التلميذ أينشتاين .. أشهر تلميذ متعثر في التاريخ
د/ أحمد بن حامد الغامدي
بلا جدال يعتبر عالم الفيزياء الالماني
الأصل ألبرت أينشتاين اسطورة العلم الحديث وأحد أشهر الشخصيات المعروفة على مستوى
العالم وهو بهذا رمز للنجاح والتوفيق وحسن الطالع. في تصور البعض قد يكون اينشتاين
رمز وتجسيد ملموس لما يمكن وصفه (بأيقونة النجاح) ومن كان بعبقرية وتفوق اينشتاين
يصعب أحيانا تخيل أنه قد ذاق مرارة الفشل. ومع ذلك فإن أحد أسرار نجاح اينشتاين
أنه مثال واقعي للمقولة الحكيم للداهية السياسي البريطاني وينستون تشرشل (النجاح
هو القدرة على الانتقال من فشل إلى فشل آخر من دون فقدان الحماسة).
النجاح رحلة مستمرة تمر على عدد كبير من
محطات الاخفاق ولهذا مع استعدادنا جميعا يوم غد الأحد (للعودة للمدارس) يجب أن لا
نقسوا كثيرا على أبنائنا الطلاب إذا واجهتهم بعض الكبوات أثناء صعودهم لسلم
النجاح. قبل حوالي سنتين وفي مثل هذه الاجواء لاستقبال العام الدراسي الجديد كتبت
مقال حمل عنوان (العودة للمدارس .. لحظة
كئيبة في طفولة عباقرة العلماء) تم الاشارة هنالك للبيئة المدرسية الكئيبة التي
سببت الفشل المؤقت لكبار ومشاهير العلماء والمخترعين مثل نيوتن واينشتاين واديسون
ودارون وثمانية علماء آخرين ممن حصلوا على جائزة نوبل.
وهنا سوف نكمل فقط مسيرة حياة شيخ مشايخ قبيلة
العلم اينشتاين والاخفاقات والفشل المتكرر في تاريخه وفي جميع مناحي حياته
التعليمية والمهنية والبحثية لنعطي لمحة سريعة عن the Other
Einstein الوجهة الاخر لأينشتاين. ومن صفحات كتاب حياة هذا (العالم) نثبت
خطأ مقولة الاديب الانجليزي أوسكار وايد الذي قال: النجاح هو (علم) .. إذا حققت
الظروف تنال النتيجة.
السجل الأكاديمي لأينشتاين .. إخفاق
متواصل
مشكلة (صعوبات التعلم) أبعد ما تكون
مرتبطة في ادراكنا بشخصية علمية في قمة العبقرية مثل اينشتاين لكن هذا هو الواقع
بكل ما فيه من غرابة ودورس في طبيعة واقع الحياة. توجد اشارات تاريخية موثقة
للحياة المبكرة لأينشتاين أنه تأخر في النطق والكلام إلى حوالي السن الثالثة من
عمره كما يشاع أنه كان يعاني من مشكلة عسر القراءة Dyslexia
وإن كان خبر تأخر قدرته على القراءة لسن متقدمة أقرب للخرافة من الحقيقة التاريخية
الثابتة. ومع ذلك وباعتراف اينشتاين نفسه فقد ذكر انه في طفولته كان يعاني من ضعف
ملكة الحفظ لديه ومن هنا حصلت الحادثة
الشهيرة من أن معلم اينشتاين للغة الاغريقية كتب في سجله الدراسي (بأنه لا ينفع
لشي) كما قال له أنه لن ينجح في حياته. وبالجملة كانت قدرات اينشتاين التعليمية في
المدرسة تتسم بالبطيء وشورد الذهن والانعزال والمشاكسة وعدم قبول النظام وتكرار
الغياب.
في سن الرابعة عشرة انتقلت اسرة اينشتاين
للعيش في جنوب ايطاليا في حين ظل الفتى المراهق اينشتاين يقيم في مدرسة داخلية في
مدينة ميونخ الالمانية وبعد ستة اشهر من مغادرة اسرته ترك اينشتاين المدرسة وغادر
البلد. وبالرغم من الاخفاق المبكر في حياته إلا أن الخطوة الغريبة للشاب أينشتاين أنه
في سن السادسة عشرة تقدم للتسجيل في المعهد التقني العريق بمدينة زيورخ السويسرية
وهنا حصل أول أخفاق حقيقي في حياة اينشتاين حيث رسب في اجتياز اختبارات القبول
لهذا المعهد العلمي ولهذا اضطر أن يتعلم لمدة سنة في المدرسة الثانوية السويسرية
لكي يستعد لاجتياز اختبارات القبول التي فشل فيها سابقا.
أما عن الاداء الاكاديمي لأينشتاين في
دراسته الجامعية فيبدو من كتاباته الخاصة أنه واجهته بعض الصعوبات الاكاديمية
اثناء تلك الدراسة، فمثلا يقول أنه في وقت الامتحانات كان يشعر وكأنه ذاهب للإعدام
بالمقصلة وليس ذاهب لأداء الاختبار كما أنه يعترف بأن التعليم كان صعبا عليه وانه
كان يحتاج أن يسأل معلميه العديد من الاسئلة. كما أن سجله الجامعي يوثق لغيابه
المتكرر عن المحاضرات الاكاديمية لدرجة أنه في أحد المقررات الجامعية لم يحضر إلا
لمدة اسبوعين فقط وتغيب عن بقية المحاضرات.
كما سوف نناقش بعد قليل كانت المسيرة
المهنية لاينشتاين في بداية حياته الوظيفية متواضعة ولهذا حرص منذ البداية أن يحسن
فرصته بالعمل بالجامعة من خلال الحصول على درجة الدكتوراه وهي المهمة بالغة
الصعوبة والالم في حياته. قصة تعثر أينشتاين (المتكرر) في الحصول على الدكتوراه
معقدة ومحزنة وغريبة ونتيجة للمصاعب الحقيقية التي واجهها اينشتاين في نيل درجة
الدكتوراه كتب رسالة إلى صديق مقرب يذكر فيها أنه قد تخلى عن الفكرة برمتها لأنها
لن تقدم له الكثير كما أنه بدأ يشعر بالضجر من هذه (المسرحية الهزلية). على كل حال
يمكن تلخيص معاناة أينشتاين في فشله في الدكتوراه كالتالي: خلال خمس سنوات من عام
1901م وحتى عام 1905م حاول اينشتاين في (ستة محاولات منفصلة) للتقدم لنيل درجة
الدكتوراه من جامعة زيورخ السويسرية. في بداية الأمر كان المشرف على بحثه في
الدكتوراه عالم الفيزياء الألماني هاينريش فيبر Weber
وقد قام اينشتاين بتقديم ثلاثة مقترحات بحثية لهذا المشرف بل أن المقترح الثالث منها
قدم علي شكل رسالة دكتوراه dissertation
مكتوبة . لكن هذا المشرف العنيد رفضها جميعا إما بحجة عدم كفاية التجارب
العلمية أو رفض المحكمين لها أو عدم كتابتها بالطريقة السليمة (بل حتى كان يحتج
على نوع الورق المستخدم). بعد كل هذه المعاناة قام اينشتاين بطلب تغيير مشرف رسالة
الدكتوراه إلى عالم الفيزياء السويسري ألفرد كلاينر Kleiner
والذي بدوره هو الاخر كرر في البداية نفس المأساة
برفض رسالة دكتوراه كتبها اينشتاين لأن فيها انتقادات علمية حادة لأحد أعمدة علم
الفيزياء في ذلك الوقت الفيزيائي النمساوي الشهير بولتزمان. وفي بداية عام 1905
قدم اينشتاين الفكرة الخامسة لأطروحة الدكتوراه عن موضوع الديناميكا الكهربائية
للأجسام المتحركة وقد تم رفضها لأن استاذة الجامعة الذين قاموا بمراجعتها
وتحكيمها لم يفهموها. ومن حادثة قصة رفض
استاذة الجامعة للأطروحة العلمية لأينشتاين لأنهم لم يفهموها نعرف مصدر القصة
المشهورة عن أخت اينشتاين مايا التي ذكرت أن اينشتاين تقدم ببحثة حول النظرية
النسبية إلى جامعة زيورخ لنيل درجة الدكتوراه لكن الجامعة رفضت طلبه لأن استاذة
الجامعة بدت لهم النظرية غريبة وغير مفهومة. بقي أن نقول أن العنوان العلمي الرصين
(الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة) هو نفسه ما اشتره لاحقا بلاسم الاكثر
(شعبية) ألا وهو النظرية النسبية الخاصة. ثم في منتصف عام 1905م قدم اينشتاين
الفكرة السادسة لمشروع بحث الدكتوراه ممثلة في أطروحة علمية مكتوبة تتعلق بتحديد
حجم الجزيئات الكيميائية في السوائل وبحسب ما رواه اينشتاين فقد أبلغه أساتذة
جامعة زيورخ أن الاطروحة الجديدة غير مقبولة تماما لأنها قصيرة جدا ويجب عليه تعديلها
وهنا كان موقف اينشتاين (وربما بشيء من الدعابة) أنه أضاف جملة واحدة فقط لرسالة
الدكتوراه وأعاد تقديمها للجنة المناقشة التي اضطرت لقبولها. لاحقا سوف يندم
اينشتاين على عدم قيامه بتعديل رسالة
الدكتوراه لأنه لو فعل لكان جنب نفسه مهانة رفض طلبه للعمل كأستاذ جامعي !!.
المسار المهني لأينشتاين .. بداية متعثرة
كما قلنا سابقا يعتبر اينشتاين (رمز
وأيقونة النجاح) ومع ذلك تبين لنا أن مسار النجاح طريق مفروش بالفعل بالأشواك وكما
تعثر اينشتاين مرارا حتى حصل على درجة الدكتوراه ففي نفس تلك الفترة الكئيبة من
حياته كان يجاهد للحصول على وظيفة ملائمة تعيله واسرته. في عام 1900م عندما تخرج
اينشتاين من المعهد التقني السويسري كاد ان يحصل على وظيفة معيد لولا اعتراض أحد
اساتذة الكلية بسبب السلوك غير الاكاديمي المشاغب لأينشتاين. بعد ذلك حاول
اينشتاين أن يبحث له عن وظيفة معلم للرياضيات والفيزياء وبالفعل تمكن من التدريس
بشكل مؤقت لمدة ستة أشهر في المدرسة الثانوية بمدينة فينترتور الصغيرة شمال زيورخ.
وبعد التنقل في بعض المهن الصغيرة واضطراره للعمل كمدرس خصوصي وصل اينشتاين لحالة
من الاحباط وهنا كتب الرسالة التي سبق ذكر أنه أرسلها لأحد أصدقائه المقربين ويذكر
فيها فقدانه الأمل للحصول على الدكتوراه والعمل بالجامعة. وهنا قام هذا الصديق
وبمساعدة والده في التوسط لحصول اينشتاين على وظيفته الشهيرة والمتواضعة من الدرجة
الثالثة في مكتب تسجيل براءة الاختراعات بمدينة بيرن السويسرية.
وبعد أن حصل اينشتاين على شهادة الدكتوراه
من جامعة زيورخ تقدم عام 1907م للحصول على وظيفة أستاذ جامعي بجامعة مدينة بيرن Bern
المغمورة ومع ذلك تم رفض طلبه تحت ذريعة أن أطروحة الدكتوراه ناقصة وغير كافية.
ولهذا اضطر اينشتاين أن يتقدم بعد سنة لنفس
تلك الجامعة ولكن هذه المرة بعد تعديل وتطويل الاطروحة ومع ذلك كانت
الوظيفة الجامعية التي حصل عليها اخيرا ليست وظيفة دائمة وإنما قبول (تحت التجريب)
بل أن لقبه العلمي في تلك الجامعة كان :
محاضر شخصي (privatedozent).
وبهذه المناسبة تجدر الاشارة إلى أن صورة خطاب رفض الجامعة لطلب اينشتاين المتداول
بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي والانترنت هو خطاب مزيف . في ذلك الخطاب
المفبرك يتم تعليل رفض طلب اينشتاين للوظيفة الجامعية إلى أن النظرية النسبية
لأينشتاين خيالية وتم نقدها بأنها غير علمية وهذا التناقض (المزعوم) هو ما ساهم في
شعبية انتشار ذلك الخطاب.
بعد هذه البداية المهنية المتعثرة كمدرس
خصوصي أو كموظف مغمور من الدرجة الثالثة ثم كأستاذ جامعة مؤقت بدأت الشهرة العلمية
والمكانة البحثية لآينشتاين تتزايد يوما بعد آخر فحصل على وظيفة جامعية في جامعة
براغ بدرجة بروفيسور ثم انتقل منها إلى جامعة زيورخ واخيرا حصل على منصب مدير المعهد الفيزيائي في جامعة برلين.
وكما هو معلوم بعد وصول هتلر والحركة النازية للحكم في ألمانيا هاجر اينشتاين إلى
الولايات المتحدة وعمل في معهد الدراسات المتقدمة بجامعة برينستون الأمريكية.
كلمة أخيرة فيما يخص (المسار المهني)
لأينشتاين فهو إلى حدا ما ناقص فبحكم أن أينشتاين منذ بدايات القرن العشرين وحتى
وفاته وهو يعتبر بدون منازع أعظم وأشهر شخصية علمية وبهذا كان بإمكانية العمل في أفضل الجامعات أو
المراكز البحثية العريقة والمشهورة. ولكن لأسباب غير مفهومة تماما فضل العمل في
معهد الدراسات المتقدمة IAS حديث الأنشاء بالإضافة لكونه معهد علمي متخصص
أكثر في علم الرياضيات. في نفس الفترة عرض علي اينشتاين العمل في جامعة أكسفورد
لكنه رفض ذلك وفضل العمل في ذلك المعهد شبه المجهول (لاحقا بفضل شهرة اينشتاين
تقاطر العشرات من أبرز العلماء على هذا المعهد) . لقد كان باستطاعته العمل في أهم
مراكز أبحاث علم الفيزياء مثل جامعة كيمبردج أو جامعة مانشيستر التين لهما تاريخ
عريق في أبرز الاكتشافات العلمية المتعلقة بالذرات وكذلك الجامعات الامريكية
الشهيرة في مجال الفيزياء مثل جامعة بيركلي وهارفرد وكالتك بل وحتى جامعة برينستون
نفسها ولكن في قسم علم الفيزياء وليس معهد الدراسات (الرياضية) المتقدمة. يبدو أن
اينشتاين متواضع أو لا يعرف تماما ثقل قيمته العلمية بدليل أنه عندما تم التعاقد
معه للعمل في جامعة برينستون طلب منه أن يحدد الراتب الذي يرغب فيه فطلب فقط ثلاثة
الاف دولار في حين أن الجامعة عرفت (قيمته في سوق الاقتصادي المعرفي) ومنحته أكثر
من خمسة أضعاف الراتب الذي طلبه.
أخطاء اينشتاين العلمية وهفواته
قديما قيل لكل جوادِ كبوه ولكل عالمِ هفوه
وعباقرة العلم ليسوا بمعزل من هذا المصير فهم عرضه للأخطاء والهفوات لدرجة أن من الاقوال
التي تنسب لأينشتاين نفسه (الشخص الذي لم يقع في أي خطأ هو الشخص الذي لم يجرب عمل
أي شيء). ومع ذلك الاخطاء في بعض الأحيان ليست مجردة هفوات مقبولة ولكن قد تصل إلى
حماقات علمية فاحشة يحتار الواحد منا في فهم كيف تقع من القامات العلمية الرصينة.
دنيا العلم والعلماء بها العديد من التناقضات المضحكة والعجيبة من ذلك مثلا: عالم
الفيزياء المجري فيليب لينارد الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1905م عن
أبحاثه عن الاشعة المهبطية أقتنع المجتمع العلمي بتفسير اينشتاين لمصدر تلك الاشعة
المهبطية وربطها بظاهرة التأثير الكهروضوئي photoelectric
effect التي اقترحها اينشتاين وحصل من جرائها جائزة نوبل عام 1921م. لكن
الفيزياء فليب لينارد رفض قبول تفسير اينشتاين كما رفض قبول النظرية النسبية وكان
يصفها بالخدعة اليهودية. الاغرب من ذلك أن ظاهرة التأثير الكهروكيميائي التي ضمنت
جائزة نوبل لأينشتاين لا يمكن تفسيرها علميا من غير القبول بنظرية ميكيانيكا الكم
التي يرفضها أينشتاين !! ولك أن تعجب من علماء نوبل الذين يرفض بعضهم أبحاث بعض
حتى وإن نالت جائزة نوبل !!.
بعد قرون من شبه الجمود في علم الفيزياء
بدأ العلماء في مطلع القرن العشرين يطرحون
نظريات وافكار علمية غريبة ومحيرة وغير مألوفة مثل النظرية النسبية ونظرية الكم.
ولهذا لم يكن مستغربا بطء تقبل المجتمع العلمي لهذه الافكار بل أن اينشتاين بعد أن
طرح فكرة النظرية النسبية عام 1905م وكان يتم ترشيحه كل سنة لجائزة نوبل إلا أنه
لم يحصل عليها إلا عام 1921م وفي موضوع غير النظرية النسبية. صحيح أن بعض العلماء
في البداية لم يقتنعوا بصحة فركة عدم صرامة القوانين الفيزيائية في نظرية ميكانيكا
الكم القائمة على الاحتمالات (مبدأ عدم اليقين) إلا أن الغالبية العظمى سرعان ما
غيروا قناعاتهم وقبلوا تلك النظرية الهلامية. من طرائف ما يذكر هنا أن ثلاثة علماء
ألمان في أوائل شبابهم (قبل أن يحصلوا على جوائز نوبل) اجتمعوا عام 1913م وهم
اينشتاين وأتو شتيرن و ماكس لاوي وتناقشوا في صحة نظرية ميكانيكا الكم ثم اتفقوا
جميعا بقيامهم بالحلف والتعهد أنه في حال تأكد الهراء والتخريف المتعلق بنظرية
الكم فإنهم جميعا سوف يهجرون علم الفيزياء. طبعا لم يبقى على عناده من مشاهير
العلماء في رفض نظرية الكم إلا اينشتاين واستمر على ذلك حتى وفاته بينما اصبحت
نظرية الكم هي أكثر نظرية فيزيائية مرتبطة بالاكتشافات الفيزيائية الكبرى التي
حصلت على عدد كبير من جوائز نوبل كما أنه بسببها أمكن انتاج المخترعات المذهلة مثل
الكمبيوتر والليزر والاقمار الصناعية وغيرها كثير.
لمدة نصف قرن لم يقتنع اينشتاين بصحة
ميكانيكا الكم كما أنه أضاع العقود الاخيرة
من حياة وهو يجهد ويكد عقلة العبقري في محاولة فاشلة ومتكررة لإنتاج ما
أصبحت تعرف (بنظرية التوحيد الكبير) Grand Unification Theory أو الاسم الشعبي لها: نظرية كل شيء !!. حتى
الانفاس الاخيرة حاول اينشتاين أن يجمع في معادلة واحدة كل القوانين الاساسية في
علم الفيزياء وخصوصا دمج الجاذبية مع الكهرومغناطيسية وقوى الذرات ولكن فشل في كل مساعيه
المتواصلة تلك لدرجة أنه قبل ايام قليلة من وفاته في المستشفى عام 1955م كان يحاول
ويحاول حل هذه المعضلة المعقدة.
ربما لم يعترف اينشتاين ابدا بخطأه حيال
عدم القبول بنظرية ميكانيكا الكم لكنه في المقابل كان شجاعا في الاعتراف بما سماه (أكبر خطأ ارتكبه في
حياته) وهو عدم قبوله في البداية بمفهوم انكماش أو تمدد الكون. منذ زمن فلاسفة
اليونان وحتى مطلع القرن العشرين كان أغلب العلماء يعتقدون أن الكون سرمدي وفي
حالة مستقرة. ولهذا عندما تسببت معادلات اينشتاين المشتقة من النظرية النسبية
العامة بإعطاء إيحاء بأن الجاذبية سوف تتسبب في انكماش الكون لذا قام اينشتاين
وبشكل تعسفي بإضافة شيء جديد لمعادلاته سماه (الثابت الكوني) وذلك لكي
يحافظ على حالة ثبات الكون. ولكن بعد ذلك بفترة من الزمن ظهرت النماذج الأولية من نظرية الانفجار الكبير Big Bang
لكي تبين أن الكون ليس ثابت كما تصور اينشتاين وغيره من العلماء. اللطيف في الامر
أن اينشتاين لم يكن فقط مخطئا في عدم تقبل أن السماء (تتحرك) لكنه ايضا لم يقبل
النظرية العلمية التي تقول أن الارض تتحرك. كما أن أهم نظرية في علم الفلك هي
نظرية الانفجار الكبير التي رفضها اينشتاين في البداية فإن أهم نظرية في علم
الجيولوجيا هي نظرية انزياح القارات continents drifting وهي الظاهرة الجيولوجية المتعلقة بالحركة
المستمر وان كانت ضئيلة جدا للصفائح التكتونية الارضية وهذا ما يسبب حركة وانزياح
القارات عن مواضعها وتكون الجبال. في نفس العام الذي توفي فيه اينشتاين أي عام
1955م قام بكتابة مقدمة لكتاب علمي في مجال علم الجيولوجيا عنوانه (قشرة الارض
المنزاحة) وهو الكتاب الذي يعارض نظرية انزياح وتحرك القارات وكأن اينشتاين وحتى
اللحظات الاخيرة من عمره لا يتوب من خطيئة (الجمود العلمي) وعدم قبول النظريات
والافكار العلمية الجديدة علما بأنه كذلك في فترة ما كان يرفض الفكرة قبول صحة
الفكرة العلمية المتعلقة بحقيقة وجود الثقوب السوداء.
وبعد سلسلة الاخطاء والهفوات هذه أعتقد
أننا لن نستغرب أن نعلم قيام اينشتاين برفض ظاهرة فيزيائية معقدة جدا ويكتفي (من
باب السخرية) بتفسير حصولها بأنها ناتجه
عن طريق الاشباح !!. حسب النظرية النسبية فلا شيء في الكون اسرع من الضوء ومع ذلك
أكتشف العلماء ظاهرة محيرة تسمى التشابك الكمي quantum
entanglement حيث قد توجد جسيميات تحت ذرية صغير يؤثر بعضها في بعض بشكل آني
وفي التّو والحظة حتى ولو كانت المسافة بينهما كما بين الارض والمريخ. لم يقبل
اينشتاين هذه الفكرة ولهذا سخر منها وقال أنها لو حصلت فالسبب في حصولها راجع
للأشباح (spooky
action at distance) علما بأن هذه النظرية الغريبة تم اثبات
صحتها بعد وفاة أينشتاين بحوالي عشر سنوات.
لا شك أن اينشتاين بدأ شبابه بأمارات
العبقرية الصارخة لكن للأسف أنهى شيخوخته بالجمود والعناد المذموم لدرجة أن عالم
الفيزياء الامريكي المعروف روبرت أوبنهايمر (الملقب بأبو القنبلة الذرية) قال عنه:
خلال السنوات الأخيرة من عمر اينشتاين لم يعمل شيء جيدا. ومع اكتشاف أن أينشتاين
حتى في أوائل حياته العلمية وقع في أكثر من خطأ في المعادلات الرياضية لإثبات
معادلته الشهيرة (E
= mc2) بل أن جميع الحلول الرياضية
الاخرى التي اقترحها لاحقا كانت غير دقيقة تماما. بهذا يمكن أن نقول
أن حياة اينشتاين كلها كانت حافلة بالفشل
والوقوع المتكرر في الاخطاء والهفوات . ومع ذلك ينبغي التنبيه أنه ليس مقصدنا من
هذا السرد هو تشوية أو انتقاص صورة هذا العبقري الفريد ولكن للتنبيه لحقيقة
(الطبيعة البشرية) للعلم والعلماء وأنهم قد يقعون في الخطأ والزلل. ومن جانب آخر
مسيرة حياة أينشتاين والصعوبات التي اعترضت حياته في كل منعطف هي درس لنا جميعا أن
النجاح في دروب الحياة لا يعنى بأي شكل أن تكون حياتنا خالية تماما من الاخطاء
والهفوات أو أن نستسلم عند بوادر أي إخفاق أو ضعف أو انكسار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق