الاثنين، 21 فبراير 2022

( البحث عن فتوى: حكم تهنئة (المسلمين) بعيد رأس السنة )


 د/ أحمد بن حامد الغامدي

 بعد أن هدأت عاصفة التهاني (أو التناهي) بحلول السنة الميلادية الجديدة ربما يظهر أن طرح مقالي الجديد متأخر في توقيت النشر، ولكن في الواقع أنا تعمدت عدم النشر حتى نهاية الأسبوع الأول من مطلع السنة الميلادية الجديدة. يوم أمس هو يوم الجمعة السابع من يوم يناير وهو لمن لم يعلم بعد هو (أول) يوم في مطلع السنة الميلادية الجديدة 2022 وذلك لأنه وفق التقويم الكنسي للنصارى الأرثوذوكس وهم الغالبية العظمى في العالم المسيحي الشرقي فإن عيد ميلاد المسيح وبالتالي رأس السنة الميلادية الجديدة يكون في اليوم السابع من يناير. لمن يبرر تسويغ التهنئة برأس السنة الميلادية الجديدة وأنه نوع من المجاملة للأقليات المسيحية التي تعيش في العالم العربي ممن قد يكونون جيران سكن أو زملاء عمل، لمن يفعل ذلك ألا يستشعر الحرج بتهنئة القوم في غير موعد عيدهم الفعلي.

الجميع يعلم النقاش والجدل القائم والمتكرر في تحديد موعد (عيد ميلاد المسيح) وأنه بالقطع ليس في يوم الكريسماس الرابع والعشرين من شهر ديسمبر، ولكن كم منا يعلم أن الخلاف في تحديد موعد (رأس السنة الميلادية) لا يقل حده وهو أحيانا يفسد للود قضية بين الطوائف المسيحية المختلفة والمتخالفة. من الأمور المربكة في موضوع تحديد موعد رأس السنة الميلادية الجديدة أن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية تبدأ رزنامة الأعياد المسيحية فيها بيوم الأول من شهر سبتمبر. بينما كان غالبية النصارى في القرون الوسطى يحتفلون بعيد الميلاد المسيح في أوقات مختلفة تماما مما هو موجود الآن فالبعض كان يحتفل به في اليوم الأول من شهر مارس والبعض في يوم 25 من شهر مارس أو في يوم 14 من يناير. بل في التقويم القبطي القديم المسمى (الرزنامة الإسكندرية) كان رأس السنة الميلادية يوافق أشهر الصيف وليس الشتاء وذلك في يوم 29 أغسطس في حين تحدده بعض الروزنامات البيزنطية بيوم الأول من شهر سبتمبر. وبالمناسبة يعتبر عيد الفصح Easter أو عيد القيامة ثاني أهم الأعياد الدينية المسيحية ومع ذلك لا يوجد أي توافق على الإطلاق في تحديد موعد هذا (العيد الكبير) في الديانة المسيحية بين الكنائس الشرقية (البيزنطية) التي تعتمد في تحديده على السنة القمرية وبين الكنائس الغربية (الكاثوليكية والبروتستانتية) التي تحدده بناءً على حسابات السنة الشمسية.

والمقصود أن الاختلافات والتباينات بين الطوائف المسيحية في تحديد مواعيد عيد الميلاد المجيد أو رأس السنة الجديدة أو عيد الفصح هي اختلافات حادة وجذرية وغير محسومة. وجزء من المشكلة هو أن الطوائف المسيحية الكبرى تستخدم روزنامات وتقاويم زمنية مختلفة وذلك لأن التقويم الميلادي القديم كان قائم في الأساس على استخدام التقويم الروماني الذي فرضه الإمبراطور يوليوس قيصر عام 46 قبل الميلاد. وبالرغم من أن علماء الفلك الرومان حاولوا تصحيح الخلل في الفرق بين السنة الشمسية الفعلية والسنة الزمنية المقاسة بجعل يوم كبيسة كل أربع سنوات إلا أن التقويم اليولياني القيصري لم يكن دقيقاً بشكل كافي وبعد مرور حوالي 16 قرن أصبح مقدار الخلل كبير ومحرج. وهنا نصل للتصحيح الفلكي المشهور الذي قام به بابا الفاتيكان غريغوريوس الثالث عشر والذي لم يتردد في زيادة عشرة أيام دفعة واحدة للتقويم الزمني ومن هنا ظهر ما يسمى بالتقويم الغريغوري المسيحي وبهذا تغير يوم الخامس من أكتوبر لعام 1582م إلى يوم الخامس عشر من أكتوبر. وبحكم أن من فرض هذه الرزنامة الجديدة هو رأس الكنيسة الكاثوليكية فلهذا لم تتحمس الطوائف المسيحية الأخرى في تبنيها وتقبلها فمثلا الكنيسة البريطانية بحكم أن لها نوع استقلال فإنها لم تتقبل التقويم الجديد (وتحديد موعد رأس السنة) إلا بعد مرور قرنين من الزمن من اقتراحه وهذا ما تكرر مع بعض الشعوب والدول البروتستانتية. بينما أغلب الشعوب والكنائس الأرثوذكسية الشرقية لم تتقبل التقويم الغريغوري إلا في بداية القرن العشرين ومع ذلك ما تزال بعض أشهر الكنائس الشرقية مثل كنيسة المهد وكنيسة القيامة في القدس وغيرها من الكنائس الأرثوذكسية الروسية واليونانية والبولندية ترفض استخدام التقويم الغريغوري. وعليه يقع احتفال هذه الكنائس الأرثوذكسية برأس السنة الميلادية في يوم السابع من يناير والذي هو وفق تقويمها اليولياني الروماني يعتبر يوم الخامس والعشرين من ديسمبر.

 الكنيسة (الأرثوذكسية) يعني اسمها باللغة اليونانية: الرأي القويم أو الاعتقاد الصواب ومع إيماننا الجازم بالانحراف العقدي لهذه الكنيسة وغيرها من الطوائف المسيحية إلا أن في اسمها معنى قد يكون مقبولا فيما يتعلق بموعد رأس السنة الميلادية مقارنة بالكنائس والطوائف المسيحية الأخرى. في أغلب ثقافات الشعوب يكون مطلع العام الجديد أو رأس السنة متوافقا مع حدث تاريخي مهم (الهجرة النبوية في التقويم الإسلامي) أو مع عيد ديني (عيد النيروز في السنة الفارسية) أو ظاهرة فلكية (بداية الدورة القمرية في السنة الصينية). لكن الأمر محير ومربك فيما يتعلق بسبب الاحتفال برأس السنة (( الميلادية )) فإذا كان المقصود به (ميلاد) المسيح عيسى عليه السلام فلا يتوافق موعد عيد ميلاده الذي يقع كما هو معلوم في ليله 24 ديسمبر ونهار 25 ديسمبر مع موعد رأس السنة الذي يقع في الأول من يناير. عدد الأيام (السبعة) التي تفرق بين توقيت عيد الميلاد وموعد رأس السنة هي في الواقع مرتبطة ليس بعيد الميلاد، ولكن بما يسمى (عيد الختان المسيح) Feast of the Circumcision of Christ وهو بهذا مشابه لفكرة (سبوع) الطهور أو سبوع المولود الجديد والذي يحتفل فيه في اليوم السابع للولادة بوليمة feast العقيقة.

العديد منا في المجتمعات العربية والإسلامية يتحرج كثيرا من تهنئة الغير بعيد الميلاد (الكريسماس) بينما يتساهل البعض منا في إرسال وتبادل التهاني بمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة (New Year) وذلك على اعتقاد أنها ليست مناسبة دينية مسيحية. التناقض الذي قد يقع البعض منا فيها أنه إذا كنا نتحاشى التهنئة في يوم الكريسماس لأننا لا نقبل أن نتبادل التبريكات بما يزعم أنه مناسبة (مولد الإله المخلص يسوع) فكيف نقبل ان نشارك في التهنئة في مناسبة دينية في يوم رأس السنة تتوافق مع مناسبة أشنع وأفظع وهو الزعم بأنه عيد (ختان الإله) أو عيد طُهور ابن الرب تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا. الجدير بالذكر أن (عيد ختان المسيح) الذي يتوافق مع رأس السنة الميلادية له قدسية كبيرة عند النصارى لأنه عند لحظة الختان تم لأول مرة (سفك دم المسيح) وذلك في سبيل خلاص البشرية وفداء الإنسان.

وبغض النظر عن الأبعاد الدينية الصارخة والصريحة في مناسبة مطلع السنة الميلادية الجديدة تبقى من دواعي الاستنكار لاحتفال المسلمين بهذا العيد المسيحي أنه في الغالب فإن الفطر السليمة تأنف من تقليد الآخرين في خصوصياتهم الدينية والحضارية الصرفة. على سبيل المثال نجد أنه بعد ثلاثة أسابيع وبالضبط في أول يوم من شهر فبراير سوف يكون توقيت (رأس السنة الصينية) ولنتخيل لو أنا واحد منا قام في ذلك اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بتوزيع ونشر رسائل التهنئة بحلول المناسبة الصينية السعيدة. هل مثل ذلك التصرف الغريب سوف نقبله على أنه مجاملة للشعب الصيني أو زملاء العمل من الصينيين أم سوف نعتبره مبالغة ممجوجة في تقليد الآخرين.

في السابق كانت يكثر في (نهاية) السنة الميلادية تداول فتاوى العلماء والمشايخ في النهي عن (تهنئة النصارى) بعيد الميلاد واحتفالات الكريسماس وأعتقد أننا بحاجة في (مطلع) السنة الميلادية إلى إصدار فتاوى في نهي المسلم عن (تهنئة المسلمين) بعيد رأس السنة الميلادية الجديدة !!.


( شركة (سفريات الأعشى) للسياحة والرحلات !!)


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

مشاكل أمراض العيون وخلل الإبصار شبه شائعة لدى العديد من مشاهير التراث العربي ولهذا من الشائع أن نجد الأسماء والألقاب التالية لديهم: الأعشى والأعمى والأعمش والأخفش. ومع هذه الإعاقات البصرية إلا أن العديد من هؤلاء الرواد ساروا بثقة وثبات في دروب الحياة ومسالك النبوغ. ومع ذلك تبقى شخصية الشاعر الجاهلي الأعشى فريدة ومميزة من جانب أنه ومع هذه الإعاقة البصرية (ضعف البصر وخصوصا في الليل) إلا انه استطاع وبشكل غريب أن يكرر السفر منفردا لمسافات وبلدان بعيده جدا. كان من عادة العرب قديما وخصوصا في زمن الصيف والقيظ أن يكون جزء من سفرهم ومسيرتهم في الثلث الأخير من الليل وذلك تلافيا للسفر في وقت الظهيرة في شدة الحر. ومشاق السفر في زمن القيظ ذكرها الأعشى في أبيات معلقته الشهيرة عندما تفاخر بأنه يقطع القفار والصحاري التي لا شجر ولا ظل بها لأنها أرض مستوية (مثل ظهر الترس) ولهذا يستحيل السفر بها وقت الظهر ومن يمشي بها في الليل يسمع صوت الجن وزجلهم:

وبلدةً مثل ظهر التُرس موحشةٍ       للجنّ بالليل في حافاتها زَجلُ

لا يتمنّى لها بالقيظ يركبها             إلا الذين لهم فيما أتوا مهلُ

وبالرغم من أن حياة الأعشى وشعره حافل بمنعرجات ومسارات شيقة وفريدة إلا أنني شخصيا ما زلت أعجب بالمزيج الأدبي والسياحي في ثنايا أبيات وقصائد الأعشى الشعرية عندما يتحدث عن (سفرياته) ورحلاته والأخبار والتجارب والمعلومات التي يبثها في سياق الحديث عن هذا الترحال. لعشاق السفر تطرب الأذن دائما عن أي حديث ولو جانبي عن أخبار السفر ولهذا نسعد عندما يتفاخر بعض الشعراء والأدباء بذكر الأماكن التي زاروها وترددوا عليها. وهذا الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم جميل في سيرته الفروسية والأنفة والشجاعة ولكن جميل كذلك أنه كان رحالة من الطراز الأول فقد طوّف في جزيرة العرب وتجول في الشام والعراق وهو الذي يذكر بعض هذه المزارات السياحية المعروفة منذ القدم:

وكأسٍ قد شربتُ ببعلبكٍّ         وأخرى في دمشق وقاصرينا

ودواوين الشعر الجاهلي والشعر العربي القديم هي في ثناياها أشبه ما تكون بالدليل السياحي من كثرة المواقع التي تذكر فيها وهذا ما استفاد منه ياقوت الحموي في كتابه الفريد معجم البلدان وفي الوقت المعاصر الجغرافي البارز سعد بن جنيدل في كتابه معجم الأماكن الواردة في المعلقات العشر. وبما أننا في مساق الحديث عن تجوال وترحال شاعرنا المحتفى والمحتفل به هذه الأيام أعشى قيس فتذكر بعض المصادر أن أسماء المواقع والأماكن الواردة في شعره تبلغ حوالي الثمانين موقعا المتناثرة في مختلف بقاع دنيا العرب وأرض العجم وهذا ما يؤكده قوله:

قد طُفتُ ما بين بَانقيَا إلى عَدنِ    وطال في العُجمِ ترحالي وتسياري

فهو قد تجوّل ما بين أرض بانقيا بالقرب الكوفة وحتى أرض عدن وفي أبيات أخرى ذكر السفر ما بين النّجير وهي أرض بقرب حضرموت وبين صرخدا وهي موضع حول حوران بالشام وهذا إشارة مختصرة لرحلاته من الشمال إلى الجنوب.

وما زلتُ أبغي المال مذْ أنا يافعٌ       وليداً وكهلاً حين شِبتُ وأمردا

وأبتذلُ للعيسَ المراقيلَ تغتلي         مسافة ما بين النّجير فصرخدا

أما فيما يتعلق بالسفر الجغرافي من الشرق إلى الغرب فقد ارتحل الأعشى ما بين ديار عُمان شرقا وحتى أرض الحبشة غربا. ولهذا يفتخر ويتباهى الأعشى بكثرة سفره وتجواله لدرجة المبالغة المشهورة عند الشعراء فيقول:

فأيّةَ أرضٍ لا أتيتُ سراتها            وأيّة أرضٍ لم أجُبها بمرحلِ

وبحكم أن الأعشى بالفعل كثير السفر والانتقال شرقا وغربا فمن هنا نستطيع أن نفهم لماذا تساهل رواة الشعر العربي في قبول خبر أن الأعشى ربما قد يكون ارتحل إلى أرض الحبشة لمدح حاكمها النجاشي بالرغم من خلو ديوانه عن أي إشارة إضافية لأرض الحبشة والقصيد في مدح النجاشي. وبالرغم من أن طه حسين شكك في صحة قصة الأعشى مع ابنته عندما حاولت تخذيله عن السفر لخوفها أن تخترمه المنون ويموت في إحدى أسفاره. ومع ذلك لعل من الملائم ذكر هذه الأبيات هنا لأنها لو صح نسبتها إلى الأعشى فهي تعطي تصور عام للأبعاد الجغرافية التي تنقل فيها ذلك الشاعر الأعشى وشبه الأعمى والذي يلقب بأبي بصير هو لقب خاص بالعميان في الغالب:

أفي الطوافِ خفتِ عليَ الردى         وكم من رَدٍ أهلهُ لم يَرم

وقد طفت للمالِ آفاقه                    عُمان فحمصَ فأوريشلم

أتيتُ النجاشيَّ في أرضهِ                وأرض النبيطِ وأرض العجم

فنجران فالسروَ من حِميرٍ              فأيَّ مرامٍ لهُ لم أرُم

ومن بعد ذاك إلى حضرموتَ          فأوفيتُ همي وحيناً أهُم

وبمناسبة ذكر هذه الأبيات بالذات نصل إلى ناقش الأمر الذي شدني في أخبار سفريات ورحلات الأعشى وهو انعكاس (ثقافة السفر) في شعر وأدب الأعشى فهو عندما يسافر إلى أي إقليم أو بلد غير عربي يحرص على الاطلاع العام على حضارة وأخبار وطباع ذلك البلد ويعكسها في شعره. في تلك الأبيات ذكر الأعشى كلمة (أورشليم) وسطرها في قصيدته حسبما سمعها في أرض فلسطين ولم يستخدم وصف (بيت المقدس) كما يعرفها العرب. وبعد تلك الابيات يرد في نفس القصيدة خبر شاه الفرس وملكهم سابور ذو الأكتاف ولكن الأعشى يذكر اسمه كما سمعه في أرض العراق فيسميه (شاهبور) كما يذكر طرفاً من أسطورته المشهورة في اقتحام حصن الحضر بالقرب من تكريت.

في مقال سابق نشر قبل عدة سنوات وحمل عنوان (الشعراء والثقافة السياسية) ناقشت فيه التميز الفريد للشاعر الكبير الأعشى ليس فقط في معرفته لأخبار وتفاصيل (أيام العرب) وما فيها من الحرب والمعارك ولكن أيضا خبرته النادرة (بأيام العجم) وهذا ولا شك حصاد سفرياته وتنقلاته بين الشعوب المختلفة. في ديوان الأعشى نجد ذكر قصيدة (سياسية) يرد فيها خبر هزيمة الروم أمام الفرس وذلك في معركة تاريخية حملت اسم موقعة (يوم ساتيدما). وهي معركة مهمة وقعت جهة الموصل بالقرب من نهر صغير أو جبل يحمل اسم ساتيدما وحصل هذا القتال الشرس بين الفرس وبين الروم بقيادة هرقل عظيم الروم والذي بالرغم من شجاعته وخبرته القتالية إلا أنه انهزم أمام الفرس مما تسبب في ضعف الروم لدرجة أنه تم لاحقا احتلال الفرس لمدينة القدس.

والمقصود أن السفر والارتحال لبلدان وشعوب متعددة من أرض العجم ساهمت في ثراء المعرفة الثقافية والتاريخية واللغوية للأعشى والذي يرد في شعره العديد من أخبار وأساطير ومعتقدات وأديان الحضارات الأخرى غير العربية. ومن الواضح كذلك في شعر الأعشى كثرة المفردات والكلمات غير العربية وخصوصا الفارسية بل ويرد كذلك أسماء العديد من الملوك وأسماء الأعلام والمشاهير لدى الشعوب الأخرى.

رحلة الأعشى الأخيرة

في كتب الأدب نجد جدال خفيف حول ديانة الأعشى هل كان وثنيا مشركا كحال أغلب أهل جزيرة العرب في زمن الجاهلية أم كان يعتنق الديانة النصرانية كما زعم الأديب المسيحي لويس شيخو في كتابه المثير للجدل (شعراء النصرانية قبل الإسلام). أحد مسوغات هذا الجدل أن الأعشى كان شخصية على درجة عالية من الاطلاع وبحكم كثرة وتنوع أسفاره نجد أنه كثيرا ما يرد في شعره خبر زيارته للعديد من الكنائس والأديرة سواء في نجران أو أرض النبيط كما سمها أي مملكة الأنباط بل يرد في شعره إشارات لليهودية والأقوام البائدة والعقائد المجوسية.  ولهذا عندما بدأ الإسلام ينتشر ذكره في جزيرة العرب وخصوصا بعد هدنة الحديبية أصبح الأعشى على درجة عالية من الإدراك والمعرفة بالدين الخالد الجديد. وإنك لتعجب من كم المعلومات الدينية والأحكام التشريعية والإرشادات الأخلاقية التي بثها الأعشى في قصيدته المشهورة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وذكره لتلك المفاهيم الدينية والتشريعية جاء في سياق المدح للرسول وأن رسالته ودينه عظيم وتعاليمه الشرعية سامية. ولذا يبدو أن الأعشى (أبصر) الحق ولهذا رغب في الدخول في الإسلام وعزم على الوفود على الرسول الكريم ومديحة. وتذكر كتب الأخبار أن قريشاً لما علمت برغبة الأعشى في زيارة الرسول لمدحه أرسلت من يعترض طريق سفره. ولهذا يقال أبو سفيان بن حرب حاول صده عن الدخول في الإسلام بأن ذكر له أن الرسول ينهى عن أمور وأفعال تشرب الأعشى حبها وذكر منها الزنا والقمار والربا والخمر. وقد رد الأعشى أنه قد كبر سنه فلا رغبة له بالزنا وأنه لا مال له فلا يهتم للربا أما القمار فسوف يعوضه الرسول الكريم بالمال عندما يمدحه. ولكن بقيت مشكلة الخمر ولهذا صده شياطين الإنس والجن وخدع نفسه بأن قبل هدية قريش المتمثلة في منحة المئة ناقة على أن يرجع لبلده ويقيم لمده سنة وهو يعاقر الخمر ثم يعود للرسول ويعلن إسلامه بعد أن يرتوي من شرب الخمر. وكما هو معلوم فإن الأعشى مات على الشرك حيث يقال إنه بمجرد أن رجع إلى منزله في بلدة (منفوحة) من أرض اليمامة رمى به بعيره وسقط على الأرض فقتل من فوره. فسبحان الله كانت ابنة الأعشى تخشى أن تفقد أباها بأن يموت غريبا في إحدى سفرياته المتعددة وإذا به يتوفى على باب بيته فقد سلم من مخاطر الطريق وأهوال السفر ولكن لم يسلم من سوء الخاتمة البدنية والدينية.

بمناسبة ذكر (منفوحة) فهي الآن واحدة من أٌقدم الأحياء السكنية بمدينة الرياض وقبل عدة أيام قمت بزيارة لهذا الحي العريق والتاريخي لمحاولة الاستمتاع بالأجواء الثقافية وتنسم عبق التاريخ في فعالية (الأعشى) التي أطلقتها وزارة الثقافة وتنتهي بعد أيام قليلة. ولكن للأسف فبعد وعثاء (السفر) بالانتقال عبر زحمة المرور من منزلي بالجامعة من شمال الرياض إلى حي منفوحة بجنوب الرياض لم أستطع الدخول لتلك الفعالية ربما لسوء حظي أو بسوء التنظيم لفكرة الحجز المبدئي لتذاكر الدخول.

في الختام لا أعلم لماذا تلاشى مع الزمن خبر (سفريات) الأعشى ورحلاتها وأصبح لا يعلم بها إلا المطلع على كتب تاريخ الأدب العربي ولهذا أقترح أنه كما أصبح (ابن بطوطة) رمزا للسفر والسياحة والرحلات لدرجة أننا نجدد عدد كبير من شركات ومكاتب السياحة والسفر تحمل اسم (سفريات ابن بطوطة) وعليه أقترح أن يتم افتتاح وفي حي منفوحة بذات مكتب سياحي يحمل اسم: (سفريات الأعشى) للرحلات والسفر !!.


( القهوة في سياق ثقافي )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 لا يُعلم على وجهة الدقة أي من نقاد الأدب العربي القدامى الذي استقرأ القاعدة النقدية (أعذب الشعر أكذبه) ولماذا لم يدرج معها الأبعاد والظروف الأخرى الغريبة لإنتاج فرائد القصائد الرائقة. فليس فقط بالخيال المجنح الكاذب يتولد أجمل الشعر ولكن كذلك ينتج من الاضطراب النفسي والجنون (حالة قيس بن الملوح) أو بسبب الخوف والهلع من ذي سلطان (النابغة الذبياني) أو من حالة التلبس بالجن (كما يزعم الأعشى). ولهذا يحق لنا أن نعدل ذلك الاستقراء بأن نقول إن (من) أعذب الشعر ما يقال في أجواء غريبة ومبهمة وبعيدة عن الصفاء والتركيز كحال الشاعر المجنون أو الممسوس أو المخمور. وهذا أمر ذائع وشائع في الأدب العربي القديم فيما عرف بشعر الخمريات بل يقال أن صناجة العرب الأعشى كان لا يقول أعذب الشعر إلا إذا طرب بعد أن يسكر بالخمر ومن ذلك قصيدته الطنانة في مديح المحلّق الكلابي.

وفي الأدب الإنجليزي تتكرر نفس هذه الظاهرة وهي ارتباط الشعر البليغ بظاهرة لجوء الشعراء لتعاطي الحشيش والمخدرات بهدف الوصول لحالة (التجلي) المفضية لإطلاق العنان للخيال الأدبي الإبداعي كما نجده عند أغلب أعضاء الحركة الرومانسية منذ نهاية القرن الثامن عشر الميلادي. خذ على ذلك مثال قصيدة (قبلاي خان) للشاعر الإنجليزي صموئيل كولردج نظمها وهو تحت تأثير مخدر الأفيون وفي نفس السياق يقال إن الأديب الفرنسي المعروف بولدير أثناء كتابته لديوانه الشعري (أزهار الشر) كان يتعاطى الأفيون قبل كتابة قصائده. يزعم بعض هؤلاء الأدباء والمفكرون أن تعاطي المسكرات والمخدرات تساعد للوصول لحالة (الصفاء الذهني) والاسترخاء العقلي مما يساعد في إبداع أدبي خارج عن المألوف. الغريب في الأمر أن لفيف آخر من أشهر الأدباء والمفكرين وجدوا تقنية وأسلوب مختلف تماما للوصول لحالة (الصفاء الذهني) المحفّز للإبداع الأدبي وذلك من خلال تناول (القهوة). ونحن ننقل الكلام من الخمر إلى القهوة لعل من الطريف التذكير أن لفظة (القهوة) في الزمن المعاصر يختلف تماما معناه عما كان يفهمه العرب قديما فمنذ زمن الجاهلية وحتى العصور الحديثة نسبيا كان المقصود بكلمة القهوة في شعر العرب (الخمر).على كل حال ما يهمنا هنا أنه حاليا يوجد ترابط كثيف في التصور الجمعي العام بين تناول فنجان من القهوة في حالة الصفاء وبين درجة الثقافة وملكة الأدب والفكر لمن يتعاطى هذا المشروب السحري.

 ذكرنا أنه من الطقوس الأدبية عند الأقدمين تحفيز القريحة الأدبية من خلال تناول الخمر أو المخدرات كما هو الحال مع الأعشى أو كولردج وبولدير وفي المقابل نجد أن من طقوس بعض الكتاب والأدباء لتهيئة الأجواء الموائمة للأدب الرفيع أن يقوم الأديب بتناول وارتشاف عدد كبير من فناجين القهوة. خير مثال على ذلك الروائي الفرنسي النجم أونورية دي بلزاك والذي كان يتناول يوميا أكثر من خمسين فنجان قهوة على معدة خاوية (غالبا بسبب فقره) وهو ما تسبب لاحقا في وفاته بسبب التسمم بالكفائين. ولقد كان بلزاك ينصح من يرغب في الكتابة بكثرة تناول القهوة حتى ولو كانت باردة حيث إنه كان ممن يقبل مقولة أن القهوة تفتح أبواب الإلهام السحرية. الإدمان على الارتشاف المتواصل لأكواب القهوة اشتهر به كذلك المفكر والفيلسوف الفرنسي الأشهر فولتير الذي كان يشرع في تناول القهوة منذ الساعة الخامسة صباحا وبشكل متواصل حتى الساعة الثالثة بعد الظهر ولهذا لا عجب أن يحذره طبيبة بأن تناول خمسين فنجان قهوة في اليوم سوف يتسبب يوما ما بوفاته.

ومن عادات الكتابة وطقوسها عند الرمز الأدبي العربي الكبير نجيب محفوظ أنه هو الآخر يحرص على تعاطي جرعة الكفائين أثناء الكتابة بشرب فناجين القهوة المصحوبة بتدخين السجائر. في الواقع المزاوجة بين القهوة ودخان السجائر أثناء فعل الكتابة (نصوص النيكوتين والكفائين) كان أيضا من عادات الشاعر اللبناني ناصيف اليازجي والأديب المصري عزت القمحاوي والروائي السوداني المعاصر أمير تاج السر. وإذا كان الإلهام الأدبي لشعراء وأدباء القهوة لا يأتي إلا بعد تجرع عدد كبير من أكواب القهوة نجد أن الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله يعترف بأن فنجان واحد فقط من قهوة الصباح الباكر يكفيه بل أنه في بعض الأحيان وأثناء الاندفاع والحماس في مزاج الكتابة واستغراقه التام بالتأليف يكتشف أنه لم يشرب من ذلك الفنجان الوحيد إلا نصفه.

 في مديح القهوة

 لا أعلم هل من عشق حقيقي للقهوة يحرص بعض الأدباء على التصريح بغرامهم بها أم هو من باب رد الجميل لذلك المشروب المساعد على تحضير مناخ الإلهام الإبداعي. في مديح القهوة نجد أن الكاتبة الأمريكية لويزا ألكوت صاحبة الرواية الذائعة الصيت (نساء صغيرات) تقول إنها تفضل أن تحصل على القهوة بدلا من المجاملات وربما يوافقها في هذا العشق للقهوة الروائي الفرنسي ألبير كامو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عندما ينسب له قوله (هل انتحر أم أحصل على كوب من القهوة). وهذا الأديب الإيرلندي جوناثان سويفت صاحب روية (رحلات غوليفر) فيطنب في مديح القهوة بما لا مزيد عليه عندما قال: أفضل حكمة أعرفها في الحياة أن تشرب القهوة عندما تستطيع وعندما لا تستطيع. ومن طريف ما يمكن ذكره عن علاقة الأدباء بالقهوة أن المفكر والأديب الفرنسي جان جاك رسو كان يعتبر رائحة القهوة بمثابة عطر بهيج ويقول عنها: آه، هذا العطر الذي يفرحني وعندما يحمصون القهوة بالقرب من منزلي أسارع لكي أفتح الباب لأستوعب كل الرائحة. ومع ذلك نجد أن عملاق الأدب الألماني جوتية كان يسبب له شرب القهوة نوع من الأرق ومع ذلك كان يستمر في ارتشاف فناجين القهوة وفي المقابل نجد أن ألكسندر بوب وهو أحد أشهر شعراء الإنجليز في جميع العصور كان على خلاف جوتيه إذا أصابه الصداع كان يتعالج باستنشاق البخار المتصاعد من فنجان قهوة ساخن.

 من كل ما سبق سردة يمكن أن نستشف لماذا تعززت العلاقة والترابط بين القهوة والثقافة ودنيا الأدب لدرجة أن خرجت من نطاق الخصوصية بين فنجان القهوة والقارئ والكتاب إلى رحاب العمومية ممثلة في تأثير المقاهي في مجمل الحركة الثقافية. وبعدما كانت الظاهرة الأدبية محصورة في (شعراء القهوة) تحولت إلى (أدب المقاهي) والمقاهي الثقافية لدرجة أننا نجد أخبار متعددة عن أدباء ليس فقط كانت القهوة محفز لإبداعهم الأدبي بل قاموا بكتابة رواياتهم الأدبية أو حبك قصائد الشهرية وهم على طاولات المقاهي وبين ضجيج الزبائن والمرتادين. خير مثال (مزدوج) يمكنه ذكره في هذا المجال هو ما قام به الأديب والمفكر الفرنسي المعروف جان بول سارتر وعشيقته الكاتبة سيمون دي بوفوار وفق عادتهم المشهورة بالتردد على مقهى (فلورا) في باريس بالجلوس كلا على حدة وعلى طاولة منفردة حيث كان سارتر يؤلف كتابه الشهير عن الوجودية (الوجود والعدم) في حين أن سيمون كان تؤلف روايتها الأولى (أتت لتبقى) كما سطرت على طاولة المقهى كتابها الأكثر شهرة (الجنس الآخر).

ومن باريس ننتقل إلى مدينة أدنبره حيث نجد الروائية البريطانية جي كي رولينج تقول إن أفضل مكان للكتابة هو في المقهى ولهذا لا عجب أن نعلم أن روايتها ذائعة الصيت للصغار قبل الكبار (قصة هاري بوتر) كتابتها وهي على طاولات مقهى بيت الفيل المطل على قلعة أدنبرة. وبالاتجاه جنوباً من أوروبا إلى العالم العربي وبالتحديد إلى مدينة طنجة نجد أن الكاتب المغربي البارز محمد شكري يؤلف روايته المذهلة (الخبز الحافي) وهو على طاولات مقهى (الحافة) المشرف على مضيق جبل طارق.

 وبما إن سيرة المقاهي الأدبية انفتحت ونحن في آخر المقال فلا يسعنا إلا أن نسارع بطي الطاولات ورفع الكراسي وإغلاق المقهى قبل أن ننزلق في سرد ملحمة مطولة لأغلب مشاهير الأدباء والشعراء والكتاب والمفكرين من كل الجنسيات وعبر القرون الأخيرة الذين ارتبطت مسيرتهم الثقافية مع ارتشاف فناجيل القهوة وتبادل الحوار الأدبي والجدال الفكري عبر جنبات هذه الأندية المعطرة برائحة القهوة الزكية.

بقي أن أقول إن هذا الحديث ذو الشجون عن امتزاج عبق القهوة بألق الثقافة كان الدافع له أنه وبعد أيام قلائل ومع مطلع السنة الميلادية الجديدة حسب ما أعلنت عنه وزارة الثقافة بأن سنة 2022م سوف يطلق عليها (عام القهوة السعودية). وبالإعلان عن سنة القهوة هذه من خلال الوزارة ممثله في الهيئة العامة للثقافة وليس من خلال هيئة التراث نستشف أن رمزية القهوة في المورث الشعبي كحالة مكثفة للدلالة على الأصالة والكرم لن تطغى كثيراً عن دلالة ارتباط القهوة المتجذر بالأدب والثقافة والفكر.

ومع ذلك لعل من الملائم أن نختم بذكر إحدى أشهر الأبيات الأدبية في الشعر النبطي وهي للشاعر الكبير راكان بن حثلين والتي تربط بين القهوة والتراث والكرم .. وطبعا الأدب:

يا ما حلا الفنجان مع سيحة البال         في مجلسن ما فيه نفسٍ ثقيله

هذا ولد عم وهذا ولد خال                 وهذا رفيق ما لقينا مثيله


( الشذوذ الجنسي .. من الرفض إلى الفرض )

 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 نقاط الاختلاف بين النظام النازي الألماني والنظام الملكي البريطاني متعددة وشاملة وربما لا يكاد يجمعهما أي مجال للاتفاق باستثناء معاداة الشيوعية وتجريم الشذوذ الجنسي. وكما هو معلوم في فترة ما كان الإنجليز والروس الشيوعيين حلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية وبهذا لا يتبقى من عوامل الالتقاء بين ألمانيا النازية وإنجلترا الأنجلوسكسونية إلا تجريم الشذوذ الجنسي. بالرغم من المزاعم غير الثابتة أن لكلا من أدولف هتلر الألماني وونستون تشرشل البريطاني كان لهما في أوائل شبابهما ميول جنسية شاذة إلا أن من المؤكد أن الفوهرر الألماني هتلر حارب بقبضة من حديد الشذوذ حيث أمر بمحاكمة ما يزيد عن خمسين ألف من الشواذ الألمان والذين زج بهم في معسكرات الاعتقال الرهيبة. بل أن هتلر أمر بشكل مباشر بقتل وتصفية العديد من الشواذ ممن اكتشف وجودهم في الحزب النازي نفسه أو من كبار الضباط في جهاز الشرطة العسكرية السرية الجيستابو.

أما في بريطانيا ومنذ زمن الملك هنري الثامن في مطلع القرن السادس عشر الميلادي كان يحكم بالإعدام على كل من يتهم بممارسة اللواط وبالرغم من أن الحكم خفف بعد ذلك بقرون إلى مجرد السجن إلا أن اعتبار الشذوذ الجنسي جريمة يعاقب عليها القانون استمر حتى عام 1967ميلادي. وما يهمنا هنا بالعودة للعداء التاريخي بين ألمانيا النازية والمملكة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية أن الألمان كادوا يحتلون الجزر البريطانية لولا جهود سلاح الطيران الملكي البريطاني الذي مدح تشرشل شجاعة مقاتليه في خطبته العصماء المشهورة عندما قال: لم يحدث في ميدان الصراع الإنساني أن العديد مدين بالكثير لقلة قليلة. وإذا كان تشرشل أرجع الفضل في نجاة الأمة البريطانية من غزو الألمان إلى بسالة فرق الطيران الملكي فهو كذلك لم يغفل الخدمة العسكرية الفريدة التي قام بها عالم الرياضيات البريطاني آلان تورنغ الذي مدحه تشرشل بقوله (إن آلان تورنغ قدم أكبر مساهمة فردية في انتصار الحلفاء في الحرب ضد ألمانيا النازية).

من الألقاب التي يوصف بها آلان تورنغ أنه أبو علوم الكومبيوتروقد اعتبرته مجلة التايم الأمريكية في عام 1999م أحد أهم مئة شخص في القرن العشرين كما أُصدرت قبل شهور قليلة أكبر علمية ورقية في بريطانيا (من فئة 50 جنيه إسترليني) وهي تحمل صورة آلان تورنغ. والسبب في هذه المكانة التاريخية المميزة له أنه استطاع تطوير تقنيات حاسوبية تمكن من خلالها مع فك شفرات جهاز التشفير الألماني الأسطوري المسمى (إنغما) والذي كان يستخدم للتواصل المشفر عبر الرسائل السرية بين قطاعات الجيش النازي وهذا الاختراق ساعد في تسريع هزيمة الجيوش النازية. وبالرغم من آلان تورنغ ساهم بشكل حاسم في تقدم قوات الحلفاء لأنها كانت تعرف مسبقا الخطط والمعلومات السرية الحربية للعدو النازي إلا أنه عندما اكتشف بمحض الصدفة عام 1952م أنه شاذ جنسيا تم في حينها التجاهل التام لجميع الخدمات الكبرى التي قام بها في حماية الأمة البريطانية. في ذلك الوقت كانت ممارسة الشذوذ الجنسي تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون ولهذا تم فصل تورنغ من عمله ومن التدريس بجامعة مانشستر كما صدر عليه حكم المحكمة إما أن يسجن عدد من السنين أو تتم عملية الأخصاء الكيميائي له بحيث يفقد ذكورته. وبعد أن استمر تورنغ في تلقى حقن الهرمونات الأنثوية ساءت حالته النفسية ووضعه الصحي وتوفي بعد سنة واحدة فقط من الحكم المذل عليه وهو بعد في سن مبكر نسبيا أي في مطلع الأربعينات.

 الشذوذ التاريخي في قصة الشواذ

ما سبق على طول المحتوى المعروض كان المقصود منه إعطاء لمحة خاطفة وإضاءة كاشفة للنفور والرفض الراسخ لأغلب شعوب ودول ودساتير العالم للأفعال الفاضحة للشذوذ الجنسي.  وفي فترة الثمانينات من القرن العشرين ومع بداية تفشي مرض الإيدز ذو الأسباب الجنسية زاد الرفض والاحتقار للشواذ جنسيا. بل وحتى فترة قريبة نجد أن الغالبية الكاسحة من البشر تستنكر هذا الخلق ولهذا تشير الإحصاءات الرسمية في المجتمع الأمريكي أن أكثر من خمسين بالمائة من الحوادث والاعتداءات التي مصدرها الكراهية hate crimes تكون موجه ضد الشواذ جنسيا أكثر مما توجه ضد الآخر المختلف في لون البشرة أو الدين أو الأصول العرقية. وهنا نصل لرصد الظاهرة الفريدة في التاريخ البشري وهي أنه بعد قرون متطاولة بل ومنذ فجر التاريخ في رفض ومحاربة الشذوذ وإذا بنا فجأة وفي فترة زمنية قصيرة نجد بدلاً من (الرفض) من يحاول (فرض) القبول بالشذوذ الجنسي وإزالة كافة الحواجز المانعة منه.

في نهاية الستينات من القرن الماضي بدأت إرهاصات تغير الموقف من قبول حقوق السود وقبول ما يزعم بالإفك والبهتان حقوق الشواذ. كما هو معلوم القاعدة العامة في صيرورة المسيرة البشرة (أن الحقوق تُنتزع ولا ُتمنح) ولابد لنيل الحقوق من النضال في ميادين التضحية. ولنجري مقارنة بين المغالبة والتضحية في نيل حقوق السود ونيل الحقوق المزعومة لأهل الشذوذ. فمثلا في جنوب إفريقيا حصل في عام 1960م مذبحة مدينة شاربفيل التي قتل فيه رجال الشرطة حوالي سبعين شخصا من بين عشرات الآلاف للأفراد المجتمعين في مظاهرة ضد القوانين العنصرية ضد السود. وفي نفس السياق وفي التاريخ الأمريكي نجد أن يوم السابع من شهر مارس لعام 1965م يسمى بيوم (الأحد الدامي) وذلك بعد قيام رجال الشرطة بالاعتداء العنيف والقاتل ضد مئات الأشخاص الذين كانوا ينظمون في ولاية ألاباما مسيرة سلمية احتجاجية ضد القوانين العنصرية ضد السود. بمثل هذا النضال في انتزاع الحقوق عبر الدماء والدموع أصبحنا جميعا نعرف أسماء رموز وأبطال حركة المطالبة بالحقوق المدنية في جنوب أفريقيا وأمريكا من مثل المشاهير نيلسون مانديلا ومارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس وسيدة الحافلة روزا باركس.

وفي المقابل نجد أنه في الولايات المتحدة وبدون مقدمات أو مسيرات تم في عام 1962م إلغاء قانون قديم يجرم سلك الشذوذ الجنسي ويحكم بالسجن لمدة عشر سنوات لمن يقترف ذلك. الغريب في الأمر أن إلغاء هذا القانون الأمريكي الصارم وكذلك القوانين البريطانية التي ذكرنا سابقا أنها ألغيت في عام 1967م كلها جاءت وكأنها (حقوق تُمنح ولا تُنتزع). وهذا محل الغرابة و(الشذوذ) في تاريخ مسيرة الأفكار والأفعال التي تخالف بشكل جذري عقيدة وقناعات الشعوب ففي العادة لا يتم قبول هذه المتغيرات الفكرية والسلوكية إلا بعد ممانعة وشراسة في الرفض. الأمر الشاذ في قصة تمكين الشواذ أنهم على خلاف الحركات المطالبة بحقوق السود أو حقوق العمال أو حقوق الأقليات أو حقوق المساجين وغيرها من الحركات المطالبة بالحقوق المدنية لم يظهر منهم رموز مناضلين ذوي شهرة دولية. وفي حين كانت مظاهرات ومسيرات المطالبين بحقوق السود تقابل بالرصاص والعنف القاتل لرجال الشرطة نجد أنه في عام 1970م ومع انطلاق مسيرات ومظاهرات الشواذ واللوطيين لأول مرة بشكل علني في شوارع المدن الأمريكية الكبرى كان جهاز الشرطة هو من يوفر لهم الحماية.

في الواقع أمر محير جدا تحول المجتمعات الغربية في زمن قصير نسبيا من شعوب رافضة للشذوذ الجنسي إلى شعوب وأنظمة متقبلة له بل ومدافعة بحماس عن الشذوذ وهذا ولا شك يثير الريبة والتساؤل عن الأيدي الخفية المحتملة التي خدعت وغررت الشعوب الغربية بقبول الشذوذ تحت حجة الليبرالية والتسامح. وهذا ربما يستدعي إلى الذاكرة حصول ذلك التغير المفاجئ والعميق في نفس تلك المجتمعات الغربية فيما يتعلق بالنظرة نحو اليهود وتشريع القوانين المدافعة عنهم والمعروفة بقوانين معاداة السامية.

الأمر الشاذ الآخر في قصة الشواذ أنه في العادة في حرب الأفكار والمعتقدات تلجأ الدول أو المنظمات إلى محاولة الغزو الفكري والأخلاقي وذلك من خلال إفساد وإشاعة الاضطراب في أيدولوجيات وسلوك الشعوب المعادية لها.  ولكن في حالة (نشر) الشذوذ الجنسي تقريبا نجد أن دائرته الأصلية والعميقة هي في صلب المجتمعات الغربية وبالذات الدول البروتستنتية بل إن الشذوذ الجنسي في أمريكا يحصل بنسبة تفوق 80%  بين الرجال البيض بينما هي فقط في حدود 6% في مجتمع السود. وإذا كان ذلك كذلك فلماذا تتم المؤامرة من داخل المجتمع الغربي لإفساده وتجريفه من الداخل بمثل هذا الانحراف السلوكي المزلزل. في السابق كانت مدينة سان فرانسيسكو توصف بأنها معقل الشواذ واللوطيين في أمريكا بينما نجد أنه ونتيجة لتفشي هذا الوباء السلوكي أقيم في مدينة نيويورك في عام 2019م مسيرة حاشدة للشواذ شارك فيها أكثر من أربعة ملايين شخص. ومنذ عقود كانت توصف مدينة تل أبيب عاصمة الكيان الصهيوني بأنها (جنة الشواذ) وقد أقيم فيها قبل فترة مسيرة وتجمع للشواذ شارك فيه أكثر من ربع مليون مأفون. ومن شدة وشناعة شيوع تيار الشذوذ والداعمين له في الغرب تحولت الموجه عندهم من مجرد التسامح مع الشذوذ بأنه مرض نفسي وأنتقل حال لوصف من يحذر من الشذوذ بأنه هو المصاب باضطراب وخلل ورهاب نفسي أطلقوا عليه تسمية (رهاب المثلية Homophobia) وكأن حالة النفور والرفض للشواذ هو خوف غير منطقي وسببه خلل نفسي.

 بقي أن نقول وفيما يخص مجتمعاتنا العربية والإسلامية فنحن على مشارف أزمة حقيقة وكارثة مفزعة فيما يخص إرهاصات تغلغل وتسلل هذا الداء السلوكي والاجتماعي والنفسي الخطير. وخطورة هذا التسلل للسلوك الشاذ أنه يتم من خلال المجالات ذات الجذب العالي لشرائح المراهقين والشباب مثل الفعاليات الرياضية والمسلسلات والأفلام السينمائية (شبكة نيتفلكس نموذجا) أو الحفلات الغنائية (كمثل فرق البوب الكورية). الأخطر من ذلك تنامي اختلال التفكير العقائدي والتصور المعرفي بتبرير التغير في الحكم على سلوك الشذوذ الجنسي وبأنه حالة مرضية نفسية أو أنه غير متحكم به لأنه ناتج من اختلاف في الجينات الوراثية المحددة للسلوك.


( الفيروس ومرض الاقتصاد )


د/ أحمد بن حامد الغامدي

المال عصب الحياة وبشكل (مادي) وملموس يعتبر بحق (رأس مال) الحضارات ومن هنا لم يبتعد كارل ماركس كثير عن الحقيقة في كتابه (رأس المال) عندما قال: الاقتصاد هو العامل الأساسي في تشكيل الحياة. وبالرغم من الدور الجوهري للمال والاقتصاد في تشكيل التاريخ البشري إلا أن دراسة وتحليل ومحاولة فهم آليات وميكانزمات الاقتصاد تأخرت كثيرا في مسيرة الحضارة البشرية على خلاف ما هو الحال مع الدين والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع. في وقت متأخر من التاريخ الإنساني أي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بدأ يظهر أشخاص وباحثين يمكن أن يتم وصف أحدهم بأنه عالم اقتصاد economist مثل عالم الاقتصاد الفرنسي فرانسوا كيناي صاحب (الجدول الاقتصادي). أما أهم شخصية في مجال الاقتصاد وهو آدم سميت الملقب بأبي علم الاقتصاد فهو في الأساس فيلسوف أسكتلندي ومن منطلق محاولة فهمة وتحليله لأثر الثورة الصناعية التي ولدت في الجزر البريطانية حاول من خلال كتابه الذائع الصيت (ثروة الأمم) الذي نشره عام 1776م أن يضع لبنات وقواعد فهم عمل الاقتصاد بالرغم من أنه توصل في النهاية إلى أنه أمر قد يصعب إدراكه وأن (يد خفية) هي من تقود المجتمع المالي.

القفزة الكبرى التالية التي حصلت في محاولة فهم آليات عمل عالم المال والأعمال التجارية هي تلك التي القفزة التي توقف عندها إدراك ومعرفة أغلب الناس عن علم الاقتصاد وأنه يتحكم به قانون (العرض والطلب). حصل ذلك في عام 1890م عندما قام الاقتصادي البريطاني ألفرد مارشال بنشر كتابه المؤثر (مبادئ الاقتصاد) والذي شرح فيه الأفكار الرئيسية في علم الاقتصاد ومن أشهرها مفهم العرض والطلب الذي يحكم الأسواق التنافسية. وبالرغم من محورية هذا النموذج في تفسير حركة التجارة وعالم الأعمال ألا أنه كان قاصر في العديد من الحالات لتفسير بعض الظواهر أو (الكوارث) الاقتصادية ولهذا طال هذا المفهوم شيء من النقد والسخرية اللاذعة لدرجة أن الكاتب والمفكر الأسكتلندي توماس كارليل قال (عّلم ببغاء كلمتي العرض والطلب وسيكون عندك عالم اقتصاد). ومع الاعتذار لجميع الزملاء الأفاضل وهم كثر من علماء الاقتصاد الذين أتشرف بمعرفتهم فهذا المقال مشاغبة ثقافية لمحاولة سبر مجال علمهم المعقد والمحير. المشكلة في تطور علم الاقتصاد أنه كثيرا ما تم من خلال الكوارث والأزمات فكلما حصل هزه كبرى في الاقتصاد العالمي تداعى واجتمع علماء الاقتصاد بعد خراب مالطا لمحاولة فهم ما حصل وغالبا هذا الأمر يثمر توليد نظريات اقتصادية جديدة.

أكبر كارثة اقتصادية في التاريخ البشري تلك التي حملت اسم (الكساد العظيم) وهي أزمة اقتصادية حصلت في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين نتج عنها انهيار كبير في قطاع البنوك وأسواق الأسهم والتجارة العالمية. للأسف نموذج (العرض والطلب) لمرشال لم يكن كافي لتفسير هذه الكارثة وهنا ظهر على مسرح التاريخ الاقتصادي البريطاني المعروف جون كينيز الذي عارض فكرة الاقتصاد الحر وحث الدول والحكومات على التدخل وضبط الأسواق التجارية ولهذا أصبح علم الاقتصاد الجديد الذي يتبنى هذا المسار يحمل اسم Keynesian economics الاقتصاد الكينيزي. من أهم الأفكار الإصلاحية التي اقترحها جون كينيز لإعادة ضبط الاقتصاد هو استخدام السياسات المالية أي ضخ الحكومة الأموال لتوفير البنية التحتية والسياسات النقدية والتي من أهمها تخفيض أسعار الفائدة على القروض المالية وكأنه بذلك يتوافق مع ما نعلمه من ديننا العظيم بأن الربا هو أحد أسباب خراب الدول ومصدر مصائبها.

التطور التالي في نظريات علم الاقتصاد لن يحصل إلا بعد حصول أزمة وكارثة جديدة وهذا ما حصل في فترة السبعينات من القرن العشرين عندما أعتل الاقتصاد وأصيب بمرض الركود والتضخم stagflation ومن أشهر اعراض هذا الخلل الاقتصادي حصول ارتفاع مستويات البطالة المصحوبة بارتفاع أسعار السلع. لأول مره في تاريخ الاقتصاد تجتمع ظاهرة ارتفاع البطالة مع زيادة التضخم ولعلاج هذا الاقتصاد المريض لم تعد الوصفة السحرية لجون كينيز تنفع. ولهذا تقبل المجتمع الاقتصادي الوصفة العلاجية التي اقترحها عالم الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعالم 1976م وأحد أشهر أفراد مدرسة شيكاغو للاقتصاد التي حصل العديد منهم على جائزة نوبل. وعلى العكس من نظرية كينيز نصح فيدمان بتدخل أقل من الحكومات في حركة الاقتصاد الحر ولهذا عارض فيدمان تدخل الدول لتثبيت سعر صرف العملات ولذا اقترح الغاء البنوك المركزية والنظام المالي الأمريكي المسمى بالاحتياطي الفيدرالي. في كتابة (الرأسمالية والحرية) طرح فريدمان نظريته عن السوق الحر وأن تدخل الحكومات معرقل للاقتصاد وبالتنظير للاقتصاد المنفلت من كل القيود يعتبر الاقتصادي اليهودي فريدمان بحق هو عرّاب الرأسمالية المتوحشة. ولم تقف نصائح فريدمان أن تتخلي الدولة عن الاشراف على المعاملات المالية والتجارية بل اقترح عليها التخلي و(بيع) المؤسسات الحكومية إي القطاع العام إلى القطاع الخاص فيما يعرف بالخصخصة. وبحكم أن بريطانيا تقريبا هي أول دولة تطبق نظام الخصخصة زمن رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر ولهذا لا غرابة أن تمتدح تاتشر فريدمان وتصفه بالزور وبالهتان بأنه كان (مثقفا مقاتلا من أجل حرية الفرد). ومن التناقض الصارخ في كذب هذه المديح التاتشري أنه نظرا لأنه فريدمان كان مستشارا اقتصاديا للدكتاتور التشيلي بونشية ولذا في حفل استلامه لجائزة نوبل في الاقتصاد كانت تقام خارج قاعة الحفل مظاهرات صاخبة ضد فريدمان وكان هتافات المحتجين (تسقط الرأسمالية .. والحرية لتشيلي).

مسيرة اقتصادية متأزمة

لقد أسقط فيدمان عالم الاقتصاد الكينيزي وأقام محله مفهوم اقتصادي جديد لم يكن من المستغرب أن يسمى بالاقتصاد الفريدماني ولكن بحكم أن هذه الفلسفة الاقتصادية اليهودية الفريدمانية مبنية على الرأسمالية الجشعة المعتمدة على ضمان التدفق المالي وفرض الضرائب وتحرير الأسعار وزيادة سعر الفائدة. وبالجملة تلك معاملات مالية ربوية تتغذى على السحت الصريح وبذا لم يكن مستغربا على الإطلاق أن يصاب هذا الاقتصاد النقدي بالعديد من الأزمات والكوارث الكبرى. من أكثر الأحداث الساخنة المرتبطة بعالم الاقتصاد هو تكرار حصول (انهيار البورصات) وبعد حادثة الإثنين الأسود عام 1987م والانهيار الحاد في أسواق الأسهم العالمية تكتل فطاحله علم الاقتصاد لمحاولة تفسير هذه الكوارث المالية ووضح الحلول لتحجيمها. وبهذا تتكرر الظاهرة الغريبة في علم الاقتصاد أنه لا يتطور إلا بعد حدوث مصيبة كبرى وعلى كل حال ظهر فرع جديد يحمل اسم اقتصاديات التعقيد complexity economics ولمحاولة فهم أسباب حصول كوارث انهيار البورصات تم طرح العديد من النظريات التي وضعها كبار علماء الاقتصاد الذين حصلوا على جائزة نوبل مثل جوزيف ستيجلز وروبرت شيلر. أما تفسير أسباب أزمات انهيار سوق العملات مثل تلك الأزمة المالية عام 1997م (أزمة النمور الأسيوية) فقد حاول علماء اقتصاد آخرين تفسيرها كما حصل مع عالم الاقتصاد الأمريكي بول كروغمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد.

من الطرائف والعجائب في تاريخ علم الاقتصاد أن العلماء والباحثين بذلوا جهود مكثفة لفهم أسباب خلل عالم المال والاعمال وبالذات قطاع عمل البنوك لتفادي حدوث أي كارثه وأزمة اقتصادية عالمية جديدة. وفي عام 2003م أعلن عالم الاقتصاد الأمريكي روبرت لوكس الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد أن كل المشاكل الأساسية المسببة للركود الاقتصادي تم حلها. ثم سرعان ما حصلت الفضيحة والمهزلة عندما وقع بعد تصريح لوكس بخمس سنوات أكبر انهيار اقتصادي من 80 سنة والذي عرف باسم (الركود الكبير) والتي بدأ في أمريكا بمشكلة البنوك مع ديون الرهن العقاري. من سخرية الأحداث أن عالم الاقتصاد روبرت لوكس حصل على جائزة نوبل لتطويره لنموذج وآليه اقتصادية متقدمة تسمى (التوقعات العقلانية) وفي حين فشل فشلا ذريعا في فهم ديناميكية تغير سوق المال ومصائبه المتكررة نجد عالم اقتصاد آخر هو هيمان مينسكي ومنذ عقود طويلة يحلل بدقة فكرة الخلل في عمل البنوك. وكيف يتسبب ذلك الخلل في حصول تراكم الدين ونشوء الفقاعة المالية والتي عندما تنفجر (في لحظة مينسكي) تحصل الأزمة الاقتصادية الماحقة.

وبعد نشهد هذا الأسبوع أزمة اقتصادية دولية طاحنة تمثلت في انهيار البورصات العالمية وتدهور أسعار النفط وكل ذلك بسبب أخبار إعلامية غامضة أنه تم اكتشاف عدد لا يزيد عن العشرات من حالات الإصابة بالمتحور الفيروسي الجديد (اوميكرون). أمر محير جدا هشاش الاقتصاد العالمي في القديم والحديث وتعرضه بشكل متكرر للعديد من الزلازل والكوارث المالية التي تنوعت تسمياتها عبر السنين مثل: الكساد العظيم والركود الكبير والانهيار المالي والإفلاس العالمي وبعد أن كنا نسمع عن الاثنين الأسود والثلاثاء الأسود والخميس الأسود في الوقت الحالي ومع كثرة الأزمات المالية أصبحت جميع أيام الأسبوع سوداء.

لا شك أن الأزمة الاقتصادية الحالية تحتاج مثل سابقتها لمزيد من الدراسة والتحليل والتدقيق، ولكن أهم أمر يمكن استخلاصه أن الاقتصاد العالمي الآن معقد ومتداخل و (متغير) بشكل هائل عما سبق. قديما في التاريخ البشري كانت التجارة قائمة على المقايضة والتعامل المباشر بين الزبون والبائع واليوم أصبحنا في زمن (التجارة الإلكترونية) التي تتم بين اشخاص لا يعرفون بعضهم البعض وقد تفصل بينهم محيطات وقارات. وفي الاقتصاد القديم كانت العملة المستخدمة هي الاصداف والنقود النحاسية والفضية وإذا بنا اليوم في عصر النقود الرقمية مثل البيتكوين والتي ليس فقط لا تستطيع أن تلمسها بلا لا تعرف في بعض الأحيان من الشبح الذي يصدرها ويصك نقودها. وبعد أن كان اسلافنا الأوائل اقتصادهم قائم على الزراعة وبعض الاعمال الحرفية البسيطة أصبحنا في زمن الشركات الكبرى العبارة للقارات والمتعددة الجنسيات. وفي حيان كان شيخ التاجر القديم يجمع ثروته بعملية بطيئة ومتدرجة عبر السنين الطوال نجد أن رجل الاعمال الأمريكي جيف بيزوس صاحب شركة أمازون يربح 13 مليار دولار في يوم واحد فقط.

أمر محير ولا شك عالم الاقتصاد المعاصر والمستقبل أكثر غموضا وحيرة وغالبا يستحيل التنبؤ لما يمكن أن يقع له من أزمات أو يحصل له من قفزات. علم الاقتصاد شبيه نوعا ما بعلم المناخ فكلا منهما تؤثر فيه عوامل متعددة ومتداخلة ومتغيرة ولذا يشتهر في مجال علم المناخ مفهوم تأثير الفراشة (المبنى على نظرية الفوضى ذات البعد الفلسفي والفيزيائي) والذي يقول إن تأثير تحريك الهواء الناتج من رفرفة جناح فراشة فوق سماء مدينة طوكيو ربما تسبب على الطرف الآخر من المحيط الهادي في حصول إعصار مدمر على مدينة سان فرانسيسكو. وعلى نفس النسق في عالم الاقتصاد لو حصل أن شخصا ما وخزه فيروس كورونا المتحور أوميكرون في دولة جنوب إفريقيا فأنه ليس فقط سوف يعدي ملايين البشر بالمرض ولكنه يمكن أن يتسبب كذلك في مرض الاقتصادي العالمي بأكمله ويتسبب له بسكته أو (أزمة) مالية قاتلة.


( علوم الأولين .. إرث مُغيّب )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 وفق ما يعرض في كتاب التاريخ المعاصرة فإن من (اكتشف) شلالات بحيرة فيكتوريا في وسط أفريقيا هو المغامر والمستكشف الأسكتلندي ديفيد ليفينغستون بالرغم من أن من هذه الشلالات معروفة منذ آلاف السنين لشعوب زامبيا والذين يطلقون عليها اسم: الدخان ذو الرعد (موسي وا تونيا). نفس هذه المهزلة تتكرر في محيطنا العربي عندما تزعم كتب التاريخ الأوروبية أن من اكتشف مدينة البتراء الأثرية في الأردن قبل قرنين من الزمن هو الرحالة والمستشرق السويسري يوهان بركهارت بالرغم من أن بدو العرب والأنباط لم يغادروا قط هذه المنطقة. ومن الوقاحة أن الغرب ينسبون لبركهارت أيضا بأنه هو من اكتشف معبد أبو سنبل الفرعوني الضخم في منطقة أسوان بجنوب مصر بينما هو في الواقع كان يتنقل كسائح بين هذه المناطق الأثرية ومسترشدا بالسكان المحليين الذين قادوه لها وعرفوه بها.

السبب فيما سبق من هذه المهازل وغيرها كثير جدا يرجع لظاهرة تعرف في علوم التاريخ والسياسة بظاهرة (المركزية الأوروبية) Eurocentrism أو المركزية الغربية ويقصد بذلك أن الأوروبيين والغربيين إجمالا ينظرون بشكل متحيز للحضارة الغربية ولهم رؤية للتاريخ والعالم متمركزة عليهم فقط فالأشياء والمعارف والاكتشافات لا يعترف بها إلا أذا كانت عن طريقهم. المركزية الأوروبية للتاريخ عند إعادة كتابة الموروث البشري العام هي التي جعلتنا ننسى أو نتناسى موروثنا التاريخي القديم ونعتقد أن أغلب الاكتشافات العلمية وأساسيات المخترعات التقنية والحضارية هي فقط من إنتاج الغرب وأهل أوروبا.

ومن هذا المنطلق نبدأ نفهم لماذا في تاريخ العلوم والتقدم البشري نجد أن علماء ومؤرخي القارة الأوروبية ومن لف لفهم من الأمريكان والكنديين يتجاهلون بشكل شبه تام إسهام الحضارات الإنسانية غير الغربية في تقدم العلوم البشرية وبالخصوص أثر الحضارة الإسلامية والعربية. وبحكم أن تعليمنا الحديث وثقافتنا المعاصرة مبنية بشكل شبه كامل على العلوم الغربية على ما فيها من التحيز والانحراف البنيوي بسبب (المركزية الأوروبية) ولذا تشربنا العارف والمعلومات وفق وجهة النظر الغربية خصوصا فيما يتعلق بتاريخ العلوم والمخترعات التقنية. وهذا المقال يأتي في مساق انتشار مقطع مرئي قصير للشيخ صالح آل الشيخ يسرد فيه استشهاد من مقدمة كتاب المسالك والممالك للجغرافي العربي ابن خرداذبة وفيه إشارة عامة لظاهرة الجاذبية الأرضية. وسبب الانتشار الواسع لهذا المقطع إعجاب واستغراب الكثير منا أن مفهوم جاذبية الأرض وكرويتها أمر مذكور في التراث العربي القديم.

بتأثير من المناهج العلمية الحديثة المكتوبة وفق وجهة النظر والمركزية الأوروبية تشبعنا كلنا معلومة أن العالم البريطاني إسحاق نيوتن هو من (اكتشف) ظاهرة الجاذبية الأرضية وهذا ولا شك خطأ شائع. الأقرب طبعا أن نقول بأن نيوتن اكتشف (قوانين) الجاذبية وأعطى التفسير العلمي الدقيق لهذه الظاهرة الطبيعية والمعروفة بالفطرة منذ فجر التاريخ. الإضافة الحقيقة لنيوتن في تاريخ العلوم أنه (اكتشف) قانون التربيع العكسي لتفسير مفهوم الجاذبية والذي ينص على أن قوة التجاذب بين جسمين تتناسب طرديا مع كتلة هذين الجسمين وتتناسب عكسيا مع مربع المسافة بينهما وينبغي التنبيه أن هذا القانون يختلف عن قوانين الحركة الثلاثة المشهورة لنيوتن. ونظرا لأهمية الكبيرة لقانون التربيع العكسي واستخداماته العلمية المتنوعة لتفسير عدد من الظواهر الفيزيائية يوجد جدال حاد حول من يستحق بأن يوصف بأنه أول من اكتشف هذا القانون هل هو نيوتن أم العالم البريطاني روبرت هوك.

والمقصود أن المعرفة العلمية في الغالب تراكمية عبر الزمن ونفس المكتشفات العلمية قد يتوصل لها أكثر من شخص أو حتى أكثر من شعب وحضارة. بالفعل لم يكتشف نيوتن الجاذبية بسبب سقوط تفاحة على رأسه وقد فندت هذه القصة الخيالية في مقال خاص حمل عنوان (أحداث علمية مشهورة من نسج الخيال) ولهذا في هذا السياق لن يكن مستغربا أو أمر مدهشا أن نعرف أن العلماء العرب والمسلمين سبق لهم أن أشاروا في كتبهم لظاهرة الجاذبية. وبالجملة توجد إشارة لظاهرة الجاذبية في كتابات العديد من العلماء العرب مثل أبناء موسى بن شاكر وأبو الريحان البيروني وأبو جعفر الخازن وثابت بن قرة وابن الهيثم وابن ملكا البغدادي بل ورد ذلك في الكتب العديد من علماء الجغرافيا العرب مثل الإدريسي والهمداني بالإضافة طبعا لابن خرداذبة السابق الذكر. وهنا لا بد لنا من وقفة مكاشفة وهي أنه إذا تم الإشارة لظاهرة الجاذبية في المخطوطات العربية التراثية القديمة فهذا لا يعني بالضرورة أن العلماء العرب هم (( أول )) من تكلم ورصد وناقش مفهوم الجاذبية. وكما نعيب على الغربيين نظرتهم الإقصائية للإسهام غيرهم من الشعوب والحضارات (أي المركزية الأوروبية) فيجب ألا نقع في عين ذات الخطأ وننسب كل الاكتشافات القديمة بأنها من إنتاج الحضارة الإسلامية (أي المركزية الإسلامية/العربية).

  الجاذبية في علوم الأقدمين

بما أن العصر الذهبي للعلوم الإسلامية مع مطلع القرن الثالث الهجري وزمن إنشاء بيت الحكمة في بغداد كان مبنى بصورة كبيرة على حركة الترجمة من كتب الأقدمين و(علوم الأولين) من اليونان والرومان والفرس والهنود ولذا كيف وقعنا في خلل التفكير أن كل الحقائق والمعارف العلمية المذكورة في المخطوطات الإسلامية هي من (اكتشاف) المسلمين. ذكرنا أن الجغرافيين العرب مثل الإدريسي والهمداني وابن خرداذبة المذكور في المقطع الصوتي للشيخ صالح آل الشيخ أشاروا في كتبهم لظاهرة الجاذبية، ولكن ربما من الإنصاف أن ننبه أن علم الجغرافيا العربية كان في بداياته مبني على كتاب (المجسطي) لعالم الفلك والجغرافي الإغريقي بطليموس. هذا الكتاب المؤلف في الأصل باللغة اليونانية ومترجم إلى اللغة العربية على يد حنين بن إسحاق توجد في المقالة الأولى من هذا الكتاب الوصف الشهير للكون وفق نظرية بطليموس أن الأرض هي مركز الكون وهنا نجد إشارات إلى مفهوم الجاذبية وأنها هي التي تربط الكواكب بعضها ببعض وتتسبب في جعل الأجسام تقع على الأرض. في علم الفلك القديم توجد مشكلة تسمى (المعضلة الكبرى) تدور حول نظرية أرسطو عن الكون واختلافها عن النظرية الكونية لبطليموس بالرغم من أن كلا النظريتين قائمة على مركزية الأرض للكون. ولكن أرسطو في تصوره يقول بحركة الكواكب في مدارات مفردة في حين أن النظام البطلمي يقول إن كل كوكب يدور حول الأرض من خلال نظام يحتوي مدارين أو أكثر. وما يهمنا هنا أن العالم العربي الكبير ابن الهيثم حاول التدخل في هذه المعضلة الفلكية المعقدة وأن يوفق ويجمع بين النظام الفلكي الأرسطي والنظام البطلمي مع الميل أكثر لنظرية بطليموس ولهذا من بعض ألقاب ابن الهيثم في كتب الغرب أنه: بطليموس الثاني بالرغم من أنه انتقد بطليموس في بعض كتبه مثل كتاب شكوك على بطليموس وكتاب تصويبات على المجسطي. وبحكم أن الحديث هنا عن الجاذبية ولذا نعود إلى ذكر مناقشة العلماء العرب لها ونخص منهم العالم الكبير ابن الهيثم تكلم عنها في بعض كتبه وسماها (مراكز الثقل) وتطرق أيضا لظاهرة تجاذب الكتل وطرح فكرة أن ثقل الأجسام يختلف بحسب المسافة التي تفصلها عن مركز الأرض. وهذه الأفكار الفيزيائية الهامة عرضها ابن الهيثم في كتاب خاص حمل عنوان (مقالة في قرسطون) ويقصد بالقرسطون هو الآلة المعروفة باسم القبّان وهي عبارة عن ميزان علمي مستخدم منذ زمن أرخميدس لقياس أوزان المعادن. بقي أن نقول إن المعارف العربية المرتبطة بعلم الأوزان مثل كتاب ابن الهيثم (مقالة في قرسطون) وكتاب ثابت بن قرة (كتاب في القرسطون) أغلبها تستقي معلماتها وأسسها من كتاب العالم اليوناني الشهير أقليدس الذي عاش بالإسكندرية وينسب له تأليف كتاب يحمل عنوان (في الثقل والخفة وقياس الأجرام بعضها إلى بعض).

ومن علماء اليونان إلى علماء الهند واحتمالية معرفتهم وحديثهم عن الجاذبية وهذا ما تشير له المصادر التاريخية من أن عالم الرياضيات والفلك الهندي أرياباتا والذي ولد في القرن الخامس الميلادي عند حديثه عن الجاذبية قال: الأرض من جميع جوانبها متماثلة .. وكل الأشياء الثقيلة تسقط على الأرض بموجب قانون الطبيعة لأن الأرض بطبيعتها تجذب وتحافظ على الأشياء. الجدير بالذكر أن هذا العالم الهندي كان معروفا بشكل كبير للعلماء العرب فهذا النص للعالم أرياباتا منقول في كتاب الهمداني الذي يحمل عنوان (كتاب الجوهرتين) وكذلك في كتاب البيروني الشهير عن الهند. والغريب في أمر هذا العالم الهندي أنه بالرغم من تأييده وقبوله لنظرية مركزية الأرض في الكون إلا أنه أثار استغراب البيروني عندما ذكر أن بعض تلاميذ أرياباتا يعتقدون بأن الأرض تدور حول محورها. وهذا يخلف نظرية مركزية الأرض مما جعل بعض العلماء يعتقد بأن أرياباتا قد يكون سبق عالم الفلك البولندي كوبرنيكوس في فكرة مركزية الشمس وأن الأرض تدور حولها وفي نفس الوقت تدور حول محورها.

 أما وقد وصلنا لهذا المقدار من السرد فيما يتعلق بتاريخ معرفة البشرية بظاهرة ومفهوم الجاذبية وأنه يتخطى بآلاف السنين القصة الطريفة الخيالية لتفاحة نيوتن بل ويتخطى زمن العصر الذهبي للعلوم الإسلامية ليصل إلى العصور القديمة للشعوب الحضارات من قبلنا. ولذا قبل أن نختم فيجب أن ننبه أنه إذا كان مجرد ورد إشارة عابرة عن الجاذبية في بعض الكتب التراثية الجليلة أثار استغرابنا وإعجابنا فكيف إذا علمنا أن (علوم الأولين) القديمة كانت على درجة عالية ومذهلة من التقدم العلمي والإنجاز المعرفي. لعلنا نسترجع ذكر عالم الفلك الهندي أرياباتا السالف الذكر وكم سوف نعجب عندما نعلم أنه استطاع حساب مدة دوران الأرض حول الشمس وإنها تبلغ 365.25858 يوما بمعنى أنه أخطأ في قياس السنة الشمسية بمقدار ضئيل لا يذكر وهو ثلاث دقائق و20 ثانية أي بنسبة صحة تبلغ 99.999% وهو أمر لا يكاد يصدق. وفي القرن الثالث الميلادي استطاع عالم الرياضيات والفلك الإغريقي إراتوستينس المقيم في مدينة الإسكندرية ليس فقط من إدراك مفهوم أن الأرض ليست مسطحة وإنما لها شكل كروي وإنما استطاع كذلك أن يحسب (في قصة شيقة تستحق أن تذكر بشكل مستقل) طول محيط الكرة الأرضية وأنه يبلغ حوالي 39060 كيلومتر وهو رقم يقل عن الرقم الحقيقي بنسبة معقولة تبلغ حوالي اثنين ونصف في المئة. وربما القصة الأغرب في تاريخ الإنجازات العلمية في العصور القديمة ما قام به عالم الفلك الإغريقي هيباركوس عام 160 ميلادي من استخدام علم حساب المثلثات لمحاولة حساب المسافة بين الأرض والقمر ووجد أنها تبلغ حوالي 378 ألف كيلومتر ولا يزيد الفرق بين حساباته وتلك التي يمتلكها العلم المعاصر على 2 في المئة.

وبعد علوم الأولين ومعارف الأقدمين شي مذهل وسبحان من ألهم الإنسان أن يحاول اكتشاف أسرار الطبيعة ويحاول فهما لكي يسخرها لاحقا في عمارة الأرض وإنتاج حضارات بشرية متكاملة ومتممة لبعضها البعض في الجوانب العلمية والتقنية.

 


( الأطفال والإسهام في تقدم العلوم )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 اليوم السبت العشرون من شهر نوفمبر يتوافق مع اليوم العالم للطفل Children's Day ومن منطلق أنه في مثل هذا اليوم من عام 1959م تم الإعلان العالمي عن حقوق الطفل من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة فلذا يركز الجميع في هذه المناسبة على التأكيد على ضمان الاحتياجات الأساسية للطفولة السعيدة. صحيح أن التأكيد والتحفيز على الراعية المثالية لأطفال من الجوانب الصحية والتعليمة والنفسية أمر بالغ الأهمية، ولكن لا ينبغي أن نستمر في مناسبة (يوم الطفل) في تكريس ممارسة الوصاية والرعاية والحماية فقط دون النظر للأبعاد الأخرى التي قد يمارسها أو يساهم فيها الأطفال في تشكيل المسيرة البشرية.

أبرز وأهم حدث علمي حصل العام الماضي هو تطوير لقاحات وتطعيمات فيروس الكورونا وبالرغم من أنه لم يتم حتى الآن انتاج هذا اللقاح بعد للأطفال إلا أنني العام الماضي كتب مقال خاص حمل عنوان (دور الأطفال في تاريخ الطب) استعرضت فيه الإسهام الكبير للأطفال في تقدم الطب من خلال ارتباط العشرات من قصص وأخبار تطوير اللقاحات والتطعيمات عبر التاريخ مع الأطفال. على نفس المساق أعتقد أنه في (يوم الطفل) نحتاج أن نبرز دور واسهام الفتيان والفتيات على صغرهم في تشكيل العالم وكتابة مسار التاريخ وتقدم العلوم والكشف والتأكيد على توضيح الأبعاد غير المتوقعة بارتباط الأطفال بالسياسة والاقتصاد والأدب وحتى الدين.

تلك ولا شك محاور متعددة ومسارات متشعبة لا يكفي مقال واحد لسبر أغوارها ولذا سوف أكمل في هذا المقال ما بدأناه في مقال (دور الأطفال في تاريخ الطب) من تسليط ومضات كاشفة وخاطفة عن محور (الطفولة وتاريخ العلوم). في المقال الطبي استعرضنا بعجل أخبار الأطفال في مسار أشهر وأهم الاكتشافات الطبية من مثل اكتشاف لقاح مرض الجدري أو تطعيم مرض السعار أو لقاح مرض شلل الأطفال أو المصل المضاد لمرض الدفتيريا أو الاستخدامات الأولية للمضادات الحيوية وعقار البنسلين وأدوية السلفا.

ينقل على الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي المعروف بليز باسكال ربطه الحكيم بين الطفولة والحكمة عندما قال (الحكمة تعود بنا إلى الطفولة) وهو ما سوف نكتشفه عندما نعود إلى طفولة العلماء وندرك الكم الغريب من الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية التي توصل لها بعض الأطفال والعديد من الفتيان في سن المراهقة. وعلى ذكر باسكال ألم يؤهله نبوغه وعبقريته المبكرة في أن يحضر وهو في سن الثانية عشر اجتماعات الأكاديمية الفرنسية للرياضيات. وعندما قام في سن السادسة عشرة بتأليف كتاب عن علم الهندسة كان يشتمل على نظريات متقدمة لدرجة أن عالم الرياضيات الفرنسي الأشهر رينيه ديكارت رفض أن يصدق أن ذلك الكتاب الرياضي العميق من تأليف فتى في سن المراهقة. وإذا كان نبوغ الطفل باسكال سمح له بحضور محاضرات الأكاديمية الفرنسية للرياضيات فإن العالم الأسكتلندي المعروف جيمس ماكسويل كان منذ طفولة ذو عبقرية فريدة في مجال الرياضيات لدرجة أنه فاز وهو في سن الثالثة عشرة بميدالية أكاديمية أدنبرة لعلم الرياضيات وفي السن الرابعة عشرة نشرت له الجمعية الملكية في لندن (أهم وأعرق جمعية علمية على الإطلاق في التاريخ) أول بحث علمي في مسيرته البحثية القصيرة نسبيا نتيجة وفاته المبكرة.

أمير الرياضيات هو لقب خاص أطلق على عالم الرياضيات الألماني كارل جاوس أحد أنبغ علماء الرياضيات في جميع العصور وقد أظهر عبقرية فريدة منذ سنوات طفولته الأولى. عندما كان كارل جاوس في سن العاشرة كان يستطيع أن يختزل مجموع السلاسل الحسابية وبعد سن الرابعة عشرة ظل لفترة من الزمن يقوم بتعديل وتطوير العديد من النظريات الرياضية. وهذا عالم الفلك الفرنسي المعروف بيير لابلاس ينشر وهو في سن السادسة عشر بحث علمي متقدم في مجلة علمية فرنسية مرموقة لا ينشر فيها إلا كبار العلماء. وفي نفس ذلك السن قام فتى مراهق آخر بنشر اكتشاف علمي متقدم في مجال الفلك يتعلق بالمدارات الثنائية للكواكب والأجرام السماوية وكان ذلك عالم الفلك الألماني كارل شفارتسشيلد والذي سوف يخلد اسمه لاحقا في كتب تاريخ العلم لأنه أول من توقع وتنبأ بوجود ما يسمى في علم الكون بالثقوب السوداء.

ما سبق كان استعراض عينة مختارة عن بعض مشاهير العلماء الذين توصلوا لاكتشافات علمية وهم في سن الطفولة أو المراهقة أما العلماء والباحثين الذي توصلوا للاختراعات تقنية وحصلوا على براءات اختراع وهم في سن الطفولة فيمكن أن نذكر منهم علماء كبار حصل بعضهم على جائزة نوبل. وهذا هو حال عالم الفيزياء المجري الأصل دينس جابور مخترع تقنية الهولوغرام التي تستخدم أشعة الليزر لإعطاء صور ضوئية ثلاثية الأبعاد كما حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1971ميلادي. وبقي أن نقوم أن هذا النبوغ التكنولوجي ليس مستغرب من شخص حصل في طفولته وهو سن الحادية عشر على أول براءة اختراع عن تصميم مبتكر لدوامة ألعاب الملاهي.

الجميع تقريبا يعرف أن الشاب الإيطالي غوليلمو ماركوني هو مخترع جهاز الراديو، ولكن ما يهم هنا أن هذا الاختراع تم التوصل إليه بعد سنوات من لبحث والتطوير. ومنذ سنوات المراهقة المبكرة كان الفتى ماركوني يجري محاولاته الأولية لاختراع جهاز يمكن من إرسال رسائل التلغراف بطريقة لاسلكية وهو ما أثمر في النهاية لاختراع الراديو. لا جدال أن مخترع الراديو هو الإيطالي ماركوني أما جهاز التلفزيون فمعركة تحديد مخترعة ما زالت حامية الوطيس منذ عقود طويلة والشعوب البريطانية والأمريكية واليابانية كلا منها يدعي هذا الشرف هو لأحد أبنائهم. ما يلائم موضوع مقالنا الحالي هو الفتى الأمريكي فيلو فارنزوورث الذي يعتبر مخترع التلفزيون (من وجهة نظر الأمريكان !!) والذي بدأ في هذا المشوار التقني وهو في سن الخامسة عشرة عندما وضع تصاميمه الأولية للوحدة الإليكترونية المسماة مجزئ الصور في التلفزيون الإلكتروني. ومن الصناعات والمخترعات الفيزيائية إلى نطاق المخترعات في الصناعات الكيميائية حيث تذكر كتب تاريخ العلوم أن رائد الصناعات البتروكيميائية الكيميائي البريطاني السير ويليام بيركن توصل في آخر سنوات مرحلة المراهقة لاختراع أول صبغة عضوية مصنعة كيميائيا. وفي الصناعات الكيميائية غير العضوية تشتهر قصة المخترع الأمريكي الشاب تشارلز هول الذي اكتشف في مرحلة المراهقة طريقة كيمائية اقتصادية لاستخلاص معدن الألومنيوم من خاماته. وبهذا الاختراع الذي توصل له الفتى الصغير تشارلز هول كان في الواقع يحقق ما سمعه بشكل مباشر من عالم الكيمياء الألماني البارز فردريك فولر عندما قال: الشخص الذي يكتشف طريقة رخيصة لإنتاج الألومنيوم ليس يساهم فقط في تقدم العلوم بل كذلك سوف يصبح شخص ثري جدا وهذا ما حصل بالفعل.

 عبر السنوات قمت بقراءة عدد كبير من سير حياة وأخبار العلماء والمخترعين والباحثين ولفت انتباهي ذلك (النبوغ المبكر) في مسيرة حياتهم العلمية ولهذا أتفق جزئياً مع مقولة عالم الفيزياء الأمريكي (الياباني الأصل والنجم التلفزيوني المعروف) ميتشيو كاكو: يولد كل طفل عبقريا، ولكن يحطمه المجتمع. وبسبب اهتمامي بظاهرة (الطفل المعجزة) والعبقرية المبكرة في حياة عشرات العلماء والمخترعين قمت بتجميع أخبارهم وقصص نبوغهم في ملف خاص استخلصت منهم بعجل ما تم ذكره في ثنايا وتضاعيف هذا المقال. والمقصود أن هؤلاء العباقرة من العلماء ومنذ مراحل الطفولة أو المراهقة كان لهم إسهام حقيقي في تقدم العلوم وتطور المخترعات التقنية. ولذلك اتفق مع التحريف الذي قام به أحدهم عندما غير المقولة المشهورة المنسوبة لأينشتاين من عبارة (كبار السن من الرجال يبدؤون الحرب، لكن الصغار هم من يقاتلون فيها) لتصبح (كبار السن من الرجال يستطيعون شن الحب، لكن الأطفال هم من يصنعون التاريخ).

 


( الانقلابات العسكرية .. تاريخ أسود )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 بدون منازع يستحق السودان بكل أسف لقب (أرض العسكر) بدلا من وصف (جمهورية السودان) فبعد حصول ست انقلابات عسكرية ناجحة وثمان محاولات انقلابية فاشلة يبدو أن أهلنا الكرام في السودان عاشوا أغلب حياتهم وهم يرزحون تحت قهر الجنرالات والجنود. المحزن حقا أن التاريخ العربي في القديم والحديث عانى من ويلات ومصائب حكم العسكر الذي تسبب في إضعاف الأمة العربية بل وحتى المساهمة في إسقاط العديد من الخلافات الإسلامية والممالك العربية.

صحيح أن أبرز ما يميز الحياة العسكرية هو الانضباط والطاعة إلا أن القوة المفرطة تشجع على الانفلات والاستفراد بالسيطرة ولهذا تكرر كثيرا ومنذ فجر البشرية قيام الجنود والقادة العسكريين في كل الحضارات بالانقلاب على السلطة وتولى زمام الأمور بالقوة.

فهذا مثلا الجنرال الروماني لوسيوس سولا في القرن الأول قبل الميلاد انقلب على الإمبراطور الروماني غايوس وطرده من الحكم وحلّ محله في حين أن القائد العسكري الصيني يوان شو قام في القرن الثاني بعد الميلاد بانقلاب عسكري أوصله إلى عرش الإمبراطورية الصينية القديمة. والطريف في الأمر أن منطقتنا العربية مرتبطة بتاريخ الانقلابات العسكرية لدرجة أن أقدم انقلاب عسكري تم توثقه في سجلات التاريخ هو ما حصل على أرض فلسطين. وهذا ما حصل في مملكة يهوذا القديمة عام 876 قبل الميلاد عندما قام القائد العسكري اليهودي زمري بانقلاب على الملك الإسرائيلي أيله فقتله وجميع أفراد أسرته ثم تولى الملك من بعده لكنه حكم لمدة سبعة أيام فقط وفق ما ذكر في قصته الواردة في التوراة في سفر الملوك الأول.

من هذا وذاك يتبن أن الانقلابات العسكرية عامل ومؤثر قبيح منذ الأزل ساهم في تشكيل مجرى التاريخ وليس ظاهرة حديثة في القرون الأخيرة بعد استحداث الجيوش النظامية المعاصرة. وبالعودة للتاريخ الإسلامي القديم نجد أن الثورات والقلاقل والنزاعات الأهلية مبكرة في تاريخنا أمتنا لحكمة أرادها الله منذ مقتل الخليفة الفاروق عمر والثورة على الخليفة ذو الحياء والنورين عثمان.

أما فيما يتعلق بالانقلابات العسكرية على السلطة الحاكمة فأول ما ظهرت في زمن بدء ضعف الخلافة العباسية وبالتحديد زمن الخليفة العباسي المتوكل الذي يوصف بأنه باغتياله بدأت كارثة (عسكرة الدولة) لأول مره في التاريخ الإسلامي. في زمن الخليفة المعتصم كثرت الاضطرابات الداخلية المزلزلة لحكمة ولهذا نقل عاصمة الخلافة من مدينة بغداد إلى مدينة سُرّ من رأي (سامراء) وكذلك اتخاذ الخطوة الأخطر وهي استجلاب جنود مرتزقة من الأتراك لحماية عرشه. مع الوقت تزايدت سلطة وهيمنة أولئك الجنود المرتزقة لدرجة أنهم بدوءا يتدخلون في شؤون الملك ويقررون من سوف يتولى منصب ولاية العهد من أبناء الخليفة المتوكل. وعندما شعر قادة عسكر الترك أن الخليفة المتوكل على وشك الفتك بهم انقلبوا عليه وأعدموه هو ووزيره الفتح بن خاقان. وبهذا بدأ مسلسل قتل وتعذيب وسجن خلفاء بني العباس على يد العسكر الذي اُستجلبوا أصلا لكي يكون حماية ودرع لهم ضد الفتن الداخلية. الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية والتعذيب والتنكيل وقعت على كوكبة من الخلفاء العباسيين مثل الخليفة المنتصر الذي خلع وقتل وهو ما تكرر مع الخلفاء: المستعين بالله والمعتز بالله (الشاعر الأديب الذي حكم يوم واحد فقط) والمهتدي بالله والقاهر بالله والمتقي لله والمستكفي بالله.

 هذه الفوضى والخراب المتواصل التي نتجت من عسكرة الخلافة تسببت في اضعاف هائل للدولة الإسلامية أثمر في خاتمة المطاف سقوط الخلافة بعد أن سهام جنود البويهيون وعسكر السلاجقة في مزيد من تهميش دور ونفوذ الخلفاء في الحكم. وكما تسبب عسكر الترك في زوال ملك وحكم الخلافة العباسية تسبب عسكر المماليك وجنود الشراكسة في زوال ملك الدولة الأيوبية. وهنا نجد أن آخر سلاطين بني أيوب وهو الملك الصالح نجم الدين أيوب يكرر نفس الخطأ القاتل الذي وقع فيه الخليفة المعتصم عندما استجلب جنود الترك لحمايته وهنا نجد الملك نجم الدين أيوب استجلب عدد كبير من هؤلاء المماليك. وكما ضايق عسكر الترك أهل بغداد فأخرجهم الخليفة المعتصم إلى مدينة سامراء نجد أن جنود المماليك يضايقون أهل القاهر ولذا أخرجهم نجم الدين أيوب إلى جزيرة الروضة في طرف النيل. وحذوا القذة بالقذة كان سلوك أهل العسكر في الوقع في شهوة السيطرة والحكم وكما تدخل أسلافهم في اختيار خلفاء بني العباس تدخل جنود المماليك في اختيار ملوك بني أيوب. ثم حصل أخيرا القفز والاستيلاء الصريح على الملك وانهاء الدولة الأيوبية على يد المملوك الظاهر بيبرس الذي تم شراؤه أصلا وهو طفل من أرض القوقاز لكي يصبح حارس وجندي حماية للملوك بني أيوب وإذا به في خاتمة المطاف يساهم في خلع وقتل الملك الأيوبي الأخير توران شاه ابن نجم الدين أيوب.

وكما حصل وأن قتل عدد من الخلفاء على يد العسكر في بغداد حصل نفس الأمر مع سلاطين القاهرة الذين قتلوا على يد جنودهم ومنهم السلطان صلاح الدين خليل الملقب بالأشرف والسلطان بدر الدين بيدرا والسلطان حسام الدين لاجين والسلطان فرج بن برقوق. وبالجملة من يطلع على كتاب (السلوك لمعرفة دول الملوك) للمؤرخ المصري الكبير تقي الدين المقريزي سوف يذهل من كثرة المؤامرات والانقلابات التي كان يقوم بها جنود المماليك ضد سلاطينهم وحكامهم. فمثلا خلال زمن دولة المماليك البحرية وخلال عشرين سنة فقط من وفاة السلطان الناصر محمد تولى منصب السلطنة ثمانية من أولاده وفي عصر دولة المماليك البٌرجية كانت مجموع فترة حكم 14 سلطانا تسع سنوات فقط ولهذا تكرر كثيرا أن يكون فترة حكم بعض السلاطين شهور قليلة فقط قبل أن تتم الإطاحة بهم.

للأسف الشديد تكررا كثيرا في التاريخ الاسلامي تدخل العسكر في السياسية من خلال الانقلابات العسكرية وإحدى أشنع تلك الفترات السوداء في تاريخنا الإسلامي ما حصل من سطوة فرقة جنود الإنكشارية في الجيوش العثمانية. كانت فكرة سلاطين الدولة العثمانية من إيجاد قوات الإنكشارية أنه يتم من خلالهم ضمان الولاء المطلق للسلطان وذلك لأن أفراد الإنكشارية هم في الأصل أطفال وغلمان أسرى الحرب الذين يفصلون عن عوائلهم ويتم تربيتهم على أن يكون السلطان هو والدهم الروحي ورب أسرتهم الوحيد. وكما حدث مع عسكر الترك في بغداد وجنود المماليك في القاهرة حصل مع عسكر الإنكشارية في إسطنبول فعندما ضعفت الدولة العثمانية بدؤوا في التدخل في الحكم من خلال الانقلابات العسكرية. وكما حصل في السابق من عزل وخلع وقتل خلفاء بني العباس وبني أيوب حصل نفس الأمر مع سلاطين بني عثمان فخلع وقتل على يد جنود الإنكشارية السلطان عثمان الثاني والسلطان إبراهيم الأول والسلطان سليم الثالث والسلطان مصطفى الرابع.

وبحكم أننا ما زلنا في ذكر إسطنبول فلا يجدر أن نغادر قبل أن نشير لأخطر الانقلابات العسكرية على الإطلاق في التاريخ الإسلامي ألا وهو الذي أدى في نهاية الأمر إلى إلغاء الخلافة الإسلامية. في عام 1909م تحركت كتيبة جنود من الجيش الثالث العثماني بقيادة الضابط العسكري محمود شوكت باشا وسيطرت على مدينة إسطنبول واحتلت قصر الحكم وقامت بخلع السلطان عبد الحميد الثاني والذي يعتبر تقريبا هو آخر سلطان فعلي للدولة العثمانية. بينما كل من جاء بعده بمن فيهم السلطان عبد المجيد الثاني كان فقط لهم سلطة أسمية بينما الحكم الحقيقي في يد جنرالات الجيش التركي من مثل أنور باشا وجمال باشا. بعد ذلك بسنوات وفي عام 1923م ومستندا إلى سلطته الحربية الطاغية أعلن القائد العسكري مصطفى كامل أتاتورك ألغاء السلطنة العثمانية وأصدر دستور جديد وأعلن عن قيام الجمهورية التركية وبعد ذلك بحوالي سنة حصلت الكارثة الكبرى عندما ألغيت الخلافة الإسلامية بشكل نهائي.

 وبعد هذا التطواف في التاريخ الأسود البغيض للانقلابات العسكرية في غابر تاريخنا العربي والإسلامي كان حتما علينا أن نصل بين الماضي والحاضر ببيان أنه كما حصل أول انقلاب عسكري قديم في بغداد فكذلك حصل أو انقلاب عسكري في زمنا المعاصر في بغداد. وهذا الإثم اجترحه رئيس أركان الجيش العراقي الفريق بكر صدقي الذي قام بمحاولة انقلاب في عام 1936م ضد الملك غازي بن فيصل الهاشمي. من المخزي أن نعلم أن عدد الانقلابات العسكرية في العالم العربي تجاوزت الستين انقلابا والتي عانت منها حوالي ثلاثة عشر دولة عربية وعدد كبير من هذه الانقلابات العسكرية حدثت مباشرة بعد استقلال الدول العربية من الاحتلال الأجنبي مما أعاق كثيرا حركة التنمية الحضارية للشعوب العربية. الجدير بالذكر أن دول بارزة مثل أسبانيا والبرازيل والمكسيك والأرجنتين وتركيا وإندونيسيا عندما كانت في فترة ما ترزح تحت الحكم العسكري الاستبدادي كانت دول فاشلة ومنقسمة ومتخلفة حضاريا وتقنيا واقتصاديا. ولكن بعد التخلص من الحكم العسكري السلطوي الغاشم أصبحت نفس تلك الدول تنعم بالتقدم الاقتصادي والازدهار التنموي وهي حاليا من أعضاء مجموعة العشرين G20 لأكثر الدول في العام رخاء اقتصادي.

 وفي الختام لا بد أن نفرق بين تقديرنا وإجلالنا للجنود والضباط المرابطين على الحدود والقائمين على حماية الأوطان وحفظ الأمن والسلم العام وبين تلك الطغمة من العساكر التي غادرت معسكراتها طمعا في السيطرة على الحكم وقهر الشعوب بالحديد والنار.

 


( التفكير الناقد .. فريضة معرفية غائبة )


 

د/ أحمد بن حامد الغامدي

 

نحن أهل ملة الإسلامي من أكثر البشر مطالبين بالتفكير والتحليل والتدقيق لما في ديننا الحنيف من الحث على ذلك ولهذا أصاب المفكر الكبير عباس محمود العقاد عندما اختار لأحد أبرز كتبه عنوان (التفكير فريضة إسلامية). وإن كانت الدعوة للتفكير والتأمل والاستقراء لها أهداف غائية تقود في الغالب لإنارة السبيل وهداية الدليل للوصل إلى الدين الصحيح وإتباع الشرع الحكيم، إلا أن للتفكير بالجملة أنماط متنوعة واتجاهات فكرية متعددة. ولذا سوف نقصر الحديث عن ملكة التفكير الناقد الذي يمكن توظيفه (للحكم) على الكم الهائل من الأخبار والمعلومات التي تغزونا عن طريق وسائل الإعلام الحديثة. من الناحية المبدئية يجب أن نقرر بأن التفكير كأي نشاط ذهني وسلوك نفسي قابل تماما لأن يتعرض للخل والإنحراف والتشوهات. والملفت للنظر أنه عند الرصد والتقصي سوف نجد أن جميع المجتمعات وأغلب الأفراد قد يتعرضون في لحظة ما للانحراف في طريقة تفكيرهم وحكمهم على الأمور.

خذ على ذلك مثلا ما يحصل بشكل متكرر في المجتمعات الغربية (المتقدمة والمتطورة .. زعموا) من الوقع في مهزلة قبول نظرية المؤامرة في قضايا علمية دقيقة يفترض أن تكون محسومة من منظور (التفكير العلمي). في هذه الأيام يستمر بركان جزيرة لا بالما الإسبانية في الثوران وقذف سيل الحمم المتواصل منذ أسابيع وبالرغم من أن هذا البركان هو في الأصل بركان شبه خامد وقد تكرر ثورانه مرتين في السابق إلا أن البعض في الغرب تقبل بكل يسر وصفاقة نظرية المؤامرة بأن عملية إعادة تنشيط البركان تمت بفعل فاعل وأن مجمل مسار حمم البركان قد تم تنسيقها (orchestrated). الأمر الأكثر ضجيج إعلاميا من التفجير والتثوير المتعمد لهذا البركان أن عشرات الآلاف من الأمريكان وخصوصا في الساحل الشرقي من الولايات المتحدة يشعرون بقلق كبير أن يتسبب هذا البركان انزلاقات أرضية ينتج عنها حدوث موجات تسونامي ضخمة تغرق المدن الأمريكية الساحلية. من المفترض أن (التفكير العلمي) يحسم هذا اللغط عن ثوران بركان جزيرة لا بالما فمن الناحية الجيولوجية قد سبق أن كان نشطا في عام 1949م وعام 1971م فلا شيء يمنع من أن يعاود الثوران مرة ثالثة دون الحاجة لنظرية المؤامرة. كما إن جزيرة لا بالما صغيرة وأي انزلاق للتربة من سفوح جبالها بسبب البركان لن يتسبب إلى في (طرطشة) لا تكاد تذكر على سطح المحيط الأطلسي الهائج أصلا.

الخلل في التفكير والوقوع في براثن نظرية المؤامرة تسبب قديما ويتسبب حديثا في ظهور مثل هذه المهازل في المجتمعات الغربية المتطورة والتي يفترض أن يكون مستوى الوعي والفهم العلمي لديهم متقدم. ومع ذلك تكررت في السنوات القليلة الماضية مثل هذه الأخبار المخزية من مثل موجة تحطيم وحرق أبراج جوالات الجيل الخامس كما حصل في بريطانيا بزعم أنها تقتل البشر من خلال بثها إشعاعات كهرومغناطيسية مسرطنة. ثم لاحقا انتشرت فكرة حمقاء أن أبراج الجيل الخامس تسبب الإصابة بمرض الكورونا والبعض كما هو معلوم رفض أخذ تطعيمات اللقاح ضد فيروس كوفيد 19 بزعم أن تلك اللقاحات تحتوي على شرائح الكترونية تهدف للسيطرة على البشر.

الإفراط في سهولة تقبل نظرية المؤامرة في صورها الساذجة يدل على وجود خلل في التفكير واضطراب في الإدراك ولعلم النفس محاولات متعددة لتفسير هذه الظاهرة في السلوك البشري وربطها بمنظومة من التحيزات المعرفية cognitive bias التي يمكن أن تؤدي إلى تقبل نظرية المؤامرة مثل التحيز التأكيدي والتحيز التناسبي وتصيد الاختلاف وظاهرة الاسقاط النفسي. وبحكم أن لكل ظاهرة ردة فعل مخالفة لها في الاتجاه لهذا في العقود الأخيرة ومع انتشار ظاهرة نظرية المؤامرة والتفكير السطحي نتجت ظاهرة معرفية متطرفة في الاتجاه المعاكس وهي عدم القبول (والتشكك) في أغلب ما يتم تداوله سواء كان له صبغة علمية أو سياسية أو دينية. ظاهرة الشكوكية skepticism آخذه في التزايد والتطرف في الغرب لدرجة أنها تخطت مرحلة كشف الأخبار المفبركة ونقد ما يسمى بالعلوم الزائفة ووصلت إلى الإلحاد وإنكار الأديان والمعيار الأخلاقي والإرادة الحرة.

وبالعودة إلى واقعنا المحلي ومنطقتنا العربية نجد أن تلك الفريضة الغائبة (التفكير الناقد) مفقودة بشكل مريع ومحزن ولهذا تشيع فينا ظاهرة تبادل الإشاعات والأخبار الزائفة fake news وقليل منا من يحرص على التأكد من مصداقية الإدعاءات أو يهتم بالتثبت من مصدر المعلومات أو يميز بين الحقائق والاختلاقات والفبركات.

 من المناخ إلى الاقتصاد .. فكر صح

من طبيعة التفكير الذهني والإدراكي للبشر أنه يتأثر بالعديد من العوامل والمؤثرات التي تحرفه عن التفكير السليم وغير المتحيز والمشكلة تكمن أن الشعوب الشرقية بالجملة وفي القلب منها الشعوب العربية تتسم بالتفكير العاطفي بينما الشعوب الغربية تميل أكثر للتفكير العقلاني والجدلي. على كل حال من مظاهر الخلل في التفكير لدى الشعوب العربية وجود تحيز معرفي أو إدراكي يشتهر باسم (الاحتكام إلى العتيق) appeal to antiquity بمعنى أن الأشياء والأفكار والمفاهيم القديمة والعتقية هي دائما أصح وأدق. وفي الأمور الشرعية والعقدية هذا الأمر سليم وصحيح تماما، ولكن التعود على القبول والتسليم لأمور والأخبار القديمة قد يؤدي بالشخص أن يوظف هذا السلوك في أمر ليس بالضرورة من أمور الدين والعقيدة.

كما هو معلوم من أمور العقيدة التسليم بمعجزات وخصائص الرسول الكريم في الإخبار عن المستقبل ولهذا نقبل خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأن جزيرة العرب سوف تعود مروجاً وأنهار كما كانت في الماضي. ولكن التصديق بالخبر النبوي الحق شيء وإسقاط بعض المستجدات الحديثة على هذا الخبر شيء آخر ولهذا من الملاحظ أنه خلال الأسبوع الماضي تم وبشكل مكثف جدا عبر وسائل التواصل الاجتماعي تبادل ونشر مقطع فيديو قصير يعرض فكرة مشروع (السعودية الخضراء .. وعودة الجزيرة العربية مروجا وأنهارا). بسبب العاطفة الدينية المتداخلة من المشاعر الوطنية المصاحبة للإعلان عن (مبادرة رفع نسبة الغطاء النباتي) من خلال زراعة 10 مليار شجرة تداخلت الأفكار والمفاهيم لدى البعض منا وقبل ما ورد في مقطع الفيديو بدون تدقيق أو مشاهدة ناقدة. المشروع غير الرسمي (عودة الجزيرة العربية مروجا وأنهارا) قائم بشكل أساسي على مغامرة أحداث (تغير في المناخ) على مستوى جغرافي كبير جدا وهذا أمر شبه مستحيل لأن الأجواء المناخية مفتوحة على بعضها البعض وبسبب (هجرة السحب) يصعب حصر أي تأثير مناخي في منطقة محددة. وذلك لأن علم المناخ معقد جدا ويعبر عن هذا التعقيد بما يسمى تأثير الفراشة حيث يقال إن رفرفة جناح فراشة فوق مدينة طوكيو قد تتسبب في النهاية في إحداث إعصار على مدينة سان فرانسيسكو. والمقصود أنه ربما بتأثير من التحيز المعرفي المسمى (الاحتكام للعتيق) أغلبنا لم يدقق في المحتوى العلمي لذلك المقطع وتساهل كثيرا في قبوله وإعادة نشره من باب أنه هو الطريقة التي سوف يتم من خلالها تحقيق خبر الرسول الكريم. في حين تناسينا أن التغير المناخي الناتج من التأثير البشري يتسبب في الغالب في إحداث الجفاف وقلة الأمطار كما حصل مع شبه جفاف بحر الآرال في وسط أسيا والمسمى مقبرة السفن. المبادرة الرسمية والحكومية من خلال زراعة 10 مليار شجرة هي فكرة طموحة، ولكن صعبة قد يمكن تحقيقها أما المبادرة غير الرسمية والمتخيلة بتغيير مناخ المملكة هي أمر مستحيل في الغالب والعلم عند الله.

وبالانتقال من علم المناخ الملتهب إلى علم الاقتصاد المضطرب فكما يصعب التنبؤ بالطقس لفترة طويلة ربما يستحيل التنبؤ بحركة الأسواق والبورصات المالية لفترة مديدة وهذا يسوقنا لذكر أحد الأمثلة على الاستعجال ليس فقط في نشر الأخبار، ولكن أيضا بالتعليق والتحليل لها بدون الاستعانة بمنهج (التفكير الناقد). في منصات وسائل التواصل الاجتماعي تم الأسبوع الماضي وبكثافة تداول خبر اقتصادي يتعلق بالسماح لشركات السيارات العالمية بعملية البيع في السوق المحلي بدون وكيل تجاري وطني. غالبية التعليقات على هذا الخبر كانت مؤيدة ومبالغة في تصورها للفوائد الاقتصادية لهذا الأمر وهي منساقة بدافع العاطفة الفكرية بدون أن تعطي مجال (للتفكير الناقد) حيال هذا الأمر المستجد في عالم الأعمال والتجارة الدولية. من وجهة نظري يمكن تفسير الاندفاع المبالغ فيه بالخبر غير الصحيح بإلغاء شركات وكلات السيارات بما يسمى في علم النفس بتأثير المرساة anchoring effect وهو أحد أنواع التحيزات المعرفية أو الإدراكية وسبب الخلل الفكري هنا أن المرء يصدر أحكامه انطلاقا من نقطة مرجعية معينة (مرساة) يقيس عليها جميع أحاكمه التالية. في حالة مثال شركات مصانع السيارات كانت تلك النقطة المرجعية أو (المرساة) التي استخدمها البعض في تقييمه للخبر المشكوك فيه بإلغاء الشركات المحلية لوكالات السيارات أنه هذه الوكالات تتلاعب في السعر وتقدم خدمة سيئة. قد تكون هذه التهمة صحيحة أو قد لا تكون، ولكن كما ذكرنا سابقا أن علم المناخ معقد جدا وتتداخل فيه عوامل مؤثرة كثيرا فكذلك علم بيئة الاقتصاد والتجارة الدولية معقدة كذلك وتؤثر عليها عوامل متعددة. بمعنى أنه لو ألغيت الشركات المحلية لوكالات السيارات فمن المحتمل أن تنخفض أسعار بيع السيارات شيئا ما، لكن بمخاطرة كبيرة جدا أن نفقد جودة خدمة ما بعد البيع والصيانة والتأمين الهامة في قطاع السيارات وذلك بسبب الشركات المصنعة الدولية ليس لها بنية تحتية في البلد.

من جانب آخر لماذا في المجتمعات الغربية الرأسمالية ذات الأسواق الحرة المفتوحة لم تقم شركات تصنيع السيارات الكبرى بعملية البيع المباشر بدون وجود وسيط تجاري (وكلاء السيارات car dealership). وللدلالة على تعقيد عالم الاقتصاد نجد أن المفكر الأسكتلندي آدم سمث مؤسس علم الاقتصاد الحديث ذكر في كتابه المشهور (ثروة الأمم) أن عملية تصنيع المسمار العادي تمر بحوالي 18 مرحلة يتم تنفيذها من قبل عدة عمال. وإذا علمنا أن السيارة الحديثة في المتوسط مكونه من حوالي 30 ألف قطعة مختلفة تبين لنا لماذا في الغالب أن شركات تصنيع السيارات لا تدخل في دوامة التسويق والبيع المباشر للزبائن لأنها في الأصل مشغولة بعملية التصنيع للموديلات والماركات المختلفة من السيارات وهذا يتطلبها لتصنيع مئات الألاف من هذه القطع الصغيرة أن تتعاون (من الباطن) مع مئات الشركات والمصانع الصغرى من شتى بقاع العالم. ولهذا ربما من المستحيل أن تتولى شركات تصنيع السيارات بنفسها جميع مراحل المتاجرة بالسيارات من تصنيع وشحن وتوزيع وتأمين وصيانة. من هذا وذلك هل بالفعل سوف نجد المستهلك في نهاية المطاف سوف يربح أو يخسر لو تم إلغاء الوكيل التجاري المحلي ومن هنا ومع الأخذ بعين الاعتبار الاقتصاد الكلي يمكن الحكم السليم على هذا الموضوع التجاري بدل الإفراط في الجزئيات والتركيز على (مرساة) واحدة فقط هي النفور من شركات وكالات السيارات.

ما سبق كان فقط محاولة عامة لبيان أهمية تفعيل طريقة التفكير الناقد فيما يتم تداوله في شبكات التواصل الإعلامية والمجال لا يتسع لذكر تفاصيل نقد ظاهرة التساهل في نقل الأخبار المزيفة كما حصل الأسبوع الماضي من التحذير من شحنة موز قادمة من الصومال وملوثة بدودة اسمها (هيلوكوبتر !!) تتسبب بالوفاة خلال 12 ساعة بسبب الموت الدماغي !!. وبالرغم من صيغة الخبر المتعمد أن تكون سخيفة وسطحية إلا أن البعض منا وبكل طيبة وحسن نية يقوم بإعادة نشر الخبر من باب فعل الخير وتحذير المسلمين من خطر وهمي وربما يعود سبب الخلل في طريقة التفكير لدى هؤلاء راجع للخل المعرفي المعروف باسم (الواقعية الساذجة naive realism). وإلى حدا ما يمكن تفسير التساهل الكبير في تبادل ونشر الأخبار والمعلومات المتعلقة بالوصفات الصحية الشعبية في علاج الأمراض إلى نفس ظاهرة ضعف التفكير الناقد والتمحيص والتدقيق في خطورة هذه الوصفات الطبية الوهمية.

 بقي أن أقول في الختام أن الخلل في التفكير مثله مثل الذنوب الخطايا لا يسلم منه أحد فكما أننا كلنا نقع في الذنوب فكذلك كلنا نقع في الخلل في التفكير ومع ذلك الذنوب درجات منها الكبائر ومنها الصغار ومنها اللمم. ولهذا فيما يخص الوقع في الخلل في التفكير ينبغي قدر المستطاع أن نفعل درع الحماية (التفكير الناقد) حتى لا نقع في كبائر الخلل الفكري وكذلك كما أنه يٌحثّ على الاستغفار من الذنوب فكذلك يٌحثّ على الأوبة والتوبة من الاستمرار في الوقع في منزلقات فكرية خاطئة في جميع المجالات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية أو الإعلامية.