الاثنين، 17 أكتوبر 2016

( شكسبير ممنوع بنص القانون من النطق بسم الله على المسرح )

كتاب مميز .. أشار لجدلية العلاقة بين الأدب والادين
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
 
انسياقا وراء عشقي القديم لقراءة الروايات والاعمال الادبية تحمست كثيرا لقراءة كتاب مختصر يهدف للتعريف بمفهوم وتاريخ (الأدب الانجليزي) للاكاديمي البريطاني جوناثان بيت وبالرغم من المعلومات الدسمة التي حفل بها الكتاب إلا أن معلومة وجدت في سطر واحد فقط كانت (صاعقة) بالنسبة لي وهي ما حفّزت لكتابة مقال شبة مستفيض. فقد أشار المؤلف إلى (أن النصوص الرسمية لمسرحيات شكسبير كانت قبل تمثيلها تعرض على عنصر رقابي نتيجة لقانون برلماني يحظر التلفظ بكلمة الله على المسرح).
 
للوهلة الاولى تبدو للنظرة السطحية المتعجلة أن هنالك تحيز (وعلمانية) ضد الدين في منع شكسبير من استخدام كلمة الله في أعماله الادبية والاستعاضة عنها غالبا بكلمة (السماء) ولكن بمعرفة أن شكسبير عاش في نهاية القرن السادس أو ما يسمى العصر الاليزابيثي وهي فترة تاريخية مميزة في التاريخ الاوروبي اشتهرت بازدهار حركة الاصلاح الديني المسيحي وطغيان التيارات الانجليكانية المتشددة. وبهذا المنظور التاريخي يتبين دون جدال أن منع ذكر اسم (الله) أثناء التمثيل على خشبة المسرح لم يكن إلا من باب التنزيه والتقديس للفظ الجلالة من الامتهان. كنت أعلم مسبقا أنه في أثناء حقبة الإصلاح الديني التطهيري انتشرت ظاهرة (تحطيم الأيقونات الدينية) من مثل تماثيل ومنحوتات المسيح والسيدة العذراء أو تدمير وإتلاف الآثار المزعومة للقديسين ومنع التبرك بها لكن الذي لم أكن أعلمه قط أن تعاليم هذا التيار الديني المحافظ وصلت لفرض سن قانون برلماني خاص يمنع ذكر اسم (الله) في المسارح وما شابهها من الأوضاع والامكان المبتذلة.
 
الدرس الذي يمكن أن يستخلص من القيود الدينية على الانتاج الادبي في عصر شكسبير أن فقط الأديب النكرة والخاوي من الملكة والمهارة الفنية هو من يبرر ويتعذر أن قريحته الأدبية ضعيفة بسبب أن (البيئة الادبية) في مجتمعه غير ملائمة وأن (الحاضنة الثقافية) للأوساط الادبية  عجفاء أو معادية.  أليس غريبا أن الحقبة الكلاسيكية التي عاش فيها شكسبير على صرمتها الدينية المتشددة كثيرا ما توصف (بالعصر الذهبي للأدب الانجليزي) حيث  ظهر فيها بالإضافة لشكسبير الشاعر البارز (جون ميلتون) أعظم شاعر انجليزي على الإطلاق وصاحب القصيدة الخالدة (الفردوس المفقود). لا شك أنها حجة وذريعة تافهة التي يرددها البعض من أدعياء الابداع الادبي أنه لابد من (كسر الموروث) و(الثورة على الثابت) وأنه بغير هذه الاتجاهات (الحداثية) لا يمكن الابداع والتميز والخلود في الأعمال الأدبية.
 
أليس غريبا مرة أخرى وعلى ذكر الشاعر الانجليزي جون ميلتون أن قصيدته الخالدة (الفردوس المفقود) والتي هي قمة الملاحم الأدبية الانجليزية على مر العصور ومع ذلك كان محور تلك الملحمة الشعرية موضوع ديني بحت حيث تدور هذه الملحمة البالغة الطول عن قصة خروج أدم وحواء من الجنة وهبوطهما على الأرض وغواية أبليس لهما. وفي نفس نسق ارتباط اشهر الاعمال الادبية بالدين تجدر الاشارة إلى أن أحد أقدم وأهم القصص الرواية في الادب الانجليزي هي المجموعة القصصية المسماة (حكايات كانتربيري) للأديب الانجليزي البارز جيفري تشوسر والتي تدور عن أحداث وقصص متنوعة حصلت لعدد من الحجاج المسيحيين القاصدين للتعبد عند ضريح القديس توماس في كاتدرائية مدينة كانتربيري والتي هي المقر الرسمي لكنيسة إنجلترا المناظرة لمقر البابوية في الفاتيكان بروما.
 
بلا شك يعتبر الجميع ظهور عصر النهضة إحدى الفترات الزمنية المفصلية في تاريخ البشرية حيث شهدت إرهاصات ضعف ارتباط المجتمعات الغربية بالدين وبداية الانعتاق منه ولهذا توهم البعض أن رموز عنصر النهضة كانوا ولا شك في حالة خصام وفصام مع المؤسسة الدينية. ومن المعلوم للقاصي والداني أن ازدهار الفنون يعتبر أحد أهم وأبرز سمات وملامح عصر النهضة فكيف كانت علاقة الدين المسيحي بأبرز مشاهير الرسامين والنحاتين في تلك الحقبة وسف نكتفي بالإشارة لموقف الكنيسة من (الأربعة الكبار). ولنبدأ أولا بالرسام والنحات الايطالي الاسطورة (مايكل أنجلو) الذي خلده التاريخ بأعماله الفنية الموجودة داخل حاضرة الفاتيكان نفسها مثل رسمة خلق آدم البالغة الشهرة على سقف كنيسة السيستاين وتمثال العذراء تنتحب وتمثال النبي موسى بالإضافة لتصميمه لقبة كاتدرائية القديس بطرس أهم معبد ديني مسيح. بينما تعتبر اللوحة الجدارية الفريدة المسماة مدرسة اثينا والتي تبين ابرز فلاسفة اليونان (ومن ضمنهم الفيلسوف العربي ابن رشد)هي أهم تحفة فنية في القصر البابوي المقر الرسمي لبابا الفاتيكان وهذه التحفة المميزة من إنجاز الرسام الايطالي المعروف رفائيل. أما  النحات الايطالي دوناتلو فإن اشهر أعماله على الاطلاق هي التمثال البرونزي للملك داود (في الكتاب المقدس يعتبر كلا من انبياء الله داود وسليمان ملوكا وليسوا أنبياء). وأخيرا يأتي ذكر أبرز فنانين عصر النهضة بدون منازع أي ذائع الصيت ليوناردو دافنتشيو الذي أحد أشهر إبداعاته الفنية (باستثناء لوحة الموناليزا) هي لوحة العشاء الاخير للمسيح مع حوارييه والموجودة حاليا في دير كنسي في مدينة ميلانو الايطالية وهذه اللوحة هي التي بنيت عليها الحبكة التاريخية والتشويقية لرواية (شفرة دافنتشي)واسعة الانتشار.
 
وختاما إذا أفلحنا في (تجميل) الصورة النمطية المشوهة لعلاقة الدين بالأدب والفن فربما يعتقد البعض أن علاقة التنافر والعداء بين الدين (المسيحي خاصة) وبين العلم من (الحقائق التاريخية) التي لا يمكن دحضها. الجدير بالملاحظة والتأكيد أنه بالرغم من اعتبار العالم الايطالي الشهير جاليليو أبرز مثال لاضطهاد الدين للعلماء إلا أن جاليليو نفسه كان يؤمن وبعمق أن العلم والدين بإمكانهما أن يتواجدا في حالة تناغم وانسجام متبادل. من غرائب الأمور أن نعلم بأن البابا المسيحي أوربان الثامن الذي وافق علي محاكمة جاليليو بتهمة الهرطقة كان قبل توليه منصب البابوية على علاقة جيدة بجاليليو وصلت لدرجة أن جاليليو عندما ألف كتابه المسمى (المجرب)قام في مقدمة ذلك الكتاب بإهدائه للبابا أوربان الثامن الذي كان في تلك الفترة ما زال يعرف باسم الكاردينال باربرينيبل ويقال انه بعد تم انتخابه لمنصب البابوية قام جاليليو بزيارة صديقة البابا في مقر الفاتيكانليس هذا وحسب في العلاقة الوطيدة بين العالم جاليليو وصديقه البابا وصلت لدرجة أن كتاب جاليليو الذي حوكم بسببه لأنه أيد نظرية كوبرنيكوس وهو الكتاب المسمى (حوار حول النظامين الرئيسيين للعالم) كان البابا أوربان الثامن نفسه قد سبق له الاطلاع عليه ولم يعترض عليه في البداية حتى تدخل بعض الوشاة واثأروا حنق البابا علي جاليليو.
  
كما ينبغي التنبيه على أن عدد من اكتشافات واختراعات جاليليو العلمية ارتبطت بوجوده داخل الكنيسة من مثل توصل لقانون حركة البندول وهو في كاتدرائية مدينة بيزا الايطالية وتجربته الشهيرة حول السقوط الحر للأجسام  نفذها بإسقاط صخور مختلفة الاحجام من أعلى برج بيزا المائل والذي في الواقع هو برج جرس كاتدرائية بيزا السالفة الذكر. كما اشتهر جاليليو بأنه أول من استخدم التلسكوب للدراسات الفلكية لكن في الواقع كان أول منظر رصده جاليليو بتلسكوبه لم يكن أجرام السماء بل السفن البحرية القادمة من الأفق ولم يكن الرصد لها من قلعة أو جبل بل من أعلي برج جرس كنيسة مدينة البندقية.
ولعلنا بهذا نكون بشكل أو آخر حاولنا أن نضيف مزيد إضاءة حول الموضوع الشائك (جدلية العلاقة بين الدين والأدب والفن ... والعلم).
 


الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

( أمريكا .. حيث تملك القوة لا مكان للعقل )

بعد نصب العلم الأمريكي على سطح القمر هل صحيح أنهم فكروا في احتلال القمر
 
د/ احمد بن حامد الغامدي
عبر القرون يُكن المجتمع  الامريكي تقدير واحترام خاص لمن يوصفون (بالآباء المؤسسين) وهم رجال السياسة الذين ساهموا في التوقيع على إعلان الاستقلال الامريكي أو مشهد التوقيع على الدستور الامريكي وقد كان أحد أبرز هؤلاء الرواد السيد جيمس ماديسون رابع رئيس للولايات المتحدة والملقب بأبو الدستور الأمريكي. في الواقع اشتهرعن الرئيس جيمس ماديسون ليس فقط دفاعه المستبسل عن الديمقراطية ولكن الاهم من ذلك اشتهربفكرهالثاقب وفلسفته لضرورة كبح جماح استغلال قوة السلطة المطلقة. ولهذا يعتبر الرئيس جيمس ماديسون من اكثر رؤساء الدول الديمقراطية الذين يتم تداول مقولاته الحكيمة في شؤون الحريات والديمقراطية من مثل قوله ( عندما تسود السلطة الزائدة فلا يأمن الشخص على نفسه أو افكاره أو ممتلكاته ) أو مثل قوله (في الحقيقة كل الرجال الذين يملكون القوة هم جديرون بأن لا نثق بهم).
في واقع الأمر كأني بالرئيس الامريكي العتيد ماديسون بمقولاته تلك يقصد فيمن  يقصد رجال السياسة بمن فيهم أعضاء الكونجرس الامريكي الحاليين الذين هم مثال صارخ لقاعدة السلوك البشري (السلطة المطلقة .. مفسدةٌ مطلقة) لأن إدارة الحكومة الامريكية الحالية وبرلمانها التشريع يتصرفون وكأنهم الحاكم بأمره وسي السيد المطاع في الحلبة السياسية الدولية. عندما صوت اعضاء الكونجرس الامريكي الاسبوع الماضي في واشنطن بأغلبية ساحقة مع قبول قانون جاستا (العدالة ضد الارهاب) من المرجح أنه كان يعميهم الشعور بالقوة وغطرسة العنجهيه المعروفة للكاوبوي من عدم مراعاة بديهيات أسس القانون الدولي الذي ينظم العلاقة بين الدول. المثير للسخرية حقا أنه لا يفصل إلا عدة مئات من الكيلومترات بين مقر البرلمان الامريكي الكابيتول هيل في واشنطن وبين مقر الامم المتحدة في مدينة نيويورك التي تنظم العلاقة بين الدول ذات السيادة الكاملة ومع ذلك وقع المشرعين الامريكان في خطأ قانوني مريع حيث انهم لو طلبوا حضور فطاحل خبراء القانون الولي من جامعة هارفرد من مدينة بوسطن القريبة نسبيا من عاصمة الاستكبار لكان يبنوا لهم الخطل والسفة السياسي الذي هم مقدمين عليه.
الحكومة الامريكية تمتلك زمام قوة اقتصادية وعسكرية وعلمية هائلة و (زائدة) ولهذا صدق الرئيس ماديسون في توقعه وبعد نظره أنه عندما تسود السلطة الزائدة فلا أمان للشعوب والافراد ولكن هناك نصيحة إضافية من الرئيس ماديسون لرجال السياسة في بلده الذين قد يعميهم الغرور ويدفعهم الطمع لابتزاز الشعوب الأخرى ونهب مقدراتها حيث يقول (تداول الثقة خيرا من تداول المال). أن الولايات الأميركة من المحتمل بمثل قانون جاستا سيء السمعة أن تنهب وتتداول أموال الدول الأخر لكنها بالقطع سوف تخسر ثقة المجتمع الدولي بها حيث لن يقبل لها أحد أن تحكم العالم على مبدأ (اذا كانت العصا في يدي .. فالحق في فمي).
عنجهية القوانين وغطرسة القوة
للأسف من يتتبع التاريخ البشري عبر العصور يتبين له عن يقين أن (الظلم من شيم النفوس) كما قال المتنبي وأن الاشخاص أو الدول التي لا تظلم تفعل ذلك لأنها ضعيفة أو تخشى شراً أكبر:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد          ذا عفةٍ فلعلة لا يظلمُ
فمن المستحيل أن تجد أمه أو دولة متفوقة عسكريا تكون في نفس الوقت متفوقة أخلاقيا فهذه الأمم الاوروبية في عز عصر الانوار في القرن التاسع عشر وبعد أن تشبعت بأفكار الحرية والمساواة وحقوق الانسان وفصل السلطات وإذا بها فجأة تسكر بنشوه القوة والسلطة وتتنكر للأفكار والمبادئ التي صاغها فلاسفتها الكبار مثل جون لوك وفولتير وروسو وسبينوزا ومونتسكيو وتتحول تلك الامم من داعية للتحرير إلى قوة استعمار وقهر للشعوب الأخرى.
بكل تجرد ربما من المبالغة الاعتراض على رجال السياسة في بلاد العم سام أنهم لم يستمعوا للمبادئ النبيلة للرئيس ماديسون بعد مرور قرنين من الزمان بتغليب الحكمة والعقل حال تمتعك بمزايا القوة الفائضة بينم واقع السياسة الامريكية المخزي يشير إلى أن الرئيس الامريكي الذي خلف ماديسون مباشرة وهو الرئيس جيمس مورنو كان أكثر من رجال الكونجرس الحاليين صفاقة وعنجهية في ضرب عرض الحائط بقواعد التعامل بين الحكومات والأمم وأصول القانون الدولي. في عام 1823 أعلن الرئيس الامريكي جيمس مونرو ما يعرف (بمبدأ مونرو) والذي ينص على أن الولايات المتحدة لن تسمح بتكوين أي مستعمرات اوروبية جديدة في نصف الكرة الغربي أي بالتحديد في الامريكيتين الشمالية والجنوبية وأن أمريكا اللاتينية هي الحديقة الخلفية للولايات المتحدة ولن تسمح لأي دولة عظمى أن تدخل هذه  منطقة النفوذ الخاصة بها.
إن الدول والامبراطوريات الممتلئة نعمة وقوة وسلطة تفصل القوانين كما تشاء وتغير قواعد اللعب حسب ما تهوى وخذ على ذلك مثلا القانون التعسفي العجيب الذي اختطته الامبراطوريات الكبرى فيما بينها حيث نجد أنه في نهايات القرن الخامس عشر وقعت اتفاقية بين الامبراطورية البرتغالية والامبراطورية الاسبانية اشتهرت بمعاهدة تورديسيلاس تمتلك بموجبها اسبانيا جميع البلدان والاراضي الجديدة التي سوف تكتشف غرب المحيط الاطلسي (تشمل دول امريكا الجنوبية) في حين تمتلك البرتغال أي اراضي تكتشف شرق خط التقسيم سواء تلك الدول  الموجودة في افريقيا أو جنوب شرق اسيا وكأن بقية الدول والكيانات السياسية الأخرى غير موجودة و (لا يستأذنون وهم شهودُ).
 
هذه العنجهية والاستكبار الاستعماري مارسته امبراطورات أوروبية متعددة قامت بكل وقاحة واستكبار بإعلان قارات وبلدان وشعوب أخرى أنها تحت حكمها وسلطتها لمجرد أنها أرسلت بعثة استكشافية من عدة سفن يقوم قائد وكابتن هذه الفرقة الاستكشافية الجغرافية بغرس علم بلاده في تراب الأراضي المكتشفة ويعلنها أرض تحت سلطة العرش الملكي لدولته كما حصل مع المستكشف القبطان البريطاني جيمس كوك وإعلانه قارة استراليا تابعة للعرش البريطاني وهو ما تكرر بشكل أو آخر مع مشاهير المستكشفين مثل الاسباني فرانسيسكو بيزارو في البيرو ومواطنه هيرنان كورتيز في المكسيك والانجليزي ليفينجستون في وسط افريقيا. ومن الطرائف في هذا الصدد أنه بعد أن قام رائد الفضاء الامريكي بز ألدرن بغرس العلم الأمريكي على سطح القمر وإلقاء تحية العلم في اللقطة الفوتوغرافية المحفورة في وجدان الشعب الأمريكي في أواخر عام 1969 ولأن النشاط الامريكي استمر بعد ذلك لعدة سنوات على سطح القمر ولهذا من باب الطرافة يقال أن المجتمع الدولي خشي أن تعلن أمريكا احتلال القمر ولذا تم إبرام (اتفاقية القمر The Moon Treaty) والتي تنظم نشاط الدول على القمر والاجرام السماوية الأخرى.
 
وبتنحية المزاح الفلكي جانبا إن من يدرس ويستعرض وقائع التاريخ يعلم أننا لا نبالغ أو نهول في التجني على الامريكان وطموحهم الاستعماري وهذا كما كررنا سلوك جميع الدول والامبراطوريات التي تمتلك (فائض القوة والسلطة). في التاريخ غير البعيد ألم تقوم الامبراطورية البريطانية في منتصف القرن التاسع عشر وهي في قمة أوج تفوقها العسكري بإجبار الامبراطورية الصينية العريقة بفتح اسواقها لتجارة الأفيون والمخدرات بعد أن هزمت في (حرب الأفيون) الشهيرة. وبنفس درجة العنجهية الاستعمارية الصفيقة ألم تقم الجمهورية الفرنسية في نفس تلك الفترة تقريبا بالتدخل في قلب العالم العربي عندما ارسلت حملة عسكرية إلى لبنان بحجة عجيبة أنها تريد إعادة تسكين الموارنة (الذي اعتبرتهم رعايا فرنسيين بالرغم من كونهم عرب ومواطنين يتبعون للدولة العثمانية) إلى قراهم التي تم تهجيرهم منها على يد الدروزوبهذه الحجة تم انتزاع لبنان من أراضي سوريا الكبرى ومن هنا بدأ مسلسل تقسيم الدول والاقاليم العربية قبل قرن ونصف من الان.
 
وفي الختام بقي أن نقول أنه مما يثر الحنق والغضب أنه ليس فقط الدول الغربية (تستأسد وتتنمر) عندما تزداد سلطتها وقوتها الاقتصادية بل نجد أنه حتى الشركات التجارية الكبرى يصيبها داء الغطرسة والعنجهية حذو القذة بالقذة. وهذا ما حصل بالضبط امع لشركة البريطانية القديمة (شركة الهند الشرقية) والتي في بادئ الأمر منحت مرسوم ملكي يخولها احتكار التجارة البريطانية مع الهند في بداية القرن السابع عشر وسرعان ما أنتهى بها الأمر أن تحولت من مشروع تجاري بحت إلى مؤسسة تحكم جميع الولايات الهندية وجميع مستعمرات التاج البريطاني في أسيا وبالطبع كان لها جيش مستقل ذاق منه الهنود الويلات والقتل والتدمير. وفي بداية النصف الثاني للقرن العشرين ظهر مصطلح سياسي ظريف هو (جمهوريات الموز) دلالة على هشاشة الأنظمة السياسية ومنشأ هذا المصطلح عندما قامت بعض شركات الفاكهة الأمريكية (مثل شريكة شيكويتا التي ارتبط اسمها وشعارها بأصابع الموز) في عام 1954 بالمساندة المالية والدعائية من خلال الاستخبارات الأمريكية في إسقاط حكومة غواتيمالا المنتخبة ديمقراطيا لأنها أرادت أن تحجم احتكار الشركات الأمريكية لتجارة الفاكهة بين الولايات المتحدة ودول أمريكا الوسطى.
والشيء بالشيء يذكر فإذا استطاعت شركات الموز الصغرى إسقاط الحكومات إلا تستطيع الشركات الكبرى مثل شركات البترول العملاقة أو شركات الأدوية من إسقاط الحكومات وتغيير الخارطة السياسية للدول وهذا بالفعل ما حصل قبل فضيحة الموز بسنة واحدة فقط عندما تأمرت الحكومات الغربية بالتعاون مع الاستخبارات الأمريكية والبريطانية بدعم مالي من شركة النفط الانجليزية والأمريكية مثل شركة موبيل  في التخطيط والتنفيذ لانقلاب عام 1953 في إيران والذي نتج عنه إسقاط حكومة رئيس الوزراء الإيراني المشهور محمد مصدق الذي كان يجهز لتأمم جميع شركات النفط التي تعمل في إيران. وعلى نفس النسق نجد حاليا أن شركة النفط البريطانية العملاقة PB لها تأثير سياسي كبير في إفساد ورشوة رجال السياسية في نيجيريا وغيرها من حكومات العالم الثالث. وفي امريكا اللاتينية مرة أخرى وليس بعيدا عن جمهوريات الموز توجد مؤشرات حاسمة أن شركة الاتصالات الامريكية الكبرى AT&T قد تعاونت مع الاستخبارات الأمريكية CIA في تدبير الانقلاب العسكري الدموي ضد رئيس دولة تشيلي الليندي المغدور به. 
على كل حال البعض يعتقد بوجود (حكومة العالم الخفية) المزعومة والخيالية ولو حصل وجودها يوما ما فلا أعتقد أنها ستكون إلا تحالف الشركات الاقتصادية العملاقة والأخطبوطية التي تعرف باسم (الشركات متعددة الجنسيات) والذي يصف بعضهم نشاطهم السياسي الاثيم بأنه (الاحتلال الصامت) للسياسة الدولية وطليعة موت الديمقراطية  ولكن هذا موضوع جدلي كبير يحتاج وقفة مستقلة ومقال خاص.


( العودة للمدارس .. لحظة كئيبة في طفولة عباقرة العلماء )

الضجر من الدراسة .. من  عمق الكآبة تولد العبقرية
د/ أحمد بن حامد الغامدي
(للجد أوقات وللهزل مثلها) هذا هو عذري الذي أبذله مقدما لقارئي العزيز إن كان من قطاع التعليم فهذا مقال مازح مشوب بشيء من الجد بعد أن كنت في أوائل الاجازة الصيفية قد كتبت مقال جاد مشوب بشيء من المزاح كان عنوانه (العلماء والاجازات .. بين الاسترخاء والهوس العلمي) اشرت فيه لطائفة من أخبار العلماء والمخترعين الذي طغى عليهم هوسهم العلمي للاستفادة القصوى من أوقاتهم حتى في اثناء عطلهم الصيفية وأعيادهم الدينية بل وحتى إجازاتهم السعيدة لقضاء شهر العسل. لا شك أن العالم والمخترع الذي لا يزال عقله يستمر في التفكير والتحليل العلمي حتى وهو يقضي اجازة صيفيه سعيدة في أحضان الطبيعة يجد لذة ذهنية (تعيده) إلى أجواء المختبر والابحاث العلمية ولكن كم من هؤلاء العلماء والمخترعين عندما كان في صباه وكان (يعود) للمدرسة كان يشعر بالراحة النفسية فضلا عن السعادة و (اللذة الذهنية).
بالرغم من أنني قلبا وقالبا مع مقولة الاديب الفرنسي البارز فيكتور هوغو عندما قال (من يفتح باب مدرسة يغلق باب سجن) وذلك للدلالة على الاثر الايجابي للمدرسة في المجتمع ولكن هذا لا يعني أن (البيئة المدرسية) في حد ذاتها أحيناً تكون كوقع السجن والمعتقل على نفسية بعض الطلاب.
الصورة النمطية للمدرسة والمعلم في الادب
جميعنا يعلم من واقع التجربة أن أجواء المدرسة تكون كئيبة وخصوصا في بداية السنة الدراسية بل أنها أحينا كئيبة حتى في بداية الاسبوع الدراسي الاعتيادي ولهذا طوال التاريخ الاسلامي كان يوم السبت يوم كئيب بامتياز لصبيان الكتاتيب. في إحدى المقامات الادبية لبديع الزماني الهمداني المسماة المقامة الدينارية يتخاصم ويتهارش شخصين حول ايهما الاولى بالحصول على دينار يستحقه فقط من يقذع في السب للشخص الاخر ولهذا قام أحدهما بسب صاحبه بقائمة طويلة من الشتائم كان منها ( .. يا بول الخصيان .. ويا سبت الصبيان).
ولمن يرغب معرفة التوصيف الادبي الراقي للحالة النفسية الكئيبة للطلاب في اثناء الدراسة فعلية بقراءة كتاب (الايام) الذي يسرد فيه  الاديب المصري الشهير طه حسين قصة حياة والتي منها معاناته الكئيبة والمحزنة مع شدة معلمه شيخ الكتاب القاسي الطباع أما الروائي الانجليزي العالمي تشارلز ديكنز فقد ابدع في واحده من أوائل رواياته الادبية في توصيف قسوة مدير مدرسة في منطقة يوركشاير ضد الطلاب المساكين. المقلق حقا أن البيئة المدرسية ليست كئيبة فقط ولكنها أحيانا تكون عنيفة وخطرة ولهذا كانت أول رواية أدبية لكاتب قصص الرعب والغموض الروائي الامريكي الشهير ستيفن كنج هي رواية ثورة الغضب Rage وهي رواية تصف حالة العنف والغيظ لأحد طلاب الثانوية الذي يتعدى بالأذى والقتل لمعلميه ولزملائه الطلاب.
منذ زمن الجاحظ اشتهرت مقولة السوء أن (معلم الصبيان) تصيبه الغفلة ولهذا أكثر الجاحظ من ذكر نوادرهم وعجائب تصرفات بعضهم ولهذا لا عجب أن الاديب المصري الكبير نجيب محفوظ في رواية (زقاق المدق) يجعل شخصية معلم الانجليزي الشيخ درويش انسان يعيش في غيبوبة عمن حواليه وإذا تكلم نطق باللغة الانجليزية وقام بتهجئة بعض كلماتها حرفاً حرفاً مما يثير عليه سخرية الحاضرين. وبسبب المصير المأساوي للمعلم رفض سي السيد أحمد عبدالجواد في رواية نجيب محفوظ (قصر الشوق) أن يلتحق ابنه الاصغر كمال بمدرسة المعلمين العليا ليتخرج مدرساً وهنا كان الرد حاسما من قبل الاب المتسلط (عاوز تبقى خوجة دي شغلانة الغلابة، عمرك شفت خوجة عملوا له تمثال !!).
 كل عبقري مغبون في مدرسته
عندما بالغ الجاحظ في زعمه بأن معاشرة الصبيان سبب للغفلة أيد قوله بأنه عندما قام باستقراء أحوال المعلمين فأنه وجد (أن هذا الشيء قل أن يخطئ ونراه مطردا) وبالرغم من أنني أخالف الجاحظ جملة وتفصيلا في نظرته الشنيعة للمعلمين إلا أنني وبعد استعراض سيرة عدد كبير من العلماء والمخترعين اتضح لي أن البيئة التعليمية (قديما وحديثا) غالبا لا تحسن (اكتشاف) ولا (التعامل) مع العباقرة والموهوبين ولذا كثيرا ما يتم استصغار هؤلاء النوابغ وإذا كان (كل نبي مكذبٌ في قومة) فللأسف يبدو أن (كل طالب عبقري مغبون في مدرسته) وهذا الشيء قل أن يخطئ ونراه مطردا !!.
من ذلك مثلا أن العالم الشهير اينشتاين كتب أحد معلميه في سجله الدراسي (بأنه لا ينفع لشيء) وقبل ذلك بقرون قامت والدة عملاق العلوم اسحاق نيوتن بإخراجه من المدرسة وهو في سن المراهقة بعد أن اشتكى منه مدير المدرسة والمدرسون من أنه غير مهتم بالدراسة وعلى نفس النسق كان تقرير مدير المدرسة الثانوية التي يتعلم فيها العالم الانجليزي المعروف تشارلز دارون (أنه أحمق) وذلك بعد سبع سنوات قضها في تلك المدرسة. وهذا المخترع الاسكتلندي جون بيرد مخترع التلفزيون في اثناء تعليمه المدرسي إعتاد بعض معلميه بوصفه بأنه بطيء التفكير وعنيد بينما المخترع الامريكي الاسطورة توماس أديسون منذ البداية ضاق ذرعا بالدراسة فتخلى عن التعليم بعد ثلاثة أشهر فقط عندما عنفه أحد المعلمين وايضا نجد أن المخترع البريطاني ريتشارد تريفثيك أحد أوائل مخترعي المحرك البخاري والذي ساهم في إطلاق الثورة الصناعية يصفه مدير مدرسته بأنه (مخيب للآمال وولد سيء وغير منتبه).
وبالعودة لموضوع الاحساس بالكأبة والملل في المدرسة نفهم لماذا تم توصيف هؤلاء العلماء والمخترعين وغيرهم كثير من قبل معلميهم بأنهم (غير منتبه وغير مهتم بالدراسة ودائم الغياب وطالب سيء... الخ) والسبب في ذلك أن هؤلاء العباقرة والموهوبين لا تستثير فضولهم واهتمامهم الطريقة التقليدية في التعليم القائمة على الحفظ والتلقين ولهذا سرعان ما يشعرون بالملل والشرود الذهني فالمشكلة ليست في (صعوبة التعلم) لديهم بقدر ما هي في (رتابة التعليم) لدى مدرسيهم.
 الغريب في الامر أن البيئة التعليمة ليست فقط لم تستطع أن تستوعب هؤلاء العباقرة والعلماء بل اتجهت احيانا بشكل فعلي لإخراجهم وطردهم من المدرسة فليس فقط نيوتن من طلب معلموه من أهله أن يخرجوه من المدرسة فهذا اينشتاين ايضا نصح بشدة بترك المدرسة بل يقال أنه في الواقع فصل من المدرسة وهو بسن السادسة عشرة. وهذا الفيزيائي الفرنسي رونتجن مكتشف أشعة أكس وبالرغم من أنه حفظ له مكانه مرموقة في التاريخ حيث كان أول عالم يحصل على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1901 ومع ذلك كانت بداياته التعليمة غير مشجعة على الاطلاق حيث طرد expelled  من المدرسة الثانوية التي كان يدرس بها. وكان الطرد من المدرسة الثانوية بسبب الغياب المتكرر مصير العالم البريطاني فردريك هوبكنز مكتشف الفيتامينات والحاصل على جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا عام 1929.
 الفشل الدراسي محطة في طريق العباقرة
قديما قيل لكل جودٍ كبوة ولكل فارسٍ نبوة ويمكن أن نضيف (ولكل عبقري هفوة) وبما أن حديثنا موصول بمعاناة بعض عباقرة العلوم والاختراعات مع المدرسة والتعليم فيوجد ملمح تربوي مهم في هذا الشأن أن (الفشل الدراسي) لأي طالب ليس نهاية المطاف ولا يعني ضياع المستقبل فكم وكم من قصص وأخبار مشاهير العلماء والمخترعين الذين تجرعوا في مرحلة ما من طفولتهم أو شبابهم الفشل والاخفاق الدراسي ولكن كان مئال حالهم كما يقال (السقوط مسموح .. أما النهوض فواجب).
لسبب أو آخر يفشل بعض الطلاب في تعليمهم الدراسي وربما ذلك ناتج عن تشتتهم الذهني أو بسبب تعرضهم للمرض أو لحالة نفسية مصاحبة لوفاة أحد الوالدين أو حتى بسبب الفقر والحاجة وهذا بالضبط ما نجده في أخبار بعض مشاهير العلماء الذين تعرضوا للفشل الدراسي في بداية حياتهم. عالم الكيمياء ليونس باولنغ يعتبر أهم عالم كيمياء أمريكي على الاطلاق في القرن العشرين والحاصل على جائزة نوبل مرتين في الكيمياء وفي السلام لكن في أوائل شبابه عندما تعرضت اسرته لضائقة مالية طاحنة نتج عن ذلك انسحابه من الدراسة الثانوية من دون شهادة ونفس الأمر حصل مع العالم البلجيكي ألبيرت كلود الحاصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1974 حيث نجده في طفولته قد أجبرته ظروفه العائلية أن يترك الدراسة في الصف الثالث الابتدائي ليعمل في أحد المصانع وإن كان لاحقا عندما دخل الجيش أتيحت له الفرصة ليكمل مشواره العلمي. وعلى نفس النسق تعرض عالم الكيمياء البريطاني السير ديرك بارتون الحاصل على جائزة نوبل عام 1969 لهزة أسرية حادة بوفاة والده مما اضطره لترك المدرسة في سن السابعة عشر ويتوجه للعمل في مهنة النجارة.
في زمننا الحالي نقلق وننزعج كثيرا من تعرض أبنائنا لبعض الصعوبات في الحصول على مقعد جامعي ملائم بسبب أن نتائجهم في اختبارات القدرات أو التحصيلي ليست عالية ولكن بالقطع هذه العقبة لا تعني بالضرورة انتهاء فرصهم للتفوق والتميز. وبما اننا في وارد ذكر أخبار معاناة بعض مشاهير العلماء مع التحصيل الدراسي تجدر الاشارة إلى أن بعض العلماء واجهوا مشاكل حقيقية في تحقيق (متطلبات وشروط القبول) لدخول الجامعات الاكاديمية في بلدانهم. سبق أن ذكرنا أن العالم الفرنسي رونتجن مكتشف اشعة أكس كان أول عالم فيزياء في التاريخ يحصل على جائزة نوبل في الفيزياء ونضيف هنا معلومة أن طريقة العلمي لم يكن مفروشا بالورد ففي بداية حياته أخفق في اختبار الدخول لجامعة أوتريخت الهولندية بل أن الوضع كان أكثر سوءا للعالم الفرنسي الأكثر شهرة لويس باستور الذي فشل في البداية في اختبارات القبول في أكثر من جامعة إحداها جامعة صغيرة في شمال فرنسا. مرارة (مرمطة) الحصول على القبول الجامعي ذاقها عالم فرنسي ثالث هو عالم الكيمياء هنري ماوسن مكتشف عنصر الفلور والحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1906 وبالرغم من هذا المجد العلمي إلا أنه في بداية شبابه أخفق أكثر من مرة في اجتياز الاختبار المطلوب لدخول جامعة السوربون. المخترع الايطالي الشهير ماركوني تمكن من اختراع جهاز الراديو وهو في سن 21 وحصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1909 وهو في سن 35 ومع هذا التميز العلمي الملحوظ إلا أنه خيب أمل والده في أوائل شبابه عندما لم يتمكن من تحقيق التسجيل في الجامعة.
 ليس بالشهادة الجامعية وحدها يحيا الانسان
مقومات الحياة الكريمة وتحقيق الذات كثيرة ومتشعبة فقديما نقل عن السيد المسيح قوله (ليس بالخبز وحده يحيا الانسان) وحديثا نستشف من استقراء حياة الشباب أنه ليس بالشهادة الجامعية يتفوق الشاب الطموح والمثابر. وبعد أن سردنا أخبار وأقاصيص متنوعة عن معاناة بعض أساطين العلوم والتقنية وفشلهم المؤقت في التعليم العام لذا لا غرابة أن نجد أخبار اضافية أن بعض كبار رواد العلوم والتقنية فشلوا واخفقوا في إكمال دراساتهم الجامعية ومع ذلك ساروا بنجاح في دروب الحياة. فهذا مثلا أسطورة العلم جاليليو جاليلي بدأ دراسة الطب في جامعة بيزا الايطالية وبعد أربع سنوات أخفق في دراسته وترك الجامعة بدون الحصول على أي شهادة وكذلك أخفق في دراسة الطب العالم الانجليزي الشهير تشارلز داروين حيث بدأ دراسة الطب في جامعة أدنبره لكنه لم يتأقلم كثيرا من الدراسات الطبية وترك الجامعة مسببا حرجا وخيبة أمل كبيرة  لوالده الذي كان أصلا طبيب. قد تكون دراسة الطب صعبة المنال لكن في المقابل نجد أن عالم الفلك البارز نيكولاس كوبرنيكوس أحد رواد العلم الحديث (صاحب نظرية مركزية الشمس للكون) يلتحق بكلية الفنون بجامعة صغيرة تدعى جامعة كراكاو ببولندا وبالرغم من سهولة تخصصه الاكاديمي إلا أنه يغادر الجامعة بعد اربع سنوات دون الحصول على شهادة جامعية.
وكما هو متوقع في أمور حياتنا المعاصرة بعض الشباب الجامعي يفشل في إكمال الدراسة ليس بسبب إهماله الشخصي ولكن قد يكون المانع ظروف اجتماعية أو صحية أو مالية قاهرة وهذا ما حصل مع الكيميائي البريطاني البارز هنري كافنديش مكتشف عنصر الهيدروجين حيث نجده وبعد أن قضى أربع سنوات في جامعة كامبريدج يترك الجامعة بدون أي شهادة وسبب ذلك أنه كان مصاب بمرض نفسي يسبب له الشعور بالخجل الشديد والانطواء والتوحد. ومن علم الكيمياء ننتقل لعلم الفيزياء لنجد أن العالم والفيزيائي الالماني الشهير جورج أوم صاحب قانون اوم في علم الكهرباء بعد بداية دراسته الجامعية أضطر لترك الجامعة بسبب مشاكل مالية في تأمين مصاريف الحياة.
وختاما أكرر اعتذاري للعاملين في قطاع التعليم على ما يكون قد بدر بأنه انتقاص (للمنظومة التعليمية) لكن ما سبق لا يعد شيئاً إذا قورن بانتقاد بعض مشاهير المفكرين والعلماء والادباء للتعليم في بلدانهم. في بداية القرن العشرين كان التعليم الانجليزي يعتبر قمة الأصالة في الجودة في حين أن التعليم الامريكي يعتبر قمة المعاصرة في التطوير نتيجة لنظريات الفيلسوف وعالم النفس الامريكي جون ديوي ومع ذلك لم يتردد علم الرياضيات والفيلسوف الانجليزي الحاصل على جائزة نوبل بيرتراند راسل في نقد التعليم الانجليزي بقوله (يولد البشر جاهلين ولكنهم لا يولدون أغبياء، ثم يصبحون اغبياء بفضل التعليم) أما نقد اشهر وأهم أديب أمريكي مارك توين للتعليم في بلده فلخصه بقولة (لم أسمح قط لتعليمي الدراسي أن يشوش على ثقافتي) ومن هذا وذاك أترك لك قارئ العزيز الحكم على تعليمنا المعاصر.
 لفهم أفضل لمقدمة هذا المقال الرجاء التفضل بزيارة مقال سابق بعنوان  (العلماء والاجازات .. بين الاسترخاء والهوس العلمي) على الرابط التالي


الاثنين، 10 أكتوبر 2016

( بلاد وشعوب انحسر عنها حكم الاسلام )

أرض (الفردوس المفقود ) ليست فقط الاندلس
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
(ما ينسى لا يؤسف له) عبارة قاسية لكنها واقعية فكما أن ما هو بعيد عن العين بعيد عن القلب فكذلك كل ما هو بعيد عن الذاكرة بعيد عن العاطفة. جال ببالي هذا الأمر بعد زيارتي الأخيرة لأرض الأساطير والتاريخ في سمرقند وطشكند فحين كانت شعوب الجمهوريات الاسلامية في وسط أسيا بعيده عن العين خلف أسوار الستار الحديدي الشيوعي كانت للأسف منسية ومغيبة من الوعى العربي والاسلامي. وبفضل من الله تغير هذا الأمر كثيرا فبعد سقوط الاتحاد السوفيتي المهين قبل حوال عقدين ونصف من الزمن (تذكر) العرب أخوتهم في الاسلام في بلاد ما وراء النهر وتوثقت مرة أخرى أواصر الاخوة الاسلامية بيننا وبينهم بعد أن زال الكبت والطغيان (جزئيا على الاقل) عن اشقائنا في تركستان الغربية وتجددت قنوات التواصل معهم. وإن كان في المقابل الحال على ما هو علية مع أخوتنا في الدين في تركستان الشرقية (أقليم سنجان الصيني) الذين يتعرضون لجرائم النظام الشيوعي الصيني الممزوجة بالنسيان والتجاهل التام من الحكومات والشعوب الاسلامية على حدا سواء. 
للمصلحة الاستراتيجية العامة ينبغي أن تبقى ذكرى وأخبار الشعوب الاسلامية المنسية حاضرة ومتأججة في الذاكرة لا لشيء إلا لكي نعتبر ونستفيد من الحكمة الفرنسية البليغة التي تقول (الذي له ذاكرة سيئة يكرر نفس الاخطاء). إذا علمنا أن بلدان وشعوب حكمها الاسلام لقرون زمنية طويلة (استقر الاسلام في الاندلس لمدة ثمانية قرون وأطول من تلك الفترة في الهند وسيطر العثمانيون على اليونان لمدة أربعة قرون) ثم أنحسر عن تلك البلدان حكم الاسلام وأصبح حال الشعب المسلم فيها كما قال المتنبي (غريب الوجه واليد واللسان). ولذا العاقل من اتعظ بغيرة وحرص ألا يكرر الاخطاء مرة ثانية عن طريق الاحتراب الداخلي والوقوع في مخططات الاعداء التي قد تورث تفجع الشاعر الاسلامي الكبير محمود غنيم عندما تأسف على حال الاسلام والمسلمين:
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها      وبات يحكمنا شعب ملكناهُ

غزوة روما ومعركة موسكو .. التاريخ المنسي
أعجوبة الفتوحات الاسلامية لا تقف عند سرعة انتشارها ولكن الأعظم من ذلك كان ذاك الاتساع الهائل للرقعة الجغرافية التي امتدت عليها حتى وإن كان الحكم الاسلامي قد أنحسر لاحقا عن بعضها. جميعنا تقريبا نعلم أن الفتوحات الاسلامية في صورتها العثمانية وصلت إلى قلب أوروبا عندما توقفت تحت أسوار مدينة فيينا عاصمة النمسا ولكن كم منا يعلم أن محاولات الفتح الاسلام تمكنت يوما ما من التاريخ من إقتحام عواصم دولية أخرى هامة مثل موسكو وروما وأثينا. ففي عهد السلطان التركي سليم الثاني في نهاية القرن السادس عشر دخل العثمانيون مدينة موسكو بعد معركة دامية نتج عنها حرق قصر الكريملين وعدد  من أحياء المدينة. وعلى ذكر سلاطين الاتراك فإن السلطان محمد الفاتح له كامل التقدير حتى وإن كان قد فشل في أن يضيف لنفسه لقب فاتح روما بعد فتحه للقسطنطينية حيث أنه كان قد قام بإرسال حملة عسكرية احتلت جنوب الساحل الايطالي إلا أن السلطان لم يتمكن من أن يبر بقسمه بأن يربط حصانه في كنيسة القديس بطرس بروما وسرعان ما انسحب الجيش التركي مباشرة بعد وفاة الغازي محمد الفاتح. ومع ذلك ضاع من الذاكرة الاسلامية أن الجيوش العربية ممثلة في دولة الاغالبة (التي كانت تحكم تونس وأغلب مناطق المغرب العربي في القرن الثالث الهجري) تمكنت من غزو روما قبل محاولة العثمانيين الفاشلة بستة قرون كاملة. لقد تمكنت الجيوش العربية في عام 232 هجري ليس فقط من غزو مدينة روما  بل تمكنوا من أن يعودوا بالغنائم التي أخذوها من كنيسة القديس بولس ثاني أهم كنيسة في روما وعندما كررت الجيوش العربية غزو روما للمرة الثانية عام  256 أضطر البابا يوحنا الثامن أن يقبل أن يدفع الجزية ليحول دون دخول الجيش العربي للمدينة المقدسة وحاضرة الفاتيكان.
كما هو معلوم من العلوم السياسية والعسكرية قد تكون بعض التحركات القتالية هي فقط لإظهار النفوذ العسكري وليس بهدف الاقامة الدائمة والفتح المستقر وهذا ربما يفسر عدم استدامة الفتح الاسلامي لمدن كبرى مثل موسكو وروما. ولكن في المقابل استمر احتلال الفتح الاسلامي لعاصمة أوروبية هامة قرون طويلة وهذا ما حصل لسيطرة الخلافة العثمانية على الجزر اليونانية وعاصمتها أثينا لمدة قاربت الاربع قرون من الزمن. وقبل أن نغادر ذكر العواصم الاوروبية الكبرى وعلاقتها بالفتح الاسلامي تجدر الإشارة إلى أن مدينة باريس كانت معرضه لأن تصلها طلائع الجيوش الأموية لو انتصر القائد المجاهد عبدالرحمن الغافقي في معركة بلاط الشهداء حيث لم تكن تبعد باريس إلا أقل من 300 كيلومتر عن مدينة بواتييه الفرنسية التي تقع عل سهل وادي اللوار والذي يحقق الوصول السريع لمدينة باريس. وإذا كانت معركة بلاط الشهداء حصلت في عام 114 هجريه فبعد ذلك بحوالي نصف قرن فقط عاش في مدينة لندن الملك البريطاني أوفا ركس Offa Rex الذي يعتبر أحد ألغاز التاريخ حيث توجد (أسطورة) تقول بأنه كان قد أعتنق دين الاسلام بدلالة أنه كان يصدر ويسك قطع نقود ذهبية عليها أسمه كما كتب عليها باللغة العربية كلمة الشهادة وجزء من أيه قرآنية كريمة.
قد تكون مصادفة وجود كلمات عربية على عملة نقود بريطانية لا تعني على الاطلاق وجود أثر حقيقي لدين الاسلام على عاصمة مملكة الانجليز ولكن في المقابل عندما نجد دول هي حاليا خارج نطاق الدول الاسلامية ونجد أن اسماء عواصمها هي عبارات وكلمات عربية فهذا ولا شك يدل بجلاء أنه كان للإسلام تأثير عميق في تاريخ هذه الدول. من ذلك مثلا أن عاصمة دولة تنزانيا الافريقية اسمها هكذا (دار السلام) بينما اسم العاصمة الفلبينية مانيلا هي تحوير للكلمة العربية (آمان الله) وكلا هاتين الدولتين وصلهما الاسلام وانتشر عن طريق التجار العرب ففي الفلبين تأسست مملكة إسلامية في القرن التاسع الهجري كان ملوكها من العرب الاشراف بينما عراقة الحضور العربي لا تقل أصالة في تنزانيا وعاصمتها دار السلام التي هاجر إليها العرب منذ قرون الاسلام الاولى حتى حكمها آخر سلاطين عمان قبل قرنين من الزمن.
الفردوس المفقود .. الاندلس وأخواتها
يا سادة فيما سبق تطرق الحديث لكبرى الحواضر المدنية والعواصم الدولية التي وصلها حكم الاسلام وإن كان لفترات زمنية قصيرة وفيما تبقى من المقال سوف نشير (لقائمة الدول) التي حكمها الاسلام لفترات من الزمن تتفاوت في طولها ما بين العقود المفردة والقرون المتعددة. سبق أن ذكرنا بأن جيوش دولة الاغالبة اقتحمت روما وفي نفس هذه الفترة الزمنية تم تحويل أسم البحر الابيض المتوسط من (بحر الروم) إلى (البحيرة الاسلامية) حيث تمكن أمراء الاغالبة من بناء اسطول بحري قوي ساعد في استكمال السيطرة الاسلامية على ثلاثة أرباع البحر الابيض المتوسط ليستمر الحكم الاسلامي لجزر قبرص وصقلية ومالطا وكريت لقرون طويلة.  ولإكمال الطوق البحري حكمت الجيوش العربية معظم سواحل الريفيرا الايطالية وجنوب البر الايطالي لمدة ثلاثين سنة بينما توغل المسلمون لسنوات طويلة في أغلب أراضي ومدن جنوب فرنسا وطبعا حكم الاسلام لقرون طويلة السواحل الاسبانية والبرتغالية.
 هذا ما كان في جنوب أوروبا أما قصة الفتح الاسلام في شرق أوروبا فيكفي أن نعرف أنه في التاريخ الاسلامي في فترة الخلافة العباسية كان مصطلح (أرض الثغور) يقصد بها غالبا البلاد الاسلامية في أقصى الشمال الشرقي مثل دول جورجيا وأرمينيا وشبه جزيرة القرم بل كانت توجد مملكة اسلامية مستقلة في سيبيريا الروسية. أما قمة ازدهار توسع الحكم الاسلامي في القارة الاوروبية فكان بلا منازع زمن الخلافة العثمانية حيث استقر الحكم العثماني لعقود طويلة وربما لقرون على أغلب دول أوروبا الشرقية مثل مقدونيا ورومانيا وبلغاريا وكرواتيا وصربيا والمجر بالإضافة لليونان كما سبق الاشارة إليه. أما الحال في شمال اوروبا فتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن توغل الجيوش العربية وصل بها للسيطرة على الاراضي الملاصقة لنهر الرون في سويسرا وصولا إلى مشارف بحيرة جنيف. في حين أن الامر الاكثر شهرة للجميع أن الجيوش العثمانية قد غزت وحاصرت مدينة فيينا مرتين وموقع معسكر الجيش التركي ما زال معروفا حتى اليوم وعندما زرته بنفسي وجدته في منتصف مدينة فيينا بعد أن توسعت كثيرا خلال القرون الماضية مما يجوز لنا القول بأن الاتراك بالفعل قد أحتلوا أكثر من نصف مدينة فيينا الحالية.
وكما تم تسمية البحر الابيض المتوسط بالبحيرة الاسلامية نجد أن شرق أفريقيا أو دول القرن الافريقي سميت في حين من الدهر (بدول الطراز الاسلامي) لوجود عدد من السلطنات والامارات الاسلامية ذات الاصول العربية التي شكلت المعالم الحضارية واللغوية لتك المنطقة (اللغة السواحيلية هي خليط من اللغة العربية واللغة الافريقية). وبالرغم من تجذر الوجود الاسلامي لعدة قرون في شرق افريقيا إلا أنه للأسف وعلى العكس من استمرار الحكم الاسلامي في شمال وغرب أفريقيا انحسر حكم الاسلام بشكل غريب عن بعض دول شرق افريقيا مثل الحبشة واريتيريا وكينيا وتنزانيا وموزمبيق كذلك جزيرة مدغشقر ولهذا لا عجب أن يتفلت الحكم الاسلامي أيضا من دول وسط افريقيا مثل أوغندا والكاميرون والتي بدورها كانت تحت المظلة السياسية الاسلامية لفترة من الزمن.
وختاما بعد هذا التطواف شرقا وغربا فالأيام دول يتذبذب خلالها حال الاسلام وأهله ما بين النصر والهزيمة والقوة والضعف فإذا كان حال أهل الاسلام الآن في أدنى القاع من الذلة والمهانة فإن وعد الله ناجز لا محالة بإعادة النصر والتمكين لهذا الدين. وأن شاء الله تتحقق النبوة الشريفة أنه (لا يبقى بيت مدر ولا شجر إلا دخله الاسلام بعز عزيز أو ذل ذليل) والوعد الرباني للصادق المصدوق (إن الله زوى لي الارض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سوف يبلغ ملكها ما زوى لي منها). بل أن بعض الاحاديث الشريفة عن أحوال آخر الزمان تشير لفتح روما (وإعادة) فتح القسطنطينية (إسطنبول) بالتكبير فقط وهو ما يشير بأن سنة الله جارية في أن يكسب الاسلام بعض البقاع ويخسر بعضها علما بأننا بالفعل قد سبق لنا وأن خسرنا اسطنبول عندما تعرضت في نهاية الحرب العالمية الاولى للاحتلال الانجليزي والفرنسي. والجدير بالذكر أن دخول الحلفاء الاوروبيون لعاصمة الخلافة الاسلامية اسطنبول كان مصحوبا باستعراض عسكري لطوابير جنودهم وقطعهم البحرية للمبالغة في الاهانة المعنوية للامة الاسلامية المنهزمة وهو ما لم يحصل مثله عند سقوط دمشق أو القاهرة أو بغداد تحت حكم الاعداء الغربيين. بقي أن نقول أن كل الدول المذكورة بالأعلى (باستثناء الهند وإقليم سنجان الصيني) والتي خرجت من ربقة الاسلام هي إما دول مسيحية خالصة أول دول ذات جالية مسيحية ساهم الاستعمار الغربي في انحسار حكم الاسلام عنها ولذا غالب مصائبنا في الماضي والحاضر والمستقبل من (الروم ذات القرون) وفهم العدو فأحذرهم.


( أحمد زويل .. كولومبوس العلم التائه في السياسة )


الدكتور زويل والدكتور باولنغ .. جمعهم العلم وجائزة نوبل وفرقتهم السياسة
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
لا خلاف أن الدكتور أحمد زويل يعتبر أبرز شخصية علمية عربية ومسلمة في العصر الحديث ومن واقع رصدي للمجتمع العلمي الدولي تابعت في مواقف متعددة مدى التقدير البالغ للمجتمع العلمي الغربي لأحمد زويل بحيث اصبح أحد أبرز الايقونات العلمية الحديثة حيث له المكانة المقدمة في أي مؤتمر علمي دولي يحضره. وفي العديد من الكتب العلمية التي تؤرخ لتطور العلم يذكر اكتشاف أحمد زويل (في كيمياء الفمتو ثانية) متلازما لكبرى الاكتشافات والاختراعات العلمية ولهذا أطلق عليه بعضهم بأنه (كولومبوس الاكتشافات العلمية الحديثة) فكما أكتشف كريستوفر كولومبوس الأرض الجديدة أكتشف أحمد زويل آفاق علمية بكر وغير مؤهلة علميا.
 ومع ذلك وبكل تجرد لا شك أن أحمد زويل وإن كان قد كسب الكثير بسبب العلم لكنه كاد أن يخسر أغلب رصيده وثقله الاجتماعي بسبب السياسية التي لم يكن فيها ملاح ماهر ولم يصل فيها إلى ارض جديدة فهو وإن كان (كولومبوس في العلم) إلا أنه كان (روبرت سكوت في السياسة) فهو أشبه بالرحالة والمغامر البريطاني الكابتن روبرت سكوت الذي (تاه) في إحدى رحلاته للقطب الجنوبي وبهذا هلك وأهلك من معه في صحراء السياسة الجليدية.
المنصب الرسمي للدكتور أحمد زويل في جامعة كالتك (إحدى أعرق الجامعات الامريكية على الاطلاق) هو أنه أستاذ كرسي ليونس باولنغ وهو كرسي الابحاث المتقدمة جدا في مجال الكيمياء الفيزيائية والذي تم تكريم عالم الكيمياء الامريكي البارز ليونس باولنغ بإطلاق اسمه على هذا الكرسي. صحيح أن أحمد زويل وليونس باولنغ جمعهم العلم فكلا منهما حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لكن الاختلاف في المواقف السياسية بينهما عميق وحاد حيث أن باولنغ حصل كذلك على جائزة نوبل للسلام بينما أحمد زويل وقع في طوام سياسية مؤسفة.
لعل أول (موقف سياسي) صادم أتخذه الدكتور أحمد زويل (الطامح في حينها للعالمية) هو قيامه بزيارة إسرائيل وإلقاء كلمة في الكنيست (البرلمان) الاسرائيلي وذلك في عام 1993 وبهذا يكون هو ثاني مصري على الاطلاق (بعد الرئيس السابق أنور السادات) يلقي كلمة في الكنيست الاسرائيلي. وكان ذلك عندما قبل أحمد زويل أحدى الجوائز الاسرائيلية المشهورة وهي جائزة وولف التي تمنح في عدة تخصصات علمية وأدبية وبحكم أنه من تقاليد هذه الجائزة أن يقوم الشخص الفائز بإلقاء كلمة في الكنيست الاسرائيلي وأن يستلم الجائزة من رئيس الحكومة الاسرائيلية.
يبدو أن الدكتور أحمد زويل تم استغلاله بمعرفته أو بعدم رضاه في موجة التطبيع مع الكيان الصهيوني أثناء سنوات التسعينات من القرن العشرين مما أثار عليه نقمة وسخط في المجتمع المصري في ذلك الحين. ولهذا عندما حصل زويل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 وكنت وقتها ادرس الدكتوراه في إحدى الجامعات البريطانية تفاجأت من موقف أحد الزملاء الافاضل من طلبة الدكتوراه المصريين الذي لم يكن فخورا بحصول زويل على تلك الجائزة العلمية المرموقة لأنه يعرف الثمن السياسي الذي دفعه أبن بلده ليحصل عليها.
صحيح أن شرائح من الطبقة المثقفة والمتعلمة المصرية لم تكن راضية عن (التاريخ القديم) للدكتور أحمد زويل لكن في المقابل سرعان ما تم غفران تلك (الزلة السياسية) للدكتور زويل بل وصلت درجة (المكانة والثقل السياسي) للدكتور زويل في المجتمع المصري حدها الاقصى عام 2005 عندما حصلت انتخابات رئاسية تنافسية لأول مرة في جمهورية مصر العربية بعد أكثر من 24 سنة من حكم الرئيس المصري حسني مبارك شبة المطلق للبلد ولهذا أراد العديد من المهتمين بالسياسة حشد أكبر عدد ممكن من الشخصيات المرموقة في المجتمع المصري لتقوم بمنافسة الرئيس مبارك. وبعد تدشين حملة في الانترنت لتجميع الاف التواقيع الداعمة لأحمد زويل سافرت بعض الوفود إلى الولايات المتحدة  لتقنع الدكتور أحمد زويل بالترشح ضد الرئيس مبارك و بالرغم من الاتصالات المتعددة و المحاولات المتنوعة إلا أن الدكتور زويل أعتذر عن الترشيح والانخراط في السياسة. والجدير بالذكر أن أحمد زويل في تلك الفترة لم يرفض تماما المشاركة السياسية وإنما لمح بأن وقتها لم يحن بعد وأنه ربما يتوجه لها لاحقا وفي الوقت المناسب.
وبالطبع لم تكن الفرصة السياسية مناسبة للدكتور أحمد زويل أكثر ملائمة منها بعد ثورة 25 يناير التي غيرت بشكل ملموس الواقع السياسي في مصر ولهذا وبشكل مفاجأ أصر الدكتور أحمد زويل أن يكون في مصر بعد تنحي الرئيس مبارك مباشرة وكما ذكر بنفسه أنه لم يجد رحلة طيران مباشرة لمصر ولهذا اضطر للمرور بأكثر من دولة ليصل مصر مهما كلف الأمر. يبدوا أن أحمد زويل في تلك الفترة كان يبحث (عن موطئ قدم سياسي ما) ولهذا وجه أحمد زويل في عام 2011 بعد ايام من تنحية مبارك رسالة صوتية للشعب المصري حرص بنفسه أن يتصل بكبرى القنوات لفضائية  المصرية (ومنها قناة العربية !!) لضمان وصول صوته من خلالها وقد دعى زويل في هذه الرسالة لأمر غير مسبوق في نطاق السياسية العربية حيث طالب (بتشكيل لجنة حكماء لإدارة أمور البلاد في مصر). وبعد أن كان أحمد زويل اثناء الانتخابات الرئاسية عامي 2005 و2010 وقت الحكم الاستبدادي للرئيس حسني مبارك يصرح بأنه لا طموح سياسي له وأنه يريد أن يخدم مصر كعالم فقط، إذا به بعد اسبوعين من سقوط حسني مبارك يصرح في ندوة علمية إعلامية بفندق الماريوت في القاهرة (بأن المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقه جعلته يدخل في مرحلة التفكير في الترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة).
وكما هو معلوم لم يترشح الدكتور أحمد زويل في الانتخابات المصرية الرئاسية عام 2012 لأنه وبعد سنة ونصف من حكم المجلس العسكري (وتوليه زمام أمور البلاد) لا شك ان أحمد زويل قد فهم ابعاد اللعبة السياسية وأنه لم يتغير منها شيء بخصوص تجذر الدولة العميقة وعدم قبولها بتغيير طريقة  واسلوب الحكم القديم الاستبدادي. ولهذا نجد الدكتور أحمد زويل يجامل الحكم العسكري الانقلابي في مصر كما كان يجامل الحكم الاستبدادي في زمن المخلوع حسني مبارك. ولهذا شارك أحمد زويل في الصفوف الاولى في حفل تنصيب الجنرال العسكري السيسي كما شارك في حفل تدشين تفريعة قناة السويس وغيرها من اجتماعات السيسي مع المثقفين والاعلاميين.
على كل حال لعله من تسطيح الأمور ان يطلب أي شخص من الدكتور أحمد زويل أن يكون (معارض سياسي) لكن كان العشم أن يكون متسق ومتوازن مع نفسه فإذا لم يكن متاح الوقوف في وجه الظلم فلا اقل من الحذر من الوقوع في خطيئة تأييد الباطل. في عام 2004 شارك الدكتور أحمد زويل 62 عالم أمريكي (بينهم 20 عالم من الحاصلين على جائزة نوبل) في توجيه رسالة اتهام لإدارة الرئيس الامريكي الاسبق جورج بوش بأنها تعمدت الاضرار بالمعارف العلمية في مقابل تحقيق أهداف سياسية بينما لم نسمع أي صوت اعتراضي للدكتور زويل حيال فضيحة جهاز الكفتة الطبي لعلاج الايدز الذي تبنته الدولة المصرية بقضها وقضيضها. وفي عام 2003  قام 41 عالم امريكي جميعهم من الحاصلين على جائزة نوبل وكان من ضمنهم الدكتور أحمد زويل بتوقيع عريضة احتجاجية ضد الحرب الامريكية (المحتملة) على العراق حيث أنه في ذلك الوقت لم تكن الحرب قد بدأت فعلا. وبعد أن كان الدكتور زويل يعترض على ويلات الحرب (المحتملة) لم يصدر له أي اعتراض من أي نوع على الاستبداد والقتل والقمع والفساد والافساد الذي نتج من حكم العسكر الانقلابي.
ولنختم الان بذكر المفارقة جراء عملية المقارنة بين المواقف السياسية للدكتور أحمد زويل وبين عالم الكيمياء ليونس باولنغ الذي كان أحمد زويل يشغل منصب استاذ كرسي الابحاث المسمى باسم ذلك العالم. بلا منازع يعتبر ليونس باولنغ أهم وأعظم عالم كيميائي أمريكي في القرن العشرين ولهذا حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1954 ولكنه ايضا حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1962 وذلك نظير جهوده الداعية لمنع وحذر إجراء التجارب النووية. ولعله من الطريف ذكر حادثة غريبة حصلت للعالم الكيميائي ليونس باولنغ تدل على ثباته على مبادئه السياسية وقناعاته الفكرية وعدم مجاملته للسلطة الحاكمة.  فقبل حصول باولنغ على جائزة نوبل للسلام كان الرئيس الامريكي جون كيندي قد قرر أن تستمر بلاده في إجراء التجارب النووية ولهذا قام باولنغ بإرسال برقية شديدة اللهجة يستنكر على الرئيس الامريكي هذا الموقف. وبعد هذه الحادثة بفترة قام الرئيس كينيدي بدعوة جميع العلماء الذين حصلوا على جوائز نوبل لحفلة عشاء تكريمية في البيت الابيض (وهي عادة بروتوكولية قديمة ما زالت سارية حتى الان) و طبعا كان من ضمن الحضور الكيميائي المشاغب لوينس باولنغ لأنه كان وقتها حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء. الطريف في الامر انه قبل الحفلة التكريمية مباشرة قام لوينس باولنغ و زوجته بالمشاركة في مظاهرة احتجاجية امام البيت الابيض ضد التجارب النووية ثم بعد ذلك ترك و غادر الزوجان خط تنظيم المظاهرة و دخلا إلى البيت الابيض لحضور حفلة العشاء بل ان باولنغ في تلك الامسية رقص مع زوجة الرئيس الامريكي.
من المحزن أن الدكتور أحمد زويل لم يكن يحسن الرقص السياسي مع السلطة الحاكمة والمسيطرة بل أنه اكتفى بدور الطبال الذي ليس فقط يحاول ان يطرب السلطة ولكنه ايضا قام بدور المدافع والمحامي والملمع للسلطة بدليل نشره لتك المقالة الصحفية المشهورة التي نشرها عام 2014 في جريدة لوس أنجلوس الامريكية والتي دافع فيها أحمد زويل بشكل صريح ومباشر عن الجنرال السيسي ووصفه بأنه أعطى أمل لمصر وانه أتخذ خطوات جادة تجاه الاصلاح  الاقتصادي وهنا تكمن المفارقة الصارخة أن العالم والباحث المدقق والحريص أستطاع أن يتتبع اسرع التفاعلات الكيميائية في الطبيعة في جزء من الفيمتو ثانية ولكن (مجاملاته السياسية) حالت دون أن يشاهد أحد اسوء وأحمق العروض السياسية في تاريخ مصر المعاصر.
بقي أن نقول أن عالم الكيمياء الامريكي كارل دجيراسي استاذ علم الكيمياء العضوية بجامعة ستانفورد الامريكية العريقة والمشهور باختراعه لحبوب منع الحمل كان في نفس الوقت له اهتمامات أدبية حيث نشر عدد من المسرحيات ودواوين الشعر.  من ضمن أعماله الادبية رواية (الفقيد ماركس Marx, Deceased) والتي تدور أحداثها عن أديب مشهور يرغب أن يعرف كيف ستكون نظرة الأجيال القادمة عنه فهل سوف يعتبر أديب عابر أم روائي من الطراز الأول الذي يخلده الزمن. أعتقد أننا سوف نقع في حيرة مشابه مع الدكتور أحمد زويل فحسب حالة النقاش والجدال التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي يوم أمس بعد وفاته ما بين مادح وقادح أعتقد أن عنوان الرواية تلك كان الاجدر بها بدل ان تكون الفقيد ماركس ان تصبح (الفقيد زويل).


الأحد، 9 أكتوبر 2016

( رحلة إلى سمرقند .. أرض الاساطير )

إطلالة على ساحة المدارس الاسلامية (ريجستان) في سمرقند

د/ احمد بن حامد الغامدي

يقول الاديب البرازيلي البارز باولو كويلو (أشهر روائي عالمي معاصر وصاحب رواية الخيميائي) أن الاماكن الساحرة دائما جميلة كما أنها (تستحق التأمل والتفكير الملي بها) وهذا بالضبط ما حصل لي منذ عقود طويلة عندما شاهدت صور ومناظر فن العمارة الاسلامية البديعة في الاندلس وفي المدينة السحرية سمرقند وفي ضريح تاج محل بالهند المزخرف بالنقوش العربية. وبعد أن وفقت بحمد الله بزيارة الاندلس وأيقونة تاج محل شغلت منذ سنوات بالتفكير الحالم بزيارة (بلاد ما وراء النهر) والاطلاع المباشر على فنون العمارة الاسلامية واستحضار عبق التاريخ من خلال المدن الاسلامية ذات الرنين الأخاذ مثل بخارى وسمرقند وخوارزم. وقد كان من فضل الله علي أن تمكنت أخيرا من زيارة جمهورية أوزباكستان الاسلامية في وسط آسيا وهي بلاد ما وراء النهر التاريخية التي تستطيع بكل جدارة أن تفاخر الدنيا كلها بأنها أرض أيقونات مشاهير العلمي الشرعي الاسلامي من مثل الامام البخاري والترمذي والنسائي والبيهقي والدارمي والزمخشري والجرجاني بالإضافة لكوكبة من علماء الطبيعة والفلاسفة الكبار وعلى رأسهم ابن سينا والخوارزمي والبيروني والفارابي وعمر الخيام وأبناء موسى بن شاكر والقائمة تطول وتطول.

وبالرغم من أن أوزباكستان بلاد بالغ الثراء بالمناطق والامكان ذات الاثار الاسلامية وكما أنها تحتوى عشرات الالف من المخطوطات العربية والاسلامية إلا أنني سوف أقصر الحديث في هذا المقال عن (أرض السحر والأساطير) مدينة سمرقند الخالدة. تكمن أهمية مدينة سمرقند قديما بأنها كانت (واسطة العقد) واهم محطة في منتصف طريق الحرير ولذا لا غرابة  أن يحرص  على زيارتها ووصفها مشاهير المؤرخين والرحالة من مختلف الجنسيات فقد مر بها كلا من ابن بطوطة واليعقوبي الذي قال عنها (ليس على وجه الأرض مدينة أطيب ولا أحسن من سمرقند) كما مر عليها الرحالة الايطالي الشهير ماركو بولو وفي العصر الحديث حرص الاديب الامريكي البارز إدغار ألن بو أن يسافر لمدينة سمرقند درة الشرق والذي وصف ماضيها التليد (بأنها ملكة الدنيا وأنها مزهوة على جميع المدن وفي يديها مصائرهن). وعلى ذكر الادب وارتباطه بسمرقند لعل من اللافت أن الاتجاه الحديث لبعض الادباء والروائيين العرب بتوظيف واستخدام اسم مدينة سمرقند في عناوين رواياتهم وجعلها مسرح أحداث قصصهم كما نشاهده في رواية سمرقند للروائي اللبناني أمين معلوف ورواية قمر على سمرقند للأديب المصري محمد المنسي قنديل وكذلك الكاتب الفلسطيني أسعد الاسعد الذي ألف روايته الجديدة المسماه: هناك في سمرقند.

كما كان توظيف اسم سمرقند في عناوين الروايات الادبية الحديثة دلالة ثراء (عالم السحر والخيال) الذي تشعه مدينة سمرقند كذلك نجد أن هذه المدينة في القديم ارتبط تاريخها بالعديد من الاحداث والاساطير التي تعكس بدورها ثراء وحيوية تاريخ هذه المدينة الساحرة . وطبعا لن نتوقف كثيرا عند بعض الاخبار والاساطير التي هي من نوع الخرافات الفجة من مثل الاسطورة الشعبية التي يتداولها سكان سمرقند من أن مدينتهم بنيت في حديقة جنة عدن أو الاسطورة الخرافية الأخرى التي ساقها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بأن مدينة سمرقند بناها في الاصل العرب بدلالة أن اسمها (سمرقند) يعني (مدينة شمر) نسبة إلى شمر أبو كرب الملك العربي القديم. عوضا عن ذكر هذه الخرافات المستبعدة سوف نذكر بشكل مختصر أبرز الاساطير والقصص الغريبة التي ارتبطت بتاريخ سمرقند مع مراعاة تتبع التسلسل التاريخي في السرد.

وأقدم أسطورة مقبولة في تاريخ سمرقند تلك التي تذكر أن الاسكندر الأكبر المقدوني بعد احتلاله لمدن أسيا الوسطى في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد اقام لجنوده مستوطنه عسكرية في سمرقند (عرفت لاحقا باسم قلعة أفروسياب) وفيها حصلت حادثة محزنة للإسكندر تمثلت في قيامه وهو مخمور بالشجار مع أحد أعز أصدقائه وهو القائد كليتوس (الذي سبق وأن أنقذ حياة الاسكندر في إحدى المعارك) ونتج عن هذا الخصام قيام الاسكندر بقتل صديقة بالرمح وعندما استفاق من سكرته ندم ندما شديدا وهاله ما اقترفت يداه.

في التاريخ الاسلام عرف (المصحف الامام) بأنه المصحف الذي احتفظ به الخليفة عثمان بن عفان لنفسه ونسخ منه بقية المصاحف التي وزعت على اقطار العالم الاسلامي وتقول (الاسطورة) أن هذا المصحف الامام هو الذي عندما حصلت فاجعة قتل الخليفة عثمان سال دمه عليه. وبعد مقتل الخليفة عثمان عام 35 هجري تذكر كتب التاريخ أخبار متعددة لانتقال هذه المصحف من بلد إلى آخر وهنا تدخل الاسطورة مرة ثانية على الخط حيث يزعم أن تيمورلنك عندما غزا العالم الاسلامي استولى على (المصحف الامام) ونقله إلى عاصمة مملكته مدينة سمرقند حيث ظل فيها لقرون طويلة إلى أن تم نقله بعدها لمدينة موسكو (بعد احتلال روسيا القصيرية لدول اسيا الوسطى) ثم نقل أخيرا في بداية القرن العشرين لمدينة طشكند وهو اليوم محاط بدرجة كبيرة من التقديس والاحترام بالرغم من أن الارجح أنه ليس مصحف عثمان الاصلي وإنما هو مصحف أكثر حداثه حيث انه مكتوب بأسلوب خط عربي يختلف عن طريقة الكتابة في صدر الاسلام.

في السنة 57 للهجرة استشهد الصحابي الجليل (قثم بن العباس) ابن عم الرسول وأشبه الناس به والذي شهد الفتح الاسلامي لمدينة سمرقند واستشهد بها ودفن بها. والجدير بالذكر أن مكان دفن الصحابي المجاهد قثم بن العباس أصبح مقبرة كبيرة أطلق عليها أسم (شاه زنده) والتي تعني الملك الحي حيث أن (الاسطورة) تقول أن بعد أن قتل وقطع رأس قثم بن العباس في المعركة ظل حيا وحمل رأسه وذهب به إلى بئر عميق وهو حتى الان ما زال حيا ومن هنا سمي موضع قبره شاه زنده/ الملك الحي.

وعلى ذكر الفتح الاسلامي لمدينة سمرقند يبدو أن استتباب الحكم الاسلامي لها لم يستقر تماما ولهذا تذكر كتب التاريخ العربية أكثر من سنة تم فيها (فتح) سمرقند ولكن ما يهمنا هنا فيما يتعلق (بالأساطير) هي تلك القصة الرائعة الجمال (وإن كانت غير صحيحة على الاغلب) التي رواها الاديب الكبير على الطنطاوي بأسلوبه الاخاذ في كتابه قصص من التاريخ. وتدور هذه القصة أن أهل سمرقند عام 87 للهجرة اشتكوا الفاتح المسلم الكبير قتيبة بن مسلم إلى الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز بأنه فتح مدينتهم سمرقند دون أن يدعوهم إلى الاسلام أو دفع الجزية أو يمهلهم ثلاثة ايام قبل القتال كما هي تعاليم الاسلام في الحرب. وكما هو معروف من تفاصيل تلك القصة المشهورة أن قاضي عمر بن عبدالعزيز حكم لأهل سمرقند أن يخرج عنها الجيش المسلم ثم يؤذنهم قائد جيش المسلم بعد ذلك بالحرب والقتال. وبالرغم من جمال هذه القصة ودلالتها على عدل الاسلام وسماحته إلا أنه توجد فيها ثغرات وتناقضات تاريخية عديدة لا يتسع المجال لسردها ترجح أنها قصة (اسطورية).

من الناحية التاريخية قد ثبت أنه كان لمدينة سمرقند دور اساسي في دخول صناعة الورق إلى الحضارة الاسلامية ومع ذلك لم يخلو هذا الامر من ربطه بقصة مشوقة حيث تقول (الاسطورة) أنه في عام 132 هـ وقعت معركة حربية بالقرب من مدينة سمرقند بين الجيش العربي الفاتح وبين أحد الجيوش الصينية. وكان من غنائم الجيش الاسلامي في هذه المعركة أن تم اسر بعض الجنود الصينيين الذين يعرفون أسرار صناعة الورق وبقية القصة معروفة أن هذه الاسرار والمعرفة التصنيعية انتقلت من سمرقند إلى بغداد والقاهرة واخيرا إلى أوروبا. على كل حال اثبتت بعض الاكتشافات الاثرية أن مدينة سمرقند القديمة كانت تعرف صناعة الورق منذ القرن الثالث الميلادي مما يلقي بظلال من الشك على تلك الاسطورة الورقية.

من أبرز المعالم التاريخية في مدينة سمرقند أنه يقع بضواحيها قبر وضريح الامام البخاري رحمة الله والذي لم يسلم هو الآخر من قصة اسطورية في الغالب أنها غير صحيحة حتى وإن ذكرها عالم مدقق مثل الامام الذهبي في كتابه البارز سير أعلام النبلاء. تقول القصة أنه في عام 464 حصل قحط وجفاف حاد بمدينة سمرقند فاستسقى الناس مرارا فلم يسقوا المطر ولهذا نصح أحد الصالحين قاضي المدينة أن يخرج الناس كلهم إلى قبر الامام البخاري بقرية خرتنك في ضواحي سمرقند ويستسقون الله عند قبره. وهنا نلتقي بالقصة الغرائبية حيث يقول الخبر أنه بعد استشفاع الناس بصاحب القبر أرسل الله السماء بماء ومطر غزير لدرجة أن الناس اقاموا سبعة أيام لا يستطيعون أن يرجعوا إلى مدينة سمرقند من كثرة وغزارة السيل.

ونصل الآن إلى زمن تيمورلنك القائد المغولي الطاغية والذي بالرغم الصورة النمطية الشنيعة عنه نتيجة لسفكه للدماء وتخريب المدن إلا أنه كان في المقابل وبكل تميز عاشق رومانسي ومعماري من الدرجة الاولى.  تقول الاسطورة الاوزبكية أنه في مطلع القرن التاسع الهجري اراد تيمورلنك مؤسس المملكة التيمورية الباذخة الثراء أن يبني أكبر مسجد في العالم والذي جعل اسمه (مسجد بيبي خاتون) على أسم الهانم أو الخاتون أصغر زوجات تيمورلنك وأحبهن إلى قلبه. ولكن للأسف سرعان ما تم دمار هذا المسجد أو المبنى البالغ الضخامة وتقول الاساطير أن سبب الهدم إما أن تيمورلنك علم بأن زوجته المفضلة تخونه ولهذا غضب وأمر بهدم المعلم الحضاري الذي اراد أن يخلدها به ويوجد قول آخر أن فن العمارة في تلك الفترة لم يكن بعد من الجودة والاتقان ولهذا سقط المبنى الضخم من جراء نفسه علما بأنه يوجد حاليا في نفس المكان مبني شاهق جدا وبالغ الضخامة من المحتمل أنه صورة طبق الاصل عن المبنى المدمر. 
والجدير بالذكر أن المغول والتتار بالرغم من قسوتهم إلا أن لزوجاتهم تأثير كبير عليهم كما هو حال  بورتيه أوجين زوجة جنكيز خان والمرأة المسيحية طقز خاتون زوجة هولاكو ومن هذا وذلك لا غرابة أن نعرف الملك المغولي شاه جهان قام بتشييد أجمل مبنى في جميع الحضارات وهو ضريح تاج محل لزوجته ممتاز محل. ولا أدل على مكانة الزوجات في حياة ملوك التتار أن ابن بطوطة عنما وصف زيارته للسلطان المعظم محمد أوزبك خان خصص صفحات طويلة لسرد معلومات مفصلة عن الخواتين الاربع زوجات السلطان مما يشي بثقلهن الاجتماعي والسياسي في ذاك المجتمع القديم.

ونختم استعراض الاساطير المرتبطة بالمدينة الساحرة سمرقند بذكر الاسطورة الخرافية المتعلقة بأحد أهم ملوك سمرقند وهو تيمورلنك الذي يعد ضريحة أحد أجمل المباني الاثرية على الاطلاق في أوزبكستان بأكملها. ولضريح وقبر تيمورلنك أسطورة خرافية تليق بهذا المحارب الفريد الذي هزم كل الممالك والدول التي غزاها وكنتيجة غير مستبعدة لدور وثقل هذه الشخصية في التاريخ القديم انتشرت اسطورة خرافية تحمل عنوان (لعنة تيمورلنك). وتزعم هذه الاسطورة أن الرئيس السوفيتي ستالين غار من انتصارات تيمورلنك ولهذا أمر بنبش قبره وإحضار رفاته إلى موسكو وأثناء عملية النبش التي تمت في منتصف عام 1941 ميلادي وجدوا مخطوطة باللغة العربية تحذر من يفتح القبر بحصول حرب دامية له ووفق ما يتم تداوله لهذه الاسطورة الخرافية يقال أن القوات الالمانية النازية غزت روسيا بعد يومين فقط من تدنيس القبر ونبش رفات تيمورلنك.

أما فيما يتعلق بآخر الأساطير الخرافية المتعلقة بمدينة سمرقند والتي سوف تقع في المستقبل فهي علي شاكلة ما يذكر في بعض كتب طائفة الشيعة من أنه في آخر الزمان سوف يظهر الامام المهدي ولكن قبل خروجه لابد من ظهور بعض أعوانه وقواد جيوشه والذين من أهمهم شخص يدعى شعيب بن صالح يكون أول خروجه من مدينة سمرقند.


 لا شك أن هذه الكثرة والاستفاضة في الاساطير المرتبطة بمدينة سمرقند تؤكد على الثقل الحضاري والتاريخي لهذه المدينة ورسوخ مكانتها وأهميتها بين مدن العالم في القديم والحديث وبهذه المناسبة لك مثلا أن تحاول أن تستحضر كم هي الاساطير التي نعرفها عن المدن العريقة مثل القاهرة وبغداد ودمشق لنعرف تميز مدينة سمرقند بين المدن.