم المجتمعي. من هذا المنطلق نفهم لماذا تزامنت وتداخلت الانتفاضة الشعبية محليا وإقليميا في الدفاع عن محمد بن عبد الله الرسول الكريم وعن محمد بن إسماعيل البخاري الخادم الأمين للسنة النبوية. في الحديث النبوي عن الرسول الكريم أنه قال (ألا إنني أوتيت القرآن ومثله معه) والسنة هي الحكمة التي وردت في غير موضع من القرآن الكريم مقترنه مع الكتاب (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة). فالسنة النبوي المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام هي من الوحي الرباني وهذه السنة محفوظة ومنقولة من خلال كتب ومرويات الحديث الشريف. وإمام أهل الحديث بلا منازع في جميع العصر هو الإمام البخاري الملقب بأمير المؤمنين في الحديث وكتابه (الجامع الصحيح) هو أهم وأبرز وأصح كتب التراث الإسلامي من مبتداه إلى منتاه.

من هذا وذاك نعلم الارتباط الوثيق في الدفاع والذب عن محمد صلى الله عليه وسلم نبي الإسلام وسيد ولد آدم والدفاع والذب عن محمد البخاري طبيب الحديث وسيد المحدثين كما وصفه الإمام مسلم. يقال إن الإمام البخاري رحمة الله شاهد في المنام رؤيا وكأنه واقف أمام النبي عليه الصلاة والسلام وبيده مروحه يذب بها الذباب وعندما سأل عن تفسيرها تم تعبير هذه الرؤيا بأنه يذب ويطرد الكذب عن الرسول عليه السلام. والجزاء من جنس العمل كما يقال ولذا من حق الإمام البخاري علينا أن نذب ونبعد عنه كل كذب وافتراء وتشويه واستنقاص. من البديهيات والأمور المسلمات أن الامام البخاري من أشهر وأهم الرموز والأعلام في تاريخ الإسلام بعد الصحابة الكرام وهو في مجال الشهرة في طبقة أصحاب المذاهب الفقهية الكبرى إن لم يكن قد يفوقهم في الشهرة والقدر والتعظيم.

وحتى اليوم نجد في الديار المصرية عندما يتكلم رجل بالطعن في شخص آخر ويرفض المستمعون هذا التنقص ويردون عليه نجد أن الشخص الأول وكنوع من الدفاع عن نفسه يطالب بأن يخففوا عنه الملامة فهو لم يخطئ في حق شخص عظيم الشأن ولذا يقول (أيه يا عم هو أحنا غلطنا في البخاري ؟!!). والمقصود أن للإمام البخاري ولكتابه الجامع الصحيح مكانة وقدر وتعظيم واحترام عميق جدا في الأمة الإسلامية منذ قرون طويلة وهو بهذا ارتفع مكانه ليصبح رمز ديني لا يقبل على الاطلاق الاستنقاص منه أو الطعن فيه. وفي هذا المساق نفهم (وإن كنا لا نوافق) الاخبار المنتشرة في التاريخ الإسلامي سواءً في تعظيم الإمام البخاري كشخص أو تقديس كتابه الجليل كرمز للدين الحنيف. في بعض الدول الإسلامية قد تجد من يحلف بالبخاري فالعوام في مصر مثلا قد يقول أحدهم (والبخاري ما فعلت كذا) بينما في المغرب العربي إذا أراد أحدهم أن يؤكد قسمه وحلفانه على شيء يقول (والجاه والبخاري). والغالب أن العوام أو الشخص الذي يحلف (بالبخاري) يقصد الحلف بالأحاديث الشريفة التي في كتاب البخاري ولا يقصد الحلف بشخص الإمام البخاري نفسه. وهذا يفسر لنا ارتباط كتاب البخاري (الجامع الصحيح) بالتقديس والبركة والاستغاثة لدرجة أن الحافظ ابن حجر ذكر في مقدمة كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري ما ورد عن بعض السلف أن (صحيح البخاري ما ُقرئ في شدة إلا فرجت). عندما غزا نابليون بونبارت مصر واحتل مدينة الإسكندرية ثم بدأ جيشه يتجه نحو القاهرة وهنا يذكر لنا المؤرخ الجبرتي موقف أهل القاهرة لمواجهة زحف الجيش الفرنسي بالاستعدادات الدفاعية العسكرية والدينية والتي كان منها (.. واجتماع علماء الأزهر لقراءة صحيح البخاري). ويبدو أن هذا تقليد قديم في بعض الحروب الإسلامية للتترس ببركة كتاب صحيح البخاري لدرجة أنه يقال إن الجيوش العثمانية كان يوجد فيها وحدات خاصة لقراءة صحيح البخاري عند مواجهة العدو في ساحات القتال.

ليس هذا وحسب فيما يخص شدة تعلق الناس بكتاب البخاري وتعظيمهم له وبحكم إننا ما زلنا في أجواء وباء الكورونا والشيء بالشيء يذكر فهذا الجبرتي مرة أخرى عندما ذكر وباء الطاعون الذي اجتاح الديار المصرية عام 1813م والاستعدادات التي أمر بها محمد علي باشا والتي كان منها (وأمر أيضا بقراءة صحيح البخاري بالأزهر) وذلك بنية رفع الوباء. وفي تاريخ ابن كثير رحمه الله شيء مشابه وذلك عند حديثه عن الوباء الذي أصاب فلسطين عام 749 هـ وتسبب في وفاة عدد هائل من البشر وكان من وسيلة الناس للتقرب لله بالدعاء برفع البلاء أن تم قراءة كتاب صحيح البخاري بعد صلاة الجمعة. بل إن المؤرخ المقريزي ذكر توظيف فريد لقراءة كتاب صحيح البخاري من قبل سلطان مصر المملوكي الملك الأشرف أبو المعالي الذي أمر بقراءة صحيح البخاري في كل يوم من أيام رمضان تبركا بقراءته لما نزل بالناس من غلاء الأسعار. وفي موضع آخر وفي سنة أخرى وفي بلد مغاير نقل المقريزي أنه حصل جفاف في بلاد الشام وقحط شديد ولهذا قام أحد المشايخ بقراءة كتاب صحيح البخاري في الجامع الأموي بدمشق في يوم الأحد التاسع من شهر صفر 695 هـ فسقط المطر من تلك الليلة واستمر عدة أيام. وحتى في أيام الرخاء والاستقرار فما زال الجميع يلتمس البركة من وراء قراءة صحيح البخاري فهذا السلطان المغربي الحسن الأول عندما بنى في نهاية القرن التاسع عشر قصره بمدينة الرباط افتتح ذلك المسكن الفخم بحفلة خاصة تم فيها قراءة صحيح البخاري بمحضر العلماء والوزراء.

وهذا ما كان من التعظيم والإجلال لكتاب الجامع الصحيح عبر العصور وفي مختلف المجتمعات الإسلامية أما التبرك بنفس شخص الإمام البخاري فهو أيضا موروث قديم فالمحدث الحافظ تقي الدين السبكي ذكر أن الناس كانوا يتبركون بتراب قبر البخاري. وفي بعض المرويات التاريخية أنه عندما دفن رحمه الله فاح الطيب من قبره ولهذا أخذ الناس ومن باب البركة يغرفون من التراب فوق قبره حتى أنكشف القبر ثم بعد ذلك بني الضريح على قبره. وبمناسبة ذكر ضريح البخاري فهو موجود في طرف قرية صغيرة في ضواحي مدينة سمرقند بدولة أوزبكستان حاليا وقد سبق لي أن زرت المكان مع بعض الزملاء الأفاضل ومظاهر الغلو عنده غير ظاهرة بشكل واضح. لكن في المقابل ذلك الضريح هو أكثر مكان ذي خلفية دينية إسلامية أو مسيحية أو بوذية وجدت عنده عدد كبير وجمع غفير من الفقراء الذين يسألون المساعدة والعون وكأن عاطفة الزوار والسياح تجود بالمال فوق العادة في ذلك الموضع. وكما ذكر المقريزي حادثة الاستسقاء في مدينة دمشق بقراءة كتاب صحيح البخاري ذكر الإمام الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء القصة الشهيرة عندما أصاب مدينة سمرقند قحط شديد وذلك عام 464 هـ وكيف أن الناس استسقوا مرارا فلم يسقوا حتى أشار عليهم رجل معروف بالصلاح أن يخرج الناس مع قاضي سمرقند إلى قبر الإمام البخاري ويستسقون عنده. وهنا تذكر كتب التاريخ أنه تكرر ما حصل بمدينة دمشق من المطر الغزير لدرجة أن الناس أقاموا لمدة أسبوع في قرية خرتنك التي فيها قبر البخاري ولم يستطيعوا العودة لمدينة سمرقند من شدة غزارة هطول الأمطار والسيول.

التوظيف السياسي لمكانة الإمام البخاري

الأمثلة والأخبار التي تم سردها بالأعلى عن المكانة العالية والتقدير والتعظيم لكتاب صحيح البخاري ولشخص الإمام البخاري بغض النظر عن صحتها أو توافقها مع المذهب الشرعي (لدرجة أنه يوجد من يطالب بموقف الاقتصاد في الاعتقاد حيال الإمام البخاري) إلا أن المقصود من حشدها تأكيد حقيقة إن الإمام البخاري وبكل استحقاق هو من أهم الرموز الدينية في التاريخ الإسلامي قديما وحديثا. ولا يصح على الإطلاق من أبناء الإسلام قبول الطعن في الإمام البخاري في حين أن أشداء الأعداء خصومه للدين الإسلامي عرفوا له قدره ومكانته وتقربوا للعالم والأمة الإسلامية من خلاله. بعد الاحتلال السوفيتي للجمهوريات الإسلامية في وسط آسيا تعرض المسلمون لاضطهاد ديني أثيم نتج عنه إغلاق آلاف المدارس الدينية والمساجد ولم يبقى متاحا في جميع المناطق الإسلامية إلا مدرسة مير عرب في بخارى ومدرسة مبارك خان في طشقند. السياسة القمعية السوفيتية تغيرت بشكل ملموس في عهد الرئيس الروسي بريجنيف والذي كمحاولة منه للتقرب للجالية المسلمة في الإمبراطورية الروسية والتقرب من حكومات وشعوب العالم الإسلامي استخدم المكانة المميزة للإمام البخاري. في البداية تم تغيير مسمى مدرسة مبارك خان في طشقند إلى اسم الإمام البخاري وتم تحويل تلك المدرسة وتطويرها إلى معهد الإمام البخاري للدراسات الإسلامية. وحتى يقنع الاتحاد السوفيتي شعوب وحكومات العالم الإسلامي أنه لا يضطهد الجالية المسلمة استغل مناسبة مرور 1100 سنة على وفاة الإمام البخاري وقام في عام 1970م بإقامة مؤتمر ديني عالمي كبير في مدينة سمرقند خصص عن الإمام البخاري وتم دعوة عدد كبير من الجهات الدينية الرسمية في معظم البلاد الإسلامية وكان على رأسها رابطة العالم الإسلامي.

من غرائب الموافقات في التوظيف السياسي للتقدير البالغ للإمام البخاري في العالم العربي والإسلامي أنه قبل المؤتمر الدولي الضخم الذي سمح به الشيوعيون في سمرقند عام 1970م نجد قبل ذلك بسنه واحدة أي في عام 1969 نجد أن جمال عبد الناصر والحكومة المصرية الاشتراكية وبعد الهزيمة الشنيعة في حرب 67 تحاول التزلف للشعوب العربية من بوابة إصدار طابع بريدي خاص عليه صورة متخيلة للإمام البخاري وكذلك التجهيز لطباعة 30 ألف نسخة من كتاب صحيح البخاري.

الجدير بالذكر أن العديد من السلاطين والحكام في التاريخ الإسلامي القديم اكتسبوا مكانة مرموقة لدى العلماء والرعية عندما تعمقوا في دراسة صحيح البخاري لدرجة أن يصبح لهم القدرة على شرح وتدريس صحيح البخاري. فهذا السلطان المملوكي المؤيد شيخ المحمودي درس كتاب صحيح البخاري على يد سراج الدين البلقيني وأخذ منه إجازة بروايته وشرحه ولاحقا كما يذكر المقريزي كان السلطان المؤيد هو من ابتدع (ميعاد البخاري) وهي حلقة علمية ُيقرأ فيها صحيح البخاري في كل يوم من رمضان. أما السلطان المغربي محمد الثالث بن عبد الله الملقب بسلطان العلماء وعالم السلاطين فقد ألف كتاب خاص لتخريج أحاديث صحيح البخاري سماه (فتح الباري في تخريج أحاديث البخاري). وما دمنا في بلاد المغرب فلعل المجال ملائم لذكر أكثر حاكم أو سياسي استفاد واستطاع (توظيف) التعظيم الديني للإمام البخاري. وكان ذلك السلطان المغربي إسماعيل بن الشريف والذي نجده في بداية القرن الثامن عشر يكون له جيش خاص مؤلف من الرقيق سماه (جيش عبيد البخاري) لأنه كان مكون من العبيد الذين أقسموا للسلطان على كتاب صحيح البخاري بأن يكون ولائهم فقط له.

بقي أن نقول في الختام قبل أن نغادر أن المقصود من هذا المقال ليس تعزيز الصورة المغالية في تقديس الإمام البخاري وكتابه (الجامع الصحيح) ولكن الهدف كان إعادة تأكيد المكانة العالية والرفيعة بل والفريدة لكلا من الإمام البخاري وكتابه الصحيح فهما بحق وصدق من رموز الإسلام. وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح أنهما لا يجوز نقدهما وإخضاعهما للدراسة التاريخية والحديثية والشرعية فأما البخاري نفسه فهو بشر وهذا يكفي للدلالة أن غير معصوم من الخطأ والنقص. وأما كتاب (الجامع الصحيح) فهو أيضا جهد بشري ولهذا لا مندوحة من أن يندرج تحت قوله تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) ومن هنا نفهم ولا نتحرج من نقد كبار العلماء ((لبعض)) أحاديث البخاري كما فعل الحافظ الدارقطني وأبو حاتم الرازي بل وحتى محدث العصر الشيخ ناصر الدين الألباني. يقال (إن الحديث الذي لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث) وهذا يأتي في سياق بيان عظم علو كعب شيخ الإسلام ابن تيمية في الصنعة الحديثية ولهذا أنصف ابن تيمية الإمام البخاري عندما قرر أن غالب ما أُنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحا على قول من نازعة. ولهذا لا يصح عقلا ولا شرعا الاستناد على هذا (النقد العلمي) على بعض أحاديث صحيح البخاري لمحاولة طمسه بالكامل والزعم الفج أن ما فيه يخالف القرآن ويشوه دين وسيرة الرسول الكريم.

كما هو معلوم أهم كتب الإسلام هي صحيح البخاري وصحيح مسلم وأهم الشروح الحديثية والفقهية لها هي كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني وكتاب المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للحافظ الإمام النووي. وكلا من كتاب فتح الباري وكتاب شرح صحيح مسلم من الكتب الضخمة المؤلفة في عشرات المجلدات وآلاف الصفحات والورقات واحتمالية وجود بعض الأخطاء فيها أمر وارد ولا شك. قبل فترة من الزمن قام بعض غلاة السلفية بحماقة تعمد إحراق كتاب فتح الباري وكتاب شرح صحيح مسلم بحجة أن كلا من ابن حجر العسقلاني والإمام النووي هم من الأشاعرة وأن لديهما أخطاء في عقيدة الأسماء والصفات. وهذا الغلو والتطرف السلفي الأهوج سرعان ما تلاشى وبقيت المكانة العالية للأهمية الدينية لهذين الكتابين وأنهما من أهم وأفضل كتب التراث الإسلامي. وعلى نفس النسق وحذو القذه بالقذة نجد اليوم دهاقنة الغلو العلماني والتطرف العقلاني يبثون سموهم في المجتمع بأن صحيح البخاري وصحيح مسلم ينبغي إحراقها معنويا وطمسها واقعيا. ولأن الله قد تكفل بحفظ دينه ووحيه القرآني وسنة رسوله فمصير هذا التطرف والتشكيك والكيد إلى زوال وسوف تبقى كتب ودواوين السنة النبوية الشريفة هي المنهاج والطريق القويم في الماضي والحاضر والمستقبل.


( التشبث بالسلطة .. موروث أمريكي أصيل !! )


 الرئيس ترامب ليس الوحيد الذي حاول أن لا يتنازل عن السلطة

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الإمام الكبير سفيان الثوري أحد أبرز أعلام الزهد في الإسلام والذي قال عنه الإمام الذهبي (كان سفيان رأساً في الزهد) وما يهمنا هنا أنه له مقولات وحكم كثيرة في مجال الزهد وأنواعه وحقيقته ومن ذلك قوله الحكيم (ما رأيت زهداً في شيء أقل منه في الرئاسة). صحيح أن إمام الزاهدين الثوري قصد بالرئاسة كل رغبة في البروز والرفعة والسيطرة إلا أن هذا الأمر أوضح ما يكون في الحكم والسلطان. ولا شك أن حب السلطة وشهوة الرئاسة مغروسة في عمق مشاعر ورغبات البشر وهذا ما قد يفسر المهزلة الحاصلة هذه الأيام في الولايات المتحدة من تشبث الرئيس الأمريكي (السابق) دونالد ترامب بكرسي الرئاسة وعرش السلطة.

الغريب والطريف في ذات الأمر أن مشكلة أو فضيحة التشبث بالسلطة لأخر لحظة حصلت في البيت الأبيض الأمريكي قبل مائة سنة بالتمام ومع الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الذي عانى في آخر سنة له في الحكم من إصابته بجلطة في الدماغ تسببت له بالشلل في النصف الأيسر من جسمه. وبحكم أن هذه علة صحية خطيرة تؤثر كثيرا على قدرة الرئيس في أداء مهامهم في إدارة شؤون البلد كان من المفترض أن يتم التنازل من قبل الرئيس لنائب الرئيس ولكن بدلا من ذلك ولمدة طويلة من الزمن جرت مؤامرة عجيبة في داخل غرفة نوم الرئيس بينه وبين زوجته وبين طبيبة الخاص. أتفق هؤلاء المتآمرون الثلاثة على أن يخفوا تماما عن الشعب الأمريكي مرض الرئيس الخطير وذكروا للجميع أن الرئيس فقط مصاب بانهيار عصبي وأنه لا يستحمل مقابلة الآخرين.

وبعد استمرار حالة الضبابية عن حقيقة الحالة الصحية للرئيس ويلسون استغل الجميع فرصة وصول ملك وملكة بلجيكا إلى العاصمة واشنطن للسلام واللقاء بالرئيس وأن هذا سوف يكشف الحقيقة أخيرا. وهنا استطاع الطبيب الخاص الدكتور كاري غريسون وزوجة الرئيس أن يخدعوا العائلة الملكية البلجيكية بأن جعلوهم يجلسون في الجهة المقابلة للشق الأيمن السليم من جسم الرئيس وكذلك أسدلوا الستائر الثقيلة على نوافذ غرفة النوم. ولهذا انطلت الحيلة عليهم فعندما سألهم الصحفيون المتلهفين عن صحة الرئيس ذكر ملك بلجيكا أنها لا بأس بها. وكما هو متوقع الجلطة الدماغية والشلل هي إعاقة صحية نادرة الشفاء بل أن مشاكل الرئيس ويلسون تفاقمت مع الزمن وأصيب كذلك بالرعاش وعندما تزايدت الإشاعات وتنامت الشكوك لدرجة أن البرلمان الأمريكي أرسل اثنين من نواب الكونجرس لمقابلة الرئيس والتأكد من سلامته العقلية. وهنا كررت زوجة الرئيس وطبيبه الخاص نفس حيلة غرفة النوم خافتة الإضاءة ووقفا بجانب سرير الرئيس لكي يشجعانه على الرد على أسئلة البرلمان بعد أن ظلا ليوم كامل وهما يدربان ويجهزان الرئيس لهذه المقابلة الحاسمة. والغريب أنه تم مرة ثانية خداع نواب البرلمان وعندما سألهما رجال الصحافة عن صحة الرئيس أجاب نواب البرلمان أن صحة والقدرة الذهنية للرئيس جيدة !!.

قمة المهزلة في قصة تشبث الرئيس الأمريكي المشلول (بسرير) السلطة لم تنتهي هنا فتقريبا لمدة سنة ونصف من الفترة الأخيرة لحكم الرئيس ويلسون كانت زوجته الثانية السيدة إديث هي من تدير فعليا شؤون الإمبراطورية الأمريكية وهي الشخص الوحيد المسموح له بالتواصل بين الرئيس وأعضاء حكومته ووزرائه. وعندما حاول وزير الخارجية الأميركية في ذلك الوقت أن يسيطر على الأوضاع تدخلت (حرم الرئيس) وعزلته عن منصبه. بحكم أن عمر الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن متقدم جدا توجد احتمالات بأن تصبح نائبة الرئيس السيدة كاملا هارس أول امرأة تتولى منصب رئيس الولايات المتحدة هذا من الناحية الرسمية أما من الناحية الفعلية والتاريخية فإن السيدة إديث ويلسون هي بالفعل أول امرأة تقوم بذلك الدور. أما قمة المسخرة في هذه القصة أن الرئيس الأمريكي ويلسون بالرغم من رجاحة عقله في مجال السياسية وهو الأكاديمي المرموق ورئيس جامعة برينستون والحاصل على جائزة نوبل في السلام لعام 1919م ودوره التاريخي في إنشاء عصبة الأمم ومبادئه الأربعة عشر المشهورة لاستقلال الشعوب. إلا أننا نجده بمنتهى السفه والعبث يتقدم لترشيح نفسه لفترة رئاسية ثالثة في نهاية عام 1920م بمعنى أنه كان يرغب أن يستمر في حكم الأمة الأمريكية لأربع سنوات وهو مستلقي مشلول الجسد على سرير الحكم ومشلول الذهن بحب التشبث بالسلطة.

