الأربعاء، 27 يناير 2021

( معاناة ترامب .. من منظور الأساطير الإغريقية )


 حتى أبسط الاشياء قد لا يستطيع الملوك والرؤساء أدائها

د/ أحمد بن حامد الغامدي


يوجد لدى الإغريق القدامى ولع عجيب بسرد قصص وأحداث المعاناة والشقاء لدرجة أنه قادهم خيالهم لاختلاق آلهة خاصة للألم والمعاناة وربة للحزن والنحيب تسمى (الجوس Algos).  الدراسات الاستقرائية في مجال علم الأساطير تشير إلى أن العديد من الأساطير لدى مختلف الحضارات والشعوب هي عبارة عن رحلة أو مغامرة كثيرا ما تنتهي بمرحلة (الانحلال) ولهذا الضعف والسقوط والشقاء ركن أساسي في حياة البشر وعالم الأساطير على حداً سواء. الصعود للقمة والمجد ثم الانحدار لدرك الخزي والمعاناة هو مصير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كما هو مصير العديد من الشخصيات الأسطورية في دنيا الميثولوجيا الإغريقية.

صحيح أن رجل الأعمال ترامب تعرض في حياته لبعض الإخفاقات الاقتصادية لدرجة إعلان الإفلاس المالي وبالرغم من تكرار (دورة) الصعود والسقوط الاقتصادي في حياته إلا أن تشبيه مسيرة حياته بقصة حياة رمز العذاب الأبدي الملك سيزيف تشبيه مع الفارق كمال يقال. في الأساطير الإغريقية القديمة نجد أن سيزيف اشتغل بالتجارة والنقل البحري ولكنه كان مخادعا وجشعا ومثال للخبث والمكر ولهذا عاقبه كبير الآلهة زيوس بالعذاب السرمدي المتمثل في قيام سيزيف بدحرجة صخرة ضخمة على سفح جبل شاهق. وكلما بلغ سيزيف أعلى القمة تفلت الصخرة منه وهوت إلى أسفل المنحدر ويكون مصير سيزيف أن يدحرجها مرة ثانية إلى القمة وهكذا دواليك. كما ذكرت تشبيه عذاب ترامب بمعاناة وشقاء سيزيف هو تشبيه ناقص لأن ترامب في هذه اللحظة في قمة ثرائه المادي ولم تبدأ بعد دورته الجديدة في الإفلاس والانحدار الاقتصادي. ما ينطبق بالفعل على ترامب هذا الأسبوع هو تشبيه المعاناة والشقاء الذي هو فيه بما حصل مع أسطورة عذاب الملك الإغريقي تانتالوس. نوع العذاب الذي وقع على ذلك الملك البائس هو شقاء غريب حيث حكم عليه أن يقف في بركة ماء تقع فوقها شجرة فاكهة ذات أغصان منخفضة. وبالرغم من وجود الماء والطعام بالقرب من تانتالوس وفي متناول يده ومشهد نظره إلا أنه كلما حاول قطف الثمار المخفضة يرتفع الغصن بعيدا وكلما حاول ارتشاف الماء بيده ينحسر الماء عنه ولهذا يبقى في عذاب أبدي بالجوع والعطش. عذاب وشقاء الملك تانتالوس سببه أنه أزعج آلهة جبل الأولمب بزعمهم أنه سرق طعامهم وأفشى أسرارهم ولهذا شقائه تمثل في حرمانه حتى من الأشياء البسيطة في الحياة التي لا يستطيع تناولها بالرغم من قربها منه. وهذا إلى حدا ما الذي حصل مع الرئيس ترامب هذا الأسبوع فالجميع يستطيع فعل الأشياء اليومية الاعتيادية البسيطة مثل إرسال تغريدة تويتر أو نشر مقطع في السناب شات أو كتابة تعليق على موقع الفيسبوك بينما الرئيس الأكبر (مثل الملك تانتالوس) يتعذب قهرا ويهان جهرا بأنه محروم من فعل هذه الأشياء الشائعة والتي يقوم بها الجميع.

إن كل الثروة المالية الهائلة التي يملكها الرئيس ترامب (بلا جدال أغنى سياسي في التاريخ) في خاتمة المطاف لم تستطيع أن تجلب له السعادة وكانت بشكل ما هي مصدر تعاسته ومعاناته. لأنه بنقوده الذهبية ظن أنه يستطيع شراء كل شي في دنيا السياسة ثم سرعان ما تحول المال إلى طوق من ذهب يكبل حريته في التصرف. في دنيا التجارة والاستثمارات كان لرجل الأعمال ترامب (لمسة ذهبية) تحيل كل مشروع تجاري يدخل فيه إلى صفقة تجارية رابحة. وبهذا كان ترامب إلى حدا ما يشبه الملك الأسطوري ميداس في الحكايا الإغريقية القديمة والذي بحماقته طلب من الإله الإغريقي ديونيسوس أن يمنحه (لمسة ذهبية) تحيل كل شي يلمسه إلى ذهب خالص. وبعد تحقيق تلك الأمنية بدأ مشوار عذاب الملك ميداس كما حصل مع الملك تانتالوس حيث لم يستطع أداء أبسط الأشياء اليومية الاعتيادية مثل الأكل لأن الطعام الذي يلمسه يتحول إلى ذهب صلب وكذلك لم يستطع الاغتسال بالماء وعندما قام في لحظة إحباط من الحالة العجيبة التي تورط فيها بحضن ابنته الوحيدة تحولت لتمثال من الذهب.

 منذ اللحظات الأولى لمشواره السياسي (المفاجئ والسريع بشكل غريب) الجميع دون استثناء استشعر ضحالة القدرات السياسية لدى الرئيس ترامب وأنه لن يحلق بعيدا في سماء السياسة بل أنه سرعان ما سوف يقع على أم رأسه. السيد دونالد ترامب ماهر ومتمكن بامتياز في مجال الصفقات التجارية والمقاولات العقارية ولكنه ضحل في مجال السياسة وإدارة شؤون الدولة والحكم. وكمثل أي شاب طائش يعطي فجأة قيادة سيارة رياضية فاخرة وقوية سوف يتصرف بطيش ونزق في قيادتها وهذا بالضبط ما قام به ترامب في عالم السياسة الجديد كليا عليه. لم يقنع ترامب بالقيادة المتدرجة والمتأنية لعربة السياسة ولكنه اندفع بكل تهور وعنفوان للتحليق بعيدا بعيدا كما حصل مع الشاب الغر إيكاروس. في المثيولوجيا اليونانية نجد قصة الشاب إيكاروس الذي كان مسجونا هو ووالده دايدالوس في جزيرة كريت واستطاعا الفرار من سجنهما بعد أن استطاع والده العبقري في تأمين وسيلة هروبهما عن طريق تثبيت أجنحة لهما مصنوعة من الريش والصمغ. الشاب المتهور إيكاروس والمفتون بقدراته الجديدة على الطيران تجاهل تحذير والده من الطيران عاليا بالقرب من الشمس مما تسبب في إذابة الشمع وتفكك ريش أجنحته ومن ثم وقوع كارثة سقوطه المميت وغرقه في البحر. وهذا تقريبا ما حصل مع ترامب المتهور والذي حلق بعيدا في سماء السياسة وهو بعد حديث الخبرة بها وبهذا اقترب كثيرا من (أتون ونار) السياسة المحرقة والتي حرفيا (قصقصة) أجنحته ومن ثم أغرقته في أمواج المحيط السياسي الهادر.

تحليق ترامب المتهور والمندفع وغير المتدرج في سماء وأجواء السياسة ومن ثم سقوطه المحتوم يتشابه في جانب منه مع أسطورة إغريقية مشهورة أخرى هي تلك التي كان بطلها الأمير اليوناني بيليروفون. والذي يقال إنه أصابه الغرور عندما استطاع ترويض وامتطاء الحصان المجنح الأسطوري بيغاسوس وبدل أن يكتفي باستخدامه فقط لقتال أعدائه (مثل الوحش الكيميرا الرهيب) قاده اندفاعه وحماقته لاستخدام ذلك الحصان المجنح والتحليق عاليا وبعيدا في سماء المجد حتى يصل إلى جبل الأولمب لكي يقيم بين آلهة السماء. ووفق الأسطورة أغضبت هذه الرعونة والتحدي آلهة الأولمب وقام كبيرهم زيوس بإسقاط بيليروفون من فوق ظهر الحصان المجنح مما تسبب في وقوعه على الأرض وتعرضه للإصابة بالعمي والعرج وهكذا ظل منبوذا وذليلا لبقية حياته. وهذا تقريبا ما حصل مع الرئيس ترامب لقد امتطى حصان السياسة وحاول أن يحلق في سماء المجد وأن يحقق له مكانه مميزة في التاريخي السياسي الأمريكي بل وأن يحصل على تمثال أو لوحة فنية له تعلق داخل مبنى الكابتول (ربوة الأولمب الأمريكية) ولكن عندما أغضب دهاقنة وأرباب السياسة الأمريكية أسقطوه من عربته النارية المندفعة وأذاقوه الهوان والصغار.

الهوان والسخرية والاحتقار هو أصعب عذاب وأشنع عقاب لأي شخصية مغرورة وعاشقة لذاتها كشخصية الرئيس ترامب المغرق في النرجسية الذاتية. وهذا يقودنا إلى الشخصية الأسطورية في دنيا المثيولوجيا اليونانية التي تشابه تماما شخصية الرئيس ترامب ألا وهي الشاب ناركيسوس المغرور والفخور بنفسه وبجمال ملامحه. نجد في الأساطير الإغريقية أن ربة الجمال أفروديت عاقبت ناركيسوس على غروره بأن أشعلت في قلبه عشق صورته المنعكسة على صفح بركة ماء وبهذا ظل يحدق في صورته وعجز عن الإقلاع عن ذلك إلى أن مات وظهر مكان موته زهرة النرجس. ومن هنا تم تشخيص الظاهرة المشهورة في مجال علم النفس باسم (النرجسية narcissism) المشتقة من اسم ذلك المغرور والمتعالي ناركيسوس والذي ارتبط اسمه بزهرة النرجس. بكل سهولة يمكن لأي راصد أن يشخص الحالة النفسية للرئيس ترامب وأنه مصاب باضطراب الشخصية النرجسية من ملاحظة مشاكله في علاقته مع الآخرين ولغة الجسد المتعجرفة لديه والمفاخرة والمبالغة في مدح الذات وفرط الحساسية عنده لأي إهانات متخيلة (الغضب النرجسي).

حقا وصدقا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عجيب في صعوده للقمة وعجيب في طريقة وسرعة انحداره لدرك الخزي والعار.


( لعنة البرلمان !! )


 اقتحام أو الاعتداء على البرلمان بداية النهاية لكيانات سياسية كبرى

د. أحمد بن حامد الغامدي


تشتهر الولايات المتحدة الأمريكية بكونها تمتلك أكبر مبنى برلمان في العالم من حيث الحجم كما إنها تحتوي أكبر عدد من السجون والمساجين ولهذا كان يتم السخرية من الديمقراطية المنقوصة في بلاد العم سام بأنها ربما ينطبق عليها المقولة المشهورة (البلد الذي له برلمان ضخم لديه سجون ممتلئة). الديمقراطية الحقة ممارسة وليست مظاهر ومباني وبهرجة إعلامية وربما بسبب هشاشة المنظومة الديمقراطية في أمريكا حصلت فضيحة اجتياح مبنى الكونجرس يوم الأربعاء الماضي. في العديد من الدول والحضارات منظومة الحكم تكون راسخة وقائمة على عدد من الدعائم وفي حال خُلخلت إحدى هذه الدعائم تسقط منظومة الحكم تلك أو تضعف بشكل حاد. ومن أبرز هذه الدعائم المجالس التشريعية التي تعرف بالبرلمان أو مجلس النواب وعبر التاريخ حصلت العديد من الأحداث والشواهد التي تدل على أن من يحاول الاعتداء أو الاستنقاص أو التعطيل لهذه المجالس التشريعية والرقابية يتعرض لنكبة و (لعنة) خسارته لمقاليد الحكم والسلطة.

ولنبدأ بالقصة العجيبة للإمبراطور الروماني غريب الأطوار كاليجولا والذي حكم الإمبراطورية الرومانية لمدة أربعة سنوات بطريقة مجنونة وبديكتاتورية وطغيان شنيع. وعندما لم يكتفي باغتصاب زوجات كبار رجالات الدولة قام بتعمد ازدراء أعضاء مجلس الشيوخ الروماني عندما أصدر أوامره بجعل حصانه المفضل إينسيتاتوس عضوا في البرلمان وأقام حفلة عشاء كبرى بمناسبة تعيين حصانه في البرلمان وقدم للضيوف فيها وجبة مكونة فقط من الشعير والتبن. وبعد هذه الإهانة الشنيعة حصلت عدد من محاولات الاغتيال لذلك الإمبراطور المجنون التي دبرها بعض أعضاء مجلس الشيوخ وأخيرا حلت عليه لعنة البرلمان وتم قتله في الرابع والعشرين من يناير لعام 41 ميلادي.

 حاكم وسلطان آخر فقد حياته ومملكته من جراء (لعنة البرلمان) الذي تعمد إهانة أعضائه والاستبداد بهم وكان ذلكم الملك الإنجليزي تشارلز الأول الذي تهور باقتحام البرلمان البريطاني عام 1629م بهدف اعتقال خمسة من أعضاء البرلمان المعارضين له. كان هذا الفعل المتعجرف من الإمبراطور الإنجليزي سبباً في إحداث قلاقل سياسية في مملكته تدرجت من حل البرلمان إلى اندلاع حرب أهلية تم في نهايته خلع الملك والحكم عليه بالإعدام مما أضعف مكانة الحكم التاج لملكي البريطاني وتحويله لاحقا لمجرد ملكية دستورية تملك ولا تحكم.

زلازل سياسي هائل ثالث نتج من العلاقة المضطربة مع البرلمان والمجلس التشريعي هو ما حصل في نهاية الخلافة العثمانية مع السلطان عبد الحميد الثاني وقضيته مع البرلمان التركي المسمى مجلس المبعوثان. كحال أسلافه من قبله كان السلطان عبد الحميد يحكم بشكل شبه مطلق وبالرغم من أنه استطاع تعطيل البرلمان لمدة ثلاثين سنة إلا إنه بمجرد إن أعاد النشاط النيابي وفتح مجلس المبعوثان عام 1908م بدأت المشاكل مع أعضاء البرلمان الذين استطاعوا ليس فقط خلعه من الحكم ولكن التآمر لاحقا للقضاء النهائي على الخلافة الإسلامية.

سقوط آخر لإمبراطورية دولية عظمى تزامن مع الصراع مع البرلمان والاعتداء عليه وهذا ما حصل في ختام الاتحاد السوفيتي والذي سقط بشكل شبه فعلي من لحظة حصار الدبابات العسكرية لمبنى البرلمان الروسي (مجلس الدوما) أثناء المحاولة الانقلابية عام 1991م ضد الرئيس ميخائيل غورباتشوف. وفي الواقع كانت اللحظة الكاشفة للانقسام الحاد في المجتمع الروسي حصلت بعد ذلك بسنتين فقط عندما لم يتردد المستبد الرئيس الروسي بوريس يلتسين في إصدار الأوامر بالاعتداء على مجلس البرلمان بالقوة المسلحة بقذائف الدبابات مما تسبب في احتراق الأدوار العليا من مجلس الدوما. وكما حصل مع الروماني كاليجولا والإنجليزي تشارلز حدث في عصر حكم يلتسين أن أصابت لعنة البرلمان الأمة الروسية وانهارت من إمبراطورية عظمى إلى مجرد دولة ممزقة سياسيا ومفلسة اقتصادياً.

 

وبالعودة بعد هذه الجولة التاريخية والسياسية إلى الصراع السياسي والانقسام المجتمعي المعاصر في الأمة الأمريكية يصعب أن نقول إن (لعنة البرلمان) سوف تصيب الإمبراطورية الأمريكية الحالية بالانحدار السريع والتمزيق الأكيد. فمن الواضح أنه بالرغم من الخلل السياسي الكبير في النظام الأمريكي إلا أن آليات وأدوات (التصحيح الذاتي) في الديمقراطية الغربية ما زالت تستطيع كبح ظهور نظام ديكتاتوري منفلت. بسبب التخبط السياسي المشاهد الآن في أمريكا نستطيع أن نقول إن أمريكا (أمه في ضرر) ولكن ليست (أمة في خطر). ومع ذلك أعتقد أن (لعنة البرلمان) سوف تصيب في أدنى مستوياتها الطموح السياسي المستقبلي للرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب وأبنائه وصهره. تهور ترامب الأهوج في دفع الجموع الحاشدة من مناصريه لاقتحام مبنى الكونجرس سوف يضعف بشكل مؤكد فرصته للترشح مرة إضافية للانتخابات الرئاسية إن لم يتسبب في المحاسبة القانونية له.

إلا على طاري المحاسبة القانونية لأفعال الرئيس نجد في المقابلة الشهيرة بين الرئيس الأمريكي المتعجرف ريتشارد نيكسون والمذيع التلفزيوني البريطاني المعروف السير ديفيد فروست عندما سأله عن جريمة تجسسه على خصومه السياسيين (فضيحة ووترغيت) فكان رد نيكسون الغريب (عندما يفعلها الرئيس فهذا يعني أن هذا الفعل قانوني). توقع الرئيس نيكسون أنه بإمكانه أن يفعل أي شي بحكم أن السلطة في يده هو بالضبط عين ما قصده المؤرخ الأمريكي هنري آدمز (من عائلة آدمز التي حكم منها اثنين من رؤساء أمريكا) عندما قال: السلطة سم وتأثيرها على الرؤساء دائما مأساوي. بالفعل فقد تسمم الرئيس دونالد ترامب حتى الثمالة بسموم ونشوة السلطة ولذا نحن ننتظر النهاية المأساوية والمفجعة له.


( دور الأطفال في تاريخ الطب )


 كيف تحول إهتمام الطب من تطعيم الأطفال إلى تطعيم العجائز

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في تاريخ العلوم يعتبر القرن التاسع عشر هو الفترة الحاسمة في مرحلة ظهور العلوم الحديثة وهذا يشمل بشكل أوضح انبثاق (عصر الطب الحديث). أبرز ما تطور في مجال الطب الحديث هو ظهور لقاحات وتطعيمات الأمراض وكذلك أدوية الأمراض المعدية ولاحقا المضادات الحيوية. في مرحلة بدايات و (طفولة) عصر الطب الحديث حصل توافق فريد بين نمو وتطور العلم الطبي الجديد والوليد وبين ظهور الأطفال في العديد من القصص والأحداث واللوحات الفنية والصور الفوتوغرافية التي توثق لتلك المرحلة من تاريخ الطب. طبعا دور الأطفال في تقدم الطب نتج من خلال تأديتهم لدور المريض الذي يتلقى العلاج ولهذا يستحقون تسليط الأضواء الكاشفة على ما قاموا به في هذا المجال أسوة بما قمنا به قبل عدة أشهر من نشر مقال (دور المريض العربي في علاج البشرية) والذي ربطنا فيه بين واقعنا المريض وبين اكتشاف مسببات أمراض خطيرة مثل الكوليرا والملاريا والتيفوئيد والتي حصل مكتشفوها من العلماء على جائزة نوبل في الطب.

المفارقة تكمن أنه في الأسابيع الماضي وفي أغلب بقاع العالم وبينما كانت كاميرات البث وفلاشات التصوير توثق الحدث التاريخي المميز بلحظة إعطاء التطعيم الجديد لوباء الكورونا كانت الأنظار مركزة على العجائز وكبار السن الذين حقنوا باللقاح. بينما سابقاً نجد في أغلب اللحظات التاريخية المفصلية لتطور علم الطب كان (الأطفال) هم من أسند لهم دور البطولة وحصلوا على الشهرة وفلاشات التصوير ولوحات التوثيق. في حين تابع مئات الملايين من البشر بترقب وحماس (اللقطة التلفزيونية) لتطيعم الجدة البريطانية مارغريت كينان بلقاح شركة فايزر المضاد لفيروس كورونا، نجد أن أول عملية تطعيم في التاريخ تمت ربما بدون أي جمهور أو شهود على الإطلاق. ومن المفارقات إن أول تطعيم لفيروس الكورونا كان للعجوز مارغريت البالغة من العمر 90 عاما نجد أنه قبل ذلك بحوالي قرنين من الزمن كان التطعيم الأول في التاريخ والذي قام به الطبيب الإنجليزي المشهور إدوارد جينر كان لطفل صغير يبلغ من العمر ثماني سنوات فقط. ذلك الطفل الذي يحمل اسم جيمس فيبس كان ولد البستاني الذي عمل في حديقة الدكتور جينر ونظرا لشهرة هذه الحادثة الطبية المفصلية في تاريخ العلم تم تخليدها بعدة لوحات فنية رسمت في أزمان مختلفة أشهرها تلك التي نفذها الرسام الإنجليزي إرنست بورد في مطلع القرن العشرين. هذا الطفل الذي ساهم في القضاء على مرض الجدري المخيف عاش لفترة طويلة في كنف الطبيب إدورد جينر لدرجة أنه عندما توفي الطبيب أوصى لذلك الولد (الشاب في حينها) أن يرث كوخ وبيت صغير كان له والجدير بالذكر إن كلا من الطبيب إدورد جينر وجيمس فيبس دفنا في نفس المقبرة في مدينة بيركلي البريطانية.

طفل آخر أرتبط لفترة طويلة من عمره مع أحد عمالقة الطب والعلوم وهذا ما نجده في قصة العالم الفرنسي الشهير لويس باستور والطفل المريض جوزيف مايستر. كما هو معلوم كان لويس باستور أول شخص يستطيع إنتاج اللقاحات الطبية والتطعيمات المناعية في المختبر لأمراض شنيعة مثل الكوليرا والجمرة الخبيثة. المهم في سردنا التاريخي هو ما توصل له باستور في عام 1886م من اكتشاف تطعيم مناعي فعال ضد مرض السعار (سعار الكلب rabies). في هذه الأثناء تعرض الطفل جوزيف البالغ من العمر تسع سنوات للعض من قبل كلب مسعور ولقد كان الموت محققا لهذا الطفل لولا رعاية الله الذي سخر له وجود باستور ليحقنه باللقاح في الوقت المناسب. وكما حصل مع الطفل جيمس فيبس الذي ارتبطت حياته مع الطبيب جينر نجد كذلك فإن الطفل جوزيف استمرت علاقته مع باستور وبعد أن بلغ وأصبح رجلا كان يعمل حارساً في بوابة معهد باستور الطبي بمدينة باريس. وكما تم تخليد قصة الطفل جيمس ببعض اللوحات الفنية التخيلية حصل نفس الأمر مع الطفل جوزيف والذي ظهر في عدد كبير من الرسومات والأعمال الفنية التي توثق لحظة حقن الطفل جوزيف كأول شخص يعالج بالتطعيمات المناعية المحضرة في المختبر.

كل الأحداث السابقة المتعلقة بقصص التطعيم (والقصص التالية المرتبطة باستخدام الأدوية والمضادات الحيوية) لم يتم توثيقها في نفس لحظة وقوعها حيث لم يكن قد شاع بعد استخدام الصور الفوتوغرافية في ذلك الوقت. بينما الحدث الإعلامي والطبي المشترك والبالغ الأهمية الذي حصل في شهر مارس من عام 1953م عندما تم لأول مرة تجربة اللقاح الجديد ضد مرض شلل الأطفال وذلك عندما تم تطعيم الطفل ذي التسع سنوات بيتر سولك واثنين من إخوته الصغار أمام كاميرات الصحافة ووسائل الإعلام التلفزيونية. بقي أن نقول إن من قام بعملية التطعيم هو والد أولئك الأطفال الثالثة وهو الطبيب الأمريكي جوناس سولك الذي طور لقاح شلل الأطفال وبحكم أن التجارب الأولية لهذا اللقاح لم تكن ناجحة تماما لهذا حاول سولك بث روح الطمأنينة لدى الآباء والأمهات بتجريب الأولي للتطعيم الجديد على أطفاله الثلاثة.

 طفولة طب .. من وخزة اللقاح إلى جرعة الدواء

كما كان للأطفال الدور الجوهري في أخذ أوائل اللقاحات الطبية المكتشفة حديثا كان لهم مشاركة تاريخية في تجربة الأدوية الجديدة قبل المرضى الكبار. ولنبدأ القصة بذكر الطبيب الألماني إميل بهرنج والذي يعتبر أول شخص في التاريخ يحصل على جائزة نوبل في الطب عام 1901م نظير اكتشافه لعلاج لمرض الدفتيريا المميت. الجدير بالذكر أن الدكتور بهرنج أشتهر بلقب (منقذ الأطفال) بسبب أن مرض الدفتيريا كان يحصد أرواح عشرات الآلاف من الأطفال سنويا. قبل فترة قصيرة من الآن عندما تلقت العجوز الإنجليزية مارغيرت كينان السابقة الذكر لقاح مرض فيروس الكورونا علقت لوسائل الإعلام بقولها (إنها أفضل هدية عيد ميلاد مبكرة يمكن أن أتمنى الحصول عليها) وفي الواقع حدث مشابه إلى حدا ما حصل قبل حوالي 130 سنة. تقول القصة إنه في ليلة عيد الميلاد Christmas Eve من عام 1891م كانت طفلة صغيرة تصارع مرض الدفتيريا القاتل في مستشفى مدينة ماربورغ الألمانية وهنا قام ولأول مرة في التاريخ الدكتور بهرنج باستخدام الطريقة الطبية الجديدة المتمثلة باستخدام المصل والعلاج المضاد antitoxin  لمثل هذا النوع من الأمراض المعدية. بلا شك لو صحت هذه القصة لتلك الفتاة فربما كانت تلك بالفعل أهم وأثمن هدية يمكن أن يحصل عليها أي مريض مسيحي في عيد الميلاد.

وعلى نفس النسق بين المزاوجة بين الماضي والحاضر والتنقل بينهما فكما نجد أن الطبيب الأمريكي جوناس سولك يستخدم لأول مرة في التاريخ لقاح شلل الأطفال في تطعيم أبنه البكر بيتر فكذلك نجد أن العالم والطبيب الألماني غرهارد دوماك الحاصل على جائزة نوبل لعام 1939م ومكتشف أدوية السالفا قام بتجربتها لأول مرة على طفلته هايدغارد المريضة بتسمم الدم. في عام 1932م تعرضت تلك الطفلة الصغيرة ذات الست سنوات لحادث بسيط ومع ذلك كاد أن يقضي على حياتها حيث تعرضت إحدى أصابعها لوخز إبرة ملوثة مما عرضها للتسمم البكتيري. وحيث أن دوماك كان قد أنهى اختباراته الأولية على حيوانات المعامل وثبت له فعالية عقار البرونتوزيل كأول أنواع المضادات الحيوية في تاريخ الطب ولهذا لم يتردد دوماك أن يجربه على ابنته المريضة كمحاولة لأنقاض حياتها من الموت المحتوم. وعلى ذكر (المضادات الحيوية) فلا شك أن أشهرها على الإطلاق هو دواء البنسلين وكذلك يذكر في كتب تاريخ العلم أن أول من تم علاجه البنسلين هو رجل شرطة بريطاني يدعى ألبرت الكسندر تتشابه قصته مع ابنة دوماك من أنه هو الآخر تعرض لتسمم بكتيري قاتل بسبب تعرض وجه لخدش بشوكة وردة !!. قصة هذا الشرطي المسكين حصلت في مستشفى مدينة أكسفورد وذلك في عام 1940م بينما الدراسات التاريخية الأكثر دقة تقول إن الاستخدام الأول لعقار البنسلين من المحتمل أنه تم قبل ذلك بعشر سنوات كاملة في مستشفى مدينة شيفيلد الإنجليزية عندما قام الطبيب سيسل بين (أحد تلاميذ أسطورة الطب ألكسندر فلمنج مكتشف البنسلين) بمعالجة ثلاثة من الأطفال الرضع بعقار البنسلين وذلك ضد مرض بكتيري خطير يصب أعين الأطفال حديثي الولادة.

 في الوقت الحالي الخطورة الصحية من الوباء الأخير للفيروس يتعرض لها أكثر كبار السن ولهذا كان الاهتمام بهم أوضح والأولوية لهم في العلاج والتطعيم مبرره ومقدرة. ومع ذلك علاج ورعاية الأطباء للأطفال والصغار لها رمزيتها في الوعي الجمعي للبشرية لأنها عناية وحماية لرصيد المستقبل الإنساني. ولهذا لا غرابة أن نجدد العديد من القصص والأخبار لمشاهير الأطباء في كل العصور وارتباطهم من الأطفال وعلاجهم وتشخيص لأمراضهم. ومن ذلك أيضا تخليد وتوثيق علاقة الأطباء بالأطفال في العديد من اللوحات الفنية فبالإضافة لما سبق ذكره عن لويس باستور وإدوارد جينر نجد كذلك لوحات ورسومات فنية مشهورة لأبي الطب أبقراط وهو يشخص ويفحص كبد طفل عاري الصدر. بينما في تاريخنا العربي والإسلامي انتشرت رسمه فنية نشاهد فيها ما يزعم أنه الطبيب العربي الكبير ابن سينا وهو يشخص مرض طفل ثري من خلال تفحص إحدى عينية في حين لوحة فنية أخرى تنسب للطبيب الكبير الرازي وهو ينظر في حلق طفل جالس أمامه في غرفة مليئة بالأدوات الكيميائية والتجهيزات الصيدلانية.


( المربعانية بين العرب والإنجليز !! )


 المربعانية هل هي فقط فلكلور شعبي

د/ أحمد بن حامد الغامدي

  يوماً ما قال الأديب الإيرلندي المشاكس أوسكار وايد (الحديث عن الطقس هو الملاذ الأخير للخيال) والغريب في الأمر أن أوسكار وايد وهو يحاول التقليل والتحقير من أهمية (سواليف الجو) فاته أنه قبل ولادته هو شخصيا بحوالي عشر سنوات تم نشر إحدى أهم وأشهر الروايات في الأدب الإنجليزي (مرتفعات وذرينغ). تلك الرواية التي كانت العمل الأدبي الوحيد الذي انتجته الكاتبة إيميلي برونتي وبالقطع هي رواية لا ينقصها الخيال كما إنها متخمة بسواليف وأحاديث الجو. أولاً كلمة (وذرينغ) في عنوان الرواية هي من كلمة wuthering والتي هي مأخوذة من كلمة الطقس weather ولكن بلهجة مقاطعة يوركشاير في شمال شرق إنجلترا. ثانيا أحاديث وأخبار الطقس متكررة بشكل ملحوظ في هذه الرواية فمثلا ترد كلمة الربيع 25 مرة والشتاء 23 مرة والصيف 22 مرة.

الطقس المتقلب يصعب التنبؤ بحالته المستقبلية ولهذا هو مغري للحديث والدردشة حوله كما إن السؤال أو التعليق عن حالة الطقس (يذيب حاجز الجليد) بين الأشخاص المصابين بالبرود الاجتماعي وبالتالي ينفع هذا التكتيك في كسر حاجز الصمت بين الغرباء. ما سبق ذكره موجود في طبيعة أفراد المجتمع الإنجليزي ولهذا أصبح الجنتلمان الإنجليزي هو أكثر شخص بين الأجناس البشرية حديثا عن أحوال الطقس. في البلاد العربية الطقس دافئ أو حار في أغلب أشهر السنة والشذوذ البارز هو ما يحصل في أشهر الشتاء حيث يتغير المناخ بشكل جذري وندخل في دائرة (الطقس المتقلب). وبسبب تشابه تذبذب أجواء الشتاء سواء في بلاد العرب أو أرض الإنجليز نجد أن تلك (البيئة) خصبة ليس فقط للدردشة والحديث ولكن (على عكس مما استبعده أوسكار وايد) هي بيئة وأجواء تحفيز الخيال لاختلاق واختراع العديد من الأساطير والأمثال الشعبية التي لا تجد لها مقابل في أجواء الصيف الاعتيادية.

بعد غد (أي يوم الإثنين القادم) سوف يكون مبتدأ فصل الشتاء بشكل فعلي حسب علم الفلك والذي يضبط بدقة زمن الشتاء ما بين ظاهرتي الانقلاب الشتوي (21 ديسمبر) والاعتدال الربيعي (20 مارس). في مقابل هذه الفصول الفلكية المنضبطة نجد العديد من الشعوب لها موروث شعبي أشبه بالفلكلور في تحديد مواعيد (الفصول النجمية) والتي ليس لها في الغالب أسباب علمية منضبطة. في مورثنا الشعبي الدارج يوجد زعم شائع أن (شدة البرد) تقع خلال موسم المربعانية الذي يمتد لمدة أربعين يوما والمثير للشك أن بداية مربعانية الشتاء على خلاف الظواهر الفلكية المنضبطة يوجد فيها اختلاف كبير وجدل متكرر فهل هي تبدأ في الأول من شهر ديسمبر أو السابع من ذلك الشهر. الإشكال الآخر يكمن أنه وفق إحصائيات علم الأرصاد الجوية فإن أغلب أيام الشتاء الأشد برودة تقع في شهر يناير وشهر فبراير. وربما كمخرج من التناقض بين الزعم أن المربعانية هي أشد البرد وأن أيام فبراير (شباط) هي الأبرد فعلياً وحسياً ما دفع البعض لنسج القصة المعروفة في الموروث الشعبي عن المربعانية وهي توصى ولدها شباط بقولها (يا وليدي ترى أنا مريت ولا ضريت) بمعنى أن بردها كان خفيفا وليس ضارا كما هو برد شهر شباط/فبراير. وفي تكملة المثل الشعبي أن برد المربعانية لم يؤثر إلا في الأشخاص ضعاف الأحوال المادية الذين لا يستطيعون شراء حطب السمر وأكل التمر (ما قويت إلا اللي شبوبه ليف وأكله دويف) وهذا تأكيد إضافي أن برد المربعانية في الغالب ليس قارصاً. ويضاف لذلك أن عند الشعوب الأخرى أمثال شعبية تعزز ملاحظة أن أشد أيام الشتاء بردا هي في آخر الشتاء وليس في أوله ولهذا يقال في بلاد الشام (خبي فحماتك الكبار لجدك آذار) بمعنى وفر وقود حطبك الكبير لشدة برد شهر مارس. وعلى ذكر بلاد الشام وما جاورها من أرض فلسطين المباركة تجدر الإشارة إلا أن المربعانية عندهم ليس فقط تختلف عن مربعانيتنا في التسمية (تدعى بالأربعينية) ولكن هي كذلك تتوافق بشكل سليم مع بداية فصل الشتاء الفلكي من 22 ديسمبر وحتى 31 يناير مما يعزز فرصة أن تكون المربعانية عندهم متوافقة أكثر مع الأيام الأشد برودة.

وهذا التوافق الصحيح بين شدة البرد التي تبدأ من 22 ديسمبر والرقم (أربعون) موجود في العديد من الحضارات الآسيوية كما هو الحال مع مربعانية جبال الهملايا الهندية المسماة تشيلي كلان (chillai kalan) أو مربعانية الشعب الفارسي في إيران المسماة شب تشيله (shabe chellh). وفي حين أننا بعيدين من ناحية التوقيت الصحيح لبداية المربعانية عن الأشقاء من عرب الشمال والجيران من الشعوب الأخرى إلا إننا نتوافق بشكل غريب مع (مربعانية روسية) غير متوقعة. من المعروف أنه في فصل الشتاء في مناطق الدائرة القطبية الشمالية تختفي الشمس لفترة طويلة ويستمر الظلام المتواصل لعدة أسابيع. وما يهمنا هنا هو ذكر مدينة مورمانسك الروسية التي تدخل كل سنة في فصل الشتاء بما يسمى ظاهرة (الليل القطبي) المتواصل والذي يستمر لمدة أربعين يوما هي تلك الممتدة من يوم الثاني من ديسمبر وحتى يوم الحادي عشر من شهر يناير وهي تقريبا نفس توقيت موسم المربعانية في بلادنا. ومع ذلك الأغرب من قصص وأخبار الطقس ليس المربعانية الروسية المظلمة ولكن المربعانية الإنجليزية الممطرة. منذ أكثر من ألف عام وحتى يوم الناس هذا تنتشر في البلاد الإنجليزية أسطورة مناخية طريفة تقول إنه إذا حصل وهطل المطر في يوم عيد القديس سويثن فهذا يعني أن السماء سوف تستمر تهطل بالمطر لمدة أربعين يوما متواصلة. لمن يعرف (أو عانى من تجربة كائبة) الجو البريطاني في فصل الشتاء لن يستغرب كثيرا من هذه الأسطورة الفلكلورية الإنجليزية لأن الجو الماطر هنالك كثير ما يستمر لعدة أسابيع. المفارقة ووجه التعجب في هذه الأسطورة أن يوم عيد القديس سويثن ليس في الشتاء ولكن في عز الصيف حيث يقع في يوم 15 يوليو ومن هنا نادر جدا أن يستمر المطر لكل تلك الفترة المربعانية المتواصلة. في وسط القارة الأوروبية نجد (مربعانية ماطرة) أخرى مشابهة بدرجة كبيرة للمربعانية الإنجليزية مع بعض الاختلافات الطفيفة فهي تتعلق بعيد القديس ميدارد والذي يقع في يوم الثامن من شهر يوليو ولكن مع بقاء جوهر الأسطورة الأصلي: إذا هطل المطر في ذلك الصيف في يوم عيد القديس فيتوجب على يمن صدق بهذه الخرافة أن يحمل مظلته معه لمدة أربعين يوما.

