الثلاثاء، 9 يونيو 2020

( أزرار نابليون ومحاولة فهم الشغب الأمريكي )

الاحتجاج ضد العنصرية .. ما الجديد ؟

د/ أحمد بن حامد الغامدي

بحكم الانتماء لعلم ومهنة الكيمياء قضيت قديما قبل سنوات لحظات ماتعه مع كتاب (أزرار نابليون .. كيف غيرت الجزئيات الكيميائية التاريخ) والذي يناقش دور وأثر علم الكيمياء في تشكيل مسيرة الحضارة الإنسانية. كما هو معلوم تعتبر سنة 1812م أهم سنة في تاريخ نابليون وذلك عندما فشل في احتلال روسيا ومن هنا بدأت سلسلة هزائمه الكبرى وتغير شكل المسرح السياسي في أوروبا والعالم أجمع. عندما شرع نابليون في تنفيذ خطة الغزو للديار الروسية تحرك معه (الجيش العظيم Grand Armee) لإمبراطورية الفرنسية والبالغ عدده حوالي 650 ألف جندي ولكن في رحلة العودة المهينة للجنرال بونابرت لم يتبق معه من فلول ذلك الجيش الجرار إلا 35 ألف جندي فقط. هذا الحدث السياسي الكبير والفشل العسكري المشين يمكن تأليف كتب ومجلدات في تفسير أسبابه ويمكن بكل بساطة اختزال التفسير في نقطة واحدة هي رداءة نوع الأزرار التي كان يستخدمها الجيش الفرنسي في ملابس جنوده. صحيح إن نابليون بونابرت نفسه أعترف أن من هزمه في روسيا هو (الجنرال الثلج) ولكن هذا لا يعني أن السبب الرئيس لتلك الهزيمة الشنيعة أن أزرار سبيكة القصدير التي كانت تغلق ملابس الجنود الفرنسيين كانت تتفتت في صقيع الزمهرير ولكن أيضا ذلك الجيش العرمرم كان يفتقد بشك حاد توفر الأحذية المناسبة للأجواء الباردة. وبحكم أن نابليون هو نفسه من قال إن (الجيوش تزحف على بطونها) ولهذا لا غرابة أن عشرات الألاف من الجيش الكبير الفرنسي قد قضت عليهم المجاعة قبل أن يصلوا أصلا لروسيا هذا فضلا عن فتك وباء التيفوئيد بمئات الألاف من الجنود. ومن الأخطاء القاتلة التي وقع فيها نابليون كذلك عدم حسن اختيار القادة العسكريين لهذه الحملة ومن ضمنهم قائد الفيلق الرابع الأمير يوجين الذي كان كل مؤهلاته العسكرية كونه أبن زوجة نابليون الإمبراطورة جوزفين.
وبعد، ليس المقصود من هذه المقدمة سرد موضوع في تاريخ السياسة والحروب العسكرية ولكن المراد التنويه إلى إن البعض قد يستسهل تفسير وتعليل الأمور التاريخية والسياسية الكبرى باختزالها في حدث واحد أو دافع منفرد. ومن ذلك ما يحصل هذه الأيام من ثورة كبرى تجري أحداثها على الديار الأمريكية ويحاول البعض اختزالها في (مشهد واحد) وهو اضطهاد السود في أرض الأحلام الأمريكية ومحاولة تعليل ذلك (بسبب وحيد) وهو تفشي العنصرية في أرض العم سام. في التاريخ الأمريكي تتكرر دائما أحداث الشغب والثورات الشعبية ومع ذلك هي متنوعة من ناحية الأسباب ومسار الأحداث فمثلا في عام 1992م اندلعت أحداث الشغب الشهيرة بسبب الاعتقال العنيف لرجال الشرطة ضد الأمريكي الأسود رودني كينغ. ولكن على حدة وعنف أحداث الشغب تلك إلا أنها كانت متركزة في ثورة السود والأشخاص من الأصول اللاتينية كما إن حدود هذه الثورة لم تتعد ضواحي مدينة لوس أنجلس. في الغالب أحداث الشغب والتخريب والنهب لا يحصل معها تعاطف كبير إلا إذا أصبح مجرى الأحداث في مساق (الاحتجاج العام) وليس ردة الفعل الغاضبة المؤقتة لفئة محدودة من نسيج المجتمع. وهذا ما يفسر إلى حد ما لماذا في فترة التسعينيات وعند الرخاء الاقتصادي الأمريكي لم يتعاطف البيض مع حركة الشغب السوداء بينما اليوم نجد أن مظاهرات الشغب ومسيرات التنديد تجوب أكثر من 150 مدينة أمريكية كبرى. ما استجد الآن هو انهيار الاقتصاد الأمريكي وتعرض عشرات الملايين للبطالة واختناق بقية مئات الملايين من كارثة وباء فيروس كورونا. وبالعودة لمثال أزرار نابليون لا يصح مرة أخرى تفسير الحديث بمسبب واحد وإلا كان وجدنا أن الشغب والاحتجاج يقوم به السود فقط ولنا في دروس التاريخ عبرة وشاهد ودليل. فمثلا (ثورة العبيد) في تاريخ الإمبراطورية الرومانية التي قادها المصارع الأسطورة سبارتكوس بدأت بهروب عدد من الرقيق والمجالدين gladiators من إحدى حلبات المصارعة الرومانية ولكن وصول عدد هؤلاء الثوار إلى حوالي 120 ألف شخص وهذا يحتم على قارئ التاريخ ألا يستبعد أن الأمر تحول من مجرد انشقاق عشرات العبيد إلى حركة احتجاج عامة تقوم بها شريحة واسعة من الشعب الروماني. وعلى نفس النسق نجد أن (ثورة الزنج) في التاريخ الإسلامي التي حدثت في منتصف القرن الثالث الهجري حول مدينة البصرة وإن كانت اندلعت بتمرد العشرات من الرقيق الأفارقة إلا أنها سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية عامة ضد الخلافة العباسية اشترك فيها عدة مئات الألوف من العرب والفرس والعبيد الذين حركهم واقع الظلم الاقتصادي والاجتماعي لهم حول مستنقعات وسبخات البصرة.

الشغب .. مناصرة أم فش غل
كما هو معلوم حدثت في تاريخ البشرية عشرات (الثورات revolutions) الكبرى التي شكلت ملامح التاريخ كما اندلعت آلاف لحظات هياج (الشغب riot) والانتفاضة العنيفة التي سرعان ما ينطفئ وهجها ورهجها. صحيح أن الهياج والشغب هو صوت من لا صوت له ولكنه في الواقع صوت غير مسموع لأنه بكل بساطة صوت (الغوغاء) وما أسهل ما يتم تسفيهه وشيطنته خصوصا إذا كان ذلك الشغب مصحوبا بالتخريب والسرقة ولهذا ينطبق عليه بحق وصف الرئيس المصري أنور السادات عن ثورة الخبز عام 1977م بأنها (انتفاضة الحرامية). في بداية الأمر لاقت ثورة العمال في فرنسا العام الماضي تعاطف محلي ودولي هائل لكن الأمر اختلف جذريا عندما تحولت الانتفاضة الاحتجاجية والإضراب السلمي إلى أعمال شعب وتدمير وسرقة ونهب. في الغالب أعمال الهياج والشغب riot تحدث بشكل عفوي كنوع من حركة احتجاجية حادة وآنية ولهذا بالفعل هذه الأعمال التخريبية لا قادة حقيقيين لها وتنتهي سريعا بالفشل. أما الثورات الكبرى فمن خلال استقراء التاريخ نجد أن في الغالب محركها ومولدها (الفكر) ولهذا تكون نتائجها أخطر وأدوم وليس سراً أن الثورة الفرنسية قامت على أفكار فولتير وجان جاك رسو والثورة الأمريكية شارك فيها أكبر المفكرين في تلك الحقبة من مثل توماس بين وفرانكلين وجيفرسون في حين أن الثورة الروسية تدين بالكثير إلى منظرها الأول الثائر تروتسكي وقل مثل ذلك على أثر المفكر الشيعي على شريعتي على الثورة الإيرانية.
قديما قيل (لا ثورة بدون نظرية ثورية) وإذا كان ذلك صحيحا فلا حاجة لمحاولة استشراف مستقبل حالة الشغب التي تجتاح الأراضي الأمريكية هذه الأيام فمصيرها إلى التلاشي كما حصل مع انتفاضة العمال العام الماضي وثورة الطلاب قبل خمسين سنة في فرنسا. وإن كان هذا لا يقلل على الإطلاق على الأبعاد والأثار السيئة لهذه الاحتجاجات الفوضوية في إذكاء مزيد من التشظي والانقسام العميق في المجتمع الغربي إجمالا وليس الأمريكي فقط فالعنصرية وعدم تقبل الثقافات والأعراق الأخرى متزايدة في الفترة الأخيرة في جميع الدول الغربية.
ومع ذلك يبقى سؤال المليون المهم جدا هو محاولة (تفسير) أسباب ما جرى وسوف يجري ويتكرر دوما وأبدا مع مثل هذا الهيجان الحاد والمؤقت. البعض يقرر أن الثورة أو الهيجان هي الأصل وليست الاستثناء لدرجة أن كارل ماركس في كتيّبه الصغير الحجم الهائل الأثر (البيان الشيوعي) طرح فكرة أن الثورة (حتمية الحدوث). بينما نجد في التراث العربي والإسلامي أن هذا الأمر له مسبباته ولوازمه وأهمها الطغيان وانتشار الظلم فهذا مفكرنا الأكبر ابن خلدون ينص صراحة بأن (الظلم مؤذن بخراب العمران) وبهذه النظرة الثاقبة من عالم الاجتماع وأبن تونس الأبرز لا غرابة أن نجد بعد ذلك بسنوات أن ثورة الربيع العربي انطلقت من قلب تونس بحادثة الشاب المظلوم محمد البوعزيزي. ومن تونس إلى سوريا نجد أن ابن حلب المناضل الكبير عبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) يكرر ما قرره ابن خلون وينبه على إن (الحكم القائم على الظلم لا يدوم) وهذا يفسر لنا مرة أخرى لماذا لم تكن أرض الشام بمنأى عن الهيجان والثورات في حين أن في الأرضي الإيرانية ما زال حتى الآن كتاب المفكر علي شريعتي (بناء الذات الثورية) يؤجج مشاعر الاحتجاج على حكم الملالي الدموي.
والغريب في الأمر أننا في حين نجد أن بعض المفكرين والباحثين يحاولون دراسة الثورة والحركات الاحتجاجية ومعرفة أسبابها ومآلاتها مثل محاولة المؤرخ الأمريكي كرين برنتن في كتابه المؤثر (تشريح الثورة) نجد أن بعض المفكرين كان دورهم على العكس من ذلك تماما وهو محالة نشر الثورة والتنظير لأسباب نجاحها وانتشارها. في العالم الغربي ظهر العديد من مشاهير المفكرين والفلاسفة الذين بثوا أفكار الثورة على الاستبداد ومنهم أسماء لامعة مثل توماس مور وجون لوك وجون ستيورت ميل وتوماس بين. ومع ذلك يبقى حامل لواء تحريض الشعوب على الثورة هو المفكر الأمريكي هنري (ثورو) والذي له من اسمه نصيب عندما ألف كتابه الخطير (العصيان المدني) والذي يحث على شق عصا الطاعة ومقاومة سيادة الحكومة الأمريكية. ظهرت الأفكار الثورية لهنري ثورو قبل أكثر من قرن ونصف وما كاد يخبو وهجها في العصر الحديث حتى ظهر أستاذ العلوم السياسية الأمريكي جين شارب والذي يعتبر كتابه (التحرير الذاتي) بمثابة دليل إرشادي لكيفية إدارة وتوجيه الثورات السياسية المعارضة للحكومات.

وفي الختام عود على بدء لمحاولة فهم شغب الشارع الأمريكي المنفلت هذه الأيام فأحداث التخريب والسرقة لا يمارسها السود فقط وإنما غالبية من يقوم بها هم من البيض ولهذا يجب في أخذ الاعتبار عوامل ومؤثرات أخرى لمحاولة فهم ما يجري في بلد الحلم الأمريكي وأوهام الحرية. كما سبق الإشارة إليه أن حادثة الاعتداء على الرجل الأسود رودني كينغ قبل ثلاثين سنة أثارت فقط موجة عنيفة من الاحتجاج في مدينة لوس أنجلس فقط دون غيرها بينما الاعتداء على الرجل الأسود جورج فلويد هذا الأسبوع أثار العالم كله لدرجة أنه تنتشر اليوم مظاهرات مصحوبة بالعنف في عواصم ومدن دولية متعددة من ضمنها باريس ولندن فضلا عن جميع المدن الكبرى في الولايات المتحدة. صحيح أن الأحداث الأخيرة شرارتها ومحركها الأول الاعتراض على العنصرية المقيتة ضد السود ولكن في الواقع أن وقودها المسير من وجهة نظري هو الاحتجاج على الرأسمالية المتوحشة والقهر الاقتصادي وهو ما كان بارزا جدا زمن ثورات الربيع العربي حيث اندلعت فجأة حركة (احتلوا وول ستريت). تلك الحركة التي تحولت إلى حركة احتجاج اقتصادية واجتماعية وسياسية واسعة الانتشار حملت شعار (احتلوا Occupy) والتي تزعم أنه كان لها نشاط في 1500 مدينة حول العالم وأنها حاصرت أو تظاهرت أمام البنوك المركزية والبورصات الكبرى والمؤسسات المالية الدولية للاحتجاج على عدم العدالة الاقتصادية (الرأسمالية المتوحشة) وعدم وجود الديمقراطية الحقيقة. وبحكم أنه في الأشهر الأخيرة وبسبب الوباء حصل انهيار اقتصادي مريع في جميع بلدان العالم فهذا ما ساعد في تأجيج حركة الاحتجاج السلمي والعنيف على حدا سواء. بالطبع لا يمكن إغفال دور عوامل أخرى من مثل ثقافة العنف وحمل السلاح في المجتمع الأمريكي أو ظاهرة الميلشيات المسلحة المتطرفة والممانعة للانقياد الكلي للسلطة الحكومية في أمريكا. ومن المؤكد أن من الأسباب وجود عصابات أو أفراد استغلت الفرصة لممارسة السرقة والنهب والتخريب أو وجود أطراف سياسية داخلية أو خارجية ترغب في زعزعة مكانة وصورة الرئيس والحكومة الأمريكية الحالية.
الأمواج الهادرة في أمريكا بدأت كفزعة ونصرة للسود وانتهت كفرصة لفش الغل والتنفيس عن النفس ضد سوء الإدارة السياسية وتدهور المقومات الاقتصادية والقلق من تردى الأوضاع الصحية.
والله أعلم.

( السفر الافتراضي .. بين الأمس واليوم )

السياحة الالكترونية والسفر الرقمي

د/ أحمد بن حامد الغامدي

في السفر كما في أمور الحياة الأخرى، أحيانا الأشياء ليست دائما كما تبدو فهذا مثلا الأمير البرتغالي المعروف بلقب (هنري الملاح) Henry the Navigator والذي أطلق عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى في القرن الخامس عشر الميلادي لم يكن بحارا ولا رحالة ولم يسافر بشكل حقيقي وإن كان في المقابل قام (بتنظيم) الرحلات البحرية المحورية في تاريخ البشرية. وعلي ذكر الاكتشافات الجغرافية فمن أغرب القصص التي يمكن الإشارة إليها أن عالمة الجيولوجيا الأمريكية ماري ثارب توصلت لأهم اكتشاف علمي في العصر الحديث وهو إثبات نظرية حركة الصفائح التكتونية عن طريق اكتشاف الأخدود الكبير في قاع المحيط الأطلسي علما بأنها لم تغادر مختبرها بجامعة كولومبيا. يقول الأديب الفرنسي البارز مارسيل بروست (رحلة الاكتشاف الحقيقة لا تنحصر في رؤية أرض جديدة بل في الحصول على رؤى مختلفة) وهذا ما حصل بالتمام مع السيدة ماري ثارب ففي منتصف القرن العشرين لم يكن يسمح للنساء بالمشاركة في الرحلات العلمية لاكتشاف المحيطات ولكن من تحليلها العلمي (ورؤيتها الجديدة) لبيانات الهزات الأرضية وقياسات جهاز السونار توصلت لاكتشاف الأرض الجديدة في قاع المحيط وهي بعد لم تمخر عباب البحر.  
في الشرق والغرب يعتبر الإيطالي ماركو بولو أحد أشهر الرحالة في جميع العصور ومع ذلك تتزايد الشكوك في حقيقة أنه قد سافر بالفعل إلى الصين. يستند البعض في نفي وصول ماركو بولو للصين بأنه وقع في كتابه بالعديد من الأخطاء الجغرافية الغريبة (وإن كان حتى ابن بطوطة خلط بين النهر الأصفر الشهير في الصين وبين القنوات المائية الاصطناعية). بالإضافة إلى أن ماركو بولو لم يذكر على الإطلاق أمور مشهورة في الصين مثل سور الصين العظيم وعادة الصينيين في شرب الشاي كما لم يتطرق لصناعة الورق التي تفردت بها الصين. يقال إن ماركو بولو لم يحصل على معلومات عن الصين بشكل مباشر ولكن عن طريق الكتب وحكايا التجار وهذا ما وقع فيه أحد أهم (الجغرافيين العرب) إلا وهو أبو عبيد البكري صاحب كتاب (المسالك والممالك) والكتاب الأكثر أهمية (مُعجم ما استعجم). تكمن أهمية المعجم اللغوي الجغرافي (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع) في كون أهم وأول كتاب يلجأ إليه القراء العادي والباحث المتخصص على حدٍّ سواء في محاولة الحصول على معرفة جغرافية أو تاريخية أو أدبية عن موقع أو مدينة أو جبل أو وادي في كافة أنحاء بلاد الإسلام. الغريب في أمر أبي عبيد البكري أن هذا العلامة الأندلسي الذي عاش في القرن الخامس الهجري لم يكن قد غادر بلاد الأندلس وأن خبرته الجغرافية المذهلة على خلاف الجغرافيين العرب لم يكتسبها من رحلاته وسفرياته وإنما من مطالعة كتب من سبقه من الرحالة العرب مثل الهمداني أو عبر المشافهة وتصيد أخبار ومعلومات التجار والرحالة الذين يصلون إلى الأندلس.
والمقصود من هذا المدخل المطول أن متعة السياحة والسفر بالاستكشاف والمعرفة يمكن الحصول عليها عن طريق (السفر الافتراضي) والذي كان في سالف الأزمان يتم من خلال تصفح الكتب والأسْفَار (جمع سِفر وهو الكتاب) أو سماع الأخبار عن الأمصار. ومع ذلك يوجد مصدر آخر للحصول على متعة الارتحال وبهجة الانتقال إلا وهو الخيال القصصي عند رواد ما يسمى (أدب الرحلات) ابتداءً من الأساطير الإغريقية كرحلة جاسون وبحارة السفينة الأرجو أو ملاحم الساجا saga لرحلات الفايكنغ أو غرائب رحلات السندباد السبع. ووصولا إلى روايات الخيال العلمي في العصر الحديث التي تدور حول رحلات غزو الفضاء وحرب النجوم واكتشاف ما وراء المجرات كما الرواية ذائعة الصيت (2001 أوديسا الفضاء).
وإذا كان بعض الارتحال هو ضرب من الخيال المجنح والأساطير الموروثة فالبعض الآخر هو نوع من الهلوسة الصِرفة كما نجده في طقوس سحرة الشامان لدى الشعوب البدائية والذي يتعاطى بعضهم العقاقير المخدرة ثم يزعم أن أرواحهم تغادر أجسامهم وتسافر بعيدا لأرض الأسلاف أو تحت الأرض. وقريب من ذلك في الدرجة وليس في النوع ما يزعمه أهل الرياضات الروحية من أهل التصوف من أنهم عند الخلوة والجوع وعدم النوم تشف أرواحهم (وتخطوا) وتغادر أبدانهم إلى بقاع الأرض. هذا ما كان من الزعم بإمكانية السفر والارتحال الافتراضي في زمن الجهل والخرافة أما في زمن العلم والتقنية فتتجدد الدعوى بشكل جديد من خلال تقنية السفر عبر الواقع الافتراضي (virtual-reality travel). منذ بدايات انتشار شبكة الإنترنت الرقمية حرصت بعض كبريات المكتبات العامة والمتاحف المشهورة على تعريف الجمهور العام بمقتنياتها المعرفية بتفعيل مفهوم (المكتبة/المتحف الافتراضي). في مرحلة لاحقة حاولت وكالات السفر العالمية الاستفادة من فكرة (التثقيف عن بعد) في تسويق منتجاتها السياحية بتجهيز نشرات إعلانية تمنح (الزبون السياحي) تصور مرئي عن الأجواء المتوقعة لرحلته السياحية عن طريق مشاهدة أفلام تصويرية بتقنية 3D للواقع الحقيقي الذي سوف يسافر له. وبعد المزاوجة بين التطبيقات الإلكترونية المتقدمة لألعاب الفيديو الافتراضية وتقنيات التصوير الرقمية عالية الجودة HD أصبح بالإمكان الآن إقناع السائح بأنه بالإمكان الآن أن يزور أصقاع العالم وهو مسترخ على أريكة منزله. وفي الوقت الحالي تقوم وكالة سفريات يابانية بتنظيم (رحلات سياحية افتراضية) تشمل استخدام مقاعد الدرجة الأولى للطائرات كما يتم توظيف مضيفات طيران يشرفن على ربط أحزمة المقاعد وتقديم إرشادات ما قبل إقلاع الطائرة. أما التقنية العلمية الذائع الانتشار في سوق السفر الافتراضي فهي رحلات (التحليق الرقمي) حول أشهر المواقع السياحية في العالم التي تم تصويرها بطائرات الدرون ثم عرض صورها عبر منصة متحركة يقف عليها السائح وهو يهتز وكأنه يطير حول الأهرامات مثلا.  ومن المتوقع في المستقبل أن تتطور أكثر خدمات وواقع تلك الرحلات السياحية الافتراضية وألا تكون مقتصرة على استخدام سماعات ونظارات الرأس (الخوذات الرقمية) ولكن تشمل أيضا تجهيز موقع متكامل يستشعر فيه السائح الإلكتروني حرارة الصحاري أو رذاذ أمواج المحيط أو عبق المروج والغابات أو زفيف الرياح على قمم الجبال. حدود الخيال في مستقبل التقنية ليس لها حدود ولهذا منذ الأمس وليس اليوم بدأت مراكز الأبحاث ومعامل التطوير في اختراع (بدلة اصطناعية) تحقق لمن يلبسها الشعور بجميع ما سبق من أجواء ووعثاء السفر من الحر والمطر وهبوب الرياح وروائح الطرقات بل وحتى توفير التذوق الافتراضي للأطعمة والمشروبات لعشاق السفر لأجل تجربة أكلات الشعوب.
كما هو معلوم أحد أكثر القطاعات الاقتصادية تضررا من وباء الكورونا هو قطاع الطيران والسياحة والسفر وبسبب المخاطر والقلق المحتمل من السفر ربما يكون مجال السفر الإلكتروني الافتراضي والانتقال الرقمي المجازي هو الحل المتاح للبعض (إلى حين ميسرة). بينما للبعض الآخر ربما تكون وسيلة تجديد متعة الارتباط بالسفر لا تعدو تصفح مطبوعات دليل المسافر أو مطالعة كتب أدب الرحلات أو مشاهدة البرامج الوثائقية في مواقع الإنترنت والقنوات الفضائية للسياحة والسفر أو التلصص على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لمشاهير الرحالة ومهابيل السياحة.

( عندما يحزن العيد )

التجديد في العيد (عيد الكمامات)

د/ أحمد بن حامد الغامدي

قديما قيل (وبضدها تتبين الأشياء) والقائل هو طيب الذكر المتنبي فهو وإن كان نبهنا إلى أن نقيض الشيء وضده يبين كمال صورة الأصل فالليل يجلي جمال النهار والحزن يبين بهجة الفرح، إلا أن المتنبي بمخيلته الأدبية النافذة عرفنا في سياق مختلف بنقص القاعدة التي يتشدق بها علماء المنطق (الأضداد لا تجتمع). بهجة السرور قد تكون ممزوجة بمرارة الفجيعة فهذا المتنبي مرة أخرى يصف حال وقع صدمة خبر وفاة والدة سيف الدولة على نساء وجواري القصر المنعمات والضاحكات وكيف أنهن شرقن باجتماع دمع المرح بدمع الترح:
أتتهنّ المصيبةُ غافلاتٍ        فدمع الحزن في دمع الدّلالِ

بشيء من التجوز ربما يصح أن يكون هذا وصف مآل الحال لأغلبنا اليوم في هذا (العيد الفريد) فمن جانب نسح الدمع فرحا بالعيد وما يمثله من إشراقة الحبور ولكن في (النقيض) والضد من ذلك قد تتحدر دموع الحزن وشهقات الحنين لفقد اجتماع الأهل والأحباب والجيران بسبب احتياطات العزل المنزل. وبالعودة مرة ثالثة لابي الطيب المتنبي فهل في (مستجدات) حال عيدنا الفريد هذه العام جزء من الإجابة على سؤال المتنبي الشهير والمتكرر كل عيد عبر العصور عن (الجديد في العيد):
عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ        بما مضى أم بأمر فيك (تجديدُ)

صفحات التاريخ ووريقات دواوين الأدب تكشف لنا عن تكرار وتجدد تماهي وتمازج الأضداد في أجواء العيد ما بين فرح وترح لدرجة الشيك والحيرة كما قال شاعر الموصل ابن الدهان:
أمأتمٌ هذه الأيام أم عيدُ                وذي الأغاني نوحٌ أم أغاريدُ
كانت مواسم أفراحٍ تجددها          فاليوم هُنَ لفرط الوجد (تجديدُ)

وكعادة الشعراء يحوم بعضهم حول معنى واحد مشترك ويكرر بعضهم النسج والغزل على غرز الأول فالمعنى التصويري لفجيعة الأفراح (العيد الحزين) عند المتنبي الحلبي كرره بعده ابن الدهان الموصلي وأعاد سبكه لاحقا الشاعر الدمشقي الأمير منجك الجركسي بقوله:
لا العيد من بعد سُكان الحِمى عيدُ       ولا لصبري الذي أبليت (تجديدُ)
سيان عندي نوح بعد بينَهُم               ومن بلابل دوح اللهو تغريدُ
قد أغرقت مُقلتي قلبي بأدمعها           إن السرور الذي أبدية تقليدُ

هذا الجو الكئيب في قصائد هؤلاء الشعراء وغيرهم كثر يرجع بكل بساطة يا سادة لفقد (مشاركة الأحباب) لأجواء وبهجة العيد فهذا المتنبي يتمنى عدم حلول العيد واللقاء به لا لشيء إلا أنه بعيد عن أهله وعشيرته (أما الأحبة فالبيداء دونهمُ). ينقل عن الحافظ ابن رجب رحمه الله قوله (ليس العيد لمن لبس الجديد .. إنما العيد لمن طاعته تزيد) وهذه مقياس شرعي صحيح ومن جانب المقياس العاطفي والوجداني للعيد نجد الطبيب والشاعر الأندلسي ابن زهر الحفيد يشخص حقيقة العيد بأقصر عبارة موشحة (العيد أنتم):
ما العيدُ في حلَة وطاق       وشمُّ طيبِ
وإنما العيد التلاقي            مع الحبيبِ

وبالعودة للمرة الرابعة لحال المتنبي مع العيد و (لواعج الذكريات) نفهم في هذا السياق عمق مأساته في العيد عندما كرر في قصيدة ثانية وصف (العيد الحزين):
يضاحكُ في ذا العيد كُلٌّ حبيبهُ            حِذائي وأبكي مَنْ أحب وأندبُ
أحِنُّ إلى أهلي وأهوى لقاءهم             وأين من المشتاق عنقاءُ مُغربُ

لوعة المحب بفقدان الأهل وغصته في يوم العيد جراء تعذر اللقاء بهم ألهبت مشاعر الشعراء وأذكت قرائح الأدباء ولهذا قَصدت هذا المعنى القصائد وبُنيت أبيات الشعر حوله هذه الخاطرة الوجدانية.  ومن ذلك قول الشاعر العراقي المعاصر مصطفى جمال الدين:
هذا هو العيدُ ، أين الأهل والفرحُ       ضاقت به النفسُ أم أودت به القُرحٌ
وأين أحبابنا ضاعت ملامحهم         من في البلاد بقي منهم ومن نزحوا

وقديما قبل يشدو مصطفى جمال الدين قصيدته قال بلدياته شاعر العراق الفحل صفي الدين الحلي ماذا ينفع العيد إذا كان الحبيب بعيد؟:
العيدُ أتى ومن تعشقتُ بَعيد         ما أصنعُ بعدَ منيّة القلب بِعيدِ