وبينما الرئيس ويلسون يقضي بقية حياته مصاب بالشلل نجد في أمر ذي صلة نجد أن الرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت يصاب بعد خروج ويلسون أخيرا من البيت الأبيض (وذلك في عام 1921م) بمرض شلل الأطفال Polio وهو مرض فيروسي معدي يصيب الكبار والصغار على حدا سواء. وبعد أن تسبب مرض الشلل هذا في إقعاد روزفلت عن ممارسة النشاط السياسي لمدة ثلاث سنوات رجع بعد ذلك يزاول حياته الاعتيادية لدرجة أن تم انتخابه كرئيس للولايات المتحدة لأول مرة عام 1932م ثم للفترة الثانية عام 1936 ميلادي. وفي عام 1940م وبالرغم من إن الولايات المتحدة على وشك الدخول في أصعب مرحلة على الإطلاق في تاريخها الحديث وذلك بالانخراط بالحرب العالمية الثانية وبحكم أن الوضع الصحي للرئيس فرانكلين روزفلت غير ملائم للضغوط النفسية والارهاق البدني إلا أنه فاجأ الجميع عندما ترشح للمرة الثالثة وكسب الانتخابات. وبالرغم من قوة شخصية فرنكلين أثناء التصدي للنازية الألمانية ورد الهجوم الياباني المدمر إلا إنه من الناحية الجسمانية كان غير ملائم على الإطلاق.

في الواقع في ذلك الزمن احتاج فرنكلين للسفر بشكل متكرر وعقد لقاءات ومؤتمرات قمة متعددة مع رؤوسا دول الحلفاء كما في قمة يالطا وقمة طهران ومؤتمر الدار البيضاء ومؤتمر القاهرة وزيارات متعدد لمدينة لندن.  في ذلك الزمن كان السفر يتم إما عبر السفن أو بالطائرات المروحية وهي غير ملائمة على الإطلاق لشخص مصاب بالشلل لأنها كانت رحلات سفر تستغرق ساعات طويلة وتحتاج للتوقف في محطات متعددة. فمثلا لمجرد سفر فرنكلين من العاصمة واشنطن إلى مدينة الدار البيضاء في المغرب للقاء مع تشرشل وستالين احتاج أن يتوقف في حوالي ثمان محطات تمر عبر دول أمريكا الجنوبية ثم دول غرب أفريقيا ولمدة سفر قاربت الثلاثة أيام.

في الوقت الحالي وبنص التعديلات الحديثة على الدستور الأمريكي لا يحق لأي رئيس أمريكي أن يشغل منصب الرئاسة لأكثر من فترتين رئاسيتين ولكن هذا الأمر لم يكن يطبق قديما ولهذا كانت المفاجأة الكبرى والحادثة الأغرب في التاريخ الأمريكي في (التشبث بالسلطة) عندما تقدم الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1944م بالترشيح للفترة الرئاسية الرابعة بالرغم من أنه في تلك الفترة كان يعاني بالإضافة لمرض الشلل العديد من المشاكل الصحية في القلب بسبب شراهته في التدخين. ومع كل تلك المشاكل الصحية والإعاقة الجسدية التي تستحق الراحة والتقاعد المبكر من ضغوطات الحياة خصوصا زمن الحروب إلا أن الرئيس روزفلت استطاع الانتصار في الانتخابات الأخيرة والبقاء في البيت الأبيض لفترة رئاسية رابع ولكن صحته تدهورت بشكل ملموس بعد إعادة انتخابه حيث توفي بنزيف في الدماغ بعد عام من بداية فترة رئاسته الأخيرة.

أثناء الفترات العصيبة يتشبث بقوة الرؤساء الأمريكان بالسلطة وكأنهم هم الوحيدين القادرين على إدارة الأمة في وقت الأزمات فالرئيس أبراهام لينكولن ترشح لفترة الثانية وفاز بها بعد الحرب الأهلية الأمريكية والرئيس ويلسون رغب في الاستمرار في القيادة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى الأمر الذي تكرر بشكل فج مع الرئيس روزفلت في نهاية الحرب العالمية الثانية. ولهذا لم يكن مستغربا من الناحية المبدئية أن يتشبث الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بتجديد الانتخاب له في عز الحرب الأمريكية الفيتنامية. لكن المشكلة أنه على العكس ممن سبقه من الرؤساء حاول نيكسون التشبث بالسلطة بالطرق الملتوية والقذرة وذلك أنه استطاع أن ينجح في عام 1972م في إعادة انتخابه لفترة رئاسية ثانية وذلك من خلال التجسس على خصومه السياسيين. الجميع يعلم ولا شك تفاصيل فضيحة ووتر غيت وكيف قام الرئيس نيكسون بتوجيه خمسة من أفراد حملته الانتخابية لزرع أجهزة تنصت في المقر الرئيسي للحزب الديمقراطي المنافس. وعن طريق عملية التجسس هذه حصل نيكسون وفريق عمله على معلومات مهمة عن برنامج وخطط الحملة الانتخابية المنافسة الأمر الذي مكنه من الفوز بالانتخابات لفترته الرئاسية الثانية. وبالرغم من تشبثه بالسلطة بأي وسيلة فحتى الآن يعتبر الرئيس نيكسون هو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي انتزعت منه السلطة بإجباره على الاعتزال وتسليم مقاليد الحكم إلى نائبه الرئيس التالي جيرالد فورد.

أمريكا والديمقراطية المنقوصة

بدون أدنى شك تعتبر ظاهرة (تداول السلطة) أحد أهم وأبرز مظاهر الديمقراطية في أي بلد جمهوري والتنازل السلس عن السلطة والحكم وتداوله بين الأحزاب المختلفة مؤشر حقيقي للحيوية السياسية لذلك البلد. ومن هنا نجد أن الدول (العتيقة وليس شرطا العريقة) في مجال الحريات والديمقراطية مثل بعض الدول الأوروبية يسهل جدا فيها استقالة الحكومات التنفيذية وتنازل رئيس الدولة أو رئيس الوزراء عن منصبه السيادي. خذ على ذلك مثلا أنه خلال الأربع سنوات التي قضاها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السلطة ومع ذلك يرفض الآن التنازل عن الحكم نجد في بريطانيا وفي نفس تلك الفترة يتم بسلاسة تداول السلطة حيث تتابع على الحكم ثلاث رؤساء وزراء إنجليز هم ديفيد كاميرون وتيريزا ماي وبوريس جونسون. في التاريخ الأمريكي لا توجد حالة واحدة للتنازل عن السلطة بشكل طوعي فكل رؤساء أمريكا دون استثناء يغادرون البيت الأبيض إما بالموت الطبيعي أو الاغتيال أو انتهاء الفترة الرئاسية (مع استثناء نيكسون الذي أجبر على الاستقالة تفاديا لخلعه من السلطة ومن ثم محاكمته). الجدير بالذكر أن كبار الشخصيات السياسية البريطانية لا تجد غضاضة أو حرج في التنازل عن السلطة والاستقالة بمجرد ما حصول ضعف في الأداء السياسي أو الاقتصادي أو العسكري للبلد وهذا ما حصل مثلا مع ونستون تشرشل ومارغريت تاتشر بالإضافة للرؤساء الوزراء الأقل شهرة مثل تشامبرلن وإيدن وماكميلان و جوردن براون.

ومن مظاهر نقص الديمقراطية في الدول الغربية عندما نجد مؤشرات (لاحتكار) السلطة وحصرها ضمن نطاق وجماعات محددة لا يخرج منها وهذا ما نجده بشكل واضح في الولايات المتحدة عن بقية الدول الأوروبية حيث لم يصل لمنصب الرئيس أي سيدة أمريكية. بينما تولي النساء لمنصب رئيسة الوزراء مشهد مؤلف وعادي جدا في عدد من الدول مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا والنرويج وكندا وأيرلندا والنمسا بل وحتى عدد كبير من دول العالم الثالث. أما فيما يتعلق بديانة الرئيس فمن شبه المستحيل أن ينتخب مرشح أمريكي ليس على المذهب البروتستانتي السائد والاستثناء الوحيد واليتيم فهو انتخاب الرئيس جون كينيدي الكاثوليكي. بينما في المقابل نجد في بريطانيا أن رئيس الوزراء بنجامين دزرائيلي اليهودي الديانة قد انتخب مرتين لتولي أعلى منصب في الإمبراطورية البريطانية عندما كانت في عز قوتها التي لا تغيب عنها الشمس.

ظاهرة أخرى سياسية تدل على احتكار السلطة والتشبث بها في الولايات المتحدة هي ظاهرة (العوائل السياسية) فربما نجد مثلا في الدول الأوروبية أفراد أسرة واحدة لهم ارتباط متواصل ومتوارث بالسياسة لكن لم يحصل أن تتابع أفراد أسرة واحدة في تولي منصب رئاسة أي دولة أوروبية. المشهد السياسي مختلف نسبيا في أمريكا فكما هو معلوم لدينا الرئيس جورج بوش الأب والرئيس جورج بوش الأبن. وقبلهما ظهر الرئيس الثاني لأمريكا جون آدمز والذي وإن كان يوصف بأنه أحد (الآباء) المؤسسين للولايات المتحدة إلا أنه بالفعل أحد (الآباء) للرئيس الأمريكي السادس جون كوينسي آدمز في حين أن الرئيس الأمريكي التاسع ويليام هاريسون هو جد الرئيس الأمريكي بنجامين هاريسون. أما علاقة الأخوة بين رؤساء أمريكا فقد كادت تتحقق مع الثنائي جون كيندي وشقيقه روبرت كيندي الذي كانت فرصته قوية للوصول للحكم لو لم يتم اغتياله بعد فوزه في المرحلة الأولى للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1968م علما بأنه كان بالفعل يتولى قيادة أمريكا مع أخيه الرئيس جون كيندي حيث كان أهم أعضاء حكومته.

وأخيرا كما هو معلوم من أبرز مظاهر الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية تحكّم وسيطرة الجنرالات والعسكر على مفاصل السلطة ولهذا نادر جدا في الدول العريقة في الديمقراطية إسناد حكم البلاد لجنرالات الحروب. وبحكم أن الديمقراطية منقوصة في أمريكا كما شاهدنا سابقا فلهذا لا غرابة أن نعلم أن أربعة من رؤساء كانوا في الأصل عسكر حرب وجنرالات قتال وبدون أي خبرة سياسية مسبقة. وهذا بالضبط حال الجنرال والرئيس الأمريكي أيزنهاور (قائد قوات الحلفاء في أوروبا في الحرب العالمية الثانية) والجنرال الرئيس يوليسس غرانت (قائد الجيش الأمريكي في الحرب الأهلية) والجنرال الرئيس زكاري تايلور (قائد الجيش في الحرب الأمريكية المكسيكية).

أما أهم جنرال عسكري في تاريخ الولايات المتحدة وهو ما سوف نختم به هذا التطواف فهو الجنرال جورج واشنطن قائد القوات المسلحة للجيش الأمريكي أثناء حرب الاستقلال عن بريطانيا والذي أصبح أول رئيس للولايات المتحدة. الغريب أن ظاهرة التمسك بالسلطة والتشبث بالحكم متفشية في رؤساء أمريكيا بالرغم من أن أول رئيس لها كان على خلاف ذلك تماما. حيث يقال إنه بعد الانتصار الكبير للجنرال جورج واشنطن في حرب الاستقلال ترددت مطالب من بعض المعجبين به أن يتم تنصيبه ملكا أو إمبراطورا أو حاكم لمدى الحياة على الدولة الجديدة إلا أن جورج واشنطن رفض ذلك بكل نبل وحنكة سياسية. وعندما تم انتخابه بشكل ديمقراطي ليصبح أول (رئيس) للولايات المتحدة وبعد انتهاء الفترة الرئاسية الثانية رفض للمرة الثانية جورج واشنطن بكل نبل وحنكة سياسية أن يحصل على استثناء من الكونغرس الأمريكي ليحكم لفترة رئاسية ثالثة. من جورج واشنطن إلى دونالد ترامب كم تغير بشكل هائل وحاد المشهد السياسي والعرف الديمقراطي في بلاد اليانكي لدرجة أن العام سام نفسه يخجل ويشيح بوجه عما أصاب تلك الديار من ذلك العار.