بقي أن نقول قبل أن نغادر عالم الأساطير والطقس أن الرقم (40) يقصد به في الغالب الكثرة وطول المدة ولا يقصد به المعنى الحرفي لذلك الرقم الحسابي. وكما نقول في اللغة الدارجة (عشرون مرة قلت لك ألا تفعل ذلك الأمر) فبالطبع نحن نقصد أننا كثيرا ما كررنا عليك التنبيه. وعلى نفس النسق عندما نسمع عن الظاهرة المناخية المسماة (رياح الخماسين) وهي الرياح الرملية العاتية التي تهب من الصحراء الكبرى وتستمر (لفترة طويلة) من الزمن ومن هنا نفهم أن الرقم (خمسون) في تسمية تلك الظاهرة المناخية ليس المقصود منه أن تلك الرياح تستمر لمدة 50 يوما بالفعل. وأعتقد أن هذا هو المقصود في موروثنا الشعبي بموسم (المربعانية) وأنها دلالة على فترة زمنية طويلة من الأجواء الباردة.

 الطقس وأيام العرب

الجدير بالذكر أن الحديث والمسامرة بذكر أخبار وقصص (موسم المربعانية) ليس قديما في الثقافة العربية والموروث الشعبي. فالمتصفح لكتب الأنواء والمواسم المناخية لدى العرب لا يجد ذكر لمصطلح (المربعانية). فهذا مثلا كتاب الأزمنة والأنواء لعالم الفلك ابن الأجدبي والمتوفى في منتصف القرن السابع الهجري وبالرغم من أنه يذكر أوقات دخول الفصول المناخية كما نعرفها اليوم وارتباطها بالأبراج السماوية مثل بداية الشتاء مع دخول برج الجدي. وكذلك يذكر الكتاب المطالع النجمية المشهورة لدينا مثل سعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية كما يذكر المؤلف كل الأمثلة الشعبية المتداولة لدينا حتى الآن عن هذه المطالع النجمية ومع ذلك لا توجد أي إشارة لكلمة (المربعانية). بل إن الموروث الشعري العربي القديم يركز في رصد ظاهرة الفصول المناخية وتغير الأجواء والطقس ليس على دخول البروج السماوية ولكن على ظهور النجوم. فكما هو معلوم ظهور نجم (الثريا) يرتبط بدخول فصل الشتاء وهطول الأمطار وهذا ما نجده في مطلع القصيد فائقة الرونق للشاعر الأموي ذو الرمة والتي استهل قصيدته بالدعاء بهطول المطر على دار محبوبته وقت حلول نوء نجم الثريا:

يا دار ميّة بالخلصاء فالجردِ               سُقيا وإن هِجتِ لأدنى الشوق للكمدِ

مُجلجل الرعد عرّاصا إذا إرتجست     نوءُ الثريا أو جبهة الأسدِ

وقوله في موقع آخر:

أمنزِلَتَي مَيَّ سلامٌ عليكما              على النأي والنائي يودّ وينصحُ

ولا زال من نوء السِماك عليكما      ونوء الثريا وابلٌ متبطحُ

 وأما فصل الصيف اللّهاب فيتوافق معه ظهور نجم (الشعرى اليمانية) ويكفي للاستشهاد بالعلاقة بينهما ذكر بيت الشعر الساخن الذي وصف فيه الشاعر الجاهلي الشنفرى كيف أنه في أحد أيام الحر الشديد وقت ظهور نجم الشعرى تتقلب الأفاعي على الرمضاء وتتململ:

ويومٍ من الشّعرى يذوب لُوابُهُ        أفاعية في رمضائه تتململُ

 وفي المقابل فإن ضهور نجم (سهيل) يكون متوافق مع نهاية فصل الصيف وبداية انكسار حدة الحر والقيظ ومن هنا وظّف أحد الشعراء خيبة الأمل وحظه العاثر حتى مع الطقس:

جاء سهيلٌ بالحرور والفزع        قد كنت أرجو نفعه فما نفع

 وبمناسبة ذكر أشعار العرب الأثرية الغابرة والمرتبطة بالطقس والفلك أليس من الغريب أن موروثنا الأدبي والحضاري العتيق نعلم عنه أدق تفاصيله بينما موروثنا الشعبي القريب أشبه بالأساطير التي لا نعرف كيف ظهرت. وبالرغم من مئات الدواوين الشعرية المخطوطة وآلاف الكتب الأدبية التراثية المطبوعة إلا أنه في القرون الزمنية الأخيرة (عصور الانحطاط) دار الزمان دورته ورجعت أشعار العرب وأخبارهم تتداول بالمشافهة وليس بالتدوين والكتابة. قد لا نعلم كيف وأين ومتى ظهر مصطلح (المربعانية) لأن الأجيال التي سبقتنا انتشر فيها الجهل والأمية ولهذا لم يوثقوا لنا ما الأبعاد الحقيقة لحكايا الشتاء المبهمة مثل برد العجوز وبياع الخبل عباته أو كيف أن للعقارب سم ودم ودسم. المخجل حقا أنه بعد أن كان يجمع أشعار العرب كبار أهل اللغة من أهلها من مثل المفضل الضبي والأصمعي وأبي زيد القرشي وصل بنا الحال أنه قبل قرنين من الزمن لم يحفظ الشعر النبطي القديم من الضياع إلا بعض المستشرقين. لفهم ودراسة كيف ظهر فلكلور الشعر النبطي يمكن أن نستفيد من جهود المستشرق الألماني ألبريت سوسين الذي كان أول من جمع ديوان الشعر النبطي وكذلك الرحالة والمستشرق الفرنسي شارل هوبر الذي أكمل مسيرة سوسين وجمع في منتصف القرن التاسع عشر ثلاث دواوين للشعر النبطي. بينما بسبب انعدام التوثيق للموروث الشعبي المتعلق بالظواهر المناخية ليس لنا إلا الخيال لمحاولة تفسير فلكلور موسم المربعانية.