الجمعة، 7 يونيو 2019

( ماذا خسر العرب من فتح الأندلس !!! )

هل يمكن تصور الحضارة الاسلامية من دون روائع العمارة الاندلسية

د/ أحمد بن حامد الغامدي

بالإذن من المحرر النّحوي والمدقق اللغوي تعمدت ختم عنوان المقال بعلامة تعجب ! بدلاً من استخدام أداة الاستفهام ؟. من أصعب الاسئلة التي قد تجاوب عليها هي تلك الأسئلة البديهية أو الساذجة. ولهذا عندما يثار التساؤل حول هل كان فتح بلاد الأندلس نكسه على الاسلام أو سبب في تخلف العرب فمثل هذه التساؤلات الغريبة أقل ما تقابل به علامات التعجب !! وزفرات التسخط. لا يصح في الافهام شيء إذا احتاج غزو العرب للأندلس إلى تبرير وتعليل فضلا عن اعتبار فتح الفتوح هذا مصدر نكسه وسبب تخلف. الغريب في الأمر أن إحدى أهم وأقوى الامبروطوريات على مدار التاريخ وهي الامبراطورية الرومانية لم تكتمل عظمتها وقوتها إلا بعد السيطرة على الاراضي الاسبانية ولهذا نجد أن القيصر الروماني أغسطس يترك عاصمة ملكه في مدينة روما ويتجه على رأس حملة عسكرية ضخمة استمرت عشر سنوات حتى يسيطر على أرض الأندلس. صحيح أن سلة غذاء الامبراطورية الرومانية كانت حقول القمح المصرية وسهول حوران الشامية لكن أهم مناجم المعادن بالنسبة لتلك الامبراطورية كانت المناجم الاسبانية لدرجة أنه توجد بها مدينة اسمها (المعدن Almaden) اشتهرت من زمن الرومان بكثرة مناجمها. الأهمية الاقتصادية والسياسية للأندلس جعلت القيصر يرابط فيها لمدة عشر سنوات حتى يفتتحها بينما الاهمية الدينية لها جعلت القديس بولس في بواكير ظهور الدين المسيحي الجديد يكتب رسالة خاصة لأهل روما يحثهم على تحويل إسبانيا للديانة المسيحية ليس هذا فحسب بل قام هذا القديس الذي يعتبر ثاني أهم شخصية في المسيحية بعد السيد المسيح بجولة دعوية طويلة في أرض الاندلس.

بلا أدنى شك كان لأرض الاندلس أهمية كبرى في التاريخ ولهذا كسب العرب الكثير والكثير بضم هذا (الفردوس الأرضي) إلى حاضرة الاسلام. إن من علامات احترام ثقافة القارئ الكريم أن لا أكرر عليه معلومات راسخة وذائعة عن تأثير حضارة الاندلس في التاريخ العربي والاسلامي. وبدلا من ذلك سوف نلجأ لحكمة (الحق ما شهد به الأعداء) ونعطي لمحة لأثر حضارة الاندلس على العالم الغربي والثقافة الأوروبية وهو الأمر الذي كتبت فيه العديد من المؤلفات والدراسات. من ذلك مثلا أن المستشرق الانجليزي المشهور مونتغمري وات ألف كتاب هام حمل عنوان (أثر الاسلام على أوروبا في القرون الوسطى) ولقد كان المحور الاساسي لهذا الكتاب ذكر أهمية بلاد الاندلس كجسر تواصل بين الحضارة الاسلامية والحضارة المسيحية ودورها في نقل العلوم إلى أوروبا بل وتأثيرها على الادب الغربي المسيحي. بلاد الأندلس كانت البوتقة التي صُنعت وسُبكت فيها علوم وحضارة الغرب المسيحي وهذا ما يفهم من كتاب (بوتقة الإله) God's Crucible للمؤرخ الامريكي المعاصر ديفيد لويس الذي كان العنوان الفرعي لكتابه السابق الذكر (الاسلام وصناعة أوروبا) وفي هذا الكتاب سرد تاريخي مطول جدا لدور بوتقة الاندلس في سبك وصناعة اوروبا . مصباح علاء الدين لم يخرج منه الجني الخرافي بل شعّ منه نور العلم وشعلة الحضارة ولهذا في مجموعة كتب المؤرخ الامريكي جون فريلي (مصباح علاء الدين) وكتاب (نور من الشرق) اشار لدور الاندلس وبالذات مدينة طليطلة (بعد إعادة استردادها reconquista من قبل أهل الصليب) وكونها الموقع الحضاري الذي استلم فيه العالم الغربي المسيحي شعلة الحضارة والعلوم من العالم العربي المندثر.

تاريخ عربي شاحب من دون الأندلس
لقد كان لإقليم الاندلس بالغ الاثر في تشكيل معالم الحضارة الاسلامية ولهذا السؤال (الصحيح) ليس عنوان المقال ولكن سؤال  الذي يطرح نفسه ( لماذا تاريخ العرب باهت من دون الفردوس المفقود؟). في واقع الأمر تكمن إجابة هذا السؤال في التنبيه لخصوصية إقليم الاندلس ضمن منظومة الحضارة الاسلامية فمجتمع الاندلس لم يكن مجتمع إسلامي خالص بل كان مزيج من المسلمين (عرب أو بربر) ونسلهم من النساء الاسبانيات (المولدون) بالإضافة  لنصارى ويهود إسبانيا المُستعرِبين Mozarabs المتأثرين بالحضارة العربية في الملّبس واللسان. وبسبب التداخل والتمازج والتصارع بين هذه المكونات المختلفة كان للعرب والاسلام في الاندلس حضارة وثقافة إسلامية مختلفة نوعا ما  عن بقية النسيج الحضاري العربي.
هل ندرك أنه لو لم يدخل الاسلام إلى الأندلس فقطعا كنا سوف نخسر أهم وأجمل وأرقى فنون العمارة الاسلامية ألا وهو فن العمارة الاندلسية البديع. من أبرز خصائص الفن المعماري الاندلسي الفريد هو استخدام أقواس الاعمدة التي تحمل شكل حذوة الفرس horse-shoe arch ومع ذلك يشير المستشرق الانجليزي مونتغمري وات في كتابه السابق الذكر عن اثر الاسلام على أوروبا أن هذا النوع من فن العمارة دخل إلى الحضارة الاسلامية من خلال استعارة العرب لأسلوب البناء الخاص بالعمارة القوطية القديمة والتي كانت منتشرة في اسبانيا.
إذا كان أجمل وأرقى تراث الاندلس الحضاري والمادي هو فنون العمارة الاندلسية فإن من أروع وأعذب تراث الأندلس الثقافي والأدبي هو شعر الموشحات والذي لخصوصية أرض الاندلس لم يظهر إلا فيها. بسبب وجود شريحة كبيرة من النصارى واليهود المتداخلين في صلب النسيج العربي في الاندلس تم تسميتهم بالمستعربين ونتج من ذلك نشوء لهجة شعبية خاصة لأهل الاندلس تميزت باللحن في النطق وكثرة الالفاظ الاعجمية اللاتينية فيها وهذا الاعوجاج في اللسان العربي الاندلسي أثار اهتمام العديد من العلماء مثل ابن خلدون وابن الخطيب. لكن ما يهمنا في مجال الأدب أن فن الشعر الغنائي الاسباني القديم المعروف بالتروبادور وفن شعر الزجل العربي الاندلسي ظهرا معاً بصورة متقاربة وأثر كل واحد منهما بالآخر لدرجة أنه يقال أن الشعراء العرب المحترفين لفن الزجل كانوا يتنقلون بين الدويلات الاسلامية والممالك المسيحية على حداً سواء. وعلى نفس النسق تقريبا وفي مثل هذه الاجواء الأدبية المختلطة بين الثقافات المتنوعة وبسبب ولع أهل الاندلس بالغناء والموسيقى تم تطوير فن (الشعر الغنائي) لكي ينتج شعر الموشحات الذي تأثر بالثنائية اللغوية بين العربية واللغة الاسبانية وهذا ما أشار له الاديب ابن بسام في كتابة (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) عندما تحدث عن نشأة الموشحات وأن مخترعها كان (يأخذ اللفظ العامي والعجمي ويسميه المركز، ويصنع عليه المُوشحة).
إذا كانت المؤثرات الفكرية والديمغرافية في الاندلس أنتجت شعر الموشحات فكذلك نجد أن المؤثرات البصرية وجمال الطبيعة في الاندلس أثمر ما يسمى بشعر وصف الطبيعة الذي اختص به شعراء الاندلس عن غيرهم من شعراء العربية. ومن هنا لا عجب أن نجد الشاعر الرقيق ابن خفاجة الاندلسي ركز في شعره على وصف الطبيعة وجمالها كيف لا وهو يعيش في الفردوس الارضي وجنة الله في أرضه التي قال عنها:
يا أهل أندلسٍ لله دركمُ             ماءٌ وظلٌ وأشجارُ
ما جنة الخلد إلا في دياركمُ      ولو تخيرت هذا كنت أختارُ
وبحكم أن رغد العيش لا يدوم ولهذا تكثر حالة التفجع من فقد الشيء الجميل والنفيس ومن هنا نفهم لماذا كان تفجع الأمة الاسلامية من فقد الأندلس يفوق كل بلاد اخرى أنحسر عنها حكم الاسلام. عبر التاريخ تعرضت اقاليم ومدن اسلامية كثيرة للخراب والدمار من  سمرقند شرقاً وحتى إشبيلية غرباً ومع ذلك نجد مره أخرى أن للأندلس امتياز وتأثير خاص على الادب في تدبيج القصائد الطوال من عيون الشعر العربي (الباكية) لتشكل دواوين ما تم تسميته (شعر رثاء البلدان والمدن). وقد لا توجد مدينة أندلسية كبرى إلا وقد سطرت فيها الابيات الشعرية الخالدة كما نجد ذلك في شعر بكائيات الديار الاندلسية مثل قرطبة وطليطلة وإشبيلية وغرناطة وجيان وبلنسية وتوجد دراسات أدبية مطولة وكتب خاصة بموضوع (رثاء المدن في الاندلس).

ولعلنا نختم الحديث عن بيان خسائر العرب فيما لو لم تفتح ديار الاندلس أنه بالإضافة لخسارة النقوش والمنمنمات الاندلسية والموشحات الأدبية  والبكائيات الشعرية لربما خسرنا كذلك بيئة الحرية الفكرية الفريدة للجزيرة الايبيرية. لقد كانت الاندلس معزولة جغرافيا عن الامة العربية كما أنها كانت مستقلة سياسيا عن الخلافة الاسلامية وهذا ما جعل لها بنية اجتماعية وبيئة فكرية خاص بها. كثيرا ما توصف الاندلس بأنها جنة التعايش الديني وبؤرة التسامح الفكري ولهذا سمح فيها بانتشار الافكار الدينية والشطحات الفلسفية والاستنباطات الفكرية ما لم يسمح بها في غيرها. لهذا لا غرابة ان كان الفيلسوف اليهودي البارز موسى بن ميمون المولود في قرطبة ليس فقط أتاحت له الأجواء الفكرية المتسامحة في الاندلس لأن يصبح أحد أهم فلاسفة القرون الوسطى بل كذلك أن يؤلف أهم الكتب على الاطلاق في شرح التوراة والشريعة اليهودية. وعلى ذكر الفلسفة تجدر الاشارة إلى أنه في الوقت الذي كانت تندثر فيه الفلسفة في المشرق العربي نجدها تصل لقمة وهجها في المغرب العربي على يد فلاسفة الاندلس الكبار مثل ابن رشد في قرطبة وابن الطفيل في غرناطة وابن باجة في مدينة شاطبة الاندلسية.
وفي تاريخ الفقه الاسلامي ظهرت مذاهب ومدارس فقهية متعددة (مثل فقه الليث بن سعد والشعبي والثوري وعطاء وغيرها) لكن تلاشى أغلبها بسبب سطوة أتباع المذاهب الفقهية الاربعة المشهورة. وبحكم أن أرض الاندلس كانت أرض تعايش وتسامح ولهذا خفت فيها التعصب المذهبي بشكل مقبول وهذا يفسر لماذا استطاع الامام ابن حزم الاندلسي أن يعيد احياء ونشر المذهب الظاهري في الاندلس بالرغم من الأذى المشهور الذي وقع عليه من فقهاء المالكية وتحريض الحاكم عليه.

بقي أن نقول أن ذكرى الأندلس أو الفردوس المفقود ما زالت تشحذ قريحة كبار الشعراء للتحسر على خسارة الاسلام لأرض الاندلس ولهذا العديد من الشعراء ليس فقط كتبوا قصائد عن الاندلس (مثل قصيدة أندلسية لأحمد شوقي وقصيدة غرناطة لنزار قباني أو قصيدة مسجد قرطبة لمحمد إقبال أو قصيدة غادة من الاندلس لعمر أبو ريشة أو قصيدة قصر الحمراء لمعروف الرصافي أو قصيدة تحية الأندلس للشاعر القروي) بل العديد منهم زار الاندلس بالفعل. ومن هذا المقام نطالب الشاعر الرقيق الاحساس علي الهويريني وكنوع من تصحيح الخطأ الشنيع عن استنقاص دور الاندلس في التراث الاسلامي أن يكتب قصيدة خاصة عن الأندلس السليب.
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق