هل يوجد رابط بين لعبة كرة القدم وجوائز نوبل ؟!! سؤال قد يبدو (متسلل) لكنه سؤال مشروع تداوله على أرضية ملعب نادي (مانشستر يونايتد) أحد أعرق الأندية العالمية. مدينة مانشستر البريطانية وثيقة الصلة بتاريخ كرة القدم حيث إن أول دوري رياضي لكرة القدم في التاريخ أنطلق في رحاب مدينة مانشستر عالم 1888م وهي كذلك وثيقة الصلة مع أصغر جسيم (كروي) في الطبيعة إلا وهو (الذرة). للمتخصصين في مجال العلوم كان إدخال مفهوم الذرات أحد أهم الاكتشافات العلمية على مر العصور وقد تم ذلك على يد العالم المعروف جون دالتون الذي قدم النظرية الذرية للمجتمع العلم في عام 1803 ميلادي حيث إنه توصل لهذه النظرية ونشرها اثناء إقامته في مدينة مانشستر. لقد رسم دالتون الذرات على هيئة كرات صغيرة ولهذا لا عجب أنه في عام 2003 عندما أراد المجتمع العلمي ان يحتفل بمرور مائتي سنة على نظرية دالتون الذرية كان ملعب نادي مانشستر يونايتد من ضمن الأماكن الملائمة لهذا الاحتفال.
ضيف الشرف الرئيس لتلك المناسبة في ملعب نادي مانشستر يونايتد كان عالم الكيمياء البريطاني السير هاري كروتو الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1996م لتصنيعه الجزيئي الكيميائي الساحر (الكربون 60 C60) والذي يوصف بأنه أصغر كرة قدم في الطبيعة Buckyball وهو مركب مكون من ستين ذرة كربون متجمعة على شكل كرة قدم نانوية. ولهذا كان برنامج الاحتفال بتاريخ النظرية الذرية أن يلعب العالم هاري كروتو مخترع أصغر كرة في الطبيعة مع اثنين من أبرز نجوم فريق نادي مانشستر يونايتد في ذلك الوقت (أي عام 2003) وهما اللاعب الأورغوياني دييغو فورلان (الفائز بجائزتي الحذاء الذهبي والكرة الذهبية) واللاعب الإيرلندي جون أوشي ومعهم حوالي 350 طفلا تم تعريفهم بشكل مبسط عن عالم الكيمياء وموضوع كرة قدم تقنية النانو المجهرية.
كما هو معلوم أحدث الاكتشافات والمخترعات العلمية المعاصرة مرتبطة بتقنية النانو ولهذا عدد من جوائز نوبل الأخيرة مرتبطة بتقنية النانو تلك التقنية التي بدأت قصتها عام 1985م عندما أكتشف هاري كروتو وزملاءه بالصدفة اختراع أصغر كرة قدم في الطبيعة. إن مركب الكربون 60 C60 مركب مستقر جدا وعندما حاول عالم الكيمياء الأمريكي ريتشارد سمولي الحائز على جائزة نوبل مع هاري كروتو فهم طبيعة الشكل الهندسي المحتمل لهذا المركب توجه لرئيس قسم الرياضيات بجامعة رايس الأمريكية الذي كان رده بكل بساطه (أستطيع أن أشرح لك الموضوع بأكثير من طريقة ولكن بكل بساطة هو شكل كرة القدم). ولهذا الصورة التذكارية الشهيرة للفريق العلمي الذي حصل على جائزة نوبل لإطلاقهم لعصر تقنية النانو كانت تتوسطهم كرة قدم يحملها عالم الكيمياء الأمريكي روبرت كيرل ثالث العلماء الذين حصلوا على جائزة نوبل من وراء كرة القدم تلك.
وبالعودة لمدينة مانشستر وفي مطلع القرن العشرين نجد ظهور اكتشاف علمي ثوري آخر يتعلق بالذرات لم يحصل مثله من زمن اليونان حيث تم نقض التصور الفلسفي أن الذرات غير قابلة للانقسام indivisible وذلك عندما توصل عالم الفيزياء البريطاني المعروف رذرفورد والحاصل على جائزة نوبل عام 1908م لاكتشاف أن الذرة ليست كتلة صماء. وفي قسم الفيزياء بجامعة مانشستر تمت تجربة رقاقة الذهب الشهيرة والتي استنتج منها رذرفورد أن الذرة مكونة من نواة صغيرة ومن مدارات إلكترونية وان حجم النواة أصغر من حجم الذرة بمائة ألف مرة (وهذا ما يعرف بنموذج راذرفورد الذري). بعد أشهر قليلة من تاريخ هذا الاكتشاف العلمي الكبير (والذي تم في عام 1909م) تم افتتاح الملعب الجديد لفريق مانشستر يونايتد (Old Trafford) وبحكم أنه كان أضخم ملعب على الإطلاق في بريطانيا العظمى في تلك الفترة ومن هنا ربما بدأ علماء الفيزياء بمدينة مانشستر يحاولون شرح أبعاد اكتشافهم العلمي بإعطاء المقارنة الشهيرة: (حجم النواة إلى حجم الذرة مثل حجم كرة البراجون الزجاجية الصغيرة إلى حجم ملعب كرة القدم).
ولعلنا نختم أخبار العلماء وارتباطهم بكرة القدم والأندية الرياضية العريقة بأن نذكر أن الكيميائي العربي الكبير أحمد زويل الحاصل على نوبل في الكيمياء عام 1999م قد شارك في عام 2007م كضيف الحفل الرئيس لنادي الأهلي المصري العريق بمناسبة الذكر المئوية لإقامة هذا النادي. وكان لأحمد زويل محاضرة شيقة وفريدة في هذا الحفل بعنوان (ملاعب المستقبل) تدور حول السبل المثلى لرفع حال الأمة العربية والإسلامية من خلال التنشئة العلمية والثقافية والرياضية الصحيحة لجيل المستقبل.
علماء نوبل بين الملعب والمختبر
من أوجه الترابط بين جوائز نوبل العلمية ولعبة كرة القدم أن بعض أبرز مشاهير العلماء في العصر الحديث ليس فقط مارسوا اللعبة الرياضية الأولى ولكن البعض منهم مارسها بصورة شبه احترافية. وبحكم أننا كنا قبل قليل في سياق ذكر الاكتشافات العلمية في مجال الذرات فحتى الآن يعتبر (نموذج نيلز بور الذري) هو أكثر النظريات العلمية دقة في هذا المجال ولذلك ليس فقط حصل العالم الدنماركي نيلز بور على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1922م ولكنه حتى الآن يعتبر أهم شخصية علمية في العصر الحديث بعد أينشتاين الذي بالمصادفة حصل على جائزة نوبل قبل نيلز بور بسنة واحدة فقط. في أثناء دراسته الجامعية كان نيلز بور لاعب كرة قدم موهوب لدرجة أنه شارك فريق نادي كرة القدم الأكاديمي بعض المباريات أمام فرق رياضية أوروبية.
وبالرغم من براعته الرياضية إلا أن تعلقه بالعلم كان يسبب له بعض الأحداث الطريفة حيث كان نيلز بور من العلماء البارزين الذين اشتهر عنهم شرود الذهن والانغماس بالتفكير العلمي العميق. الطريف في الأمر أن إحدى حالات الشرود الذهني العميقة حصلت للشاب نيلز بور عندما كان فريقه نادية الدنماركي يلعب مباراة في كرة القدم مع فريق ألماني. المشكلة إن نيلز بور كان يعلب في خانة حارس المرمى ويبدو أن فريق بور كان هو الأفضل في مستوى اللعب لدرجة أن أغلب وقت المباراة كان يمضي والكرة في نصف الملعب الألماني وفي هذه الأثناء بدأ صاحبنا حارس المرمى نيلز بور يشغل نفسه بحل مسألة رياضية سلبت تفكيره بصورة كاملة. وعندما بدأ الفريق الألماني بالهجوم المضاد استطاع أن يختطف هدف سهل عن طريق تسديدة طويلة فشل نيلز بور في صدها وقد أعترف لاحقا أنه كان مشغولا بالفعل في حل مسألة رياضية.
في حين كان نيلز بور يمارس لعب كرة القدم في موقع حارس المرمى نجد عالم آخر حاصل على جائزة نوبل يلعب في موقع رأس الحربة وهداف الفريق وهذا كان عالم الكيمياء المجري الأصل جورج أولاه الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1994م. في واقع الأمر كانت المهارة الكروية لهذه الكيميائي ضعيفة إلا أنه بسبب طوله البارز أهله ذلك للعب بشكل جيد كمهاجم لفريق قسم الكيمياء بجامعة بودابست التقنية. أما عالم الكيميائي السويسري كورت فوتريخ الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2002م فربما يكون هو أكثر شخصية علمية مرموقة ما زالت متعلقة بلعب كرة القدم. فمنذ مراحل شبابه المبكر أهتم فوتريخ بلعب كرة القدم حيث كان يلعب في فريق مدينة فاليزيلن بالقرب من زيورخ ونظير تمتعه بصحة جيدة ظل يلعب بصورة ما في الدوري الكروي حتى بعد أن قارب سن الخمسين علما بأنه ما زال يمارس لعب كرة القدم بشكل متقطع وهو على مشارف سن الثمانين. ومن صور تعلق فوتريخ بلعبة كرة القدم حرصه أن يضع في صفحته العلمية للموقع الإلكتروني للمعهد السويسري للتكنولوجيا في مدينة زيورخ العديد من الصور الفوتوغرافية وهو يمارس لعب كرة القدم مع رفقاء دربه الكروي من لاعبي فريق مدينة فاليزيلن حيث نظمت لهم مباراة لم شمل عام 2015 ميلادي.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان الشاب الأسكتلندي وليم رامزي يعمل في مرسى لبناء السفن وعندما كان يعلب كرة القدم مع زملائه تعرض لإصابة خطيرة تسببت في كسر قدمه. وعندما كان في فترة النقاهة والتماثل للشفاء كانت حركة محدودة ولهذا أخذ يشغل نفسه بمطالعة بعض الكتب الثقافية ومن ضمنها كتاب في الكيمياء ومن هنا ومن جراء كرة القدم تعلق هذا الشاب بعلم الكيمياء لدرجة أنه باشر بعد شفائه بالتسجيل في قسم الكيمياء بجامعة جلاسكو. وفي لاحق الايام سوف يحصل السير وليم رامزي على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1904م نظير اكتشافه سته من عناصر الجدول الدوري ذات خواص كيميائية فريدة ولهذا تسمى (العناصر النبيلة). وبعد أن ارتبطت كرة القدم ببدايات حياة السر وليم رامزي ما زالت ترتبط به بعد وفاته وذلك من خلال فريق كرة قدم نادي مدرسة وليم رامزي في مقاطعة باكينغهامشير في جنوب بريطانيا.
دربكة كروية في ملاعب الأدب
الصورة النمطية السائدة عن العلماء والمخترعين أنهم غارقون في بحور الجدية والابتعاد عن تضييع الاوقات في اللعب والمرح ومع ذلك استطعنا أن نحشد امثلة لحوالي عشرة من علماء نوبل ارتبطوا بشكل أو آخر بلعبة كرة القدم . الغريب في الامر أنه يصعب استخراج أمثلة متعددة بنفس المقدار لارتباط كبار مشاهير الادباء والمفكرين بلعبة كرة القدم. لا شك أن رجال السياسة يلعبون ويتلاعبون بالشعوب لكن قلة قليلة منهم مارست لعبة كرة القدم باحترافية ويستثنى من ذلك اللاعب الافريقي جورج ويّا الذي ليس فقط أبدع في الملاعب الرياضية بحصوله على جائزة أفضل لاعب كرة قدم في العالم في عام 1995 ولكنه أيضا يجيد اللعب في دنيا السياسة حيث إنه حاليا رئيس الحكومة لجمهورية ليبيريا. وعلى النقيض من العلماء نجد أن بعض أشهر الادباء والروائيين ليس فقط لم يمارسوا لعبة كرة القدم بل كان لهم نظرة سلبية حولها فالروائي والشاعر الانجليزي البارز أوسكار وايد أعتبر لاعبي كرة القدم برابرة. بينما الاديب الانجليزي المعاصر جورج أورويل (صاحب رواية مزرعة الحيوانات وتحفة رواية 1984) كتب عن خطورة التمازج بين القومية والتعصب الكروي فقال (كرة القدم ليس لها علاقة باللعب النظيف .. وهي مرتبطة بالكراهية والغيرة والبجاحة .. هي بعبارة أخرى حرب بدون إطلاق النار).
من المظاهر المشهورة في ميادين الأدب أن المثقفين والمفكرين في الغالب يكرهون لعبة كرة القدم بسبب الحسد من (الساحرة المستديرة) التي سحرت الشعوب لدرجة أن لاعب الكرة ليس فقط يصبح من المشاهير بل كذلك من الأثرياء والوجهاء في المجتمع. لا شك أن العديد من الأدباء والشعراء والمفكرين شعروا بالمرارة لشعبية كرة القدم وعشق الناس لها بينما غالبية أفراد المجتمع لا يكادون يعرفون شيئا عن شعراء وأدباء بلدانهم. ولهذا لخص الأديب المصري الكبير توفيق الحكم الحال الجديد بقوله (انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم) بينما عندما سأل الأديب الأرجنتيني خورخي بورخيس عن سبب شعبية كرة القدم ردا قائلا (كرة القدم منتشرة لأن الغباء منتشر). أما نجيب محفوظ فتعرض لهذا الموضوع في مقطع صادم من رواية (ميرامار) عندما صرخ الصحفي العجوز عامر وجدي الذي تلاشت أيام عزه (أيها الأنذال .. أيها اللوطيون .. ألا كرامة للإنسان عندكم إن لم يكن لاعب كرة).
ومع ذلك تضطرنا (روح الامانة والأخلاق الرياضية) أن نشير إلى أن البعض الآخر من الادباء والمفكرين كان لهم عشق وإعجاب فريد بلعبة كرة القدم ففي حين كان الشاعر خورخي بورخيس السابق الذكر وكنوع من التعبير عن اعتراضه على شعبية كرة القدم يختار بشكل متعمد أن يكون موعد إحدى محاضراته الادبية في نفس توقيت موعد المباراة الاولى للفريق الارجنتين في بطولة كأس العالم عام 1978م نجد في المقابل أن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش كان عاشقا متيما بمشاهدة مباريات كرة القدم لدرجة أن قال إنه يفضل متابعة مباراة لكرة القدم بين فرنسا وإسبانيا على حضور أمسية شعرية (حتى لو كان من سيحيي الأمسية الشعرية المتنبي !!!). أما أروع كلمة تقدير تم تدبيجها في فن المديح الكروي فكانت من عبارات الكاتب والروائي الفرنسي البارز ألبير كامو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1957 حيث قال (كل ما أعرفه عن الأخلاق والالتزام أدين به للعبة كرة القدم) وعندما سأله أحد أصدقائه ماذا يفضل المسرح أم كرة القدم كان جوابه (كرة القدم وبغير تردد) وهو جواب غريب من صاحب رواية (الغريب) وأحد أبرز رموز الثقافة والأدب المعاصرين.
الجدير بالذكر أن ألبير كامو كان من الأدباء القلائل الذين حصلوا على جائزة نوبل في الأدب وفي نفس الوقت اشتهر عنهم ممارستهم لرياضة كرة القدم حيث يلعب في بواكير شبابه كحارس مرمى في نادي كرة القدم بجامعة الجزائر (ألبير كامو ولد في الجزائر عندما كانت تحت الاحتلال الفرنسي). ومع ذلك ينبغي التنبيه إلى أن ارتباط ألبير كامو بكرة القدم كان فقط في أوائل مرحلة الشباب حيث إنه أصيب وهو في سن الثامنة عشرة بمرض السل مما تسبب في اعتزاله تماما للمستطيل الأخضر. وإلى درجة ما نجد أن الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لعام 1988 مارس هو الآخر لعب كرة القدم في مرحلة الشباب حيث كان يلعب في موقع قلب الدفاع في فريق حي العباسية. ويبدو أن المهارات الكروية لنجيب محفوظ كانت عالية لدرجة أنه قال عن نفسه (كثيرون ممن شاهدوني في ذلك الوقت تنبئوا لي بالنبوغ في كرة القدم وبأنني سألعب لأحد الأندية الكبيرة ومنها إلى الأولمبياد مع المنتخب الوطني) ومع ذلك هجر نجيب محفوظ الكره بمجرد بدايته للدراسة الجامعية وانشغاله بالأدب.
وفي الختام بقي أن أقول بأنني كنت أخطط لأن أعرج على ذكر بعض أبرز الأعمال الأدبية أو حتى الشعرية التي تدور حول لعبة كرة القدم وبالفعل توجد أمثلة متعددة في ثنايا الروايات العربية والأجنبية ولكني صرفت النظر عن ذلك لعدم رغبتي في إطالة المقال أكثر مما حصل وكذلك لإحساسي أن الحبكة الفنية لهذه الأعمال ربما لن تكون عالية. ومما رسخ في تصوري هذا الاستنتاج عندما علمت أن نجيب محفوظ نفسه كتب رواية عن كرة القدم في أوائل شبابه في مرحلة الأربعينيات من القرن العشرين لكنه مزّقها ولم ينشرها ربما بسبب ضعف حبكتها الروائية. ويضاف إلى ذلك أن الروائي التركي أورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عندما سأل (بسبب عشقه الكبير لكرة القدم) هل فكر أن يؤلف رواية يكون لها ارتباط بكرة القدم استصعب خوض هذه التجربة الروائية وعلل ذلك لأن كرة القدم مبنية على الأمور البصرية بينما الأدب على الأمور اللفظية مما يجعل تأليف رواية جيدة امرا معقدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق