الجمعة، 5 أكتوبر 2018

( في هجاء الشركات )

الوحدة أفضل من الرفقة (والشركة) السيئة
د/ أحمد بن حامد الغامدي

أحد أشهر الكتب الطريفة وبليغة التأثير في نفس الوقت التي ظهرت في بدايات عصر النهضة الاوروبية كان كتاب الفيلسوف الهولندي إراسموس الذي حمل عنوان (في مديح الحماقة) in praise of folly القائم على نقد منهجية تفكير أهل ذلك الزمن. عنوان وأسلوب الكتاب كانت صادمة وناجحة في فتح مجالات النقاش للقضايا الشائكة والخلافية ولهذا تم عبر القرون استخدام نفس العنوان (في مديح ....) لمناقشة أمور متعددة مثل: إضاعة الوقت، البرابرة، الهراء، البيروقراطية، الظلام، الصراع، الالم ...والقائمة تطول. مثل هذا الاسلوب الطريف نجد له أصول وشواهد في تاريخنا العربي القديم كما في كتاب (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) أو كتاب الجاحظ المشهور لرد الاعتبار (البرصان والعرجان والعميان والحولان) أو كتاب فضل السودان على البيضان.
مثل هذه الكتب القائمة على اسلوب صدمة القارئ هي (تمرين عقلي) وتدريب معرفي لفن الجدال والنقاش والاقناع وفتح باب الحوار حول قضايا متعددة الابعاد ووجهات النظر ولهذا في المقابل قد نجد كتب أو مقالات وأطروحات تدور حول (هجاء أو ذم واستنقاص) أمور وقضايا ومواقف يعتقد العديد من الناس أنها فوق مستوى النقد. وعليه قد تجد من يؤلف كتاب في (نقد النقد) أو في ذم النعيم والفردوس أو هجاء التلفزيون فضلا عن كتب نقد التحديث والحضارة المدينة واللغة و ... الخ.

وعلى هذا النسق سوف نفكر بمنطق (خارج الصندوق) عندما نناقش موضوع الشركات والهيئات التجارية التي هي عصب الاقتصاد ومحور نهضة الامم ومع ذلك لها جانبها المظلم والقبيح. يوجد كتاب فكري ذائع للأديب والروائي الياباني تانيزاكي سماه (في مديح الظلال) أظهر فيه احتفاء الثقافة والحضارة اليابانية القديمة بالظلام والظلال أكثر من النور الباهر ولهذا عبر الصحفي المصري علاء الديب المختص بالتعريف بالكتب بأن ذلك الكتاب ربما يصح إعادة تسميته ليكون (في هجاء الكهرباء).
قد يكون المفكر الياباني تانيزاكي متمحك ومبالغ حتى يظهر لنا معائب ومصائب النور الباهر والكهرباء ولكن في المقابل هل يبالغ أحدنا عندما يقول أن ( منظومة الشركة التجارية ) بها خلل.
حتى لو لم تصل الشركات والمؤسسات التجارية لحالة ( التوحش الرأسمالي ) السافر فهي مع ذلك لا تخلو من ضحايا كثر:
من بعض عمال الشركة المطحونين
او من الاستغلال للمستهلك 
او تقصد الاضرار بالمنافسين من الشركات الصغرى
ولا أقل بالطبع من التسبب بتلوث البيئة

بلا شك الفكر الشيوعي والماركسي حارب بشراسة الرأسمالية وشركاتها ومع ذلك أنتج ما هو اسوأ منها وخنق انسانية البشر بالإلحاد والاستبداد المطلق. ومع ذلك نجد كبار الفلاسفة والمفكرين المعاصرين مقل البريطاني بيرتراند راسل والامريكي نعوم تشوميسكي يحذرون من وجود خلل ما في النظام الاقتصادي للأسواق الحرة ولهذا مالوا أكثر للأفكار الاشتراكية المخففة. بل أن الاغرب من ذلك أن عالم الاقتصاد الامريكي جوزيف ستيجلز الذي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001م وأحد اهم موظفي البنك الدولي أنقلب على (العولمة الاقتصادية) واصبح من أشد المحذرين من كوارث السياسات المالية الاقتصادية. وفي واقع الأمر التوجس من خطورة الانفلات الرأسمالي وضرورة تحجيمه بالمفاهيم الاشتراكية أمر قديم في قلب العالم الغربي بل نتج عن ذلك تيار سياسي مؤثر ومسيطر على المناخ الانتخابي في بعض الدول الهامة مثل فرنسا وايطاليا واسبانيا.

وبالانتقال من دهاليز السياسة إلى أروقة الأدب لن نستغرب كثيرا تغلغل الظلال الاشتراكية إلى دنيا الادب والفن في صور شتى من التشنيع بالبرجوازية إلى نضال العمال واتحاداتهم وبؤس البروليتاري وازمة الانتاج وتوزيع الثروات والصراع الطبقي. الاعمال الروائية للأديب الروسي مكسيم غوركي أو الرمز الفرنسي البارز جان بول سارتر والانجليزي المشاغب جورج أورويل أمثلة بارزة في الأدب الاشتراكي بصورة. عامة لكن فيما يتعلق بالروايات الادبية الناقدة (لبيئة الشركات وظلم العمال) ربما نحتاج للتفتيش في أعمال أدبية أقل شهرة وإن كانت لمؤلفين ذوي شهرة عالمية وبعضهم حصل على جائزة نوبل في الادب.
الرواية الابداعية الشهيرة (عالم جديد شجاع) للكاتب البريطاني ألدوس هكسلي أو رواية (عناقيد الغضب) للأديب الامريكي البارز جون ستاينبيك (الحاصل على جائزة نوبل في الادب لعام 1962م) وكذلك رواية (الكعب الحديدي) للأمريكي جاك لندن فيها إيحاءات بينه لخطورة أن يضل مدراء الشركات الطريق ويتسببوا في شقاء البشرية إما باختراعاتهم الخطيرة أو قهر وظلم العمال.
قد تكون رواية (الشركة) Company للمؤلف الاسترالي ماكس باري رواية ادبية غير مشهورة لكن محور هذه الرواية ربما تردد شيء من صداه في مجتمعنا الاسبوع الماضي. تدور الرواية عن شاب موهوب وطموح يدعى ستيفن جونز يعمل في شركة في مدينة سياتل ومنذ البداية لمع نجمه ولفت الانظار إليه ثم بدأ في صعود سلم النجاح المهني ليدخل في أدغال الصرعات والاسرار والبيئة المشبوهة داخل تلك الشركة الخيالية. في دنيا الاعمال والاقتصاد تتردد مقولة (الشركات الكبرى لا تهتم كثيرا بموظفيها) على العكس من الشركات الصغرى التي تكون بيئتها الادارية أكثر (حميمية واسرية). ولهذا تكثر المشاكل والصرعات في بيئة الشركات التي لا يكتمل نجاح قادتها ورؤسائها إلا بالوقف على أكتاف من تحتهم من صغار الموظفين.

في اللغة الانجليزية كلمة company تعني شركة كما تستخدم كذلك بمعنى (الرفيق و الزميل) ولذا لا أعلم هل (الشاب عمر) الذي أثار استغراب مجتمعنا المحلى باستقالته من تلك الشركة الكبرى، كان يقتدي بالحكمة التي قالها الرئيس الامريكي جورج واشنطن : من الأفضل أن تكون وحيدا بدلا من أن تكون في شركة/رفقة company سيئة. وهذا ما قام به الشاب عمر حيث بعد استقالته أصبح وحيدا في شركته الصغيرة الخاصة. المشكلة في دنيا الشركات أن بعض الموظفين ينطبق عليهم توصيف أنهم أسرى (عبودية الراتب) wage slavery ولأنه ليس له مصدر دخل آخر غير أجره من عمله أو بسبب أن راتبه الذي يتقاضاه عالي جدا لذا نجد أن الغالبية من الموظفين يفضل الاستمرار في بيئة عمل الشركات الطاحنة. نخبة ضئيلة جدا من الموظفين تحرص على الاستقلالية وتحقيق الذات وبالتالي ترفض الاجحاف الذي قد يقع عليها. وهذا يفسر لماذا سارع الشاب عمر بالاستقالة الغريبة من تلك الشركة الكبرى بالرغم من ضخامة الراتب الذي كان يناله.

قديما قرر المتنبي الحقيقة الصادمة (ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ) فبعض البشر لا يرضى بما يرضى به عامة الناس ويسعى للحرية والانطلاق من القيود فالعقل والفهم يمكن أن يتسبب في الشعور بالمأساة والاحباط (intelligence brings tragedy) ولهذا نجد بعضهم أقرب للممانعة وعدم قبول بالمألوف والاستسلام له وأبعد عن القابلية للاستغلال والاستغفال.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق