الاثنين، 24 ديسمبر 2018

(باريس .. مدينة النور والنيران !!)

ثورة الطلاب في باريس عام 1968م لماذا أرتبطت بثورة (اصحاب السترات الزرقاء)

د. أحمد بن حامد الغامدي

صحيح أن باريس توصف بن أنها مدينة الرومانسية والاناقة والثقافة ولكنها في ذات الوقت مدينة الثورات والعصيان والظلام ولهذا لم تعاني عاصمة دولية كبرى من النكبات مثل ما عانت مدينة الأنوار والعشاق. منذ القرن السادس عشر تنبأ الطبيب والمنجم الفرنسي المشهور نوسترداموس بأن هذه المدينة سوف تمر في مراحل متعددة من الصراع والتخريب ولهذا ذكرت مدينة باريس في أحد عشر موضعا من كتاب (نبوءات نوسترداموس). لا يعلم مدينة كبرى في التاريخ تعرضت للاحتلال والنهب والتخريب مثل ما حصل مع مدينة باريس التي تعرضت لاحتلال الرومان وتخريب الفايكنج وسيطرة الانجليز وحصار الامبراطورية الالمانية وقمع الحكم النازي.
ومع ذلك أكثر قلاقل باريس ونكباتها عبر التاريخ الممتد تمت من تحت يد الشعب الفرنسي نفسه ففي نهاية القرن السادس عشر وكنتيجة  للتعصب الديني المقيت تم الفتك بعدة الاف من البروتستانت الفرنسيين في شوارع باريس على يد الكاثوليك وهي مجزرة مصغرة مما سوف تشهدها القارة الاوروبية بعد ذلك بعقود فيما عرف باسم حرب الثلاثين عام. وفي منتصف القرن السابع عشر وبمجرد انتهاء حرب الثلاثين عام كان انعكاساتها هشاشة الاوضاع السياسية في فرنسا مما أفرز أول حرب أهلية داخلية بين طبقة النبلاء وبين الامبراطور الفرنسي الشهير لويس الرابع عشر وكانت أشرس معاركها تلك التي تمت تحت أسوار حصن الباستيل. ونتج من هذا الصراع أن خسرت باريس موقعها كعاصمة لفرنسا عندما أضطر لويس الرابع عشر بأن ينقل بلاط حكمه إلى قصر فيرساي جنوب باريس.
كما هو معلوم من اصعب الاوقات التي عاشها سكان العاصمة باريس هي تلك التي تلت اندلاع الثورة الفرنسية لدرجة انه تم تسمية تلك الفترة (بعهد الارهاب Reign of Terror) وبعد أن كان يتم استخدام المقصلة في الساحات العامة لمدينة باريس لإعدام أعداء الثورة أصبحت الثورة نفسها (تأكل أولادها) وتم اعدام الاف من رموز الثورة الفرنسية وجنودها. وبحكم أن أغلب الثورات يعقبها ثورة مضادة ولهذا بعد عقود من الثورة الفرنسية جاء عصر الثورة على الثورة وإعادة إحياء وتنصيب restoration النظام الملكي الفرنسي القديم. في تلك الاجواء السياسية المضطربة لم تكن شوارع باريس تشهد الاستقرار وكثيرا ما يعيد التاريخ نفسه ومن هنا نشهد في عام 1830م ثورة شعبية جديدة سميت : الثورة الفرنسية الثانية نتج عنها إقامة نظام ملكي دستوري استمر حتى عام 1848م بعدها اندلعت الثورة الفرنسية الثالثة لتعيد مره أخرى تنصيب النظام الجمهوري (الجمهورية الثانية). وكما يحصل أن يتكرر في تاريخ الثورات أن يتم سرقتها في غفلة من الزمن ومن الثوار فكما سرق نابليون بونبارت الثورة الفرنسية الأولى سرق نابليون الثالث الثورة الفرنسية الثانية وبعد أن تمكن من مفاصل الحكم أعلن نفسه إمبراطور فرنسا كما فعل عمه من قبل حذو القذة بالقذة وأنطبق حافر السياسية على الحافر.
وبعد تلك السلسة من الثورات والثورات المضادة والتناوب السياسي بين الملكية والجمهورية وصلت الحياة السياسية الفرنسية لنوع من الثابتية في أعقاب الهزيمة الساحقة التي مني بها الامبراطور نابليون الثالث على يد الجيش الالماني الذي حاصر مدينة باريس ثم اقتحمها مما شجع حصول الثورة الفرنسية الثالثة والتي تلاها تنصيب الجمهورية الثالثة والتي استمرت حتى هزيمة فرنسا في الحرب العلمية الثانية واقتحام الجيش النازي الألماني للمرة الثانية لعاصمة الانوار. لقد سبق التحذير أن التاريخ السياسي لمدينة باريس مربك ومحير بسبب كثرة الثورات وتعدد الحروب والغزو الخارجي. ألم يفسر الكاتب الفرنسي جان كوكتو طريقة تفكير أهل باريس عندما قال: في باريس الجميع يرغب في أن يكون هو الممثل و لا أحد يقبل بأن يكون الجمهور، وبهذا نعلم كثرة أهل العصيان وأهل الثورة وأهل السياسة في المجتمع الفرنسي !!. 

باريس من الثورة إلى الانتفاضة .. المسيرة مستمرة
من الناحية التاريخية نجد أن زخم ما يسمى عصر الانوار في القرن الثامن عشر كان يشع بكثافة من مدينة باريس بالذات وبحكم أن عصر التنوير هو (حركة احتجاجية) ضد الدين والمنظومة السياسية لهذا نجد أن أرث هذه الحركة الاحتجاجية متأصل وموروث في جينات ابناء باريس عبر العقود. فإذا كانت بعض الشعوب شهدت ثورة واحدة نجد سكان باريس يكررون الثورات الكبرى بشكل متتابع لدرجة أننا الان نعاصر ما يسمى (الجمهورية الفرنسية الخامسة). ما يميز التاريخ الفرنسي الحديث أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتحرير فرنسا من الاحتلال النازي تحول المزاج الشعبي لأهل باريس من الثورةrevolution  إلى الشغب والعصيان riot وإن كان ذلك لا يعني جمود الحياة السياسية الفرنسية فالبعض ما زال يستشرف فجر الجمهورية الفرنسية السادسة. على كل حال كما كانت مدينة باريس هي صاحبة الرقم القياسي في عدد الثورات فهي المدينة العالمية الكبرى التي ما زالت تشهد بين الحين والاخرى انتفاضة شعبية أو شغب جماهيري عنيف ومدمر.
أثناء حرب استقلال الجزائر عن الاحتلال الفرنسي تعاطفت شرائح واسعة من الشعب الفرنسي لمنح حق تقرير المصير للشعب الجزائري لدرجة أنه حصلت مظاهرات ضخمة في شوارع باريس خلال شهر أكتوبر من عام 1961م صاحبها حالة شغب وعنف نتج عنها مقتل العشرات من المتظاهرين ورجال الشرطة. وتبع ذلك قيام الحركة والتيار المناهض للسماح باستقلال الجزائر بمظاهرات مضادة وشغب وعمليات تفجير وقتل.
أما أهم حركة عصيان مدني في تاريخ باريس الحديث فقد كانت بلا شك أحداث الاضراب العام الذي حصل خلال شهر مايو من عام 1968م وهذه الاحداث تعرف أحيانا باسم انتفاضة الطلاب لأنها بدأت مع طلاب جامعة السربون العريقة (الذين تأثروا بحركة طلاب الجامعات الامريكية المناهضة لحرب فيتنام ولهذا يعرف عام 1968م بعام ثورات الشباب). الجدير بالذكر أنه أثناء عصيان شباب الباريسي واحتلالهم لجامعة السربون لعدة اسابيع انضم إليهم عمال المناجم الذين كانوا يرتدون السترات الزرقاء blue-collar workers ومن هنا ربما نجد التقارب والالهام من حركة السترات الزرقاء قديما لحركة السترات الصفراء حاليا في إشعال نار الاحتجاج بوقد الفحم بالأمس والبنزين ذو الضريبة المرتفعة اليوم.
مع مرور الزمن خفت (وهج) مدينة النور باريس واصبحت أكثر وأكثر مدينة النيران ومدينة ظلام والدخان وكلنا ما زال يتذكر حادثة الاضطرابات الخطيرة التي حصلت في مدينة باريس وضواحيها في شهر أكتوبر من عام 2005م. لهيب الشغب والعنف في تلك الانتفاضة تميز بمشاهد حرق السيارات حيث تشير التقارير الحكومية الفرنسية أنه تم حرق ما يقارب تسعة الاف سيارة في شوارع باريس والمدن الفرنسية الاخرى. من هذا وذاك نعلم أن المظاهرات والشغب والتخريب المشاهد هذه الايام في شوارع باريس أمر شبه اعتيادي وكأنه ديجا فو (deja vu) وهي كلمة فرنسية تعني بكل بساطه: شوهد من قبل. بسبب شذوذ الذاكرة قد يشعر الانسان أنه رأى أو عايش الموقف الحاضر من قبل ولكنه لا يدري متى أو أين وهذا ما يسمى الديجا فو أما بالنسبة لسكان مدينة باريس فهم دوما موعودون بأن مستقبلهم معروف المعالم لأن واقعهم بكل بساطة يحقق قاعدة (التاريخ يعيد نفسه).

باريس في أدب الثورات
كل من له اطلاع عام على الأعمال الأدبية القديمة والحديثة يسهل عليه ملاحظة الحضور الطاغي للثورات السياسية والانتفاضات الشعبية في عدد كبير من الروايات الادبية والقصائد الشعرية لمشاهير الادباء ومن جميع الجنسيات والعصور التاريخية. مسرحية كريولانس لشكسبير تفتتح بتوصيف ثورة شعبية وإحدى أبرز قصائد الشاعر الاسكتلندي المشهور والتر سكوت هي عن انتفاضة سكان مدينة أدنبرة بينما نجيب محفوظ في رواية بين القصرين جعلنا نعيش أحداث ثورة 1919م ضد الاستعمار الانجليزي لمصر في حين خلد أحمد شوقي ثورات دمشق وليبيا. التعمق في (أدب الثورات) قد يأخذنا بعيدا وهو موضوع متشعب يستحق مقال مستقل لكن ما يهمنا هنا هو فقط الإشارة إلى الانعكاسات الأدبية للثورات والانتفاضات الباريسية. بعد ما سبق التنويه عنه عن كثرة وتعدد الثورات ومسيرات الاحتجاجات في التاريخ الفرنسي لهذا لا غرابة أن نجد أن عدد كبير من مشاهير الأدب الفرنسي ساهموا في توثيق هذه الثورات في رواياتهم الأدبية.
من ذلك مثلا  أن رواية (سقوط الباستيل) لأديب الفرنسي اسكندر دوماس الأب هي رواية عن توثيق تاريخ اندلاع الثورة الفرنسية الأولى من لحظة سقوط سجن الباستيل الشهير في قلب باريس. أما إرهاصات وبعض مشاهد أحداث الثورة الفرنسية الثانية فقد تم حولها بناء الحبكة الدرامية لأشهر رواية أدبية في تاريخ اللغة الفرنسية وهي رواية (البؤساء) لروائي الفرنسي الأشهر فيكتور هوجو. وبالمناسبة آخر رواية أدبية كتبها فيكتور هوجو قبل وفاته هي رواية (عام 93) والتي تدور أحداثها في عام 1793م وهي السنة التي انحرفت وبشكل شنيع الثورة الفرنسية عن أهدافها الإصلاحية وبدأ بعدها عهد الإرهاب والرعب المقيت والذي يعتبر لطخة سوداء في تاريخ فرنسا.
الغريب في الأمر أن أفضل رواية أدبية أبرزت مصائب وأهوال عهد الإرهاب reign of terror المرتبط بالثورة الفرنسية لم تكن لكتاب فرنسي وإنما لأديب بريطانيا البارز تشارلز ديكنز. في رواية (قصة مدينتين) التي تدور أحداثها بين لندن وباريس نجد في السطور الأولى من افتتاحية الرواية، تشارلز ديكنز يلخص وجهة نظرة حيال سنوات الثورة الفرنسية: (كانت أفضل الأزمان وكانت أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وكان عصر الحماقة، كان زمن النور وكان زمن الظلمة، كان ربيع الأمل وكان شتاء القنوط). الأديب الفرنسي جوستاف فولبير قد تكون له شهرة طاغية بحكم كونه أحد أبرز رموز ما يسمى بالأدب المكشوف حيث انه مؤلف الرواية المثيرة للجدل (مدام بوفاري) لكن ما يهمنا هنا أن من أهم أعماله الادبية رواية تحمل أسم (التربية العاطفية) والتي تدور أحداثها زمن اندلاع الثورة الفرنسية الثالثة عام 1948م. يعتبر الروائي الفرنسي بلزاك من رواد الأدب الفرنسي البارزين في منتصف القرن التاسع عشر وقد ولد في بدايات الثورة الفرنسية الأولى وتوفي في بدايات الثورة الفرنسية الثالثة ولهذا لا غرابة أن أهم عمل أدبي له (الكوميديا الإنسانية) هي سلسلة من القصص القصيرة تدور عن التغيرات الاجتماعية والسياسية لسكان مدينة باريس أثناء تلك الثورات الفرنسية الثلاثة. بعد انتهاء الثورات الفرنسية الثلاث الكبرى أستمر المجتمع الباريسي يمور وينتج انتفاضات uprising  سياسية مزلزلة اشهرها تلك التي انتجت الجمهورية الفرنسية الثالثة وهنا يأتي دور الأديب الفرنسي البارز إميل زولا الذي خصص روايته المسماة (الكارثة) لمناقشة هزيمة الجيش الفرنسي أمام الامبراطورية الالمانية والانعكاسات السياسية لذلك بعزل الامبراطور نابليون الثالث ومن ثم ظهور نظام جديد للحكم سمي حكومة مجلس مدينة باريس (Paris Commune).
وفي الختام سوف تبقى أسئلة عالقة بدون اجابة واضحة عن علاقة أدباء باريس بالثورات والانتفاضات فمثلا الأديب الفرنسي ألبير كامو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1956م والمولود في الجزائر (ولهذا تدور أحداث اشهر أعماله الادبية كرواية الغريب ورواية الطاعون في المدن الجزائرية)  فهل كان سوف يستمر في تأييد الثورة الجزائرية حتى بعد دخولها مرحلة العنف ليس في الجزائر لكن على جادات شوارع باريس. لقد توفي البير كامو عام 1960م ولهذا لن نعلم هل كان سوف يشارك في مظاهرات شوارع باريس في شهر أكتوبر من عام 1961م بالرغم من ما صاحبها من تخريب ودمار. سؤال صعب التخمين به فألبير كامو رجل فرنسي متعصب لوطنه لدرجة أن شارك في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الالماني النازي فهل كان سوف يقبل في المشاركة في مظاهرات تخريبية ضد وطنه. لكن ما نعلمه بيقين أن زميل ألبير كامو في النضال ضد النازية الفيلسوف والأديب الفرنسي المثير للجدل جون بول سارتر (الذي رفض أن يقبل جائزة نوبل في الأدب عام 1964م !!) استمر حتى النهاية وهو يؤيد حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره ونيله للاستقلال. (أعدموا سارتر) تلك كانت صرخات المتظاهرين خلال المسيرات الصاخبة في شوارع باريس خلال تلك الاعوام العصيبة حيث كانت شرائح من المجتمع الفرنسي تعارض استقلال الجزائر ولهذا توجهت جموع من هذه الحشود الغاضبة إلى منزل جون بول سارتر وقامت بتحطيم واجهته.
الحق أقول لكم: إن قصة باريس مع الثورة والأدب لم تكتمل فصولا بعد ولم يسدل الستار بعد على خاتمة تلك الدراما السياسية والثقافية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق