مهاتير محمد كاريزما سياسية طاغية وتواجد مستمر
د/ أحمد بن حامد الغامدي
للمرة الثانية يتم انتخاب مهاتير محمد
لمنصب رئيس الوزراء الماليزي وهو في سن متقدم جدا حيث أنه قد تخطى سن التسعين كما
أنه قد أنقطع عن الممارسة السياسية لسنوات طويلة منذ استقالته عام 2003م. قد لا
يكون مهاتير محمد شخص متجدد الشباب ولكنه بالقطع شخص متجدد الحضور السياسي الطاغي
والمؤثر. ففي حين أن بعض محترفي السياسية قد يغيب من المشهد السياسي عند أول
انكسار أو هزيمة نجد أن مهاتير محمد ومن هم على منواله يتم تجديد انبعاثهم السياسي
بعد كل منعطف حاد في مسيرتهم الملحمية.
في سن الرابعة والاربعين فقد الطبيب الشاب مهاتير
محمد مقعده الانتخابي بعد أن أقيل من البرلمان الماليزي وتم طرده كذلك من الحزب
الذي ينتمي إليه ومع ذلك استمرت جذوة الحيوية السياسية له بالتزايد ليصل إلى منصب
رئيس الوزراء في عام 1981م. الكاريزما السياسية لمهاتير محمد ضمنت له تحقيق
المعجزة مرة ثانية بأن يصل لمنصب رئيس الوزراء وهو يترأس تحالف المعارضة ضد حزبه
القديم وبهذا أثبت مهاتير محمد مره بعد مره أن رصيده السياسي زاخر وعامر وأنه
يستطيع تكرار الانتصارات حتى بدون دعم قواعده الحزبية وإنما بدعم قواعده الشعبية
واحترام الأمة له وثقته فيه وأنه خير من سوف يكون مؤهلا لأن يقطف ثمار استراتيجية
(2020) لتطوير الاقتصاد الماليزي التي أعلن عنها
عام 1991م.
الشخصيات ذات الحضور التاريخي الطاغي تتبع
الحكمة القائلة (السقوط مسموح .. لكن النهوض واجب) لسبب أو آخر قد يتعثر القائد
السياسي ولكن إذا كان ذا شخصية كاريزمية فما أسهل أن ينهض واقفا ويعاود المسير.
وخير مثال يمكن ذكره في هذا المجال الامبراطور الفرنسي الاشهر نابليون بونابرت
الذي لم يواجه قائد عسكري إخفاقات حربية وانتصارات سياسية كما حصل معه. بعد الانتصارات
الاولية المذهلة للشاب بونابرت في ايطاليا تعرض لإخفاق مخزي في هزيمته البحرية في
أبي قير في مصر وكذلك في اجباره عن التراجع عن حصار عكا وبالرغم من هذا الاخفاق
العسكري إلا أن سمعته السياسية والادارية كانت عالية لدرجة أن الامه الفرنسية
استدعته عام 1799م لتولى زمام الحكم في
باريس. لقد نهض نابليون بعد فشل حملته العسكرية في مصر وكذلك في مستقبل الايام سوف
ينهض مرة ثانية بعد فشل غزوه العسكري لروسيا وعندما اضطر نابليون أن يتنازل عن
العرش عام 1814م وتم نفيه إلى جزيرة ألبا الصغيرة أعتقد البعض أن أثر نابليون تلاشى
نهائيا من التاريخ. وعندما هرب نابليون من منفاه أعتبر في البداية مجرما وتم تجهيز
جيش للقبض عليه ولكن بمجرد من نوله على الاراضي الفرنسية وهو شبه أعزل من السلاح
والمرافقين واذا بشخصيته الباهرة تسلب لب الأمة الفرنسية مرة ثانية ويتم إعادة
تنصيبه حاكم على البلاد. ثم أخيرا بعد أن تتم هزيمته الاخيرة في معركة واترلو
الشهيرة ويتم نفيه إلى جزيرة سانت هيلانه في أقصى جنوب المحيط الاطلسي ظن قادة
الدول الاوروبية أنهم تخلصوا منه وإلى الابد وما علموا أن شخصيته الكاريزمية ذات
الاثر السياسي الطاغي حتى بعد وفاته هي من سوف تسهل في مستقبل الايام لأبن أخته
لويس نابليون أن يحكم فرنسا عام 1848م ويطيح بالملكية مرة ثانية ليصبح أخيرا
(الامبراطور نابليون الثالث).
في العصر الحديث ربما لم يحصل سياسي على
هالة وبريق ديبلوماسي مثل ما حازه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل أيقونة
النجاح السياسي والعسكري في القرن العشرين بل يكفيه أنه رئيس الوزراء الوحيد في
التاريخ الذي حاز جائزة نوبل في الأدب بسبب بلاغته اللغوية والخطابية التي صنعت له
المجد. وكما حصل مع نابليون صعد تشرشل سلم المجد وهو يسقط ويتعثر مع كل درجة ففي
مطلع شبابه دخل البرلمان البريطاني عام 1900م ولكن سرعان ما تم الاطاحة به بسبب
أداءه السيء في التمثيل النيابي. واثناء الحرب العالمية الأولى تم اختيار تشرشل
لمنصب وزير البحرية البريطانية لكنه طرد من منصبه عام 1915م بعد هزيمته الكارثية
في معركة غاليبولي في تركيا. ومع كل هذه الاخفاقات السياسية والعسكرية إلا أن رصيد
تشرشل وثقله السياسي كان وبشكل عجيب يتزايد مع الزمن فسرعان ما تم توليته أكثر من
منصب وزاري في فترة العشرينات من القرن الماضي ثم توالت بعد ذلك هزائمه في
الانتخابات البرلمانية وهي السنوات الحرجة من حياته التي سمها لاحقا (سنوات البرية).
في بداية اندلاع الحرب العالمية الثانية تم استدعاء تشرشل للعمل كوزير في الحكومة
وبسبب الكاريزمية العالية التي كان يتمتع بها كانت الرسالة التي طمأنت الشعب
البريطانية (ونستون، قد عاد) ولهذا لا
غرابة أن يتم بعد ذلك بشهور قليله تعيين (ونستون العائد) في منصب رئيس الوزراء.
لقد خلد تشرشل أسمه في كتب التاريخ بنجاحه في حماية الأمة البريطانية من السقوط
تحت براثن النازية الغاشمة ولهذا كان لتشرشل مكانة سامية في شعور الأمة الانجليزية
لكن الغريب في الأمر أن تشرشل لم ينجح في الانتخابات الرئاسية التي تلت الحرب
مباشرة لأن الأمة البريطانية الواعية كانت ترى (أن الرجل الذي يقود الحرب لا يمكنه
أن يقود السلام) وهو ما يفسر سبب فشل جميع الانظمة العسكرية الحاكمة والمتسلطة.
بقي أن نقول أخيرا عن تشرشل أن قاعدة (الكاريزما السياسية .. رصيد لا ينفذ) ضمنت
له أنه بعد ذلك الفشل الغريب عندما تقدم تشرشل لخوض الانتخابات الرئاسية عام 1952
استطاع أن ينجح فيها بكل يسر بسبب أرثه
الزاخر بالخبرة السياسية والعسكرية نادرة الوجود.
كاريزما مهددة بالإفلاس
في كتابه ذائع الصيت والبالغ الاهمية
(سيكولوجية الجماهير) أشار المفكر الفرنسي البارز غوستاف لوبون إلى أنه يمكن
التلاعب بمواقف الجماهير عن طريق التأثير في (روح الجماعة) مما يتسبب لها في
التطرف بالمشاعر وبالتالي تصبح قابلة للتأثر والتصديق. في نفس ذلك الكتاب يأسف
غوستاف لوبون بأن الأمه الفرنسية أقل عقلانية من الأمة الانجليزية ولهذا على العكس
من الانجليز الذين حرصوا أن يحجموا سلطة تشرشل بعد الحرب العالمية أتخذ الفرنسيون
القرار المعاكس بانتخاب الجنرال الفرنسي البارز شارل ديغول (الذي قاد الحرب فهل
سوف يقود السلام) لمنصب رئيس الدولة وبالرغم من أن ديغول يوصف بأنه مؤسس الجمهورية
الفرنسية الرابعة إلا أن أدائه السياسي بعد الحرب لم يكن على مستوى التطلعات لدرجة
أنه استقال بعد شهور قليله من توليه المنصب. وبعد تخبط الحكومة الفرنسية لعدة
سنوات بعد الحرب العالمية الثانية وبداية فقدانها المتولي لمستعمراتها والدول التي
تسيطر عليها أعلن شارل ديغول في انتخابات عام 1958 أنه (في خدمة البلد) وهنا يتم
إعادة انتخاب ديغول ليس فقط لمنصب رئيس الحكومة ولكن لشرف نيل (مؤسس الجمهورية
الخامسة). في واقع الأمر الرصيد الكاريزمي لشارل ديغول في وجدان الأمة الفرنساوية
لم يكن فائق الوفرة بدليل أنه بعد انتخابه بعشر سنوات خرجت مظاهرات شعبية عارمة
ضده في عام 1968 ولهذا عندما تم إجراء استفتاء عام في فرنسا حول أداء ديغول
والاصلاحات الادارية التي طلبها و خسر في هذا الاستفتاء ولهذا أعلن ديغول عن تنحيه
عن منصبه واعتزاله العمل السياسي تماما.
وفي خاتمة المطاف بالفعل لقد أثبتت الأمة
الانجليزية أنها (في بعض الاحيان) قمة في الدهاء وبعد النظر السياسي عندما أصرت
على تطبيق شعار (الرجل الذي يقود الحرب لا يمكنه أن يقود السلام). للأسف شعوب كثيره
واجهت كوارث هائلة عندما سمحت للقائد العسكري ذو الرصيد الكاريزمي الطاغي أن يطغى
ويتولى قيادة دفة الحكم بفردية واستبدادية. في وقعنا العربي ولأسباب معقدة ربما
يكون جمال عبد الناصر ربح شعبية هائلة بعد نجاته بأعجوبة من كارثة حرب 56 ولكنه
أضاع البلد والامة العربية جمعاء ليس فقط في هزيمة 67 ولكن بترسيخه للأسلوب الحكم
السلطوي الغاشم. وعلى نفس النسق قد يكون الزعيم والقائد العسكري الصيني البارز ماو
تسي تونغ نجح في مسيرة (الزحف الكبير) العسكرية وثورته السياسية لكنه في زمن السلم
فشل فشلا ذريعا (ومهلكا لعشرات الملايين من الشعب) في ثورته الصناعية (مشروع
القفزة الكبرى إلى الامام) وثورته الثقافية البائسة ومشروع الاصلاح الزراعي الماحق.
وبدرجة أخف نجح الجنرال والقائد العسكري الكولومبي المعروف سيمون بوليفار في تحرير
العديد من دول أمريكا اللاتينية من حكم الامبراطورية الاسبانية في مطلع القرن
التاسع عشر وبهذا يعتبر بحق الاب الروحي للعديد من دول امريكا الجنوبية مثل
كولومبيا وفنزويلا والاكوادور وبيرو وبنما بل أن أسم دولة (بوليفيا) مسمى على
أسمه. ومع ذلك عندما انتهت الحرب وبدأ السلام وحاول أن يجمع هذه التكتلات المنفصلة
في اتحاد سياسي واحد فشل فشلا ذريعا وبدل من ذلك نشبت بينها حروب طاحنة هي ما تسبب
وحتى الان في تخلف وضعف شعوب تلك الامم.
وعلى ذكر مصير دول أمريكا اللاتينية البائس
المنسحب من مصير جنرالاتها الأكثر بؤسا تجدر الاشارة إلى أن المصير المحتوم لصاحب
الكاريزما المدوية بعد أن يفقد رصيده السياسي ويفلس يصبح على شاكلة (عزيز قوما ذل)
وهذا ما دفع الروائي الكولومبي الذائع الصيت والحائز على جائزة نوبل في الادب
غابرييل ماركيز لتوظيف هذه الشخصيات الثرية من الناحية الدرامية في بعض أشهر
رواياته الادبية. وكما هو معلوم تدور رواية (الجنرال في متاهته) حول حياة الجنرال
سيمون بوليفار في أواخر حياته عندما فقد بريقه السياسي وتأثيره الاجتماعي الطاغي
بينما رواية (خريف البطريرك) هي صرخة أدبية لإدانة الديكتاتورية منذ بدايتها
وطفولتها وحتى خريف العمر لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق