الأربعاء، 28 يوليو 2021

( الشيخ الألباني والإمامة في الدين )

ليس بغزارة العلم وحدة أصبح الألباني أمام في الدين


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 في كتاب (الأبطال) لخص المفكر والكاتب الإنجليزي توماس كارليل التاريخ البشري بقوله (تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء) وعلى نفس النسق يمكن بشيء من التجاوز أن نختزل تاريخ التيار والمنهج السلفي بأنه سلسلة متواصلة لمسيرة عدد من (أعلام السلف). الرموز والشخصيات السلفية في القديم والحديث كثيرة وذات مشارب متعددة لكن (القامات التاريخية) محدودة نسبيا ويمكن تلخيصها في الأسماء اللامعة مثل الأمام أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب. في التاريخ الإسلامي وجد العديد من (الأئمة الأعلام) الذين وضعوا بصمتهم الفريدة في شتى المجالات كما في المذاهب الفقهية مثل الأئمة الأربعة أو تدوين السنة مثل علماء الحديث الكبار كالبخاري ومسلم أو حتى في مجال التصوف مثل الإمام الغزالي.

توجد أسباب وعوامل متعددة ومتداخلة في البروز الكبير والانتشار الواسع لتأثير بعض السلف الصالح دون البعض الآخر. عندما قارن الإمام الشافعي بين عمالقة الفقه الإسلامي مالك بن أنس والليث بن سعد قال (الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به) بمعنى أنه الليث بن سعد لم ينشأ مدرسة فكرية تقوم بتدوين علمه وتنشره في الآفاق. قوة المنهج العلمي وكاريزما الشخصية من العوامل المهمة في استقطاب الاتباع والمريدين والتلاميذ ومع ذلك يبقى من العوامل المهمة في شخصية (الأئمة الأعلام) أن تكون مسيرتهم مشحونة بالنضال والمعاناة والابتلاء. البشر يعشقون وينجذبون لم يناضل ولذا يرفعون مكانته ويقدرون تضحيته وبالعودة للإمام الشافعي يقال إن أحدهم سأله فقال: يا أبا عبد الله أيُّما أفضل للرجل أن يُمكّن أو أن يبتلى فقال الشافعي الحكيم: لا يُمكّن حتى يبتلى. وكل درج وسلك في سبيل الدعوة يعلم أنه لا بد أن يمر على طريق الابتلاء والتمحيص ومن هنا ذكر ابن قيم الجوزية في كتابه مدارج السالكين أنه سمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

بالمناسبة يوجد نوع من التطابق بين ابن تيمية والألباني في تنوع الأذى والمعاداة والمضايقة لهما أثناء حياتهما والتجريح والتجريف لمنهجيهما بعد وفاتهما. في القديم تقدم علماء السوء بشكوى ضد ابن تيميه في المسألة الفقهية المتعلقة بالحلف بالطلاق ونتج عن هذه الشكوى قيام قاضي القضاة بمدينة دمشق بمنع ابن تيميه من الإفتاء والتدريس ورفع أمره إلى السلطان. وفي الحديث قام مجموعة من مشايخ دمشق برفع عريضة إلى مفتي الشام يطالبون فيها بإيقاف العلامة ناصر الدين الألباني من نشر العلم والدعوة وقام المفتي بدوره بإحالة الشيخ إلى مدير الشرطة. العلماء هم ورثة الأنبياء كما ورد في الأثر الصحيح وهم ليس فقط ورثوا من الأنبياء والرسل الكرام العلم والدعوة إلى الله، ولكنهم ورثوا منهم كذلك سنة الابتلاء في سبيل الدين والحق. وإذا كان من مكر الأعداء ضد الأنبياء عليهم السلام كما نص القرآن الكريم (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) فهذا ما حصل في الواقع مع جماعة من أئمة السلف في القديم والحديث فقد تعرضوا للحبس والقتل والتشريد والنفي من الأرض. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية سجن وحبس مرات عديدة كان منها أن سجن مرتين في قلعة دمشق في مناسبتين مختلفتين وكلا منها بسبب آراءه الفقهية ومنهجه الفكري والعلمي. وفي نفس قلعة دمشق تلك حصل أن أعتقل الإمام الألباني في عام 1969م لفترة من الزمن وبهذا انطبقت مسيرته مع مسيرة (سلفه) ابن تيمية كما سجن الشيخ الألباني مرة ثانية في سوريا، ولكن في مدينة الحسكة عندما أبعد إليها ومنع من دخول دمشق. وبما إن سيرة المنع من الإقامة والإبعاد والطرد فتحت فيوجد تطابق آخر بين الإمام الألباني وبين سلفه الكبير ابن تيمية فهذا الأخير بسبب من علماء السوء أخرج من دمشق إلى القاهرة ثم بعد فترة من الزمن تم نفيه وتهجيره إلى مدينة الإسكندرية وكذلك الإمام الألباني بعد نفيه إلى مدينة الحسكة تعرض للتضييق والتهجير لدرجة إخراجه من بلده الأصلي سوريا إلى الأردن ليقضي بها سنوات طويلة ويتوفى بها. بل حتى إقامة الإمام الألباني في الأردن لم تخل من المنغصات ففي بداية الأمر رفض طلبه لدخول الأردن وظل الشيخ ثلاثة أشهر على الحدود الأردنية حتى تدخل الشيخ محمد بن إبراهيم الشقرة مدير المسجد الأقصى في الأردن وتوسط له عند الملك حسين. وحتى قبل وفاة الشيخ بعدة سنوات كاد يصل الأمر بطرده من الأردن بسبب فتوى فهمت خطاءً بأنه يدعو الفلسطينيين بوجوب الهجرة من فلسطين.

هذا ما كان مما ذكر في الآية الكريمة عن السجن (ليثبتوك) والتشريد والنفي (أو يخرجوك) أما فيما يتعلق بالقتل فقد صدرت في حق شيخ الإسلام عدة فتاوى بهدر دمه واستحلال قتله. ومن ذلك إصدار ابن مخلوف قاضي المالكية في مصر فتوى في تكفير ابن تيمية ووجب قتله بينما نودي في الجامع الأموي في دمشق (من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله) بل البعض كفر كل من يسمي ابن تيمية بشيخ الإسلام. أما في حالة الشيخ الجليل الألباني وبالرغم ما عرف عنه من تحذيره من التكفير والتفجير (له رحمة الله فتاوى أثارت ضجة تتعلق بعدم موافقته للعمليات الانتحارية ضد اليهود في فلسطين) ومع ذلك لم يسلم الإمام الألباني في نفسه من أن تصدر ضده فتاوى تجيز قتله كما حدث ذلك في شبابه عندما أصدر رئيس رابطة علماء سوريا فتوى أهدرت دمه.

ومن الابتلاء الذي يصيب (الأئمة الأعلام) هو أن يحصل التعريض لهم بالتجريح والتشويه والتسفيه والقدح في علمهم ومنهجهم وغالبا يقع هذا من معاصريهم وسبب ذلك الحسد والحقد. فهذا تقي الدين السبكي لا يكتفي بالرد العلمي على ابن تيمية بل يعمد إلى تجريحه واستنقاصه بقوله (إنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به .. ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره .. وهو لم يتهذب بشيخ ولم يرتض في العلوم). وبالرغم من الشهرة المدوية للإمام الألباني بوصفه (محدث العصر) إلا أن عالم الحديث الهندي المعاصر له حبيب الأعظمي بالغ لدرجة السفه في نقد الإمام الألباني في كتابه (الألباني أخطاؤه وشذوذه) عندما قال عنه: ولازم ذلك أنه والله لا يعرف ما يعرفه أحاد الطلبة الذين يشتغلون بدراسة الحديث في عامة مدارسنا. وبالمناسبة مثل هذا التجني والشطط في الخصومة يوضح لنا الفرق بين النقد العلمي المطلوب (بل الواجب) حيال التراث وأهله وبين الإسقاط والهدم والإقصاء للسلف الصالح وإنتاجهم الفكري.

والمقصود بعد هذا التجوال والمزاوجة بين رمز السلفية القديم (ابن تيمية) ورمز السلفية المعاصر (الألباني) أن طريق الابتلاء والتشويه والعداء هو حال السلف الصالح ومآل الخلف الفالح. ومن هذا المنظور نعلم أن الحملات المتلاحقة والغارات المتصاعدة في تشويه وتسفيه الرموز السلفية الكبرى مثل البخاري وابن تيمية والألباني هي حلقة في سلسلة متواصلة من القديم في مشهد الصراع بين الحق والباطل. التيار والمنهج السلفي له حضور وأثر ونصر بالغ في التاريخ والتراث الإسلامي وكما بدأنا بمقولة للمفكر الإنجليزي توماس كارليل نختم بمقولة أخرى تلخص سبب الهجوم على السلفية ورموزها (ليس من تاج بلا نصر، وليس من نصر بلا معركة، وليس من معركة بلا عدو).

 

( شهر يوليو / تموز من وجهة نظر علمية )

شهر يوليو/تموز بين الولادة والوفاة


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 منذ منتصف القرن الثامن عشر ومنذ عهد الملك الإنجليزي جورج الثاني درج ملوك وملكات التاج البريطاني على الاحتفال بأعياد ميلادهم في فترة الصيف حيث الأجواء أكثر صفاءً وبهجة وملائمة للفرح الملكي من أوقات أعياد ميلادهم الأصلية التي قد تكون في الشتاء الكئيب. حرارة الصيف وعنفوان النشاط البشري في تلك الأجواء شهدت (ولادة) كبرى الجمهوريات والدول في التاريخ الحديث حيث شهد شهر يوليو (الذي نحن فيه الآن) انبثاق الجمهورية الفرنسية بعد ثورة اقتحام الباستيل في 14 من هذا الشهر لعام 1789م وكذلك (ولادة) الأمة الأمريكية في 4 من يوليو من عام 1776ميلادي.

يوماً ما صك الأديب الإنجليزي الفريد وليم شكسبير عبارة (مرحا لهذا العالم الجديد الشجاع) ولهذا أصبحت هذه الجملة تستخدم بكثرة في توصيف أي أفكار أو ابتكارات جديدة وواعدة. ومن هنا قام الكاتب الإنجليزي المرموق ألدوس هكسلي بتوظيف هذه العبارة كعنوان لروايته المشهورة (عام جديد شجاع Brave New World) والتي تدور عن سيطرة العلم والتقنية في المستقبل على حياة البشر وبالذات في مجال (تقنية الولادة). مستهل تلك الرواية ركز على الطرق المستقبلية لتحديد النسل وتكوين الأجنة في أجهزة خاصة والتحكم بعملية الولادة من خلال إنتاج أطفال محددي الصفات والوظائف ضمن فئات محددة مسبقا. رواية الخيال العلمي هذه أصدرت عام 1931م ونسجت أحداثها على أنها تقع بمدينة لندن عام 2540م ولكن الغريب في الأمر أن بعض الأفكار العلمية المطروحة في هذه الرواية ذات الـتأثير الأدبي والعلمي الفائق (صنفت خامس أهم رواية عالمية نشرت في القرن العشرين) ظهرت بعد نصف قرن فقط (وليس نصف ألفية) من ظهورها.

وبالعودة لحرارة الصيف في شهر يوليو نجد أنه في العلم والتقنية كما في عالم السياسة والتاريخ (ولدت) العديد من الاكتشافات والابتكارات العلمية المذهلة والتي كلا منها يُعد بحق (عالم جديد وشجاع). عبر تاريخ البشرية كانت عمليات الإنجاب والتوليد تتم بتكرارية ثابتة وتقليدية رتيبة متواصلة حتى حصل التغير الهائل في طريقة الولادة الدموية المسماة (العملية القيصرية). كما هو معلوم يشتهر نسبة تقنية الولادة القيصرية إلى الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر الذي وإن لم يكن أول من ولد بهذه الطريقة، ولكنه كان أشهر وأهم شخصية أرتبط بها بشكل موثق في كتب التاريخ حيث ذكر ذلك المؤرخ الروماني بليني الأكبر في كتابه (التاريخ الطبيعي) أن اسم يوليوس قيصر جاء من أحد أجداده الذي ولد بواسطة جراحة قيصرية. كلمة التشريح والتقطيع باللغة الرومانية القديمة هي Caesar ومن هنا أصبحت كلمة سيزر (القيصر) هو لقب أباطرة الرومان والأهم من ذلك ارتباط هذه الحادثة بشهر يوليو والذي سمي كذلك لتكريم القيصر يوليوس الذي (ولد) في هذا الشهر.

الحدث الأبرز التالي في دنيا الولادة والذي حصل في شهر يوليو هو بداية ما توقعه ألدوس هكسلي في رواية عالم جديد وشجاع وهو استخدام الأجهزة والزجاجيات المعملية في إنتاج الأطفال أو بمختصر العبارة ظهور الطفرة العلمية المتمثلة (بأطفال الأنابيب). في الخامس والعشرين من شهر يوليو من عام 1978م ولدت الطفلة الإنجليزية لويز براون لتصبح أول طفلة أنابيب Test Tube Baby وبهذا حصل لأول مرة في تاريخ البشرية تلقيح اصطناعي خارج جسم الإنسان حيث تمت عملية الإخصاب في وعاء زجاجي (وليس أنبوب كما يشاع) يسمى طبق بتري. الجدير بالذكر أنه بعد عملية التخصيب لتلك للبويضة التي تستمر لمدة خمسة أيام يتم زراعة البويضة المخصبة داخل الرحم وفي حالة لويز براون ولدت بعملية قيصرية وبهذا اجتمع في شهر يوليو من ذلك اليوم وفي لحظة واحدة أعجب عمليتي إنجاب في التاريخ. بقي أن نقول إنه حتى الآن تم (ولادة) أكثر من تسعة ملايين طفل أنابيب كان يستحيل ولادتهم بالطرق العادية ولهذا لا غرابة أن يحصل عالم الأحياء البريطاني روبرت إدوارز مطور هذه الطريقة (الجديدة والشجاعة) في عملية التوليد على جائزة نوبل في الطب لعام 2010ميلادي.

الإنجاز العلمي الهائل الذي (ولد) في شهر يوليو ويعتبر بحق مثال للعالم والعلم الجديد والشجاع هو الإعلان يوم الخامس من شهر يوليو لعام 1996م عن ولادة النعجة دوللي وهي أول حيوان يتم ولادته من خلال تقنية الاستنساخ. الطريف في الأمر أن عالم الأجنة الإنجليزي إيان ويلموت الذي طور عملية استنساخ الأجنة للحيوانات الثديية في معهد روزلين بجامعة إدنبرة كان مولوده في السابع من شهر يوليو أي أن عيد ميلاده يتوافق نسبيا مع عيد ميلاد نعجته فائقة الشهرة. الجدير بالذكر أن تقنية علمية وطبية أخرى فائقة الأهمية في تاريخ البشرية أُعترف بها بشكل رسمي في شهر يوليو من عام 1990م وهي تقنية العلاج الجيني وما يهمنا هنا الإشارة إليه أن هذه التقنية الطبية المذهلة استخدمت لإحداث ثورة هائلة وجديدة في عالم الولادة. بعض الأطفال في حالة ولادتهم بشكل طبيعي قد يكونون معرضين للإصابة بأمراض وراثية قاتلة وهنا تم استخدام تقنية (العلاج الجيني) لإعادة الهندسة الوراثية لبعض الأجنة البشرية وبالتالي إنتاج وإنجاب أطفال بمواصفات حسب الطلب. في أشهر الصيف من عام 2000م تم الإعلان عن والدة الطفل الأمريكي آدم ناش وهو أول طفل مصمم designer baby بمعنى أنه طفل معدل وراثيا وتم تصميم جيناته لتفادي حصول أمراض وراثية خطيرة. وتقريبا في نفس تلك اللحظة التاريخية من صيف عام 2000م وبالتحديد في يوم السابع من شهر يوليو تم نشر المسودة الأولية من نتائج وبيانات المشروع العمي الكبير المتمثل في تحديد الخارطة الجينية (مشروع الجينوم البشري). وبتضافر هذه الإنجازات العلمية والطبية الكبرى مثل العلاج الجيني والجينوم مع الاستنساخ وأبحاث الخلايا الجذعية حصلت طفرة علمية كبرى في محاولة ضمان صحة البشر وبالذات المواليد الجدد.

ومن هنا نصل إلى سؤال عنوان المقال (هل شهر يوليو/تموز شهر للوفاة أم الولادة) وربما الإجابة من الناحية العلمية والطبية واضحة ومباشرة أن هذا الشهر بالذات شهد العديد من الإنجازات الطبية المذهلة التي ضمنت بقدر الله ومشيئته إمكانية ولادة عشرات الملايين من الأطفال الذين كان مصيرهم الموت المحتمل لولا اكتشاف هذه التقنيات العلمية الجديدة.

بقي أن نقول إن شهر يوليو يطلق عليه في بعض بلدان المشرق العربي مثل العراق وبلاد الشام اسم شهر (تموز) وذلك وفق طريقة التسمية السريانية. وبحكم أن شهر يوليو/تموز هو أحد أكثر شهور السنة حرارة ولذا يقول أهلنا في الشام (بتموز تغلي المي بالكوز) وهي الأجواء الضارة بالنباتات والحياة إجمالاً. وفق الأساطير البابلية القديمة يعتبر الإله تموز رمز للوفاة والهلاك وذلك لأنه في هذا الشهر يموت عندما تكون الأرض جافة وقاحلة وتنقطع مواسم الزراعة. وقديما كانت تقام مراسم الحداد والنياحة على تموز في أرض سومر خلال أشهر الصيف لأنهم كانوا يعتقدون أن هذا الإله المزعوم ينزل إلى العالم السفلي لمدة ستة أشهر ثم يعود مع بداية الربيع مع حبيبته عشتار.

شهر يوليو الساخن من خلال العلم ارتبط بالحياة والولادة والنماء بينما كان شهر تموز وفق الجهل والخرافات رمز لانقطاع الحياة والعدم والوفاة.

 

( الصعاليك والوعول الجبلية )

كيف حافظ صعاليك الجاهلية على الحياة الفطرية 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

وصف أي شخص بأنه من (صعاليك الجاهلية) يبدو في ظاهرة الأمر أنه هجاء مقذع لما لكل من كلمتي الصعلكة والجاهلية من ظلال سلبية وأبعاد لغوية منفرة ومع ذلك للثائرين القدامى الذين عرفوا بلقب الصعاليك كان لهم العديد من الصفات وملامح الشخصية التي عدت من مكارم الأخلاق والتي أتى الإسلام لإكمالها. من الصفات النبيلة للصعاليك نجد الشجاعة والفروسية والصبر والأنفة والإباء ويضاف لذلك عشقهم للطبيعة ورعايتهم لحيواتها وكائناتها لدرجة أن الصعلوك المعروف بالاسم الشنيع (تأبط شراً) لم يكن منه شر ضد الطبيعة، كيف وهو من يلقب أحياناً بأنيس الوحوش. قارن هذا بما حصل من بعض الرعاع من أبناء منطقة الباحة (الكرام أهلها) عندما قام أولئك الهمج من الشباب الطائش الأسبوع الماضي من اقتناص وقتل الوعول الجبلية بعد ساعات من لحظة إطلاقها في البرية. الغريب أن مفهوم (المحافظة على الحياة الفطرية) خير من يمثله صعاليك الجاهلية ممن ترعرعوا ودرجوا على جبال منطقة الباحة كما سوف نذكر أمثلته بعد قليل من أخبار الشنفرى وتأبط شراً.

وبحكم أن الصعلوك قديماً هو من تمرد على القبيلة وبالتالي ُطرد وهُجّر منها ولهذا كان العديد من الصعاليك يعيشون في قمم الجبال في مواقع كانت تسمى (المَرقبة) والتي كان يستخدمونها للترصد والتربص بالآخرين سواء من الأعداء أو من الأشخاص الذين قد يخططون لسرقتهم. ومن ذلك جبل المرقبة من أرض زهران وهو الذي يطل على تهامة وهو الذي ورد ذكره في شعر الشنفرى عندما كان يقيم بديار سلامان بمحافظة المندق ديار قومه وأهله وفي تلك القمة الشاهقة يقول:

ومَرقَبَةٍ عَنقاءَ يَقصُرُ دونها           أخو الضروَةِ الرجلُ الحَفِيٌّ المُخَفّفُ

نَعَبتُ إلى أدنى ذَراها وقد دَنا        من الليلِ مُلتَفُّ الحديقةِ أسدَفُ

والمهم هنا أن إقامة الصعلوك الجاهلي في هذه (المراقب) وقمم الجبال تجعله على تماس وتقارب كبير مع الحيوانات الجبلية ومن أهمها الوعل الجبيلي. وبحكم طول المجاورة وكما قالت العرب قديما إن (قرب الوساد وطول السواد) مغري بالمؤانسة والمجالسة وبذا لا غرابة في الواقع أن تتوثق العلاقة بين الشريد (أي الصعلوك) وبين الطريد (أي وعل الجبل).

واحدة من أجمل القصائد العربية الأصيلة هي قصيدة (لامية العرب) للشنفرى وفي آخرها نجد هذا الصعلوك يصف تعامله الرقيق والأنيق مع الوعول الجبلية فيقول:

ترُودُ الأرَاوي الصُّحمُ حولي كأنها          عَذَارى عليهن المُلاءُ المُذيّلُ

ويركُدنَ بالآصالِ حولي كأنني               من العُصم أدفى ينتحي الكِيحَ أعقلُ

وما أراد شاعرنا قوله إنه أثناء أقامته بتلك القمم الشاهقة من جبال زهران تتحرك وتجيء الوعول الجبلية حوله وهي من الشياه والأناثي التي وصفها بأنها سوداء اللون وأنها كذلك أشبه بالعذارى الخجولات المحتشمات. والمقصود أن تلك الوعول الجبلية قد ألفت وأنست بالشنفرى فلا تخاف منه ولا تنفر عنه وهي وقت المساء وفي الأصيل تجتمع حوله وتربض بالقرب منه وهي في حمايته وكنفه آمنة مطمئنة على خلاف ذلك الوعل السيء المصير الذي تم قتله وسلخه في الليل هذا الأسبوع من قبل أوباش أهل الطيش في مجتمعنا.

في الأدب العربي ما أن يذكر اسم الشنفرى حتى يرتبط به مباشرة ذكر الشاعر والفاتك الصعلوك تأبط شرا وسبب ارتباطهما معا أن تأبط شرا (كما يقال) هو خال الشنفرى ولذا كثر تردد تأبط شرا لمواقع كثيرة من بلاد زهران وبعضها ورد ذكرها في شعره. كما هو معلوم سرد أبو العلاء المعري في (رسالة الغفران) عدد كبير جدا من شعراء العربية وزارهم في المنام بزعمه إما في الجنة أو في النار وعندما ذكر الشنفرى الأزدي عرج مباشرة بذكر تأبط شراً وقال عنهما (وإذا هو قرينُ تأبط شرا كما كان في الدار الغرارة) وعلى نفس النسق سوف نقرن ونجمع بين خبر تأبط شرا مع الوعول الجبلية بعد أن ذكرنا حال وحنان الشنفرى حيالها. البيئة الطبيعية قديما في الجزيرة العربية كانت تعج بالوعول الجبلية والبقر الوحشية (ظباء المها) والتي كانت ترتع في مراعيها البرية. وكما الحال مع الشنفرى نجد أنه ينطبق الحافر على الحافر في أن تأبط شراً قد ألف التعايش بسلام وسماحة مع هذه الحيوانات الجموحة ولهذا نجده يقول عن نفسه:

يَبيت بمَغنى الوحشِ حتّى ألِفنهُ         ويصبح لا يَحمي لها الدهر مرتعا

رأين فتى لا صيدُ وحش يهمه          فلو صافحت إنساً لصافحنه معا

فهو يبيت وينام في مرابض ومنازل الظباء والوعول ومن طول ملازمته لها ألفته هذه الحيوانات النافرة فهو لا يمنعها من الرعي كما أنه مسالم لها ولا يخطر في باله أن يصيدها ولو أمكن لهذا الوعول والظباء أن تصافح إنسانا لصافحته كلها من كثرة ما ألفته واعتادت على مسلامته لها.

صورة فنية وتوصيف أدبي بديع ذلك الذي سطره صعاليك الجاهلية في رعايتهم للحياة الفطرية بمنطقة الباحة القديمة في مقابل ما نستنكره كلنا مما قام به بعض الشباب الطائش من أبناء المنطقة. ومع ذلك توجد ظاهرة اجتماعية أخرى تستحق الإشارة والتنبيه وهي قيام بعض الشباب وبشكل أسبوعي باستنزاف الثورة الحيوانية للمنطقة، ولكن ليس بقنص التيس الجبلي، ولكن باستهلاك التيس الساحلي والتهامي. ليس من فراغ انتشار الطرفة والنكتة بين أبناء المنطقة والتي تقول إن يوم الثلاثاء (Tuesday) يستحق بأن يدعى تيوس - دي أي (يوم التيوس) بسبب كثرة التيوس التي تذبح وتأكل كحنيذ أو مندي. وذلك هدر هائل وتضييع للأموال والأوقات بسبب نزول أعداد غفيرة من أبناء منطقة الباحة إلى سهول تهامة كل يوم ثلاثاء وغيره من أيام الأسبوع.  قبل عدة سنوات سطرت في إحدى قروبات وسائل التواصل الاجتماعي مداخلة خفيفة حول هذا الأمر حملت عنوان (يوم الثلاثاء (تيوس - دي) هو يوم الملحمة !!!) لعلي أعيد أرسلها ملحقة بهذا المقال.

 


( الغبار من منظور فلسفي !! )


 في أجواء الغبار الخانق تنقدح حكمة الفلسفة

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

غالب البشر لهم نفور طبيعي ومعاناة ملموسة من الغبار والأتربة ولكن عندما تكون كحالتي تقيم في مدينة الطائف - مدينة الغيوم وأناقة الطبيعة - ثم تتحدث عن الغبار والأتربة فأنت إما ( تمزح ) أو لا تراعي مشاعر الآخرين ولا تستشعر معاناتهم ولذا أنت تتفلسف. هذا الأسبوع شهدت أجزاء من الوطن وبعض دول الخليج موجة غبار وأتربة غير مسبوقة وفي بعض الحالات كانت درجة العواصف الرملية مفزعة وكارثية. يقال من رحم المعانة تولد ( الحكمة ) وتستنبط الفلسفة وثلاثية ( الفلسفة والمعانة والغبار ) خير من يمثلها الفيلسوف الهولندي المنكوب باروخ سبينوزا الذي عانى من ويلات مرض عضال قضى على حياته وهو في سن مبكرة. لقد كان سبينوزا يعمل في مهنة صناعة العدسات الطبية وبسبب تعرضه المستمر لغبار صقل زجاج العدسات أصيب بمرض رئوي قاتل.

 للعقل الفطين والذهن اللمّاح حتى الأشياء التافهة والصغيرة يمكن أن تفتح مجالات وأبعاد متعددة لأفكار عميقة ولهذا أستنبط أستاذ الفيلسوف الكندي مايكل ماردر بأن ملاحظة الغبار والتفكير فيه قد تجعل الشخص مؤرخاً وأن يطرح أسئلة عميقة عن الانتماء والوقت. وفي سياق التفكر في الغبار يقال إن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت عندما كان في أوائل شبابه لفت نظره يوما ما الضوء الداخل من النافذة وأنه يكشف عن ذرات وهباب الغبار غير المرئي والذي هو دوما في حركة وتصادم مستمر. وبالرغم من الفراغ الظاهري للهواء في الغرفة إلا أنه مليء بجسيمات الغبار وكذلك الكون في نظر ديكارت مليء بالمادة والذرات أو ما سماه ذلك الفيلسوف (سائل التفكير من الغبار). ونفس ذلك المشهد لذرات وجسيمات الغبار الضئيلة المنكشفة بنور الضوء تلقفه قبل ذلك الشاعر والمتصوف جلال الدين الرومي وعبر تقريبا عن نفس الفكرة في وحدة الكون وأنه مكون من الروح والمادة:

قل من أنا

أنا ذرات غبار في ضوء الشمس

 ليت شعري كم منا يعرف أن الشمس هي في الواقع عبارة عن (نجم) عادي من نجوم السماء ومرة أخرى نجد الترابط بين الغبار وبين الكشف الفلسفي عن حقيقة الكون وهو ما تمثل في المقولة المشهورة لعالم الفلك الأمريكي والنجم التلفزيوني كارل ساغان (أيتها البشرية .. ما نحن إلا حفنة من غبار النجوم). وإن كان ساغان نظر للجانب المادي للبشرية وأنها مخلقة من ذرات وجسيمات (غبار) مصنعة في قلب النجوم فإن شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال نظر للبشرية بأنها وإن كانت من أصل وضيع إلى أنها قابلة للسمو والرفعة ولهذا قال (صحيح أننا مصنوعون من الغبار، والغبار أيضا من تراب ولكن الغبار يرتفع). وبحكم أن كل ما يرتفع حتماً في لحظة ما يجب أن يقع وينزل فمن هنا نفهم ديمومة الغبار وديناميكيته (فالغبار لا يهدأ) فهو وإن استقر لفترة من الزمن فقد يُثار وينفض ويرتفع مرة أخرى في دورة لا نهائية وهذا الثنائية من الركود والصعود للغبار تستحق التأمل وثرية بالحكم الفلسفية.

وبعد هذه السفسطة الفلسفية حول الغبار والعفار المُثار نختم بما بدأنا به من الربط بين الغبار والفلسفة ومن رزق الجو الصافي والبديع ونشير لما ينقل عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت قوله: بعض الناس مثل الغبار عندما يختفون يكون يوما جميلاً.

أسعد الله أوقاتكم وجمّل الله أيامكم ولياليكم وأبعد الله عنكم الغبار وخفف عنكم ثقل اللقاء بمن لا تحبون.

( صفعات غيرت مجرى التاريخ )

 هل اللطم أمر متوارث في تاريخ حكام فرنسا

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 دوي الصفعة الاحتجاجية على وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تردد صداها العالم كله وقطعاً سوف تخلد في صفحات التاريخ بأحرف من عار وشنار. صحيح أن الرئيس المصفوع حاول التقليل من أثر تلك اللطمة الاحترافية التي أدمت كبريائه إلا أنه في بعض الأحيان ربما يكون: معظم النار السياسية من مستصغر (اللطم). لفترة من الزمن سيطر الحاكم الفرنسي الأعظم والإمبراطور الأعجم نابليون بونابرت على أرض مصر واستتب له الأمر حتى لطمه رجل مصري أعمى. كان العالم الأزهري سليمان الجوسقي وبالرغم من فقره وإصابته بالعمى من الشخصيات ذات القدر والمكانة في أرض مصر ولهذا حاول نابليون أن يستميله إلى صفه فعرض عليه أن يجعله سلطانا على ديار المحروسة. فأظهر الشيخ قبول العرض وطلب أن يصافح نابليون بيده اليمين وفي لحظة خاطفة صفع الجوسقي نابليون على وجهه دلالة على مقاومة الشعب للاحتلال الفرنسي. خلد هذه الحادثة العجيبة المؤرخ الجبرتي في كتاب عجائب الآثار بينما عرضها الأديب الكبير على أحمد باكثير بأسلوب بديع عندما صاغ الحدث على لسان سليمان الجوسقي وهو يخاطب نابليون بقوله (معذرة يا بونابرته هذه ليست يدي .. هذه يد الشعب).

لقد كانت تلك الصفعة هي النار التي زادت في اشتعال ثورة المصريين ضد الفرنسيس الأنجاس كما كانت صفعة أخرى هي (شرارة) ثورة سياسية كبرى امتد مداها وسمع صداها مره أخرى في أرض مصر. مجرى التاريخ العربي الحديث تغير بشكل مزلزل وذلك عندما قامت في نهاية عام 2010م سيدة تونسية تعمل في مهنة الشرطة بصفع الشاب محمد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد بعد أن صادرت عربة الخضار التي كان يكسب رزقه منها. كما هو معلوم للتنديد بالظلم والإهانة التي تعرض لها الشاب البوعزيزي قام بإضرام النار في نفسه أمام مقر الولاية وبهذا اندلع حريق ثورة الربيع العربي من مجرد حرارة اللطمة الأثيمة من تلك السيدة/ السلطة على وجهة ذلك الشاب المكافح.

العدل أساس الملك ولولا الظلم والقهر في البلدان العربية ربما لما حصل الاحتجاج الثائر وبما إننا في سياق الصفع واللطم فيقول بعضهم (لا شيء أكثر مهانة من الصفعة التي لا ترد). لو وجد الشاب المكلوم والمهان من ينصفه و (يقتص) له حقه لما ثار ومن هنا نعلم حكمة وعدل الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب والذي مكن القبطي غير المسلم من أن يضرب ابن الأكرمين وإن كان والده عمرو بن العاص حاكم مصر المسيطر. في قصة أخرى ذات مغزى مشابهه نجد أن الملك الغساني جبلة ابن الأيهم قام بلطم إعرابي على وجهه لمجرد أنه وطيء على إزاره أثناء طوافه حول الكعبة. وقد علم الإعرابي الفزاري أنه في ظل دولة العدل يستطيع رد تلك الصفعة وعندما شكا أمره إلى الفاروق عمر كان حكمه على الملك الغساني (إما أن ترضيه وإلا اقتص منك بلطمك على وجهك). وعندما حاول جبلة إثارة الجلبة بقوله (يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة) كان الرد الحاسم من عمر رضي الله عنه وأرضاه: يا جبلة إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه فما تفضله بشيء إلا التقوى.

كما هو معلوم كانت ردة فعل جبلة ابن الأيهم أنه هرب من مكة في جنح الظلام ثم ارتد إلى النصرانية وعاش كنف إمبراطور الروم في القسطنطينية وهذا يقودنا إلى حادثة لطم وصفع مرتبطة بالنصرانية والامبراطور. عند ظهور المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية البيزنطية كان المجتمع ما زال تتجاذبه انقسامات حادة بسبب تعدد الطوائف المسيحية والتي كان من أكثرها تأثيرا مذهب الآريوسية المنسوب إلى الأسقف آريوس (البعض يقول أنه هو من ورد ذكره في رسالة الرسول الكريم إلى هرقل إمبراطور الروم: أسلم تسلم .. فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين). وما يهمنا هنا أن مذهب الآريوسية ربما كتب له اكتساح الديانة المسيحية لولا تلك اللطمة التي نزلت على فم الأسقف آريوس عندما أمر الإمبراطور قسطنطين بعقد مجمع دينيي كبير للنظر في معتقداته الدينية المخالفة. في بداية الأمر واثناء مناظرات مجمع نيقية المنعقد عام 325م استطاع الأسقف آريوس إفحام خصومه وتفنيد ودمغ شبهاتهم، ولكن الأمر أختلف بشكل حاد كما تزعم الأسطورة الشائعة عندما أخذت القديس نيقولاس الحمية الدينية لأن يندفع ويلطم أريوس على فمه واسكاته. هذه الإهانة قللت من هيبة الأسقف المصفوع مما عزز إصدار حكم الهرطقة ضده وتسبب في نهاية الأمر لانقراض المذهب الآريوسي والذي يعتبر قرب المذاهب المسيحية تقريبا إلى مفهوم الإسلام من أن عيسى عليه السلام لم يكن إله وإنما بشر مخلوق.

ما سبق ذكره الصفعة المقدسة قد لا يكون ثابت بشكل دقيق من الناحية التاريخية، ولكنه صحيح من ناحية بيان أثر (التحطيم المعنوي) للشخصيات الاعتبارية عندما يتم إهانتهم بشكل علني من خلال صفعهم ولطمهم على وجوههم فتزول مكانتهم الاجتماعية ويلحقهم الخزي. ومن اسطورة لطم القديس آريوس إلى الأسطورة اليمنية القديمة في العصر الجاهلي التي تزعم أن التُبّع عمرو بن عامر الأزدي ملك مأرب لما أحس بضعف سيطرته على شؤون الملك واحتمالية وقوع كارثة انهدام السد أراد أن يهجر قومه وينجو بنفسه. ولهذا اختلق حيلة مسرحية أن يقوم أصغر أولاده بلطمه أمام الناس بعد مشاحنة بينهما فقال (لا أقيم في بلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي). والمقصود أن سلاح الإهانة وجرح الكرامة من خلال الصفع واللطم أمام الملأ استخدم بشكل متكرر عبر التاريخ كمحاولة من قبل صحاب السلطة لإزاحة الأشخاص الذين يخشى منهم مزاحمته على مقاليد الحكم. عندما تولى معاوية بن أبي سفيان أمر الخلافة واستتب له الأمر ربما حاول أن يُحيّد أي شخص من ذوي الشرف يطمح في الحكم وكما ورد في كتاب البداية والنهاية لابن كثير أنه عندما (دخل ابن الزبير على معاوية فأمر أبناً له صغير فلطمه لطمة دوخ منها رأسه). وربما من هنا كان مبتدأ السعي الدؤوب لعبد الله بن الزبير لأن يقصي بني أمية من الحكم وعندما توفي يزيد بن معاوية دعا ابن الزبير الناس لمبايعته بالخلافة فاستجاب له أهل الحجاز وأهل العراق. وإذا كانت تلك اللطمة لم تغير التاريخ بشكل كامل لأن ابن الزبير لم يصل لمنصب الخليفة وقتل دون ذلك كما هو معلوم إلا أن صفعة أخرى تسببت في وصول الملطوم إلى سدة الحكم في بلده. في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي قادت عجرفة الإمبراطور البيزنطي إسحاق الثاني إلى احتقار نبلاء الطبقة الارستقراطية في مملكته لدرجة أنه لطم رجل يدعى إيفان آسين لمجرد أنه طلب أن يصبح هو وأخية من فرسان جيش الإمبراطور وأن يمنحا قطعة أرض. لاحقا تمرد إيفان وأخوه على حكم الإمبراطور وخلال سنتين فقط استطاعا أن يسقطا الإمبراطور البيزنطي عن عرش حكمه ويتولى الملطوم إيفان منصب الإمبراطور بدلا عنه.

وكم وكم صفعة ولطمة تجاهلها الزمن وتناستها الذاكرة الجمعية للبشرية مع أنها بالفعل غيرت مسار التاريخ.


( في وداع الإجازة الصيفية )


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

في الحضارة الإسلامية وعبر قرون متطاولة كانت الكتاتيب هي عصب المنظومة التعليمة والتربوية للأجيال المتلاحقة وبالرغم ما لها من دور هائل في تشكيل التراث العلمي الإسلامي والعربي إلا أنها لم تسلم من النقص الذي لا يخلو منه أي سلوك بشري. الصورة النمطية السلبية عن أجواء الرعب أو الكآبة في الكتاتيب الدراسية القديمة مبثوثة في الأدب العربي ويكفي مراجعة وصف طه حسين في كتابه الأيام لمعلم كتّاب قريته الشيخ محمد جاد الرب أو شخصية معلم القرية القاسي والجشع الشيخ زكي في رواية أم النذور للروائي البارز عبد الرحمن منيف.

بغض النظر عن صدق ودقة مثل هذه الصور النمطية الكئيبة عن حياة الصبيان في عالم الكتاتيب القديمة لكن تبقى حقيقة أن (التقويم والرزنامة الدراسية) في تلك الأزمان الغابرة كانت تشمل أغلب أيام السنة وان فترات العطل والإجازات كانت نادرة ومتقطعة. ربما يعد كتاب (آداب المعلمين) للأمام محمد بن سحنون المنشور في منتصف القرن الثالث الهجري أقدم مرجع علمي في النظام التربوي الإسلامي وفيه حدد ابن سحنون (تقويم الإجازات) والعطل المدرسية للصبيان والتي هي عطل أسبوعية تشمل يومي الخميس والجمعية وعطل سنوية تشمل عيد الفطر يوماً واحداً ولا بأس أن تصل إلى ثلاثة أيام وعطلة يوم العيد الكبير (عيد الأضحى) وهي ثلاثة أيام ولا بأس أن تصل إلى خمسة أيام.

وبالمناسبة وأيّن كان عدد أيام الإجازة المدرسية في ذلك الزمن نجد الحال لم يتغير قديماً وحديثاً بأن الطلاب يكرهون يوم العودة للكتاتيب أو المدارس ولهذا طوال التاريخ الإسلامي كان يوم السبت يوم كئيب بامتياز لصبيان الكتاتيب. في إحدى المقامات الأدبية لبديع الزماني الهمداني المسماة المقامة الدينارية يتخاصم ويتهارش شخصين حول أيهما الأولى بالحصول على دينار يستحقه فقط من يقذع في السب للشخص الآخر ولهذا قام أحدهما بسب صاحبه بقائمة طويلة من الشتائم كان منها ( .. يا بول الخصيان .. ويا سبت الصبيان).

 قبل ظهور نظام التعليم الحديث كان الحال مشابهة تماما في الدول الأوروبية زمن العصور الوسطى حيث كان يقتصر التعليم العام فيها على المدارس الكنسية ومدارس الأديرة الدينية ولهذا كانت الإجازات المدرسية متزامنة مع العطل والأعياد الدينية. وإن كان توجد بعض الإشارات التاريخية إلى أن المدارس القديمة المسماة (مدارس القواعد) Grammar Schools التي ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي في بريطانيا والمستعمرات الأمريكية كانت تمنح طلابها أسبوعين كعطلة سنوية. وهنا نصل للحدث التاريخي الأبرز في مجال العطل المدرسية وهو تمديد فترتها لتصل لمدة شهرين متتابعين وغالبا حصل هذا الأمر لأول مرة في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. بسبب أن أغلب الأسر والعوائل في الولايات المتحدة في تلك الفترة كانت لا زالت تعيش في مجتمع زراعي لذا كان ينظر للأطفال كقوة عاملة ذات أهمية كبرى في مساعدة الأسرة في الأمور الزراعية ولهذا كان يتم سحب الأطفال من فصول الدراسية إلى حقول المزارع وزرائب الماشية ومن هنا أعتقد البعض أن تشريع نظام العطلة الصيفية كانت نتاج هذه الظروف المجتمعية والاقتصادية.

الإشكال يظهر أن هذه القصة تزعم أن تخصيص شهرين من أشهر الصيف وهما شهري يوليو وأغسطس كعطلة مدرسية كان لهذا السبب بينما منطق الفهم للواقع الزراعي يجعل شهور الخريف وبالأخص شهر سبتمبر هي الأنسب للعطلة السنوية لأنها هي موسم حصاد أغلب الحبوب. بالمناسبة فكلمة حصاد باللغة الإنجليزية Harvest مشتقة أصلا من كلمة إنجليزية قديمة تعني (الخريف). والمقصود أنه إذا صدرت قوانين تشريعية رسمية بتحديد موعد وتوقيت الإجازات والعطل المدرسية فمن المرجح أنها لن تكون فقط لمراعاة الفقراء والمزارعين فالضعفاء لا يكتبون التاريخ ولا يسنون القوانين.

بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن تشريع وجود إجازة صيفية لطلاب المدارس كان يهدف منه بالدرجة الأولى راحة الأسر الثرية وذات النفوذ الاقتصادي والسياسي. في منتصف القرن التاسع عشر لم يتم بعد اختراع أجهزة تكييف الهواء والتبريد والثلاجات ولهذا كانت فترة الصيف غير مريحة للطبقة المخملية من المجتمع ولذا كانت تلك الأسر المرفهة تغادر إلى المنتجعات السياحية الباردة في أشهر الصيف وبالطبع تضطر لسحب أبنائها من المدارس. وبحكم أن الدراسة في ذلك الوقت لم تكن إلزامية فكان بإمكان الآباء سحب أبنائهم من المدرس في أي وقت يشاؤون مما يتسبب في إرباك العملية التعليمة وإضعاف سمعة المدارس.

ومنذ عام 1942 ميلادي بدأت العديد من المدن الأمريكية في وضع التشريعات الرسمية لتنظيم مدة وزمن العطل المدرسية بحيث تكون في فترة الصيف وخلال شهري يوليو وأغسطس. ومما تجدر الإشارة إليه أن الارتباط بين العطل المدرسية والسفر والارتحال قديم نسبيا في ثقافة الدول الغربية ولا سيما في بريطانيا حيث انتشر خلال القرن السابع عشر وإلى منتصف القرن التاسع عشر ظاهرة (الجولة الكبرى Grand Tour). في ذلك الزمن كان يقوم العديد من النبلاء والأثرياء والأرستقراطيين بإرسال أبنائهم في سن المراهقة أو في مرحلة أوائل الشباب للقيام برحلة تعليمية وثقافية إلى عدد كبير من المدن الأوروبية وذلك غالبا في أشهر الصيف ولهذا كانت الجامعات الكبرى والمدارس المرموقة تمنح الطلاب فترة الإجازة الصيفية لتمكينهم من القيام بهذه الجولة الثقافية والتعليمية البالغة الأهمية في تشكيل الحصيلة المعرفية لجيل ذلك الزمان.

 لعقود طويلة من الزمن وحتى الآن حافظت العديد من الدول على نظام (الإجازة الصيفية) التي تستمر في الغالب لمدة شهرين يسبقها سنة دراسية مكونة من فصلين دراسيين. ومع ذلك العديد من الدول قامت منذ فترة بتعديل نظامها التعليم بتقسيم العام الدراسي إلى ثلاثة فصول والبعض حتى إلى أربعة فصول دراسية، بل إن النظام التعليمي في المكسيك يتوزع على خمسة فصول دراسية قصيرة. وبعد هذه التعديلات الجديدة في هذه البلدان تقلصت الإجازة الصيفية بشكل ملحوظ وخصوصا في الدول التي يتكون نظامها التعليم من أربعة فصول دراسية (quarters) ولذا تكون الإجازة السنوية المطولة بها لا تزيد في الغالب عن شهر واحد.

وفي ضوء هذه المتغيرات يبدو أن نظام (الإجازة الصيفية) سوف يتلاشى أو يضعف في المستقبل خصوصا مع تزايد انتشار مفاهيم التعليم عن بعد والتعليم المستمر والتعليم المرن ومن هنا يخفت الحد الفاصل بين زمن التعليم على مقاعد الدراسة وبين التعليم بالترفيه أثناء الاستمتاع بالإجازة الصيفية والعطلة المدرسية. 

 

( من المنتصر ؟!!)

بعد هدنة الحرب .. كثير ما يتغير التاريخ بشكل صارخ

د/ أحمد بن حامد الغامدي

من المعارك الفاصلة في التاريخ الإنساني تلك التي وقعت أحداثها بالقرب من مدينة حمص السورية وحملت عنوان (معركة قادش) والتي تطاحنت فيها قوات جيوش الإمبراطورية الفرعونية وجيوش المملكة الحيثية. في عام 1274 قبل الميلاد فشل الفرعون المصري البارز رمسيس الثاني من هزيمة عدوه ملك الحثيين مواتللي الثاني وبعد خسائر حربية كبرى من الطرفين تم بعد ذلك بعد سنوات عقد ما يمكن تسميته (معاهدة قادش) وهي هدنة سلام بين تلك الأطراف المتحاربة. الطريف في الأمر أنه عند توثيق بنود هذه المعاهدة باللغة الهيروغليفية على جدران معبد الكرنك بمدينة الأقصر زعم الفرعون رمسيس الثاني أن ملك الحثيين مواتللي الثاني هو من بادر بطلب الصلح مع الفراعنة. وفي المقابل نجد أن نص المعاهدة التي كتبت على لوح من الفضة باللغة الحيثية التي عثر عليها في أحافير عاصمة الحيثيين في منطقة الأناضول تشير إلى أن ملك المصريين رمسيس الثاني هو من جاء يتوسل عقد الهدنة.

لقد بالغ كثير الفرعون رمسيس الثاني في محاولة إظهار أنه هو المنتصر في تلك المعركة التاريخية الفاصلة فنجد له تلك اللوحة الشهيرة المرسومة على أعمدة معبد أبو سمبل في أسوان والتي تمثل ذلك الفرعون وهو يقود بنفسه مركبة حربية في معركة قادش ويطلق السهام على أعدائه وفي منظر آخر نجده وهو يقتل بيده أحد الجنود الحيثيين بينما يدوس بقدمه جندي آخر منبطح على الأرض. ونفس تلك الدعاية المبهرجة عن انتصار رمسيس الثاني نجدها تقريبا بصور مشابهة منقوشة على معبد الرامسيوم المخصص بالكامل لرمسيس الثاني في مدينة طيبة الجنائزية الفرعونية الواقعة حاليا بمحافظة الأقصر. ومن المقرر في صفحات التاريخ أن رمسيس الثاني هو بلا جدال أحد أشهر وأهم فراعنة الحضارة المصرية القديمة وقد أقام وإنشاء العديد من المعالم الأثرية الفرعونية البالغة الأهمية في جميع ربوع مصر القديمة.

ولكن ما هي حال الحضارة الفرعونية بعد ذلك النصر المزعوم في معركة قاديش علما بأنه لا مقارنة من ناحية القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية والعمق التاريخي بين الحضارة الفرعونية في ذلك الوقت وبين الحضارة الحيثية. بعد حوالي ثلاثة عقود من وفاة رمسيس الثاني تولى الفرعون رمسيس الثالث مقاليد الحكم وهنا تعرضت الأراضي المصرية لغزو الجيوش القادمة من الغرب من ليبيا والجيوش القادمة من الشمال من جهة رفح وهذا ما شكل نقطة البداية في نهاية قوة الهيمنة للإمبراطورية الفرعونية.  وبعد ذلك بعدة قرون أصبحت مصر الفرعونية في درجة مريعة من الضعف والهوان لدرجة أنه في عصر الفرعون أحمس الثاني أصبحت محل مهانة من الإمبراطوريات المنافسة. وهذا ما دفع الإمبراطور الفارسي قمبيز الثاني بأن يتجرأ ويطلب الزواج بكل صفاقة من ابنة الفرعون أحمس الثاني وعندما حاول أن يتحايل عليه بأرسال ابنة الفرعون السابق له تسبب ذلك في غزو واجتياح الفرس لكامل الديار المصرية الفرعونية. الغريب في الأمر أنه على الرغم من الصورة النمطية لقوة وعنجهية الإمبراطورية الفرعونية إلا أنها تعرضت عبر التاريخ لغزو واحتلال العديد من الشعوب مثل الهكسوس والنوبيين والليبيين والفرس والبطالمة المقدونيين والرومان وغيرهم.

كم تغير التاريخ بعد هدنة وقف الحرب بين الإمبراطورية الفرعونية بالغة القوة وبين المملكة الحيثية الفتية. فهل يعيد التاريخ نفسه ونشهد بداية النهاية للكيان الصهيوني المحتل والغاشم والذي بالرغم من قوته العسكرية الطاحنة يجبر على الموافقة على هدنة إيقاف القتال بينه وبين أهل فلسطين المرابطين والمجاهدين.

 

 

( الاعتداءات على المسجد الأقصى .. تاريخ زائل )

كما زال الاحتلال الصليبي للقدس فهذا مصير الصهاينة 


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 منذ سنوات والعالم العربي والإسلامي يتابع لحظة بلحظة وعلى الهواء مباشرة الاعتداءات الصهيونية الآثمة على المسجد الأقصى وعلى أهلنا في أرض الرباط في أكناف بيت المقدس. قديما قال متمم بن نويرة (إن الأسى يبعث الأسى) ولهذا الشجى يستجلب صدى الذكريات والعودة لتاريخ الاعتداء على أول القبلتين ومسرى الرسول في زمن حكم وسيطرة الصليبيين. باستثناء الفاجعة الكبرى وقت احتلال الصليبيون لبيت المقدس وارتكابهم للمذبحة الأليمة بقتلهم وإبادتهم لمعظم أهل الإسلام في القدس وتحويل المسجد الأقصى إلى كنيسة وسكن لفرسان الداوية واستعمال سراديبه كإسطبلات للخيول، باستثناء هذه الأحداث الجسام لا نعلم تقريبا كيف كان حال المسجد الأقصى والمقدسيين تحت تدنيس أهل الصليب والذي استمر لحوالي قرن من الزمان. انشغل الحكام العرب ورجال التاريخ في القرن السادس الهجري بقتال وتوثيق المعارك الحربية والمناورات السياسية ضد الصليبيين ومع ذلك لا تكاد تجد في كتب تاريخ ذلك الزمان أي إشارات لحال أهل فلسطين تحت حكم النصارى الصليبيين.

والمتصفح لكتب التاريخ التي ألفها أبرز المؤرخين في القرن السادس الهجري مثل ابن عساكر وأبو الفرج ابن الجوزي وعماد الدين الأصفهاني يجد معلوماتها شحيحة جدا عن حالة القهر التي كان يتعرض لها من بقي من أهل الإسلام مقيما فيما كان يسمى (مملكة بيت المقدس) المسيحية. ومن أشهر ما يتم ذكره في هذا الشأن ما نشره أسامة بن منقذ في كتابه الاعتبار عن زيارته للمسجد الأقصى وبالرغم من كونه سفير رسمي من قبل عماد الدين زنكي إلى ملك الصليبيين بلدوين الثالث إلا أنه تعرض لبعض المضايقة من الصليبيين المتعصبين عندما أراد الصلاة في داخل المسجد.

وبعد ذلك بعدة عقود من الزمن وفي ظروف شبه متطابقة زار المؤرخ والقاضي ابن واصل الحموي بيت المقدس كسفير سياسي مبعوث من قبل الظاهر بيبرس إلى ملك الصليبيين الأمبراطور فريدريك الثاني وهنا كانت الشاهدة التاريخية الأليمة عن حال الأقصى تحت الاحتلال الصليبي الثاني للقدس. يقول ابن واصل الحموي عن تلك الزيارة النادرة لأهل الإسلام للمسجد الأقصى زمن الاحتلال (دخلت البيت المقدس ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة وعليها قناني الخمر برسم القربان، ودخلت الجامع الأقصى وفيه جرس معلق وأُبطل بالحرم الشريف الأذان والإقامة وأعلن فيه بالكفر).

 والمقصود أنه بالرغم من عدم اطلاع العرب زمن الاحتلال الصليبي لأرض فلسطين على تفاصيل اضطهاد المسلمين ودقائق المعلومات عن الاعتداء والتدنيس للمسجد الأقصى ومسجد الصخرة إلا أن الشعوب والدول والممالك الإسلامية في ذلك الزمن (على علاتها وحروبها الطاحنة بينها البين) كانت على درجة مقبولة من الحمية لنصر الإسلام ومقدساته والمضطهدين من أبنائه. فكيف الحال بنا ونحن نشاهد منذ سنين ومن خلال البث المباشر لتفاصيل التفاصيل لما يقع على الإسلام وأهله في أرض فلسطين السليبة.

الاعتداء الصليبي على القدس وأهلها أصبح من التاريخ الزائل الذي لا أثر له على أرض الواقع اليوم وكذلك حتما وجزما الاعتداء الصهيوني على القدس وأهلها سوف يزول في يوم ما ويصبح من التاريخ الغابر. مملكة بيت المقدس المسيحية زالت بالرغم من كل الحملات الصليبية المتتالية التي قام بها ملوك وأباطرة أوروبا وذلك لسبب بسيط أنها كانت قائمة داخل محيط هادر معادي لها ومختلف عنها في الدين واللغة والعرق.

وهذه ظاهرة متكررة في التاريخ الإنساني بأن أي كيان يوجد في بيئة بشرية ضخمة مختلفة عنه ومعادية له لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة حتى ولو كان تدعمه قوى سياسية واقتصادية كبرى. التواجد الإسلامي في أطراف أوروبا لم يكتب له الخلود ولهذا طرد الحكم العثماني من دول البلقان ومن بلغاريا ورومانيا وكذل طرد الحكم الإسلامي من البيئة الضخمة المعادية له كما حصل مع حكم السلطنة المغولية الإسلامية الي كانت تحكم الهند. سيطرة قوة كبرى لشعوب معادية لها لا تستمر لفترة طويلة فالنصر المبكر سهل وقد يستمر لفترة من الزمن، ولكن المحافظة على مكاسب النصر هي الاشق ولهذا قال خبير السياسية الأبرز ونستون تشرشل (مشاكل النصر ألطف من مشاكل الهزيمة، ولكنها ليست أسهل في أي شيء).

( من جاكرندا مدينة أبها إلى ساكورا مدينة الطائف )

الورود .. وسيلة جذب سياحي 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في ختام شهر أبريل يوشك مهرجان ( الورد الطائفي ) الذي يقام سنويا في منطقة الهدا والشفا بمدينة الطائف مع بواكير فصل الربيع من نهاية شهر مارس إلى أواخر شهر أبريل، يوشك ذلك المهرجان على الانتهاء وكالعادة دون تغطية إعلامية كافية.
في المقابل تحظى مدينة أبها البهية هذه الأيام بشهرة ذات بهجة مبهرجة بسبب موسم تفتح زهور أشجار الجاكرندا البنفسجية اللون والخلابة والتي تزين طرق وميادين وتقاطعات مدينة أبها عروس الجنوب.
أعتقد أن مدينتي الحبيبة الطائف المأنوس تحتاج (لهجمة مرتدة) في سباق التنافس مع مدن الجذب السياحي ويمكن أن تستفيد من التجربة بالغة النجاح لأشجار الساكورا اليابانية. منذ القدم اشتهرت مدينة طوكيو العاصمة اليابانية بجمال الربيع فيها عند تفتح أزهار شجرة الكرز ( الساكورا ) بأزهارها البيضاء الفائقة الجمال والروعة.
في عام ١٩١٢ ميلادي أهدت اليابان حوالي ٣٠٠٠ شجرة ساكورا إلى الولايات المتحدة الأميركية لتعزير العلاقات بين الشعبين الياباني والأمريكي. وبعد زراعة هذه الأشجار حول ضفاف نهر بوتوماك في قلب العاصمة الأمريكية واشنطن أصبحت تلك المنطقة قبلة السياح والزوار بسبب جمال أزهار شجرة الكرز البيضاء. نفس هذه التجربة الناجحة تم (استزراعها ) في العديد من المدن الدولية الكبرى وذلك عن طريق زراعة أشجار الساكورا وقد (أثمرت) هذه التجربة نجاح باهر بالذات في مدينة هامبورج الألمانية ومدينة فانكوفر الكندية.

لذا نصيحتي لمدينة الورود  أن تحاول منافسة مدينة الضباب أبها في هذه الاجواء الربيعية بزراعة شوارع وميادين مدينة الطائف بشجرة الساكورا اليابانية لكي تنافس شجرة الجاكرندا القادمة في الأصل من أمريكا الجنوبية. علما بأن لمدينة الطائف نفسها تجربة ناجحة في انتشار زراعة شجرة ورد الجوري والتي بدأت قبل قرنين من الزمن بمجرد عدة شتلات من شجرة الورد الدمشقي. العديد من الرحالة العرب زاروا مدينة الطائف وبالرغم من إسهابهم في وصف أشجار وفواكهه ومنتجات الطائف إلا أنهم أغفلوا بشكل غريب الإشارة الواضحة لورد الجوري الطائفي.
ولن نذهب بعيدا في التاريخ لذكر رواد الرحالة العرب الذين زاروا الطائف ولم يشيروا لانتشار شجر الورد بها بل يكفي الإحالة إلى الرحالة المعاصرين مثل شكيب أرسلان وأمين الريحاني. تقول الأسطورة الشائعة أن أحد سلاطين الدولة العثمانية قبل حوالي قرنين من الزمن أهدى شريف مكة عدة شتلات من شجر الورد المجلوبة من الشام. وبحكم أن هذا النوع من الورد لا ينمو إلا في الأجواء الباردة فقد أمر شريف مكة بأن تغرس في قمة جبال الهدا والباقي تاريخ كما يقال.

في مقال نشر قبل فترة حمل عنوان ( النباتات المهاجرة .. النخلة أنموذجا ) أشرت لظاهرة انتقال النباتات بين الدول والشعوب والحضارات. وهو ما يعزز مقترح نقل أشجار الكرز اليابانية لمدينة الطائف ومع ذلك تبقى أغرب قصة في نقل وتهجير النباتات والأشجار ما حدث مع شجرة السرو المجلوبة من كاليفورنيا. في منتصف القرن التاسع عشر جلب ثري إنجليزي لمز عته في مدينة ليفربول نوع خاص من شتلات أشجار السرو أصبحت تعرف باسمه ( leylandii ) وبسبب خواصها المميزة والملائمة لإنتاج سياج شجري كثيف وطويل انتشرت انتشار النار في الهشيم في جميع الحدائق المنزلية في بريطانيا. ومن بضع شتلات استوردت من كاليفورنيا قبل قرن ونصف من الزمن يقدر الآن عدد أشجار السرو ذات الأصول الأمريكية بحوالي ٦٠ مليون شجرة في بريطانيا لوحدها.

وفي الختام في حال تكررت مثل هذه الأحداث الفريدة في سرعة انتشار النباتات المستجلبة يمكن أن نشاهد على سفوح جبال الهدا والشفا بمدينة الطائف عند نشر زراعة أشجار الساكورا ذات الأزهار البيضاء الكثيفة تكرار القصة الطريفة التي حصلت بين الأمير والشاعر الأندلسي المعتمد بن عباد وزجته اعتماد الرميكية. تقول القصة أن تلك الأميرة المدللة شاهدت يوما هطول الثلج على سفوح جبال قرطبة وهو أمر نادر الحدوث في جنوب الأندلس ولهذا طلبت من زوجها أن ينتقل بها للإقامة في منطقة يكثر بها الثلج. وهنا أمر المعتمد بن عباد بزراعة أشجار اللوز بكثافة على سفوح جبال قرطبة لتظهر عند طلوع أزهارها البيضاء وكأن تلك الجبال مغطاة بالثلوج. المعتمد بن عباد كان حاكم إقليمي إشبيلية وقرطبة ولو كان ملكه يمتد إلى مدينة غرناطة لكان ارتاح من هذا العناء فكما هو معلوم تقع مدينة غرناطة بمحاذاة سلسلة جبال (سييرا نيفادا) والتي تعني باللغة الاسبانية بكل بساطة (الجبال الثلجية).