ومن مشاهير الشعراء الذين تجرعوا مرارة الذكريات في العيد الحزين الشاعر السوري الكبير نزار قباني إذ يقول:
يا عيدُ عذراً فأهل الحيّ قد راحوا
واستوطنَ الأرض أغرابٌ وأشباحُ
يا عيدُ ماتت أزاهير الرّبى كمداً
وأُوصد الباب ما للباب مفتاحُ

وهذا شاعر سوري آخر (ابن ملك الحموي) يتجرع قبل قرون طويلة نفس تلك الكأس المرة:
قالوا غداً العيد ماذا أنت لابسهٌ        فقلت قد حاكت الأسقام لي بدنا
وهل يٌسر بعيد من أحبته              عنه نأوا وبهم حادي السرى ظعنا

من البنى الأسلوبية في الشعر العربي توظيف الشيء في نقيض وعكس سياقه الظاهر فالعيد فرحة قد يتم توظيفه لبث معاني الحزن والتفجع وهذا كثير في شعر مآسي العرب والمسلمين وفي قصائد متعددة لعمر أبو ريشة وعمر بهاء الدين الأميري وفدوى طوقان عل سبيل المثال. في واقعنا المحلي وفي صبيحة يوم عيد من سنة 1408هـ نجد شاعرنا الكبير عبد الرحمن العشماوي ومن باب المشاركة الوجدانية وبالرغم من أنه في ذلك العيد بين أهله وقرابته في مدينة الباحة إلا أنه يتمثل حال المشردين جراء مآسي أهل الإسلام فيقول بلسان الحال في قصيدته الفريدة (عندما يحزن العيد):
أصبحتُ في يوم عيدي والسؤال على     ثغري يئنّ وفي الأحشاء نيـرانُ
أين الأحبّـةُ وارتـد السـؤال إلى            صدري سهامًا لها في الطعن إمعانُ


العيد في مقام الذم !! 
في الغالب العيد نشوة وفيض المشاعر ولهذا ناسب توظيف الشعر في الكشف عن مكنون النفس البشرية وتفاعلها مع أجواء العيد ولكن كما هو معلوم الشعر يُساق للمديح والثناء كما قد يُعتسف للهجاء والتنقص. في بعض الحالات سبب سعادة من حولك هو نفسه عين ومصدر شقاوتك أنت ولهذا من عجائب النفس البشرية المضطربة أن أجواء السعادة قد تكون هي ذاتها منغصة الروح. قديما تمنى المتنبي ألا يأتي العيد لأنه (يجدد) أحزانه ومن هنا أطلقها مدوية وصاعقة في النفرة من العيد (فليتَ دونك بِيداً دونها بِيدُ) وعلي نفس المنوال تمنى الشاعر الأندلسي ابن الجنان الأنصاري أن تتباعد المسافات والأوقات بينه وبين (العيد الحزين):
دَنا العيدٌ ليت العيد لم يدنُ وقته         فقد هاج لي وجداً وزاد غراما
وذكرني إقباله بمواسم                  مضت كن بالشّمل النظيم كراما

وبالعودة لحديث (اجتماع الأضداد) في العيد والتقلب بين البهجة والغصة لا عجب أن نجد أن البعض يتألم من عدم قدرته مشاركة الآخرين مباهجهم وأفراحهم ولهذا يتخذ موقف أبي فراس الحمداني (إذا مت ظمآناً فلا نزل القطرُ) فإذا حالت صروف الدهر أن ابتهج بالعيد فليته لا يأتي. أشتهر عن الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي اصطفافه مع المعدمين والمعذبين في الأرض كما في قصيدته الحزينة عن الأرملة الفقيرة بينما نجده في قصيدة (اليتيم في العيد) يلخص ظاهرة (ذم العيد) والنفور منه:
 ألا ليت يوم العيد لا كان إنه         يجدّد للمحزون حزناً فيجزعُ
يُرينا سروراً بين حزن وإنما         به الحزن جَدٌ والسرور تصنعُ

ونبقى في بغداد ومع شاعر آخر انحاز للمعذبين في الأرض وهو الشاعر العباسي الأحنف العكبري والذي وصفه شيخ الأدب الثعالبي بأنه شاعر المكدين من أهل الاحتيال والتهميش ولهذا لم يتورع عن أن يذم العيد في سياق الانتصار لقضايا المسحوقين:
قالوا أتى العيدُ قلت العيد عادته             غمّ الفقير وتفريج المياسيرِ
حظي من العيد بعد الأجر                    مع الغبار وأكل الخبز بالصيرِ
أغدو على العيد في أثواب مضطهدٍ        والناسُ في العيد في خزّ ومقصورِ

ومن الدفاع عن المهمشين اجتماعيا لتبني قضايا المضطهدين في دنيا السياسة وبنفس درجة الاندفاع نجد أن العيد لا يسلم من الذم والقدح فهذا الشاعر المعاصر الكبير أحمد محرم يتألم لحال الأمه في زمن بهجة العيد:
 لا مرحبا بالعيدِ أقبل رَكبهُ         يطفو ويرسُبُ في عُبابٍ من دمِ
يا عيدُ جدّدت الهموم بطلعةٍ        أبلت بشاشة عهدك المُتقدمِ
ماذا حملت من الكروب لأمةٍ      رزحت بأعباء الخطوب الجُثّمِ
 
ونختم بذكر نكبة الأمير الأديب المعتمد بن عباد فبعد عز المجد في إشبيلية تجرع ذل الهوان في سجن أغمات المغربي ولهذا ربما أصابته لوثة نفسية (اضطراب ما بعد الصدمة) فإذا بنا نجده يتهجم على العيد ويعتبره قدومه إساءة له وفترة كئيبة لا يرغب أن تتكرر عليه:
فيما مضى كُنت بالأعيادِ مسرورا       فساءك العيدُ في أغمات مأسورا
أفطرت في العيدِ لا عادَت إساءتُهُ        فكان فطرك للأكباد تفطيرا


( فيزياء الحرب العالمية الثانية )

كتيبة علماء الفيزياء المشاركين في السلاح الذري

د/ أحمد بن حامد الغامدي

مرت قبل عدة أيام ذكرى مرور خمسة وسبعين عاما على انتهاء الحرب العالمية الثانية وبسبب تفشي وباء كورونا لم يصحب هذه الذكرى احتفالات جماهرية حاشدة في الدول الغربية بينما في محيطنا العرب مر الحدث بتجاهل كبير. البعض قد يقول إن تلك الحرب الملعونة لا ناقة لنا فيها ولا جمل فلما نهتم بها بينما البعض قد يتعمد نسيان تلك الحرب لأن الانطباع العام عند الأوروبيين أن العرب كانوا مناصرين للنازية pro-Nazi بدليل الصور المشهورة لمفتي القدس الشيخ أمين الحسيني مع هتلر وقائد الجيستابو النازي هيملر ولقاء ودعم رئيس الوزراء العراقي رشيد الكيلاني لهتلر. وفي المقابل يقول البعض إنه يحق للعرب الاحتفال بيوم النصر في أوروبا (V-E Day) لأن بعض الدراسات التاريخية تقدر عدد الجنود العرب (أغلبهم من دول المغرب العربي) الذي قتلوا في معارك تحرير أوروبا (وخصوصا فرنسا) قد يصل إلى أربعين ألف شخص بينما عدد الجنود العرب الذين تم أسرهم من قبل الألمان قد يقارب التسعين ألف أسير. وبسبب هذه الربكة في موقفنا كعرب من الحرب العالمية الثانية فظلت أن أترك عالم التاريخ المحير إلى دنيا العلم الأكثر أريحية ووضوحا.
 في عام 2014 كتبت مقال حمل عنوان (الحرب العالمية الأولى .. حرب الكيميائيين) تم تسليط الضوء فيه على الاهتمام الدولي بمناسبة مرور مائة سنة على اندلاع الحرب الكونية الأولى والتي عرفت بلقب (حرب الكيميائيين) وقد تم مناقشة هذا الموضوع التاريخي والسياسي من جهة النظر الكيميائية البحتة. ولسبب لا يخفى على اللبيب ربما ليس من الحكمة الانتظار لحوالي عشرين سنة (فالأعمار بيد الله) لتتاح الفرصة الملائمة لأحدنا أن يكتب مقال بمناسبة مرور مائة سنة على اندلاع أحداث الحرب العالمية الثانية لكي يفسر في هذا المقال المنتظر لماذا بعض المصادر التاريخية تصف ذلك الحدث السياسي الجلل (بحرب الفيزيائيين).
لا شك أن نشوب الحرب العالمية الثانية هي إحدى اللحظات السياسية الحاسمة في التاريخ البشري المعاصر ومع ذلك ربما لولا الجانب والبعد العلمي لهذه الحرب لما كان لها هذا الزخم التاريخي. ودلالة على ذلك يقول عالم الفيزياء البريطاني الشهير ستيفن هوكنغ إن العالم تغير في القرن الأخير كما لم يحصل في أي قرن آخر وذلك ليس بسبب السياسة أو الاقتصاد ولكن بسبب التكنولوجيا. وبالاستعارة مما تم ذكره في المقال السابق بأن تسمية الحرب العالمية الأولى بحرب الكيميائيين لا يفسرها فقط أنه تم في تلك الحرب استخدام الأسلحة الكيميائية من الغازات السامة لأول مره فعلى نفس النسق نجد ارتباط الحرب العالمية الثانية بالفيزياء أعمق وأوثق من مجرد واقعة أنه في تلك الحرب الشنيعة تم استخدام القنابل الذرية لأول مرة. في الواقع لا يمكن إغفال الأثر الحاسم لمخترعات (فيزيائية) أخرى ظهرت خلال الحرب العالمية الثانية مثل أجهزة الرادار لرصد الطائرات أو أجهزة السونار للكشف عن الغواصات أو تطوير المحركات النفاثة للطائرات الحربية وما تبع ذلك من ظهور الصواريخ كسلاح حربي مريع وكذلك تطوير أجهزة الاتصالات والإلكترونيات بل إن اختراع أجهزة التشفير وفك الشفرة (آلة إنجما) يعتمد على علم الفيزياء اعتماده على علم الرياضيات.

مع الرعيل الأول للقنبلة الذرية
نقطة جديرة بالملاحظة أنه من أبرز مظاهر العلم المعاصر ظاهرة العلوم الكبيرة big science والتي يقصد بها أنشطة بحثية في مجالات علمية محددة تحتاج تضافر جهود عدد كبير من العلماء المتعاونين كفريق بحث مترابط يتمتع بميزانية مالية ضخمة. ويبدو أن انطلاق هذا النوع من (العلوم الكبيرة) تم خلال سنوات الحرب العالمية الثانية وهو ما أثمر ترسانة التقنيات الحربية السابقة الذكر والتي حققت إلى حدا ما تنبأ به أينشتاين عندما قال (إن القليل من العلم مضر .. والكثير منه أيضا !!!). ولا أدل على خطورة (الكثير من العلم) من اختراع القنبلة الذرية والتي كان اختراعها بلا ريب (أم العلوم الكبيرة) فالجميع يعرف أن إنتاج القنبلة الذرية كان نتاج لمشروع مانهاتن الشهير والذي ترجح بعض المصادر العلمية والتاريخية أنه اشترك فيه أكثر من أربعة آلاف عالم من مختلف الجنسيات والتخصصات العلمية. وبما أن الحكمة الشهيرة تنص على (أن للنصر ألف أب) وبحكم أن الفيزيائي الامريكي المعروف روبرت أوبنهايمر تخلده كتب التاريخ بلقب (أبو القنبلة الذرية) بسبب قيادته لذلك الجيش من العلماء ولكن التاريخ يسجل أيضا أن عدد كبير من (آباء القنبلة الذرية) كانوا من مشاهير العلماء حيث تشير السجلات إلى أن حوالي عشرين عالما من الباحثين البارزين الحاصلين على جوائز نوبل سواء في الفيزياء أو الكيمياء قد اشتركوا في مشروع مانهاتن لصناعة القنبلة الذرية. ومن أبرزهم ألبرت أينشتاين ونيلز بوهر وأنريكو فيرمي وريتشارد فاينمان والسير جيمس تشادوك مكتشف النيوترون وإرنست لورنس مخترع معجل السيكلوترون وآرثر كومبتون. وإذا صح القول إن هنالك أب للقنبلة الذرية فبشيء من التجوز يمكن اعتبار عالمة الفيزياء الأمريكية والألمانية الأصل ماريا مايرز هي (أم القنبلة الذرية) بحكم كونها المرأة الوحيدة التي عملت في مشروع مانهاتن وفي نفس الوقت حصلت على جائزة نوبل في الفيزياء.
من الثابت تاريخيا أنه أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية وجد تنافس عسكري تمثل في سباق تسلح بين دول الحلفاء ودول المحور (ممثلة بألمانيا النازية) لمن يسبق في إنجاز تصنيع أول قنبلة ذرية. ولهذا نجد أن عالم الفيزياء الألماني المعروف فيرنر هايزنبرغ صاحب مبدأ عدم اليقين في علم ميكانيكا الكم والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1932م كان قد كلفه هتلر بترأس مشروع إنتاج القنبلة الذرية للنظام النازي. وبحكم أن الحروب غالبا ما تكون قذرة ولا أخلاق لمسعريها لذا كان قادة دول الحلفاء على استعداد تام لمحاولة اغتيال هايزنبرغ في حال تأكدوا أن مشروع القنبلة النازية يمكن أن يكلل بالنجاح. ففي عام 1944م قامت وكالة الخدمات الاستراتيجية agency OSS (وهي المنظمة السابقة لجهاز الاستخبارات الامريكية CIA) بإرسال عميل سري ليشهد محاضرة لهايزنبرغ في مدينة زيورخ وطلب من هذا العميل أنه في حال استنتج من المعلومات التي سوف يطرحها هايزنبرغ في تلك المحاضرة بأن المشروع الألماني لصنع القنبلة الذرية يحقق تقدم ملموسا فعلية ان يقوم بإطلاق النار على هايزنبرغ فورا. ولقد ظل هذا العميل طوال المحاضرة وهو يضع يده على مسدسه المخفي وكما هو متوقع فإن هايزنبرغ ما كان ليفضي بأي معلومات حساسة في مثل تلك المحاضرة العامة ولهذا نجى من الاغتيال ولكنه لن ينجو لاحقا من الاعتقال والسجن. حيث إنه في نهاية الحرب العالمية الثانية وبعد انهزام الألمان قامت قوات الحلفاء باعتقال هايزنبرج وفريقه العلمي المتعاون معه في مشروع القنبلة الذرية النازية وتم سجنهم في بريطانيا لمدة ستة أشهر.
وختاما وقبل أن نغلق سيرة القنابل الذرية البغيضة تجدر الإشارة إلى أن عددا من أبرز العلماء الذين شاركوا في تصنيع أول قنبلة ذرية أعربوا بشكل واضح عن أسفهم في المشاركة في هذه الخطيئة الإنسانية المفجعة. فمثلا يقال إن أينشتاين علق بعد سماعه بأخبار إلقاء القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما (لو كنت أعلم أنهم كانوا سيعملون هذا لكنت عملت صانع أحذية) كما أنه أصبح بعد الحرب العالمية الثانية من أبرز المؤيدين لتقليص التسلح النووي. وهذا ما حصل بالضبط مع الفيزيائي الدنماركي المعروف نيلز بور (صاحب النموذج الشهير لتركيب الذرة والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1922م) والذي كان منذ البداية من فئة العلماء الذين عارضوا الإسقاط الحقيقي للقنبلة الذرية على المدن البشرية حيث كانت رغبتهم فقط استخدامهم للردع والتخويف. وكاستمرار لنهجه وأفكاره السلمية قام نيلز بور عام 1950م بكتابة خطاب مفتوح شهير موجه للأمم المتحدة يدعو فيه لنشر أفكار السلام والتخفيف من أخطار السلاح الذري كما أنه قام بتنظيم أول مؤتمر الذرات من أجل السلام Atoms for Peace Conference المقام في جنيف عام 1955م وقد كان نيلز بور أول عالم يحصل على جائزة الذرات من أجل السلام وذلك عام 1957 ميلادي. ومن (آباء القنبلة الذرية) الذين تنكروا لاحقا لأبوتها نجد العالم الألماني الأصل هانس بيته الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1967م والذي نادى وناضل لعدة عقود من السنوات لحظر التجارب النووية كما عارض بشدة إنتاج القنبلة الهيدروجينية الأشد خطورة وتدميرا. بينما نجد العالم البريطاني جيمس تشادويك مكتشف النيوترون والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1935م والذي بالرغم من دوره المهم في مشروع مانهاتن إلا أنه يذكر عن نفسه أنه بعد الحرب وإلقاء القنبلة المشؤومة على رؤوس الأبرياء المدنيين أصبح يعتمد طوال حياته الباقية على استخدام الحبوب المنومة للحصول على الراحة النفسية في النوم. وبالرغم من أن عالم الفيزياء الأمريكي ريتشارد فاينمان الحاصل على جائزة نوبل عام 1965م يعد أحد أبرز علماء الفيزياء على الإطلاق في النصف الثاني من القرن العشرين وأكثرهم تأثيرا في جذب أجيال من آلاف الشباب لدراسة العلم إلا أنه يصف نفسه بأنه (بعد إلقاء القنابل الذرية على المدن اليابانية) ظل لعدة سنوات بعد الحرب وهو فاقد الإحساس بالمتعة في تعليم الفيزياء.

خطوط الدفاع الفيزيائية .. جوا وبحرا
الاختراع العلمي الآخر ذو الأهمية العسكرية الذي تم تحسينه كثيرا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية وتطلب إنتاجه (جيش) من أبرز علماء الفيزياء هو جهاز الرادار لرصد واكتشاف الطائرات المقاتلة المعادية علما بأن جهاز الرادار قد شهد نماذج بدائية منه قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. وعلى نسق (أبو القنبلة الذرية) نجد أن البعض يصف الفيزيائي والمخترع البريطاني روبرت واطسون وات بأنه (أبو الرادار) ولماكنته العلمية بإنجاز هذا الاختراع لا غرابة أن نجد الملك البريطاني جورج السادس يكرمه عام 1942م بمنحة رتبة سير sir وذلك لدوره في تطوير هذا الاختراع الرئيسي في صمود الأمة الإنجليزية من الوقوع تحت الاحتلال الألماني بسبب فداحة قصف الطائرات الالمانية المعادية وربما يكون هذا الاختراع من الاسباب الرئيسية لفوز الحلفاء بالحرب. اللافت في الأمر أن عددا من أبرز علماء الفيزياء شاركوا بشكل أو أخر في الأبحاث الهادفة لتحسين أداء منظومة أجهزة الرادار وكان سبعة منهم على الأقل من العلماء الحاصلين على جوائز نوبل. فمن أشهر هؤلاء العلماء يمكن ذكر اسم العالم الفيزيائي الامريكي تشارلز تاونز الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1964م والذي خلده التاريخ باختراعه لجهاز الليزر وكذلك الفيزيائي الأمريكي وليم شاوكلي الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1956م والشهير باختراعه للترانزستور ومطلق الثورة العلمية المتعلقة باختراع الدوائر المتكاملة والتي هي حجر الزاوية في صناعة الكومبيوتر.
 وعلي ذكر اختراع الترانزستور من المعروف أن الفيزيائي الأمريكي جون باردن قد اشترك مع شاوكلي في اختراع الترانزستور وكذلك في الحصول على جائزة نوبل لعام 1956م (هو في الواقع وحتى الآن عالم الفيزياء الوحيد في التاريخ الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء مرتين حيث كانت الثانية عام 1972م) ومع ذلك نجد أن باردن وإن لم يساهم في تطوير أجهزة الرادار نفسها إلا أن له إسهام علمي من نوع آخر حيث نجده في سنوات الحرب العالمية الثانية يخدم في المختبرات العسكرية الخاصة بسلاح البحرية الامريكية. ومن علماء الفيزياء الحاصلين على جوائز نوبل والمشتركين في تطوير أبحاث الرادار يمكن أن نذكر الفيزيائي الأمريكي لويس ألفاريز الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1968م والذي كان له اسهام علمي سواء في التجارب على استخدام وتطوير الرادار أو حتى المشاركة في مشروع منهاتن لتصنيع القنبلة الذرية. وأما أحد أشهر وأهم علماء الفيزياء النظرية في القرن العشرين الذين قاموا بتقديم الدعم النظري لمشروع الرادار فقد كان عالم الفيزياء الأمريكي جوليان شيفنجر الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965م.
والغريب في الأمر حقا أن تطوير وتحسين منظومة أجهزة الرادار لم تكن قاصرة فقط على محترفي مهنة الفيزياء فهذا العالم البريطاني فرانسيس كريك الحاصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1962م لاكتشافه تركيب الحمض النووي DNA كان له في أوائل شبابه ميول وخبرة فيزيائية عالية أهلته للمشاركة في أثناء سنوات الحرب في أبحاث تطوير الرادار. كما ساهمت خبرة ومهارات فرانسيس كريك الفيزيائية في أثناء الحرب العالمية الثانية في تطوير كاشفات مغناطيسه للكشف على الألغام الحربية. والأمر الأكثر غرابة في قصة تطوير الرادار من قبل علماء غير مختصين في علم الفيزياء أو الهندسة نجد أن العالم الإنجليزي النيوزيلندي الأصل موريس ولكينس ليس فقط اشترك مع فرانسيس كريك في اكتشاف تركيب الـ DNA والحصول على جائزة نوبل في الطب عام 1962م لكن نجده هو الآخر في بدايات سنوات الحرب العالمية الثانية يستخدم خبرته الفيزيائية في تطوير وتحسين شاشات أنابيب الأشعة المهبطية والتي كانت تستخدم في صناعة منظومة أجهزة الرادار.
وبالانتقال من خطوط الدفاع الفيزيائية الجوية إلى الجبهات البحرية نجد أن من الاختراعات العلمية البارزة التي ساهمت في حسم مجريات الحرب العالمية الثانية والتي لا يحسن أن نختم هذا المقال دون التعريج عليها أجهزة الكشف عن الغواصات التي اشترك في تطويرها أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية العالم الأمريكي إدوين ماكميلان الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1951م والذي قام بتوظيف خبرته الفيزيائية في تحسين أداء أجهزة السونار التي تستخدم الموجات فوق الصوتية للكشف عن الغواصات الحربية. بينما نجد أن الفيزيائي الأمريكي وليم شاوكلي (مخترع الترانزستور سالف الذكر) عمل أثناء الحرب الثانية كمدير للأبحاث الحرب المضادة للغواصات في البحرية الامريكية. وبمناسبة الحديث عن جهود كبار علماء الفيزياء في تحسين أجهزة السونار لرصد وكشف الغواصات لعلة من الملائم أن نشير أن جذور توظيف تطبيقات علم الفيزياء في الكشف عن غواصات العدو تعود لسنوات الحرب العالمية الأولى. فمثلا عالم الفيزياء الشهير أرنست رذرفورد الملقب بأبو الفيزياء النووية (يا كثر آباء العلوم والاختراعات في هذا المقال !!!) والحاصل على جائزة نوبل لعام 1908م نجده أثناء الحرب العالمية الأولى يقطع أبحاثه التاريخية في الفيزياء النووية ويركز بحثه على تطوير طريقة لرصد الغواصات بالموجات الصوتية. وهذا ما حصل بالضبط مع العالم الفيزيائي الإنجليزي البارز لورنس براغ الذي نجده في نفس السنة التي حصل فيها على جائزة نوبل في الفيزياء أي سنة 1915م يتفرغ هو الآخر لتطوير وتحسين الطرق العلمية المستخدمة للكشف عن الغواصات وهو أمر بالغ الأهمية عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى.

 وفي الختام نود أن نذكر بالحقيقة التاريخية المعلومة أنه في حال الحروب والأزمات الكبرى نجد أن العديد من الدول والحكومات تستدعي الرجال والشبان من مواطنيها لأداء خدمة العسكرية الإلزامية وأحيانا تكون خدمة الشباب في الجيش في المجال الذي لديهم خبرة فيه فبعضهم قد يخدم حسب خبرته في الخدمات الطبية أو الهندسية أو القتالية. وعليه لا عجب أن نعرف أن بعض الشباب ذوو الخبرة والمهارة العلمية يتم تجنيدهم فيما يلائمهم وهذا ما حصل مع مهندس الإلكترونيات الأمريكي جاك كيلبي الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2000م نظير دوره التاريخي في اختراع الدوائر المتكاملة (وهي أهم اختراع ساهم في تطوير الكومبيوتر بعد الترانزستور) نجده في أوائل شبابه يخدم كفني إلكترونيات في الجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية. وفي الواقع حملة الاستفادة من خبرات ومهارات رجال العلم لم تتوقف كما هو متوقع عند الشباب من العلماء فمثلا هذا المخترع والفيزيائي الروسي الأصل فلاديمير زوريكن أحد مخترعي جهاز التلفزيون (يوصف أحيانا بأبو التلفزيون الحديث) والذي شارك كذلك في اختراع المجهر الإلكتروني نجده بعد عقود من هجرته للولايات المتحدة الأمريكية يحصل على جنسيتها ثم لاحقا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية يشارك بسبب خبرته العالية في الإلكترونيات في العديد من اللجان والأبحاث المتخصصة بتطوير الأسلحة والصواريخ للجيش الأمريكي.

( إطلالة دولية من شرفة المنزل )

إطلالة مميزة على أربع دول


د/ أحمد بن حامد الغامدي

يُنقل عن الناشطة الامريكية هيلن كيلر المصابة منذ الطفولة بالعمى والصمم قولها (الشيء الوحيد الأسوأ من العمى أن تكون تبصر ولكن بدون رؤية) وفي أجواء الحظر المنزلي التي نمر بها حاليا الأمر الذي يزيد من مرارة الأسر أن تكون شرفة منزلك تطل على منظر بديع ولكن لا تستطيع الذهاب إليه. الرغبة في (التعويض) وسد النقص الشعوري بإشباع رغبة الانطلاق والانعتاق من المرابطة الالزامية للمنزل قادتنا إلى تبادل مقاطع الفيديو والصور الفوتوغرافية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لبعض المعالم السياحية والطبيعية التي كان يصعب رؤيتها من بعيد بسبب تلوث هواء الغلاف الجوي.
البعض يقول إنه لأول مره أصبح بالإمكان لسكان المنازل المشرفة على كورنيش مدينة الخبر مشاهدة أطياف الأبراج الشاهقة في مدينة المنامة عاصمة مملكة البحرين. كما يتداول مقطع بديع واحترافي لمصور أردني يوثق من مرتفعات البلقاء (شمال مدينة عمان) مشهد ثلاث دول هي فلسطين السليبة وأطراف حدود سوريا ولبنان بالإضافة للصور الشيقة لمدينة نابلس الفلسطينية ولزهرة المدائن القدس. أما من أعلى جبال فيفا فقد قام أحد المواطنين الكرام بالتصوير المنزلي من سطح بيته لمعالم مدينتي صبيا وأبو عريش وغيرها من حواضر سهل تهامة بالإضافة لقمم جبل رازح من أرض اليمن.
الاطلالة الجميلة على منظر طبيعي منساب أو أثر تاريخي خلاب أو معلم حضاري جذاب هي من الأشياء التي تنعش الروح وتزيد في رونق الفندق أو قيمة الدار. وحتى على مستوى الدول والممالك الكبرى نجدها تتزاحم على موطئ قدم لإطلالة على نهر متدفق أو بحيرة فسيحة ولهذا لن نستغرب عندما نعلم أن شلالات المياه الكبرى كثيرا ما تتشارك في الاطلالة عليها أكثر من دولة. كما هو الحال في تقاسم الولايات المتحدة الامريكية وكندا لشلالات نياجارا وإطلالة كلا من زامبيا وزيمبابوي على شلالات فيكتوريا واشتراك كلا من سكان البرازيل وأهالي الارجنتين بالتمتع بسلسلة شلالات إجوازو الهائلة والمذهلة. وبسبب هذا التزاحم الدولي حول هذه المعالم الطبيعية الفريدة تتقارب كثيرا الحدود بين الدول لدرجة أن تتلاقى أطراف ثلاثة دول في نقطة واحدة ليست بعيدة عن تلك الشلالات. فمثلا على بعد عدة كيلومترات فقط من شلالات إجوازو تقع مدينة بويرتو جواسيو الأرجنتينية التي يتمتع سكانها ليس فقط بالإطلالة الخلابة على منظر نهر بارانا المتدفق الذي يغذي الشلالات ولكن أيضا موقع هذه المدينة الفريد يمكن سكان المدينة من الاطلالة المباشرة من نوافذ منازلهم على أراضي البرازيل وكذلك حدود دولة الباراجواي. قد تكون الاطلالة من شرفة منزلك على دولتين مختلفتين أمر يستحق التفاخر به فما بالك إذا كان توجد نقطة جغرافية تجتمع فيها حدود أربع دول دفعة واحدة. غير بعيد عن شلالات فيكتوريا تقع مدينة كازنقولا على نهر زامبيزي وتتميز هذه المدينة الزامبية الصغيرة بأمر فريد لا تشاركه فيها أي مدينة أخرى في العالم حيث إن سكان الضاحية الجنوبية من تلك المدينة بإمكانهم الانفراد بالنظر إلى أراضي ثلاث دول هي زيمبابوي وناميبيا وبوتسوانا.
بلا شك المناطق الجغرافية التي تدعى بالنقطة الحدودية الثلاثية tripoint يكون لها بريق خاص وغالبا ما تصبح مناطق وأقاليم سياحية مميزة وهي وإن كانت جاذبة للسياح والأموال إلا أنها أحيانا قد تكون جاذبة للمصائب والخراب. خذ على سبيل المثال مدينة بان سوب رواك في أقصى شمال تايلند والتي بعد انتعاشها من الناحية السياحية لأنها تقع عند ملتقى نهري رواك ونهر ميكونغ وكذلك لتمتع العديد من فنادقها منازلها بإطلالة على أراضي دولتي بورما ولاوس (وما الصين عنهم ببعيد) إلا أن هذه المنطقة بالذات أصبحت نقطة جذب مكثف لتجار المخدرات لدرجة أن اشتهر تسميتها (بالمثلث الذهبي) لسهولة تهريب وتوزيع المخدرات بها. وبحكم أن هذه المنطقة أصبحت إحدى أكثر المناطق في العالم في تجارة المخدرات أصبحت منطقة مشبوهة وحظيت بسمعة دولية سيئة لدرجة أن الاستخبارات الامريكية CIA هي من أطلق عليها تسمية المثلث الذهبي لتجارة المخدرات وذلك خلال الحملة الامريكية للحرب على المخدرات.
منطقة جغرافية أخرى ثلاثية الحدود واجهت المشاكل المتواصلة بسبب موقعها الفريد هي تلك التي تعرف في كتب التاريخ باسم (ركن الامبراطوريات الثلاثة) وهي تلك الزاوية الحدودية التي كانت قديما تلتقي عندها الإمبراطورية النمساوية والامبراطورية الألمانية والامبراطورية الروسية. وبسبب صراع الجبابرة بين تلك الامبراطوريات المتناحرة لم يكتب الاستقرار والأمان لإقليم الركن الثلاثي وعاصمته الرئيسية مدينة ميسوفيتسه (تقع حاليا جنوب بولندا) حيث عبر التاريخ كثيرا ما تم انتقال ملكيتها لواحدة من تلك الممالك المتصارعة.
في الختام أود أن أتقدم باعتذار خاص لعشاق الأسفار ورواد الأمصار لأنه ربما نتج من هذا المقال تعذيبهم بذكر أخبار الانتقال ومتعة الارتحال ولكن لعل الله أن يفرج عنا جميعا ما نحن فيها ويسعدنا بنعمة السلامة من الوباء وبهجة اللقاء بالأهل والأصدقاء ومتعة السفر للآفاق والارجاء.

( الرهاب من التقنية .. رِدة علمية أم اضطراب نفسي )

الخوف من أبراج الجيل الخامس هل له شواهد في التاريخ

د/ أحمد بن حامد الغامدي

تحذير .. تحذير في المرة القادمة التي ترغب فيها بشراء زجاجة مشروب أو قطعة بسكويت من أجهزة ثلاجات البيع الذاتي vending machine أعلم أنه على مستوى العالم يقتل سنويا حوالي 60 شخص بسبب أخطار هذه الأجهزة. أرجو ألا أكون أفزعتك أيها القارئ العزيز من تناول علبة كولا مثلجة لكن أن رغبت أن تستعيض عن ذلك بتناول فنجان من القهوة الرائقة فالحذر الحذر فمنظمة الصحة العالمية وعلى موقعها الرسمي تنبه من وجود احتمالية أن القهوة الساخنة يمكن أن تتسبب في حصول سرطان المريء.
للغالبية العظمى منا يعتبر ما جاء من التحذير في الفقرة السابقة محض هراء وتخوف زائد عن الحد وأعراض رهاب نفسي حاد بالتحسس من الاخطار المتوهمة والتي لا تخلو منها الحياة حتى ولو في تجرع شربة ماء أو أخذ غفوة نوم على أريكة المنزل. بالرغم من أننا في القرن الحادي والعشرين إلا أن البعض ما زال لديه (جاهلية علمية) فيما يتعلق بالموقف من التقنية والاكتشافات العلمية والمخترعات الحديثة. لا بأس من القلق والتحوط من الاخطار المحتملة لكن غير المقبول (الرِدة العلمية) والنكوص عن الايمان بفائدة العلم والتقنية والمتمثلة بالرفض العام والمنع التام للأفكار العلمية الجديدة والاختراعات التقنية المطورة. في الفترة الأخيرة على سبيل المثال تم اثارة غبش كثير حول الاضرار المتوهمة لاستخدام التطعيمات الطبية على الأطفال ولكن فرق كبير وجوهري بين القلق من سلامة هذه التطعيمات وفائدتها وبين المنع التام لها والتحذير الهستيري منها. وقل نفس الشي مع الموقف من التقنيات الحديثة مثل تقنية النانو والتقنية الحيوية والهندسة الوراثية والاستنساخ وما شابه ذلك من المجالات الحديثة التي يثير البعض الخوف والفزع منها وبذا يصح وصف أحمد شوقي فيهم:
والناس في عداوة الجديدِ              وقبضة الأوهام من حديدِ

وهذا يقودنا إلى سياق الظاهرة الجديدة والمتمثلة ليس فقط في الخوف والقلق من تقنية الاتصالات الجديدة (شبكة الجيل الخامس 5G) ولكن الممانعة والعداء العنيف لها لدرجة قادت إلى اتلاف واحراق أبراج البث لهذه التقنية المتطورة. لهؤلاء الأشخاص اضطراب نفسي ورهاب وجداني للأشياء الجديدة والغريبة يدفعهم لتبني أفكار ومسلمات خاطئة تجاهها ومن ثم المعارضة العنيفة لها ولو بالحرق والتدمير وكأنهم بذلك هم من قصدهم الفيلسوف والعام البريطاني الشهير روجر باكون بقوله (إنه من السهل على رجل أن يحرق منزله أكثر من أن يتخلص من آرائه المسبقة). الغريب في الامر أن حالة الهستيريا ضد تقنية الاتصالات الحديثة أشد ما تكون في الدول الأوروبية وبالذات في بريطانيا وهولندا وبلجيكا وألمانيا وروسيا وهو ما يعكس تعقيد هذه الظاهرة النفسية الغريبة التي تستحق توصيف (جاهلية القرن الواحد والعشرين). ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن هذه (الجاهلية العلمية) تكررت كثيرا في تاريخ تطور العلوم لدرجة أن هذه (البدعة) قد شملت العديد من المجتمعات وكان الدافع والمحرك لتبني هذا الموقف الجاحد بالتقنية متنوع ومتعدد بين مؤثرات دينية أو اقتصادية أو نفسية.
ومن الأمثلة على ممانعة ومصادمة التقنية العلمية لأسباب دينية مزعومة ما حصل في منتصف القرن الثامن عشر عندما تمكن قسيس مسيحي من بلد التشيك من اختراع أول مانعة صواعق في التاريخ. وهنا أعترض عليه كبار رجال الكنيسة لدرجة أن أحدهم قال له (إذا كان الله يريد أن يعاقب إنسانا آثما بتصويب صاعقة إلى بيته فكيف يجرؤ البعض على التدخل بين الله وخلقه). وبعد ذلك بقرن من الزمن عندما توصل الطبيب الأسكتلندي جيمس سمبسون لفكرة استخدام مخدر الكلوروفورم لتخفيف آلام الوضع والولادة لدى النساء حاجج بعض رجال الكنيسة بأن (مشيئة الخالق اقتضت ان تلد النساء حال الألم ولا يجوز مخافة ذلك). حسب المفاهيم الدينية المسيحية أن الله سبحانه وتعالى عاقب حواء وبناتها بالحيض وأن يتعرضن لمعاناة آلام الحمل والولادة لأن حواء كانت هي من أغوى آدم بالأكل من الشجرة المحرمة. وفي نفس ذلك السياق عندما نشر الجراح الإيطالي أندرياس فيزاليوس كتابه الشهير عن تشريح جسم الانسان رد البعض على اكتشافه الطبي بأن عدد اضلاع القفص الصدري للرجل والمرأة متساوية ورفضوا هذا الأمر لأنه يخالف اعتقاداتهم الدينية التي تنص على أن المرأة مخلوقة من ضلع الرجل ولهذا يجب أن تكون أضلاع الرجل اقل من اضلاع المرأة.
مرة أخرى نجد أنه في العقائد المسيحية يذكر أن الله خلق الانسان على صورته عزّ وجلّ ولهذا في منتصف القرن التاسع عشر عندما تم اختراع الصور الفوتوغرافية اعتبر البعض أن انتاج هذه الصور نوع من التجديف والكفر. لأنه إذا كان الانسان على صورة الخالق فلهذا لا يمكن أن توجد أي آلة أو جهاز يقدر على رسم صورة الاله وبهذا وصف بعض القسس آلة التصوير بأنها من اختراع الشيطان. ومن الأمثلة الإضافية لوقوف المفاهيم الدينية المغلوطة حجر عثرة في سبيل التقدم التقني أنه عندما أعلن المخترع الالماني كارل بنز في السبعينات من القرن التاسع عشر عن انتاجه لأول سيارة ذات محرك ذاتي. أعترض علية بعض المتعصبين الدينيين بحجة أن هذا الاختراع يخالف طبيعة وحكمة خلق الله للخيول والدواب المستخدمة في ذلك الحين لجر العربات.
وربما يتوقع البعض أن مصادمة الدين بالعلم والتقنية كان محصورا فقط في العصور القديمة ولكن للأسف ما زال رجال الدين الكاثوليك حتى اليوم يحرمون لأسباب دينية مزعومة استخدام حبوب منع الحمل أو استخدام تقنية التلقيح الاصطناعي المشهورة باسم أطفال الانابيب. ولا نريد أن ننكأ الجراح باستذكار بعض الفتوى الدينية للفقهاء المسلمين المصادمة للعلم والتقنية بسبب عدم التفعيل الكامل للاجتهاد الفقهي أو توسيع فقه النوازل وإن كان الأمر آخذ في التحسن في مجال الطب بالذات مع انتشار المجامع الفقهية المعاصرة.

في هجاء القطارات والكهرباء !!

أما الخوف من التقنية من منظور اقتصادي فهو أمر للوهلة الأولى يبدو غريبا إلا أنه من زاوية ما قد يكون موقف مفهوم وإن كان غير مبرر ولا مقبول. جميع الاختراعات التقنية الحديثة تكون مصحوبة بفرص اقتصادية مربحة ولكن بحكم أن منظومة الاقتصاد قائمة على التنافسية الشديدة فما تربحه أنت أخسره أنا ومن هنا يظهر مأزق أن الخاسر لا يتحلى دائما بالروح الرياضية ولربما سعى لتغيير قواعد اللعبة. الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب الشمس عن مستعمراتها توصلت لهذه المكانة الفريدة في التاريخ بسبب الرخاء الاقتصادي الباذخ الذي نتج عن الثورة العلمية والثورة الصناعية التي ظهرت إرهاصاتها في الجزر الإنجليزية. ومع أول مواليد الثورة الصناعية المتمثل في جهاز غزل القطن المخترع على يد السير البريطاني ريتشارد أركروايت ظهرت بواكير الخوف والنفور من التقنية التي قد تسبب في الاستغناء عن الايدي العاملة البشرية. ولهذا منذ فجر عصر الثورة الصناعية هاجت وماجت فئام من الناس ضد التقنية والأجهزة الحديثة وحاربتها وتعمدت تدميرها وحرقها ومن ذلك قيام عدد من الغوغاء في نهاية القرن الثامن عشر بتدمير مصنع غزل القطن الذي يملكه أركروايت في مدينة مانشيستر. وحذو القذة بالقذة تعرضت كذلك مصانع وماكينات المخترع الإنجليزي إدموند كارترايت مخترع آلة النسيج المطورة للحرق والتدمير وهو نفس مصير المخترع الفرنسي جاك دي فوكانسون الذي بعد اختراعه لنول النسيج الأتوماتيكي نال سخط عمال الغزل في مدينة ليون الفرنسية ولهذا كما تسبب في عطالتهم عن العمل تسببوا هم في طرده من مدينتهم. الجدير بالذكر أن هذه الحركة الاحتجاجية الثورية في صفوف العمال في بداية القرن التاسع عشر امتدت إلى عدد من الدول الأوروبية وانخرط فيها الآلاف من العمال الذين اصابتهم البطالة ومن ثم كانت وسيلة احتجاجهم الفجة هي تدمير عشرات المصانع ومئات الماكينات والآلات الصناعية الحديثة.
الجوانب الاقتصادية الخفية كثيرا ما تكون وراء العداء والرهاب النفسي والممانعة ضد المخترعات التقنية الجديدة وقد تكون بعض الأطراف الاقتصادية الخاسرة من ظهور التقنية الحديثة هي من يذكي ويأجج نار الرهاب من التقنية. في الموجه الهستيرية الحالية ضد شبكة الاتصالات المطورة وأبراج الجيل الخامس يقال إن بعض الشركات الأوروبية التي خسرت عقود إقامة هذه الشبكة هي من تبث الشائعات في أوساط الجمهور ولهذا نجد هذه الهوجة والموجة  العجيبة تنتشر بشكل حاد في الدول الأوروبية دون بقية بلدان العالم. الغريب أننا يمكن أن نجد (شواهد تاريخية) لمثل هذه الظاهرة مع التقنيات القديمة فمثلا في السابق كان نقل البضائع (المنسوجات في الغالب) بين مدينة مانشستر الصناعية وميناء مدينة ليفربول يتم عبر القوارب في القنوات المائية. ولهذا عندما تم طرح فكرة إقامة سكة حديد بين مانشيستر وليفربول عارض بعض الاقطاعيين والمتنفذين تلك الفكرة الرائدة لخشيتهم أن تنافس السكة الحديدية أعمالهم ومكاسبهم المالية ولهذا قاموا بدفع بعض الأهالي والفلاحين والعمال لمعارضة انشاء سكة وسيلة المواصلات الجديدة.
نسمع هذه الأيام هستيريا عجيبة تبالغ في التحذير الصحي والبيئي من أخطار أبراج شبكة اتصالات الجيل الخامس وكأنه بالفعل التاريخ يعيد نفسه فعين وذات هذه الهستيريا النفسية المعارضة للتقنية وظفت لمقاومة انشاء خطوط السكك الحديدية ببريطانيا في بداية القرن التاسع عشر. وصل الأمر إلى أنه انتشرت شائعات تقول أن المنظر البشع للقطار وهو ينطلق مسرعا بجلبته الصوتية العالية سوف يثير الرعب لدرجة تتسبب في اجهاض النساء الحوامل وتوقف الابقار عن در الحليب والدجاج عن وضع البيض !!!. كما زعم البعض في زمن الجاهلية العلمية للقرن التاسع عشر أن الدخان المتصاعد من مدخنة القطار سوف يخنق البهائم وسيفتك بالطيور فوق الأشجار وكذلك فإن الشرر المتطاير من مدخنة القطار سيتسبب في احتراق المنازل على طول سكة القطار. وعليه كما تتردد اليوم أخبار المخابيل والمتعصبين الذين يتلفون ويحرقون أبراج الجيل الخامس فكذلك في ذلك الزمن ترددت أخبار قيام بعض المزارعين بسطاء التفكير بإطلاق النار على المساحين والعمال الذين يجهزن لإنشاء سكة الخطوط الحديدية.
الاغرب من ذلك أنه في مثل هذه الأجواء الهستيرية المسمومة بالرهاب من التقنية قد ينجرف حتى الأطباء في التنظير لهذا العبث فبالعودة إلى مسلسل التخويف من القطارات قال بعض الاطباء إن ركوب القطار قد يسبب مشكال صحية لأن جسم الانسان لا يستحمل سرعة تزيد عن 15 كيلومتر في الساعة وربما يختنق من قوة اندفاع الهواء إلى جوفه. ولاحقا عند بدأ العمل في إدخال سكة القطار إلى ألمانيا حذرت هيئة كبار الأطباء في مدينة ميونخ من تأثير سرعة القطار الضارة على العين وقوة الابصار!!. ولا غرابة أن التخوف والممانعة لكل جديد استمرت في جميع القرون ففي منتصف القرن العشرين ومع بدايات التجارب التقنية لإطلاق صواريخ الفضاء حذر طبيب بريطاني من أن التسارع الكبير الذي تسببه الصواريخ من الممكن أن تؤدي لحدوث تلف خطير في الدماغ. وبكل جدية أخذ علماء الفضاء في مطلع عصر غزو الفضاء التحذيرات التي كانت تزعم أن البشر قد لا يستطيعون أن يعيشوا في أجواء انعدام الجاذبية لأن الدم لن يتدفق في الأوردة لكي يعود للقلب ولهذا كان (أول رائد فضاء) من غير البشر وهنا خلد التاريخ الكلبة لايكا والقرد ألبرت.
وفي الختام قبل أن نغادر موضوع معارضة الدهماء من البشر لأي شي جديد وغير مألوف تجدر الإشارة إلى أنه في نهاية القرن التاسع عشر وعندما كانت الكهرباء شيئا جديد في حياة الناس واجه المهندسون الذين أقاموا أول محطة توليد للكهرباء في لندن العديد من العقبات بسبب المشاكل النفسية والتعقيدات البيروقراطية الممانعة لإنشاء المحطة الكهربائية. (الخوف من الكهرباء) أنتقل لاحقا من بريطانيا إلى ألمانيا سنة 1891م عندما عارض العديد إقامة أول محطة توليد الكهرباء في مدينة فرانكفورت.
وإذا كانت الكهرباء أهم الاختراعات البشرية على الاطلاق قد واجهت الممانعة والخوف والتشكيك من أخطارها الصحية وتعقيداتها الاجتماعية فهذا يجعلنا بدرجة ما نكون على استعداد (لتوقع وتفهم) لماذا شرائح متزايدة حتى من المجتمعات المتقدمة والمتحضرة يمكن أن تتردد كثيرا في تقبل المستجدات التقنية الحديثة. ولهذا لا غرابة أن تجد بعض المفكرين والمتعلمين يعارضون لأسباب فلسفية وبيئية وأخلاقية انتشار بعض مظاهر التقنية مثل طغيان الروبوتات أو الكومبيوترات في عمليات التصنيع. في حين أن البعض يعارض بشراسة إهدار مليارات الدولارات على برامج اكتشاف الفضاء والكواكب أو أبحاث الجسيمات الأولية الأصغر من الذرة وما شابه ذلك من المجالات البحثية التي تدعى )بالعلوم الضخمة Big Science).