الأحد، 19 مارس 2017

( هَجر الكتب .. الخطيئة والتكفير )

هجر الكتب .. خطيئة حضارية محزنة
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي
شهدت الساحة الثقافية المحلية العام الماضي حدثاً مميزاً تمثل في انطلاق معرض جدة الدولي الأول للكتاب واحتفاءً بتلك المناسبة كتبت مقال تحفيزي عن القراءة كان عنوانه (الهيام بالكتب وعشق الأوراق) تم فيه سرد أخبار وعجائب قصص الادباء والعلماء الذي هاموا عشقا بالكتب حيث لم تكن تفارق أياديهم حال تناول بعضهم للطعام أو المشي أو في الحمام بل أن منهم من قد توفي والكتاب على صدره. وبمناسبة انطلاق فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2017 هذا الاسبوع خطر ببالي أن أكون أكثر واقعية وأبعد عن عالم المثاليات المجنحة وأن أناقش في عجالة (واقع القراءة) المحزن وخصوصا لدى الجيل الجديد المدمن على التقنيات الالكترونية ذات الشاشات البراقة والتي أزهدتهم عن لمس وتصفح أوراق الكتب الصفراء والأغلفة المجعدة.  منذ حداثة صباي وأنا عاشق للكتاب ولذا عجبي لا ينتهي من صدود وهجر الشباب للكتب ومع ذلك لو فكرت في هذه الظاهرة الشبابية بتجرد لكن الأحق أن أعجب من إقبال الناس على الكتب وليس من هجرها فحالي في شوقي للكتب وحال الشباب في هجرها في الواقع كما قالي المتنبي:
أُغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغلبُ        وأعجبُ من ذا ( الهجرِ ) والوَصلُ أعجبُ
 
في الزمن الحالي أصبح الجميع مفتتن بالنظر في صفحة وجه المحبوب الرقمي من أجهزة الآيباد والجوالات وشاشات الكمبيوتر التي سلبت العقول وخطفت الانظار بوسائلها الجذابة في التسلية والترويح عن النفس ولذلك قل لي بربك كيف يستطيع أن ينافس الكتاب الباهت بين كل هذا الزحام البرّاق والمتألق ولذا (وصال وأتصال)  الشباب بهذه الكتب هو المستغرب وليس (هجرها). ورحم الله زماناً كان يقال فيه إن القراءة (نزهة) في عقول الرجال وعوضاً عن هذه الحكمة البليغة أصبحت (نزهة) جيل اليوم تصفح مواقع الشبكة العنكبوتية السطحية واستعراض مقاطع اليوتيوب الساذجة وأضاعت الاوقات والاخلاق في دردشات الانترنت المريبة. في مطلع الثمانينات من القرن الماضي انتشرت حملات دعائية في بعض الدول الأوروبية حملت عنوان (أنقذوا القراءة) وكان سبب ذلك الهلع الكبير أن (التلفزيون) صرف الناس عن المعرفة الجادة وتسبب في أزمة القراءة والعزوف عنها. في الحديث الشريف إن (الفتن يرقق بعضها بعضا) فبعد أن كان جيل الآباء يخشى على أبنائه من تلف العيون/ التلفزيون وتسببه في ضياع أوقاتهم اصبحنا نترحم على زمن الطيبين التلفازي مقارنه بالضياع شبه الكامل للوقت والانعزال الشعوري لأغلبنا مع شاشاتنا اللوحية الخاطفة للأبصار والوجدان.
 
خطيئة .. أمة أقرأ لا تقرأ
في عام 2008 أصدرت مؤسسة الفكر العربي (التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية) وهو التقرير الذي صعق المجتمع الثقافي والعلمي والتربوي للامة العربية من الخليج إلى المحيط. ومما زاد الأمر سوءا فيما يتعلق بالقراءة واقتناء الكتاب أن هذا التقرير مبني على نتائج استقرائية أجريت عام 2007 وما قبلها أي قبل تصاعد وتنامي ظاهرة وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك وتويتر والواتس أب والسناب شات) التي هي حاليا من أهم الاسباب الرئيسية في هجر الكتاب بالإضافة إلى أنه في عام 2008 حصلت الازمة الاقتصادية الدولية الماحقة لبركة المال والمتسببة في ضعف القوة الشرائية لأغلب العرب الذين اصبح شراء كتاب في واقعهم رفاهية باهضه ليست من ضمن سلم الأولويات المعيشية. قبل عشر سنوات من الآن (والواقع الحالي أكثر مراره) توصل التقرير السابق إلى أن معدل القراءة للطفل العربي لا يزيد عن 6 دقائق في السنة في حين أن متوسط القراءة للمواطن عربي لا يزيد عن 10 دقائق في السنة مقابل 12 ألف دقيقة للمواطن الاوروبي. الجدير بالذكر أنه في المسح الاستقصائي السنوي الدولي للتربية لعام 2008 والذي تجرية هيئة اليونيسكو بالأمم المتحدة تبين أن متوسط عدد الصفحات التي يقرئها الشخص العربي في السنة هي اربع صفحات فقط في مقابل 11 كتاباَ يقرئها في المتوسط الشخص الامريكي كل سنة.
 أما في جانب نشر وتأليف الكتب فيشير تقرير مؤسسة الفكر العربي أنه يصدر كتاب واحد فقط لكل 12 ألف مواطن عربي بينما هناك كتاب لكل 500 رجل إنجليزي علما بأنه في عام 2007 كان مجموع الكتب التي نشرت في كامل الوطن العربي هو 27809 كتاب والذي هو ربما نصف عدد الكتب التي تنشر سنويا في تركيا أو ثلث الكتب التي تنشر سنويا في إيران. ولذا لا غرابة أن نعلم أن إجمالي ما يتم طبعه من الكتب في العالم العربي يقل عن واحد في المائة من الانتاج العالمي لنشر الكتب بالرغم من أننا نسبتنا الديمغرافية أكثر من خمسة في المائة من سكان العالم. ما سبق من التدهور المعرفي والثقافي في مجال التأليف مقبول بالمقارنة مع الطامة الكبرى والفضيحة المخزية التي يشير لها تقرير التنمية البشرية لليونيسكو لعام 2013 والذي يفيد بأن العرب الذين تجاوز عددهم 270 مليون نسمة لا يترجمون سنويا سوى 475 كتاباً (بمعنى أنه يتم ترجمة كتابين فقط لكل مليون عربي) في حين أن دولة مثل إسبانيا ذات العدد السكاني الذي لا يتجاوز 38 مليون نسمه تترجم أكثر من عشرة الاف كتاب سنويا.
ما سبق كان إطلالة خاطفة من واقع الارقام الاحصائية المرير والمقلق لتدهور الظاهرة الحضارية الحيوية لأي مجتمع وهي القراءة وصناعة الكتاب ونتيجة لهذه الخطيئة خسرت الأمة العربية (أمة أقرأ التي لا تقرأ) مقدراتها الاقتصادية وسيادتها السياسية وتقدمها العسكري. في هذه السنة سوف تمر ذكرى مرور نصف قرن على هزيمة العرب المخزية في حرب 1967 أمام أوباش الجيش الاسرائيلي فكم يا ترى كان نصيب جاهلية الشعوب العربية وعزوفها عن القراءة في التسبب بهذه الهزيمة النكراء أمام لفيف اليهود وشذاذ الآفاق. يقال أنه قبل حرب الوكسه والنكسه زار صحفي هندي يدعى كارانجيا إسرائيل لإجراء لقاء صحفي مع وزير الدفاع الاسرائيلي موشي ديان وفي هذا اللقاء سرب موشي ديان جزء من خطته الحربية المتمثلة في قصف الطائرات الحربية المصرية وهي على مدرج المطار. وعندما استغرب الصحفي الهندي كشف هذه الخطة الحربية على الملأ يقال أن موشي ديان رد ببرود قولته المشهورة (لا عليك .. فالعرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون).
 
التكفير عن الخطيئة .. مبادرات إعادة إحياء القراءة
ليس بالتعليم وحده يحيا الإنسان ففوق ذلك يحتاج أبناؤنا وجيل المستقبل إلى التربية وغرس الأخلاق الحميدة وكذلك تعزيز السلوك الحضاري المتمثل في القراءة ومصاحبة الكتاب. المثال الإنجليزي الحكيم القائل (بإمكانك أن تأخذ الحصان إلى النهر، ولكن لا تستطيع أن تجبره على الشرب) يعكس تماما حالنا مع أبنائنا وجيل الغد فقد نحاول أن نحبب لهم القراءة ونوفر لهم الكتب الشيقة ولكن قد نفشل في أن نغرس هذا السلوك الراقي في وجدانهم وجيناتهم. ولهذا لا غرابة أن أكبر مشروع عربي على الاطلاق يطمح لمحاولة حث الاطفال على القراءة خارج المنهج الدراسي سمي مبادرة (تحدي القراءة العربي) وهو البرنامج الحضاري الرائد الذي أطلقه حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لتشجيع القراءة لدى شريحة طلاب المدارس في عموم العالم العربي. لقد كان هذا البرنامج الثقافي الاثرائي طموحا جدا حيث حدد هدفه الرئيس في التزام أكثر من مليون طالب عربي بالمشاركة بقراء خمسين مليون كتاب خلال كل عام دراسي ويتم حاليا تنفيذ هذا (التحدي) من خلال تدشين منافسة للقراءة خصصت لها جوائز قيمة وحفل تكريم حاشد يقام في مدينة دبي.
في الوقت الحالي تعتبر دولة الامارات العربية المتحدة هي الدولة الرائدة عالميا وبكل المقاييس في محاولات تحفيز وتشجيع جميع شرائح المجتمع على القراءة والمبادرات التي تم تفعيلها في الامارات هذا الشأن تثير الأعجاب وتفرض الاحترام وبمثل هذه المبادرات الحضارية يمكن التكفير ولو جزئيا عن خطيئة هجر الكتاب والعزوف عن القراءة. بالإضافة لبرنامج تحدي القراءة الرائد نجد أنه تحت شعار (ثقافة بلا حدود) تقوم إمارة الشارقة بتنفيذ مشروع (مكتبة لكل بيت) والذي يهدف لإهداء حوالي ثلاثين ألف مكتبة منزلية تشمل على حوالي مليون كتاب مجاني. بينما أعلن العام الماضي في مدينة دبي عن البدء في انشاء أكبر مكتبة عامة في الشرق ألأوسط يخطط لها أن تضم حوالي أربعة ملايين كتاب ما بين كتاب ورقي او إلكتروني أو سمعي. أما مدينة أبو ظبي فقد تم العام الماضي إطلاق مبادرة (2016 عام القراءة) والتي دشنها الشيخ خليفة بن زايد رئيس الدولة والتي تهدف لترسيخ ثقافة العلم والمعرفة والاطلاع وتم خلال تلك السنة تنفيذ ما يقارب 1500 حملة ومبادرة وبرنامج مختلف لتعزيز القراءة قام بالمشاركة في تنفيذها كافة قطاعات الدولة الحكومية والشركات التجارية الكبرى. وأعجب ما توصلت له الامارات وتفردت فيه ربما على جميع دول العالم أنها أصدرت (القانون الوطني للقراءة) حيث يشكل القانون إضفاء صبغة تشريعية ملزمة لمأسسة النشاط المعرفي وتفعية من خلال جميع مؤسسات الدولة المعنية بصناعة مجتمع المعرفة.
بقدر ما تثير الجهود الاماراتية في إعادة إحياء سلوك القراءة الحضاري الإعجاب بقدر ما تصيبنا بالإحباط من تعثر النشاط المشابه في واقعنا المحلي بالرغم من مرور حوالي 15 سنة على تدشين (المشروع الوطني لإعادة الصلة بالكتاب) والذي أوكلت مهمة تنفيذه إلى مكتبة الملك عبدالعزيز العامة. للأسف الشديد كل مظاهر تنشيط وتعزيز سلوك القراءة في المجتمع من ذلك المشروع لا تتعدى نشر بعض رفوف المكتبات في المطارات (برنامج سافر مع القراءة ) أو تسيير بعض باصات المكتبات في ساحات مدينة الرياض (مبادرة المكتبة المتنقلة) أو استقطاب عدد محدود من طلبة المدارس لمهرجانات القراءة الحرة. وبالرغم من المبادرات والمشاريع الاخرى التي تصب في هدف تشجيع القراءة مثل مبادرات (القراءة للجميع) سواءً تلك المنفذة من قبل وزارة التعليم أو مكتبة الملك فهد الوطنية إلا أن هذه الجهود من الضعف وعدم الشهرة والانتشار وكأنها صرخة في البرية أو قطرة في لفيح الهجير. إن بلادنا شهدت مهد الحضارة الاسلامية الخالدة وإذا أردنا أن نضمن إسهام أجيالنا الجديدة في إعادة بعث الحضارة الإسلامية والعربية من جديد فلا مندوحة من أن نعيد هندسة جيناتهم الحضارية بخصوص القراءة لكي نجنبهم تهكم نزار قباني عندما قال (إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب).
 
زمن جرير والكتاب الالكتروني
عندما تولى الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز اجتمع الشعراء عند بابه ولكنهم حجبوا من الدخول عليه لزهد الخليفة عن شعر المديح الكاذب ولذا عندما كان التابعي والمحدث الجليل عدي بن ارطاه يهم بالدخول على الخليفة خاطبة الشاعر جرير ببيت شعره المشهور:
يا أيها الرجل المرخي مطيته         هذا زمانك إني قد مضى زمني
ولذا على نفس النسق بعد أن أتخذ الناس في عصرنا الكتاب الورقي التقليدي مهجورا ومن له استمرار صله بالكتاب يطالعه في نسخته التقنية المسماة (الكتاب الالكتروني) لذا يجوز لنا أن نحور البيت الشعري السابق لجرير ليصبح وكأنه خطاب من الكتاب الورقي للكتاب الالكتروني:
يا أيها اللوح المشع صفحته     هذا زمانك إني قد مضى زمني
 
صحيح أن المفكر والفيلسوف الفرنسي المعاصر جاك دريدا صاحب المنهج التفكيكي تنبأ (بموت المؤلف) ولهذا رأي البعض بالتبعية حتمية (موت الكتاب) في هيئته الورقية على الاقل انسياقا مع مفهوم نظرية التطور وأن البقاء للأصلح ولذا لا مكان لكتاب الأوراق الصفراء في القرن الواحد والعشرين القرن الذهبي لتقنية المعلومات والنشر الالكتروني. ومع ذلك معركة الكتاب الورقي مع الورق الالكتروني لم تكتمل فصولا بعد بدليل أن أكبر منصة تجارية دولية لبيع الكتب الالكترونية وهي شركة موقع الامازون أعلنت عن خطتها لفتح سلسلة من متاجر الكتب الورقية كما أنه يوميا يتلقى ذلك الموقع الالكتروني عشرات الالاف من طلبات شراء الكتب الورقية  من قائمة كتب تقليدية قد يفوق عددها ثلاثة ملايين كتاب.
 وبالعودة لقصة الشاعر جرير مع الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز فبالرغم من أنه حجب في البداية لدرجة أنه توسط بأهل الفضل من العلماء مثل رجاء بن حيوة وعدي بن أرطاه إلا أنه أخيرا حاز مكانة التفضيل بأن سمح له بإلقاء قصيدته أمام الخليفة ولهذا كان منهجية شعر جرير العفيفة (نسبياً !!) هي السائدة زمن خلافة عمر بن عبدالعزيز. ومن جرير الشاعر بالأمس إلى جرير المكتبة اليوم نجد الفرج بعد الشدة والتمكين بعد الصد فبكل وضوح نرصد أن من مؤشرات رسوخ مكانة زمن الكتاب الورقي ما نشاهده من التوسع الكبير والعجيب لفروع مكتبة جرير التجارية لدرجة أن لها حوالي 14 فرعا في مدينة الرياض وحدها. كما لا يمكن أن نغفل الحضور المكثف والغفير لطوفان محبي الكتب في معارض الكتب الدولية أينما أقيمت في الرياض أو القاهرة أو فرانكفورت أو غير ذلك من مدن الثقافة. أعتقد أنه بمشيئة الله سوف يتعايش الكتاب الورقي والورق الالكتروني جنبا إلى جنب وكأنهما يتقبلان نصيحة أمير الشعراء أحمد شوقي الحكيمة في ضرورة التعايش السلمي وانتهاج فضيلة القبول بالآخر:
إلامَ الخُلف بينكمُ إلاما           وهذي الضجة الكبرى علاما
وفيمَ يكيدُ بعضكمُ لبعضٍ        وتُبدون العداوة والخِصاما 
 
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق