الأربعاء، 28 أغسطس 2019

( الحج .. سيرة ذاتية )

لماذا تأخر أدب رحلات الحج لأكثر من أربعة قرون ؟

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الأمة العربية في مجملها أمه بادية كثيرة التنقل والترحال والأمة الاسلامية ركنها الخامس فريضة الحج ومع الزخم الوافر لرحلات الحج إلا أن عدد قليل جدا من الحجيج من حرص على توثيق مشاهدات وذكريات (رحلتهم الحجازية). هل يكفي عذرا أن العرب أمه أمية لا تقرأ ولا تكتب لكي نفهم الفارق الحضاري بيننا وبين الامم السابقة ففي حين كان المؤرخ الاغريقي هيرودوت يوثق في القرن الخامس قبل الميلاد مشاهدات رحلاته في كتابه (تاريخ هيرودوتس) نجد أن أول توثيق للرحلات العربية (رسالة ابن فضلان) لم يقع إلا في القرن الثلاث الهجري - القرن العاشر الميلادي - بمعنى أننا تخلفنا 1500 سنة عن تقليد الاغريق في جانب أدب الرحلات. ليس هذا فحسب فحين نجد أن أول سرد موثق في كتاب مخصوص عن رحلة الحج في الحضارة الاسلامية هو ما قام به الرحالة الفارسي ناصر خسرو شاه في منتصف القرن الخامس الهجري (منتصف القرن الحادي عشر الميلادي) نجد أن الشعوب الأخرى قد قامت قبل ذلك بقرون عديدة في توثيق رحلاتها الدينية. كما هو معلوم ظهرت المسيحية كدين رسمي معترف به عام 325م زمن الإمبراطور الروماني قسطنطين وبعد ذلك بسنتين أرسل ذلك الإمبراطور والدته العجوز هيلينا لحج الأراضي المقدسة المسيحية في القدس. ونظراَ لأهمية هذه الرحلة الدينية أهتم المؤرخ الروماني يوسيبيوس من القرن الرابع الميلادي على توثيق جميع مراحلها وهي بهذا أول حجة دينية مسيحية إلى القدس لها سجل تاريخي غني وشامل. قد تكون الهند هي مهد نشوء الديانة البوذية لكن انتشارها الوسع تم في الاراضي الصينية ولهذا عبر التاريخ قام عشرات الاف من الرهبان البوذيين برحلات دينية غرباَ نحو الأماكن المقدسة البوذية في الهند. ومن أقدم الوثائق التاريخية المسجلة لهذه الرحلات البوذية رحلة الراهب الصيني شوانتسانغ التي استمرت لمدة ستة عشرة سنة والمثير في قصته أنه يتوفر مصدران كبيران لرحلات شوانتسانغ أحدهما من تأليفه نزولا عند رغبة الامبراطور الصيني والآخر من تأليف أحد مريدية ومرافقية.
وعَودُ على بدء نُذّكر بأن العرب شعب من سجيته الارتحال والسفر كما إن من عاداته المستأصلة الحديث عما حصل معه في سفره ولهذا شعر العرب في الجاهلية وصدر الاسلام مشحون بالقصائد والابيات الشعرية الطوال التي تصف الناقة أو الخيل التي يمتطيها الفارس العربي والأهوال التي طرأت عليه في اجتيازه للمفاوز والفيافي والقفار. ولكن اللغز التاريخي المحير هو لماذا أنصرف الأعراب الاقحاح لقرون طويلة عن تدوين وتوصيف رحلاتهم للحج إلى البيت الحرام حيث كما ذكرنا كان الرحالة والشاعر الفارسي ناصر خسرو هو أول شخص في التاريخ الاسلامي يصف معالم وأحداث رحلته إلى الأرض الحرام عام 439 هـ وذلك في كتابه المشهور والبالغ الاهمية (السفرنامه) والذي كتب باللغة الفارسية. لماذا لم يدّون أي من حجاج البيت العتيق من العلماء والادباء في القرون الاربعة الاسلامية تفاصيل رحلاتهم الدينية هل ذاك بسبب الورع وعدم الرغبة في الرياء والسمعة أم هو الخوف من الوقوع فيما حذر منه المؤرخ والرحالة اليوناني القديم سترابو عندما قال (كل متحدث بقصة رحلاته متبجّح).
وكالعادة في واقعنا العرب سرعان ما ننتقل من طرف إلى طرف ومن نقيض إلى نقيض، فطلب تفسير شح وقلة تسطير ذكريات ويوميات ومشاهدات الحاج في العصور الاسلامية القديمة لا يزاحمه إلا طلب تبرير طوفان سيل الحبر المسكوب والورق المكتوب لتوصيف تفاصيل رحلات الحج الحجازية التي نشرها كم غفير جدا من الرحالة والحجاج منذ مطلع القرن السادس الهجري. علما بأن اشهر الرحلات العربية مثل رحلة ابن جبير أو رحلة ابن بطوطة كان مبدأها في الاصل رحلة لأداء فريضة الحج . بكل ثقة نستطيع القول انه لا يوجد الان في تاريخ البشرية كتب مؤلفة لسرد تفاصيل الزيارة الدينية والرحلة الايمانية لأي بقعة دينية او سياحية على سطح الأرض كما هو موجود في كتب مشاهدات الاعلام إلى البلد الحرام. ولتدليل على الكثرة الوافرة من كتب أدب السفر والتحليق إلى البلد العتيق يكفي ان نشير إلى أن المؤرخ المغربي المعاصر عبدالهادي التازي عندما أهتم فقط بتوثيق الرحلات الحجازية المنطلقة من الديار المغربية استطاع سرد أخبار أكثر من مائة مستند وكتاب ووثيقة لرحالة وحجاج من بلاد المغرب سطروا ذكرياتهم المكية وتفاصيل رحلاتهم الحجازية. وهذا ما نجده في الكتاب الموسوعي الضخم الذي ألفه العلامة الدكتور التازي وحمل عنوان (رحلة الرحلات .. مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة).
بقي أن اقول أنه من وجهة نظري الشخصية أن عنوان موسوعة الرحلات المكية للعلامة التازي (رحلة الرحلات) جانبه بعض الصواب فالشطر الثاني منه (مائة رحلة .. ورحلة) هو استدعاء ولا يشك للموروث القصصي القديم (ألف ليله وليله) وما فيه من غرائب الاخبار ومخاطر الارتحال وربما كان الاولى تنزيه ربط رحلة الحج الايمانية بتهويمات الخيال الخرافية. الجدير بالذكر أنه قبل سنوات معدودة من نشر كتاب رحلة الرحلات المغربي نُشر كتاب هام عن رحلات الحج باللغة الانجليزية للكاتب والشاعر الامريكي المسلم مايكل وولف وبحكم أن الكتاب موجهة للقارئ الغربي في الاساس ولهذا يبدو أن عنوان الكتاب أُريد به (توظيف) جاذبية العنوان السحري لألف ليله وليله مع تحوير طفيف ليصبح: ألف طريق إلى مكة (One thousand roads to Mecca). في هذا الكتاب الأجنبي دلالة إضافية على وفرة الكتب المؤلفة في القرون الاخيرة عن رحلة الحج ففي حين ركز عبدالهادي التازي على الرحالة المغاربة نجد أن مايكل وولف يخصص كتابه تقريبا بالكامل لسرد أخبار سفر الرحالة غير العرب (بل وربما غير المسلمين) من الأصول الاوربية. في هذا الكتاب الضخم (656 صفحة) يوثق مايكل وولف الرحلات المكية لحوالي عشرين شخصية منحدرة من دول غربية مختلفة مثل بريطانيا وايطاليا وامريكا واسبانيا وسويسرا والنمسا واستراليا عبر فترة زمنية متطاولة تمتد لخمسة قرون تبدأ من مطلع القرن السادس عشر (عام 1503م عندما قام الرحالة الايطالي فارتيما المعروف بالحاج يونس بزيارة مكة) وحتى نهايات القرن العشرين (سنة 1990م عندما أدى المؤلف مايكل وولف مناسك الحج).
من الاخبار إلى الخواطر
بالرغم من أن مناسك و شعائر الحج ثابتة أبد الدهر إلا إن أحاسيس ومشاعر الحجاج التي تم توثيقها في الكتب يبدو أنها قد تغيرت عبر الزمن. كما لاحظنا في بداية الأمر ولمدة تزيد عن أربع قرون متواصلة لم يسطر أحد من الحجاج المسلمين أي شيء ذي بال عن رحلة الحج ثم وبظهور أدب الرحلات في ديار الاسلام كان اهتمام رواد (( الجغرافيين العرب)) ممن وثق وسجل رحلته الحجازية ينصب على (الدراسة الوصفية) لأبرز أحوال وطباع المسالك والممالك التي يمرون بها أثناء رحلة الحج. بمعنى أن الرحالة الحاج كان يركز على زيادة المعلومات الجغرافية والتاريخية عن الديار الاسلامية والبقاع المكية والاثار الحجازية.  بالمناسبة يشير علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر في مقدمة كتابه الماتع (رحلات حمد الجاسر) أنه استفاد بشكل كبير من كتب رحلات الحج في الحصول على المعلومات المتنوعة عن تاريخ بلادنا وجغرافيتها وأحوالها وربما هذا ما شجعه لاحقا لبذل جهد خاص في تقصي وتجميع كل المخطوطات التراثية عن الرحلات الحجازية ونشر كتابه الفريد (أشهر رحلات الحج).
ما سبق كان هو مساق الاخبار والمعلومات والرصد في أجواء الحج أما ما نحتاج إليه في إثبات أن الحج هو (سيرة ذاتية) وليس فقط (دراسة وثائقية) فنحتاج أن نفتش وننبش عن مشاعر الحاج وليس عن مشاهدات الحاج. الحج كما هو معلوم رحلة مشحونة بالعواطف والاحاسيس والتأملات والنقاشات وتبادل الافكار ورحلة الحج بحق كما وصفها الشيخ محمد الغزالي (رحلة روحية وسياحة عاطفية). من هذا وذاك نجد أنه ومنذ مطلع القرن العشرين اختلفت وبشكل حاد سمات ومعالم كتب رحلات الحج المكية فلم تصبح تركز علي (السرد المُجَرَد) للأخبار والمعلومات ولكن على (السبر المُجرِد)  عن أعمق مشاعر الروح عندما توجد في المشعر الحرام الذي  تسكب عند العبرات وترتفع في محيطه أنين الشهقات.
في زمن الشاشات الفضائية وطوفان معلومات الشبكة العنكبوتية في الغالب نحن لسنا بحاجة إلى كتب الرحلات القديمة لأنها تعطي وصف لمعالم جغرافية غير موجودة الان ولهذا نادر جدا من يقرأ (من غير المتخصصين) رحلة الحج للصفدي أو العبدري أو القيسي أو الجزيري أو البكري أو العياشي أو الهشتوكي فهؤلاء رحمة الله عليهم لا يعرفهم (وفي الغالب لن يعرفهم) جيل اليوم حتى وأن ذكرهم العلامة حمد الجاسر ووصف رحلاتهم الحجازية بأنها من (أشهر) رحلات الحج. في المقابل نجد أن لرحلات الحج ذات طابع الوصفي الروحاني أو الرونق الادبي أو العمق الفلسفي لها سوق رائجة وشهرة ذائعة. وبعد أن كانت عناوين الرحلات القديمة للبيت المعمور لها اسماء متكلفة ومسجوعة فمثلا كتاب رحلة الحج للعالم للفقيه المغربي ابن رشيد السبتي وهو من أعلام القرن الثامن الهجري حمل عنوانا صعب الفهم (ملأ العيبة بما جُمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة) نجد أن عناوين كتب الزمن المعاصر قصيرة وحكيمة. فهذه رحلة علامة الهند الكبير وحيد الدين خان إلى الديار المقدسة نتج عنها أحد اهم كتب الفكرية المعاصرة وهو كتاب حمل عنوان بسيط ولكن عميق (حقيقة الحج) ركز فيه على (روح) الحج ورسالته الكبرى.
الشيخ الجليل علي الطنطاوي وضع قاعدة جميلة في أدب الرحلات عندما قال (.. وأنا حين أهم بالكتابة عن بلد لا أصف أرضه ولا تحديد مساحته وحاصلاته، ولكن أحاول أن اصف مدى شعوري به ومبلغ ما له في نفسي). ولهذا نجد شيخنا الطنطاوي يختار أن يكتب خواطره الحجازية بأسلوب أدبي رفيع والأهم من ذلك أنها جاءت في سياق استخراج معاني الحج  الايمانية ودروسه التربوية ولهذا كان عنوان كتاب الشيخ الطنطاوي عن الحج (من نفحات الحرم). ومن الكتب التي نسجت على منوال الخواطر الفكرية والتأملات الروحية أثناء الزيارة لمهوى الافئدة المكي كتاب (أرض المعجزات) للكاتبة الكبيرة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) وكتاب (في منزل الوحي) للدكتور الاديب محمد حسين هيكل. وبمناسبة ذكر الروائي المصري الكبير محمد حسين هيكل فكما أنه خلّد أسمه في تاريخ الأدب العربي بكونه أول من ألّف قصة عربية حديثة (رواية زينب) فهو كذلك أول أديب معاصر يوثق رحلة حجه في كتاب ثقافي بأسلوب أدبي رفيع. صحيح أن الأديب العملاق عباس العقاد عندما سأل عن وصفه لمشاعره في الحج فكان رده (هي تُحس أكثر ما توصف) وكذلك عبر طه حسين عن أحاسيسه في أرض الحجاز بأنها (لا يمكن أن تصور في حديث أو أحاديث) وربما لهذا لم يتسنى للعقاد أو طه حسين تأليف كتاب خاص عن رحلتهم للبلد الحرام. ومع ذلك نجد كوكبة أخرى من كبار الادباء يثرون المكتبة العربية بعدة كتب غاية في الروعة والثراء الأدبي تتعلق بأدب الرحلات إلى المشاعر المقدسة. ويمكن في هذا السياق ذكر كتاب (رحلة الحجاز) للأديب الظريف إبراهيم عبدالقادر المازني وكتاب (حَمَام الحمى .. يوميات حاج) للروائي المصري المعاصر جمال الغيطاني وكتاب (إسلام بلا ضفاف) لرائد القصة القصيرة العالمي يوسف إدريس. من أغرب الأمور في مجال أدب رحلات الحج أنه على خلاف الشعراء نجد أن الروائيين وكتاب القصة وإن كانوا تواجد في الحج إلا أن الحج لم يتواجد في رواياتهم الأدبية. دفق الاحاسيس وسمو العاطفة الوجدانية اثناء تأدية شرائع الحج والتواجد في أرض النسك أنتجت كم هائل من القصائد الشعرية في القرون المتأخرة وإن كانت البدايات شحيحه (كما ذكرنا ذلك العام  الماضي في مقال: الصور الشعرية للحج .. وشح البدايات). وفي المقابل هذه البيئة العاطفية الخصبة أثناء الحج لم تنتج أي عمل روائي مهم في مجال القصة أو المسرح لها ارتباط بالحج والحجيج. للأسف الشديد التاريخ يعيد نفسه فكما لم يطلع (العرب) على أدب الرحلات الحجازية إلى من خلال اللغة الفارسية في كتاب سفرنامه السابق الذكر فكذلك  لم نعرف حتى الان  أي رواية أدبية عن أجواء الحج إلا تلك التي كتبت باللغة الفرنسية وحملت عنوان (لبيك حج الفقراء) والتي هي الرواية الأدبية الوحيدة للمفكر الجزائري البارز ماك بن نبي. سبق وأن اشرنا ان الصور الشعرية عن الحج كانت شحيحة ونادرة ثم جادت القرائح بالقصائد والمطولات الشعرية فهل الأمر كذلك فيما يتعلق بالروايات والاعمال القصصية المرتبطة بالحج فهي مفقودة اليوم موجودة في الغد القادم. علم ذلك عند ربي لكننا في قمة التخلف في هذا الشأن مقارنة بالأدب العالمي فمنذ بواكير ظهور الرواية والقصة الادبية على المستوى العالمي كان للحج  ورحلة الحجيج وجود ملموس وحضور محسوس. بعض النقاد يشير إلى إن المجموعة القصصية (حكايات كانتربري) للأديب الانجليزي جيفري تشوسر والمنشورة قبل حوالي ستة قرون ربما هي أقدم الاعمال الأدبية في صورتها الحديثة وما يهمنا هنا أنها تدور عن رحلة عدد من الحجاج إلى ضريح القديس توماس في كاتدرائية كانتربري. في وقتنا الحالي يعتبر الروائي البرازيلي باولو كويلو (صاحب رواية الخيميائي ذائعة الصيت) أشهر وأهم كاتب قصة على قيد الحياة ومع ذلك كانت أول رواية ناجحة له والتي جلبت له شهرة دولية طاغية هي رواية (حاج كومبوستلا). وهي رحلة روحية وفلسفية عميقة تتقمص طريق الحج الموجود في اسبانيا المسمى مارا يعقوب وهي الطريق التي يسلكها الحجاج المسيحيون منذ القرون الوسطى إلى كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستلا في شمال اسبانيا. بقي أن نقول في الختام أنه في الفترة الأخيرة يعاني (الأدب السلامي) من تعثر في جودة الانتاج وغموض في المفهوم والابعاد وربما مساهمة كتاب القصة من رواد الرواية الاسلامية المعاصرة في سد النقص في فضاء (الحج في الادب الروائي) يكون لها صدى إيجابي لتفعيل روح ورسالة هذا الفرع الثقافي والفني الواعد.



السبت، 3 أغسطس 2019

( قفزة كبرى نحو القمر )

الهبوط على القمر .. خطوة صغيرة لإنسان وقفزة كبيرة للبشرية

د/ أحمد بن حامد الغامدي

الفلك دوّار والزمن سيّار وها نحن ذا تتردد في آذاننا العبارة الأسطورية (إنها خطوة صغيرة لرجل ولكنها قفزة كبرى للإنسانية) وهي تلك الكلمات التي نطق بها رائد الفضاء الامريكي المشهور نيل آرمسترونغ في مثل هذا اليوم قبل خمسين سنة شمية أو حوالي 52 سنة قمرية. كان ذلك في حدود الساعة الثالثة حسب التوقيت العالمي الموحد من  يوم 20 يوليو من عام 1969م عندما خطى آرمسترونغ بأول خطوة لإنسان على أرض القمر منهيا بذلك الشوط الأهم في سباق الفضاء space race بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. بصورة حاسمة أثبت الأمريكان تفوق التقنية الغربية على منافسيها ليس فقط بالوصل والهبوط مرة واحدة فقط على القمر ولكن بالوصول المتتالي لست مرات إلى أرض القمر التي درج ومرج على ثراها اثنى عشر رجل فضاء وكان أخر من رفع قدمه منهم عن تراب القمر رائد الفضاء الامريكي يوجين سيرنان بعد أن خط اسم ابنته تراسي على ثرى القمر وذلك في نهاية عام 1972 ميلادي.
يقال أن (الرابح يبقى وحيداً) وهذا ما حصل مع الامريكيان في سباق الفضاء فقد أنسحب الروس تماما من المشهد وعلى نفس النسق يقال (الفائز ينال كل شيء) وهذا ما حصل مرة أخرى مع رواد فضاء العم سام الامريكي الذين حازوا التاريخ مع المجد. عندما فاز رجال الفضاء الزرق (الأمريكان) في الشوط النهائي والحاسم على رجال الفضاء الحمر (الروس) نسى التاريخ كل الأمجاد العظيمة والمذهلة التي حققها الروس في بواكير عصر الفضاء فهم أول من أرسل قمر صناعي للفضاء (سبوتنك 1) وهم أول من أرسل رائد فضاء (جاجارين) وأول رائدة فضاء من النساء (تيريشكوفا).  كلنا نتوقع أن أول من وصل وهبط على سطح القمر هي مركبات الفضاء الامريكية في عام 1969م وهذا خطأ تاريخي شائع فأول مربكة فضاء (غير مأهولة unscrewed mission) هبطت على  القمر هي مركبة الفضاء السوفييتية لونا 2 وأول الصور الفوتوغرافية لسطح القمر تمت من خلال عدسات الكاميرات الروسية بواسطة مركبة الفضاء لونا 9. والأغرب من ذلك أن عينات التربة والصخور التي تم أخذها من سطح القمر ونقلها إلى الارض لم تكن فقط من خلال رحلات برنامج الفضاء الشهير أبولو ولكن أيضا عن طريق مركبة الفضاء الروسية لونا 16 التي هبطت على سطح القمر ثم أقلعت مرة أخرى بعد التحكم بها عن بعد.
الذاكرة التاريخية للبشر قصيرة وتميل للاختصار والاختزال ولهذا أغلبنا توقف المشهد عنده لوصول البشر إلى القمر عند لحظة هبوط نيل ارمسترونغ وتم نسيان بقية  الرواد الاخرين الذين انحدروا من بعده وكما صعدوا على سلم المجد هبطوا في غياهب الغفلة وفقدان الذاكرة تم نسيانهم كما حصل تماما مع نسيان عشرات المركبات الفضائية التي هبطت على سطح القمر. لحظة هبوط أول انسان على سطح القمر تمت في شهر يوليو 1969م بينما أول هبوط ناجح لجهاز أو مركبة من صنع الانسان تم قبل ذلك التاريخ بعشر سنوات كاملة حيث هبطت المركبة الفضائية الروسية لونا 2 عام 1959م في شهر سبتمبر بينما آخر محاولة حتى الان للهبوط على سطح القمر تمت قبل عدة شهور عندما فشلت مركبة الفضاء الاسرائيلية بيراشت في منتصف شهر مارس الماضي من الهبوط بسلام على سطح القمر. المحاولات العلمية الجادة (للوصول) للقمر بدأت قبل حوالي ستين سنة وبالتحديد في صيف عام 1958م وخلال هذا الزمن تم محاولة أرسال أكثر من ثمانين مركبة فضاء مستقلة إلى القمر. في بداية الأمر العشرات منها تحطمت لحظة الاقلاع ولاحقا العشرات منها نجحت في تحقيق مهام بسيطة مثل المرور والتحليق flayby  حول القمر أو الدوران حوله. بينما حققت 15 مركبة الهدف العلمي المنشود منها وهو (ويا للغرابة) مجرد الاصطدام بالقمر بينما لم تكن المركبة الامريكية المسماة النسر (التي هبطت بأرمسترونغ وزميل باز ألدرين)  هي الوحيدة التي هبطت بسلام على تخوم القمر وإنما تمكنت كذلك اثنى عشر مركبة فضائية أخرى في تحقيق هذا الخلود العلمي الكبير.
الجدير بالذكر أن مركبات الفضاء التي تدلّت ونزلت على أرض القمر ليست فقط من صنع التقنية الامريكية والروسية المتقدمة فقبل عدة سنوات نجح علماء الفضاء الصينيين في إنزال مركبة فضاء متحركة rover على سطح القمر كما نجحوا قبل عدة أشهر فقط في إنزال مركبة أخرى على الجانب المظلم والبعيد من سطح القمر. يبدو أن الشعب الهندي على موعد قريب من تحقيق الفخر العلمي فبعد أن تم قبل عشر سنوات ارسال مركبة الفضاء الهندية شاندرايان 1 التي اصطدمت بشكل متعمد impact على سطح القمر يتوقع هذه الايام هبوط فعلي lunar landing  لمركبة الفضاء الهندية شاندريان 2 على سطح القمر والتنقل عليه لإجراء التجارب العلمية القمرية.
حقاً وصدقاً لقد دار الفلك دورته وعاد سيرته فكما انطلق قبل نصف قرن من الزمن سباق الفضاء بين الروس والامريكان للوصول إلى القمر نجد اليوم العديد من الدول تطلق كلا منها مركبات الفضاء الخاصة بها لتمخر بروج السماء ولتهبط على أديم القمر. وكما تم الاشارة له سابقا نجحت الصين قبل اشهر في انزال مركبة على سطح القمر بينما تحطم غير مأسوفاً علية مسابر الفضاء القمري الاسرائيلي في حين أن مركبة الفضاء الهندية في طريقها ألان إلى القمر وكذلك أعلنت وكالة الفضاء الروسية انها تخطط لإرسال مركبة فضاء إلى القمر في نهاية هذه السنة. أما عن أخبار أسياد الفضاء في وكالة الفضاء الامريكية ناسا فلم تنقطع مركباتهم الفضائية من الوصول إلى القمر وإن كان آخر مركبة امريكية هي تلك التي قصف بها القمر عام 2013ميلادي. في واقع الأمر الوصول للقمة (أو القمر) قد يكون سهلا لكن البقاء على القمة هو الاصعب ولهذا لم تحقق وكالة الفضاء الامريكية ناسا وعد الرئيس الامريكي جورج بوش الأبن عندما أعلن في عام 2004م بأن الأمة الأمريكية على موعد مع التاريخ في عام 2019م عندما يتم إعادة ارسال رواد الفضاء الامريكيان إلى أرض القمر مرة أخرى. وفي الوقت الحالي يبدو ان سياسية الرئيس الامريكي دونالد ترامب مرتبكة على جميع الاصعدة فبعد أن صرح قبل عدة اسابيع بحماسة لعودة الامريكان إلى القمر حيث غرّد على تويتر قائلا (سنعود إلى القمر) وإذا به بعد ذلك بثلاثة اسابيع فقط  يهاجم وكالة الفضاء الامريكية ناسا ويسخف من خططها للعودة للقمر ويطلب منها عوضا عن ذلك أن تركز على التجهيز للرحلات إلى المريخ. وليس هذا فقط بل أذهل ترامب العالم بمعلوماته العلمية كما اذهله بتخبطه السياسي عندما قال في تغريدة له (إن القمر جزء من المريخ !!!).

القمر بعيد عن العين قريب من القلب
هذا صحيح فمنذ فجر الإنسانية تعلقت قلوب البشر بهذا الرفيق السماوي ولهذا نُسجت عنه الاساطير وفُتن به الشعراء وشُغل به الفلاسفة وكَشف أسراره العلماء. في عماء الاساطير القديمة أسندت للقمر قدسية سماوية سامقة فهو إما تمثيل للإلهة أو محل سكن وإقامة بعض ربات السماء مثل إلهة الصيد ديانا في الاساطير الرومانية أو الإله المنير نانا إله القمر في الحضارة السومرية. وبسبب هذا السمو المكاني والروحي للقمر كان الصعود إلية مستحيلا untouchable إلا على الكائنات الروحانية الشفافة وبسبب استحالة الوصول إلى القمر في المخيلة البشرية كان الهبوط أخيرا على القمر يعتبر أعظم إنجاز علمي بلا منازع في تاريخ البشرية. الغريب في الأمر أنه فيما بحثت وفتشت لم أجد أي إشارة لخبر من خيال الانسان القديم للوصول إلى القمر إلا ما ذكر عند شعوب الاسكيمو فمن اساطيرهم أنه يمكن لأي شخص أن يسافر إلى القمر إذا اختارته الاله ان يصعد معها إلى القمر عبر زلاجة تجرها الكلاب. في واقع الأمر زخم تدفق الخيال والأحلام بالسفر إلى القمر لم يظهر إلا في القرون القريبة الماضية ومن ذلك أن الكاتب الإنجليزي فرانسيس قودوين ألّف في مطلع القرن السابع عشر قصة خيالية حملت عنوان (رجل في القمر) تدور حول رجل هارب وجد في جزيرة نوع كبير من طيور الإوز والتي ربطها بعربة وحلق بها لمدة اثنى عشر يوما حتى وصل إلى سطح القمر.
في نهاية القرن الثامن عشر بدأت تظهر القصص والأعمال الادبية الأكثر منطقية وعقلانية في كيفية الوصول للقمر فبدلا من خرافات السفر عبر زلاجات الكلاب أو عربات طيور الإوز نجد أن الأديب الالماني رودولف راسبي ينشر روايته بالغة التشويق عن مغامرات البارون الالماني مانشهاوزن والتي من ضمنها محاولته الهرب عن طريق تصنيع منطاد كبير والذي حلق به في عالياً في السماء حتى وصل إلى القمر لتبدأ مغامرة جديدة له هنالك مع ملك القمر الغضوب. الملفت للنظر أن الحبكة الروائية حول شخص هارب يفر إلى القمر تكررت مرة أخرى في منتصف القرن التاسع عشر عندما نشر الكاتب الأمريكي الشهير إدغار آلان بو قصة قصيرة عن قاتل يدعى هانس بافال حاول الهرب باستخدام نوع خاص من المناطيد والذي حلق به لمدة ثمانية عشر يوما حتى هبط  به على سطح القمر.
كما هو متوقع فإن الخيال البشري للعديد من الكتاب والروائيين قادهم لتأليف عشرات القصص للسفر إلى القمر باستخدام وسائل سحرية مثل سفن شراعية أسطورية أو جسور وأنفاق غير مرئية أو حذاء سحري أو اختراعات علمية غريبة مثل نوع من المعادن أو الأصباغ المضادة للجاذبية أو نوع من المغناطيسات العجيبة. ومع ذلك تبقى الحبكة العلمية والأدبية الصحيحة هي أن تكون القصة أو الرواية قائمة على استخدام طاقة النار والاشتعال الكيميائي لتحقيق الرحلات القمرية إما في شكل مدفع عملاق أو على هيئة صواريخ الفضاء. لعل أقدم وأهم قصة خيالية في هذا النسق يمكن تتبعها إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما قام الأديب الفرنسي البارز  جول فيرن (صاحب رواية: حول العالم في ثمانين يوما) بنشر روايته بالغة التأثير في ولادة أدب الخيالي العلمي إلا وهي القصة التي حملت عنوان (من الأرض إلى القمر). الغريب في أمر هذه القصة أنه بالرغم من أن مؤلفها روائي فرنسي إلا أنها بالغة الارتباط بالتاريخ الامريكي فهي قد نشرت في عام 1865 أي في نفس سنة نهاية الحرب الأهلية الامريكية وهي بالتالي في جزء من حبكتها تستند إلى هذه الحرب حيث ان أحداث الرواية تدور في مدينة بالتيمور. القصة تدور عن ثلاثة رجال من أمريكا يقمون بمغامرة جريئة وخطيرة للسفر إلى القمر وهو ما سوف يحصل تقريبا بعد مائة عام بوصول آرمسترونغ وزميليه إلى مدار القمر. الاختلاف الجوهري ما بين الرحلة الخيالية والرحلة الحقيقة أن انطلاق المغامرين الثلاثة القدماء كان عبر استخدام مدفع ضخم بينما تم في رحلة الفضاء الحقيقة نقل رواد الفضاء عبر صاروخ ضخم جدا يدعى ساترون 5.
وما ينبغي الإشارة له هنا إلى أن كل من جاء بعد جول فيرن (مثل كتاب روايات الخيال العلمي الكبار مثل إسحاق عظيموف وآرثر كلارك) تأثر به بشكل كبير فيما يتعلق بمزج الابداع الادبي بخيال الرحلات العلمية إلى القمر وبقية الكواكب. بل اننا نجد في الرواية الشهيرة (أوائل الرجال على القمر) عن استشراف المستقبل لرائد روايات الخيال العلمي الكاتب الانجليزي المعروف هربرت جورج ويلز (صاحب روايات آلة الزمن والرجل الخفي)، نجد أن بطلي الرواية رجل الاعمال السيد بيدفورد والعالم السيد كارفور يتناقشان عن مدى احتمالية السفر إلى القمر بالاستناد إلى تفاصيل رواية جول فيرن السابقة الذكر. الأغرب من ذلك أن ذكر رواية جول فيرن والاشادة بها من قبل رواد الفضاء وهم في مركبة الفضاء الصاروخية حصل في الخيال وفي الحقيقة. أما في الخيال فهو ما سبق ذكره من الحوار بين ابطال رواية (أوائل الرجال على القمر) أما في الحقيقة فهو ما حصل مع طاقم رحلة ابولو 11رائد الفضاء آرمسترونغ وزميليه حيث أنهم في رحلة العودة من السفر من القمر قاموا بإرسال بث تلفزيوني في يوم 23 يوليو تحدثوا فيه عن رحلتهم التاريخية الكبرى وكيف أنها تأتي بعد حوالي مائة سنة من نشر رواية (من الأرض إلى القمر). وقد ذكر رواد القمر أن جول فيرن تخيل سفينة فضاء تدعى كولومبيا أطلقت من فلوريد ثم سقطت في رحلة العودة في المحيط الهادئ وهو ما سوف يحدث مع سفينة الوقت الحالي كولومبيا الجديدة التي هم فيها والتي سوف تلتقي مع الارض يوم غد (24 يوليو 1969م) في المحيط الهادئ.
يشتهر عن أدباء الخيال العلمي قدرتهم العجيبة على (استشراف المستقبل) وهذا ما حصل مع الفرنسي جول فيرن والانجليزي هـ. ج. ويلز فرواياتهم زاخرة بتوقع المخترعات العلمية التي لم تظهر بعد في زمانهم من مثل الطائرات والغواصات والصواريخ والدبابات والليزر والتلفزيون وما يهمنا هنا هو ما توقعه الروائي البريطاني المثير للاهتمام أرثر كلارك في روايته (اوديسة الفضاء 2001). ظهرت هذه الرواية الرائعة والفلم المصاحب لها في عام 1968م أي قبل سنة واحدة فقط من هبوط البشر على سطح القمر وهي وإن كانت تتحدث عن القمر ووجود مسلة غريبة مدفونة تحت سطح القمر منذ ملايين السنين إلا ما يهمنا في الواقع هو بداية الراوية حيث يتم وصف الرحلة الفضائية الخاصة التي سوف يقوم بها بطل الرواية الدكتور فلويد على متن مركبة فضاء مخصصة للرحلات السياحية للفضاء وزيارة القمر تتسع لعشرين راكب. في الوقت الحالي مفهوم (سياحة الفضاء) هو واقع حقيقي وليس خيال علمي محض فمنذ عام 2001م تم بدأ قص التذاكر وبطاقات الصعود
(boarding pass) لسياح الفضاء لكن تبقى (القفزة الكبرى الثانية إلى القمر) والمتمثلة في ارسال سياح في نهاية المطاف إلى محطة القمر destination moon وهذا بالمناسبة أسم لفلم ورواية أدبية شهيرة.
قبل حوالي سنيتن أعلن رجل الاعمال المشهور إليون مسك صاحب شركة مركبات الفضاء العملاقة SpaceX أنه سوف يتم ارسال سياح إلى القمر في حدود مطلع هذه السنة وذلك بعد أن دفع هؤلاء السياح جزء من قيمة تذكرة السفر الباهظة التكاليف والتي تبلغ 70 مليون دولار امريكي. الأمر الصادم أن هذا المبلغ الضخم هو فقط لرحلة سياحية تشمل (لفه حول القمر) اي بمعنى الدوران حول سماء القمر دون الهبوط عليه لأن إنجاز مثل هذا الأمر يحتاج إلى مبالغ مالية إضافية طائلة تصل لخانة مئات الملايين من الدولارات التي يجب أن يدفعها كل سائح قمري. وبكشف الحساب المالي هذا أجدني اكرر إعجابي ببعد نظر كتاب روايات أدب الخيال العلمي واستشرافهم للمستقبل ومن ضمنهم الكاتب السوري المعاصر الدكتور طالب عمران (رئيس رابطة كتّاب الخيال العلمي العرب) الذي نبهنا منذ سنوات انه لن يصل ويهبط على القمر إلا أغنى الاغنياء ولهذا أعتقد أنه نجح ووفق في اختيار عنوان روايته الشيقة (ليس في القمر فقراء).