إذا أراد الله سبحانه أمراً هيأ أسبباه
التاريخ البشري حافل بأحداث القتال والمعارك ولكنها في الغالب معارك معزولة بين دول وشعوب محدودة. هذه القاعدة والمسلمة الحربية تغيرت بشكل حاد بعد اندلاع الحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى WWI) والتي انطلقت شرارتها في مثل هذا اليوم أي ( يوم 28 يونيو ) قبل حوالي قرن من الزمان وذلك من جراء حدث ليس بالجلل تم في شارع عادي في مدينة منسية (في ذلك الوقت) تدعى سراييفو. في ذلك اليوم من عام ١٩١٤م تمت الحادثة الغريبة لاغتيال ولي عهد الامبراطورية النمساوية فرانز فرديناد في مدينة سراييفو ولحكمة شائها المولى عز وجل كُتب على البشرية ان تندلع أشرس حرب عسكرية وأخطر زلزال سياسي سوف يعيد تشكيل خارطة دول وشعوب وإمبراطوريات وكل ذلك من جريرة حادثة كل الظروف الاعتيادية تحتم الا تقع. كانت الامبراطورية النمساوية المجرية تحكم بلاد البلقان حيث كانت الاقلية الصربية مغالية جدا في تعصبها الديني ومعارضتها السياسية وعلية كانت زيارة الأرشيدوق وريث عرش النمسا لمدينة سراييفو خطأ فادحا ما كان ينبغي أن يقع. وفي حال تمت تلك الزيارة كان من الخطأ كذلك ان تتم في توقيت عيد القديس فيتوس الذي يتوافق مع معركة حربية خسراها الصرب وبالتالي كان من الحماقة استفزاز مشاعرهم بمثل تلك الزيارة في ذلك التوقيت.
الغريب في الامر ان المحاولة الاصلية للاغتيال الأرشيدوق تمت من خلال محاولة تفجير سيارته عن طريق رمي قنبلة يدوية عليها وهو ما تم بالفعل، ولكن شاء الله ان تتدحرج القنبلة ولا تنفجر الا في السيارة التي خلفها وبهذا نجى الأرشيدوق وزوجته من موت محتوم. وكان المفترض بعد ذلك ان يتم التشديد في حماية الأرشيدوق لان شكوك الاستخبارات المسبقة قبل زيارته كانت في محلها ولكن تدخل قدر الله فبعد ان غادر الموكب مكان الحدث طلب الأرشيدوق أن يزور المستشفى الذي به الجرحى الذين أصيبوا من حادث التفجير الذي تم صباح ذلك اليوم وهنا تحدث المفاجأة الكبرى.
في الواقع كان أحد المتعصبين الصرب الذين شاركوا في محاولة التفجير قد غادر الموقع قبل أن ينتبه له رجال الأمن وبحكم انه أعتقد ان محاولة الاغتيال قد كتب لها الفشل لذا حاول ان يبعد عن نفسه الشبهات فتوجه وكأنه زبون عادي لاحتساء القهوة في شارع فرانز جوزيف قرب الجسر اللاتيني على نهر سراييفو. وهنا ساق الله الأرشيدوق ليذهب بنفسه إلى حتفه وليقع بين يدي قاتله وذلك أنه حصل خلاف بين قائد شرطة سراييفو والقائد العسكري للمنطقة حول خطة تأمين شوارع المدينة وبالتالي كان شارع فرانز جوزيف غير مأمن بشكل جيد. ولسبب غير معروف توقف موكب سيارات الأرشيدوق امام ذلك المقهى وهنا وبكل بساطة أخرج الشاب الصربي المدعو غافريلو (عضو جماعة القبضة السوداء المتعصبة) مسدسه وأطلق النار على الأرشدوق وزوجته فأرداهم قتلى.
ما تلى ذلك أصبح من التاريخ كما يقال:
أعلنت النمسا الحرب علي صربيا
تدخلت روسيا لمساندة الصرب
أعلنت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا دعمهم لروسيا
أعلنت ألمانيا تحالفها ومساندتها للإمبراطورية النمساوية وتم جر رجل الدولة العثمانية معهم
وبهذا حصلت كارثة الحرب العالمية الاولى
البوسنة والهرسك أرض البؤس والهرس
ما حصل بين دول وشعوب وامبراطوريات ذلك الزمان معقد وإن أمكن تبريره وتفسيره بشكل مختزل فربما يتم ارجاعه لعوامل: الاحتقان العرقي والتنافس السياسي واسترجاع التاريخ. ما تم في بلاد البلقان في مطلع القرن العشرين تكرر مرة أخرى بمأساوية مفجعة في نهاية ذلك القرن، فبسبب الاحتقان العرقي والتنافس السياسي واسترجاع التاريخ تم مرة ثانية إشعال حرب عرقية سياسية في أرض يوغوسلافيا التي تشكلت من مزيج عرقي وديني متنافر من الصرب والكروات والبوسنويين وغيرهم من الاعراق الارثودكسية والكاثولوكية والاسلامية.
ولهذا ليس من باب الغرابة بمكان أنه لم تندلع حرب في القارة الاوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية الا في يوغوسلافيا فهي أرض خصبة دائما للتشرذم والصراع. وهكذا تحولت فجأة (أرض عدم الانحياز) زمن الزعيم البارز جوزيف تيتو إلى بلاد التشظي والانحياز السياسي والديني والعرقي وذلك بعد سنوات قليلة من وفاة تيتو في مطلع الثمانينات من القرن العشرين. ونتيجة للاستحضار والاستجرار الصارخ للتاريخ حصلت الكارثة البقعاء في أرض البلقان فكما تسببت زيارة الارشيدوق سابقا زمن ذكرى هزيمة الصرب في اندلاع الحرب العالمية الاولى تسببت ذكرى هزيمة أشنع وأقدم للصرب في اندلاع الحرب الاهلية اليوغوسلافية. إرهاصات زلزال هذا الانقسام حصلت في عام ١٩٨٩م عندما أحتفل التيار المتطرف من القومية الصربية بمرور ستة قرون على (معركة كوسوفو) عام ١٣٨٩م والتي أنتصر فيها الجيش العثماني وتم فتح بلاد البلقان ودخلها الاسلام.
ولهذا بدأت الاحزاب المتطرفة الصربية من عام ١٩٨٩م في التصريح بكل صفاقة بطلب (تطهير) الأراضي الصربية من المسلمين وإعادة تهجيرهم الي تركيا وأرض البشناق ومن هنا اندلعت لاحقا حرب البلقان. ولهذا كان الصراع داميا وجرائم الابادة الانسانية أبشع في حرب الصرب للمسلمين في البوسنة وحصارهم الرهيب والطويل لمدينة سراييفو وما حصل في هذه الحرب أشنع بما لا يقاس بما حصل من حرب بين الكروات الكاثوليك والصرب الأرثودوكس.
للأسف لا أحد يتعلم من التاريخ الذي ما برح يكرر نفسه حيث أن أسباب وعوامل (الاحتقان العرقي والتنافس السياسي واستجرار التاريخ) هي نفسها التي تسببت في حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا وحرب الثلاثين عام بين فرنسا و الامبراطورية الالمانية القديمة فضلا عن كوراث الحربين العالميتين وما بعدها. وخط التاريخ الاستطرادي المستقبلي ما زال في عنفوان اندفاعه وللأسف تاريخ البشرية في القديم والحديث (سلسلة متواصلة من الاخطاء) التي تبدأ أحيانا بمسببات تافهة هي مستصغر الشرر والذي سرعان ما يشعل مستعظم الضرر.
اليوم الخميس الثامن والعشرين من شهر يونيو من عام ٢٠١٨م أقف في (بؤرة الحدث) الذي تم في نفس هذا اليوم قبل حوالي قرن من الزمن واسترجع كيف تسبب (تراكم الاخطاء) البسيطة في قصة اغتيال ولي عهد النمسا في تغيير واقع التاريخ البشري بصورة غير مسبوقة. مخاض قاسي عانته البشرية جمعاء جراء الحروب العالمية وظهور الشيوعية ومع ذلك يمكن استشراف الخير من خضم الشر. فها هي ذا سراييفو ذاتها والبوسنة من خلفها قد (تعافت وصحٓت) بعد بؤس ولهذا ليس لي إلا أن أترنم بقول طيب الذكر المتنبي عندما فلسف حكمة احتمالية وقوع البلاء :
لعل عتبك محمودٌ عواقبهُ
وربما صحٓت الاجسام بالعللِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق